تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها
بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد
تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص
حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور
الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان
اسميهما ؟!
لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في
حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما
معا !
فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ،
صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق
بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟!
لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع
وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط
وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا !
هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد
بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ،
يعاين الأحياء موتا أكبر ويعانون مرارة ومأساة لا تنتهي .. من قال أن الحرب تخلف
ناجين .. أي حرب ولأي هدف ؟!
لم تسمع باندلاع الحرب إلا بعد إعلانها بأربع ساعات ،
ولم تعرف أن مدينتها قد احتلت إلا بعد سقوطها بساعتين .. متأخرة دوما كانت هي ، وها
هي وحيدة وسط الجنود المتحفزين ، الوحوش الذي انتهكت نساؤهم وبناتهم وبيوتهم هناك
، فجاءوا ليفعلوا مثل هذا هنا ، رجالنا هناك فعلوا مثل ما يفعلونه هم هنا .. فأي
حق لنا في أن نتلاوم ونتلاعن ونرمي التهم على بعضنا ؟!
إننا ممثلون جيدون على أنفسنا ، فاشلون على مسرح الحياة ،
من قال أن أحدا يصدق ترهاتنا وخرافاتنا الإنسانية ، الإنسانية ماتت يوم أن سفك
الشقيق دم شقيقه يا صغيري .. وهذا يعني أن الإنسانية ماتت يوم مقتل " هابيل
الصديق " ..
أكان " قابيل " صديقا أيضا ؟!
أكان يسمع الكلمة من فم الرب ؟!
هذا يجعل جرمه
أعظم .. وخسارتنا نحن أفدح !
كانوا يستلقون صفوفا حول زوايا الشارع ، الذي كان شارعا
منذ بضع أيام ، الآن لم يعد سوي أحجار متساقطة فوق بعضها ، ومباني منفجرة ناءت
بأحمالها فصرخت ملقية الأتربة والأحجار نحو الجميع ، من قال إن الجماد لا يحس ، إننا
جماد بدورنا ، طين وماء ، لكننا نحس ونتألم ونخاف ، الجماد أكثر حياة مننا فهو لا
يخاف والخوف يقتل الحياة ، الحياة والخوف لا يجتمعان ، فإن اجتمعا كان الموت
الأعظم .. هنيئا لمن هم تحت التراب .. وحتى الجير الحي لا يخيفهم ولا يؤثر فيهم ،
إنهم هناك ساكنون وقد أفلتوا من سلطان الزمان والمكان .. لا سلطان للزمن إلا علينا
نحن ، على الأحياء الذي لم يقيدوا في دفاتر الموت بعد .. كم تشتهي أن يعود الزمان
بضع ساعات إلي الوراء لتذهب إلي الموت برفقة العزيزين ، لماذا لا يكون الموت متاح
مجانا ، كرغبة أولي ، لمن يرغبون فيه ، إننا نهرب منه طوال عمرنا حتى إذا اشتهيناه
فر منا .. ذاهبة هي لأداء مهمة أخيرة تعرف أنها لا تستطيع أن تقوم بها أو تنفذ من
بين يدي الجنود ..
أعين شرسة مستطلعة تحدق بها وتتطلع إليها ، كم جندي منهم
مات أبوه أو اغتصبت زوجته على يدي أخي أو زوجي ، الميزة الوحيدة في الحرب أنها
عادلة ، لا تفرق بين الناس .. تسوم الجميع عذابا واحدا ولا ينجو من أخطارها إلا من
أشعلوها ، وزراء الحرب الجالسون على المكاتب اللامعة ، أليس طريفا أن يموت ملايين
الرجال من أجل رجل واحد .. وتفقد ألاف النساء الإخوة والأزواج والأبناء من أجل امرأة
سخيفة لم تجد في نفسها الشجاعة لتقول لزوجها :
أنت أحمق تافه يا صغيري .. فلا تشعل حربا ونم مبكرا !
ينام الرجال مبكرا بأمر الأمهات ، ثم يصحون ليذهبوا لقتل
أبناء أمهات آخرين .. أليس هذا هو العدل ؟!
أليست هذه هي الحياة ؟!
مضت تخطو من فوق الصعاب ، الأحجار ، التي تعترض طريقها ،
كخيط ماء رفيع ينساب بين شقي حجر ، ينساب ويسيل هادئا بلا خرير ، وينحت الصخر بلا
كلل ملايين وملايين من السنين حتى يفلقه نصفين .. هذه هي الحياة يا امرأة وهذه هي
الحرب وهؤلاء هم الرجال .. كانوا يتطلعون نحوها بشغف وترقب وانتظار، الجميع ينتظرون المبادرة التي سيلبونها جميعا
وبلا شك ، سينهض جندي الآن ليتحرش بالمرأة الوحيدة ، ويخطف معطفها ، سوف تقاومه
بلا شك ، لكنه سيصفعها ويطرحها أرضا ، وهو يجذب معطفها ليعريها ، وبعدها تصبح
الوليمة مطروحة أمام الطيور الجارحة ، المجروحة بدورها .. لكن الرجال كانوا قد
أكتفوا هذا النهار !
لقد قتلوا وذبحوا وشقوا بطون حوامل ، وانتهكوا عذارى ، واعتدوا
على صغيرات ، بعد أن انتزعوا الدمى من بين أيديهن ، تحول الحرب الناس إلي قتلة ،
والرجال إلي وحوش ، وتجرد الجميع من غلالة البشرية الرقيقة الفاضحة التي يستترون
خلفها ، لا يُعرف شعب إلا وهو يحارب ، والحرب امتحان وحيد لم ينجح شعب واحد في اجتيازه
حتى الآن ، رسب الجميع ولم ينجح أحد .. والجميع في الحرب يفعلون مثلما يفعل الناس
، مثلما يفعل الآخرون ، فقط هم يفعلونه بشكل مختلف .. يبتكرون أساليب للقتل
والتعذيب ، ويحتفلون بهوياتهم القومية على أشلاء الضحايا ، لكن القتل هو القتل في
النهاية ، والرصاصة ، كما السيف ، لا جنسية لها !
الرصاصة مواطن حر ، مواطن عالمي ، لا يفرق بين الناس ،
وليست له انتماءات قومية ، لم ترفض رصاصة أمريكية أن تقتل أمريكيا ، ومات الألمان
بأسلحة مصنوعة بأيديهم ، وسقط الفرنسيون بمخترعات أنتجتها عقول علمائهم .. السلاح
مواطن عالمي يقتل الجميع وهو يسخر منهم !
إنه جماد آخر ، لكن صوته أعلي الأصوات ، ومشاعره أقوي من
مشاعر جميع البشر ، إنها تنتظر اللحظة الآن .. المبادرة !
فقط تتمني أن يتركوها حية بعد الاغتصاب ، لقد أعدت نفسها
لهذه اللحظة وحضرت جسدها للانتهاك ، تريد أن تكون مستحقة لتبقي حية بعد أن تؤدي الضريبة
المفروضة عليها لكونها ولدت في فراش أبوين من أعداء هؤلاء الجند ، ولكونها ولدت
أنثي ، يموت الرجال في الحرب مرة واحدة .. بينما تموت الأنثى مرتين .. وربما ثلاث
أو أربع !
تتزاحم الخواطر في رأسها ، لكنها لا ترمقهم بعين كسيرة
لتستدر شفقتهم ، إنهم يعجبون بالمرأة القوية ولو كرهوها ، ويمنون بالحياة على
الأنثى القوية التي تقف في مواجهتهم مرفوعة الرأس ، بينما من تستسلم بسهولة
يسحقونها سحقا ، لأنها تذكرهم بألمهم الذين يفرون منه ، بعجزهم ، بأنهم هنا مفعول
بهم مثلها ، بأنهم محاربين مرتزقة يموتون ويتعذبون ، ويفقدون أطرافهم ويحاربون في
بلاد الله ، التي لم يطئوها من قبل ، أو يعرفوها أبدا ، من أجل من هم أقوي منهم ..
أليس قتل الساسة كلهم كفيل بإنهاء كل الحروب ، أليس ذبح حكام العالم كلهم جدير
بإنقاذه وتخليصه ، دم على الصليب ، لكنه لا يجب أن يكون دم الضعفاء أو الفلاحين أو
العمال هذه المرة ، بل دم الملوك والرؤساء والسيدات الأوليات ، وخلفاء العهد وورثة
القصور ، من يسكنون القصور التي منها يدار العالم ، ولأجل شموخها يسقط الملايين
والملايين قتلي ومعذبين وثكالي ومشوهين .. أليس من سلاح قادر على قتل الساسة وحسب
.. وباء ينتقيهم هم من بين البشر ويفتك بهم !؟
لكان أعظم وأسعد وباء في تاريخ الأرض ، لكن الأوبئة تفتك
بالضعفاء فقط ، بينما يجلس الباباوات والحكام وسط النار لتحميهم من الجرثومة ..
ألا من جرذ صغير مغامر يتسلل إليهم هناك ؟!
إنهم يرمقونها الآن ،ويختلسون النظرات إلي بعضهم ، من يبدأ ويبادر بفعل ما يفعلونه
كل مرة؟!
ضابط كبير يجلس
مسترخيا في الركن ويشارك في وليمة الأعين المفترسة، لكن لا أحد يهم بالنهوض أو يبدو عليه أنه طموح
بما يكفي لكي ينال شرف المحاولة، لقد شبعوا واُتخموا .. امرأة وحيدة تسير وسط مئات
الجند ، ذاهبة إلي حتفها ، إلي حيث لا يدرون ، لكن لا يبدو عليها الخوف .. يعشق
الرجل المرأة القوية بقدر ما يخافها ويتجنبها، يخافها أكثر مما يخاف الرجل القوي ،
فهو يعرف كيف يتغلب على رجل مثله ، ويعلم ماذا يتوقعه منه بالضبط ، أما المرأة فهي
تربكه وتحيره ،لا يعرف كيف يواجهها ، أو ما الذي تستطيع فعله ، سقفها أعلي من قمة
رأسه ، وهو يتعب سريعا من التطلع إلي أعلي .. إنها تسير وقد جعلتهم جميعا يرفعون
رؤوسهم لينظروا إليها ، في تلك الحالات يخفضونها ليعاينوا ساقيها ، لكن ساقيها لم
تكونا مهمتين في تلك الحالة ، بل رأسها الشامخ المرتفع الذي لا يهتز خوفا .. إن
عيناها لا ترتعشان رعبا !
إنهم يكرهون هذه المرأة ، ليس لأنها من جنس أعدائهم ،
الذين هزموهم وحطموا مدنهم ، بل لأنها لا تخافهم ، ولا تبدي لهم الاحترام الواجب
وتقدم فروض الخوف والتوسل ، خلع القائد قبعته وحك شعره .. إنه مسترخي ويشعر بالوخم
والنعاس ، مكدود لكنه لا يحس إرهاقا ، فقط رغبة هائلة في الاسترخاء ، والبقاء
جالسا في مقعد الطائر المغرد ، في وضعية البطة السمينة ، حتى نهاية أيام حياته ،
لقد وصل نقطة الفراغ والخواء ، ما من شيء قادر على إثارة شهيته أو تنبيه حواسه ..
إنها بطالة الهدنة اللعينة !
رمقوها من كل جانب لكنها استمرت تمشي ببطء وبلا تردد ،
كان من داخلها عاصفا وتحت جمجمتها إعصار ، لكن السطح هادئ ساكن متحدي ، كسطح بحيرة
زرقاء صافية يسكن أعماقها تمساح قاتل .. إنها تخيفهم هذه المرأة ، لماذا لا تخاف
وتجري ، صحيح أن هروبها منهم مستحيل ، لكن لتبدي لهم قليل من الاحترام والتوقير
لقوتهم على الأقل .. إن هذا وضع لا يطاق !
مضت ببطء حتى تجاوزت صفي الجنود المسترخيين في الشمس
البيضاء الباردة ، شمس الشتاء الكاذب الشاحب ، الشتاء الحقيقي يكون ظلاما وعتمة ،
هذه البرودة البيضاء المضيئة لا تطاق ، إنها كهذه المرأة ، بلا معني ظاهر وليس
لوجودها أي معني .. إلي أين تذهب وسط حطام المدينة المدمرة ؟!
أمجنونة هي .. ربما لكن :
-" دعها تمضي ! "
جاءت هذه العبارة ، من كلمتين اثنين ، بصوت خفيض من فم
القائد موجهة إلي جندي يجلس في الركن الأيسر مسترخيا ، وقد ظهرت على وجهه ابتسامة
عريضة فجأة ، وبدا كأنه يهم بالتحرك ، لكن أمر القائد أعاده إلي وضعيته الأولي
وأسكته ، كان الضابط يرمق المرأة صامتا وهو يشعر بالرهبة ، لا يعرف لماذا ذكرته
بأمه وهي تنتزعه بالقوة من بين جندي عملاق أراد جره إلي الأسر بينما كان طفلا في
الثانية عشرة ، جلس أباه صامتا مرعوبا ، لكن أمه هي التي وقفت للجندي المعتدي وانتزعت
طفلها بالقوة .. أي قوة تكتسبها المرأة حينما تصبح أما ؟!
وهذه المرأة ، كأمه ، تبدو قوية ، تري ماذا يكون رد
فعلها لو حاول التحرش بها ، وإجبارها على التعري أمامه ، لن يشعر بأي متعة .. فهو
يعرف أن بعض النساء كالنحل إن لم تعطيك شهدها طواعية لسعك زبانها وآذاك !
لا يريد أن يجرب زبانها ، بل ربما طلب شهدها سرا ، مقدما
هدية لائقة فيما بعد ، لقد لحظ جيدا الطريق الذي جاءت منه ، ومن السهل أن يخمن من أي
بيت خرجت ، تُعري الحرب العالم وتجعل شوارعه كلها شارعا واحدا طويلا يطل على هاوية
سوداء، هاوية صامتة باردة بلا نار، مخيفة ومليئة بالأشباح والشر .. لذلك يكون
البركان المشتعل ملجئا أفضل من هوة سحيقة بين جبلين .. إنك تعرف مصيرك في البركان
.. أما الهوة فتختزن أسرارا ومفاجآت وخفايا لا يعرفها أحد !
إنها تقطع نهاية الشارع الآن ، ساقيها تمران أمام عيني
القائد ، لكنه كان مشغولا بالتطلع إلي وجهها .. ليس لساقيها أهمية فالمرأة القوية
لا تُعشق من ساقيها !
أخيرا بدأت تتلاشي وهي تغيب عند الزاوية ، لم تكن قد
سمعت ما قيل في حقها على لسان القائد ، ولم تدرك بعد أنها كادت تصبح ضحية للحظة
تطلع ساخرة من جندي نحيف جبان ، إنها تسير مجللة بحزنها ، معتصمة بصمتها وتنائيها
.. محتمية بقبعة من شعر أشقر كثيف غير مصفف ، وبأجفان مسدلة وبعيون تركز على هدفها
وحسب .. إنها الأسلحة التي تهبها لنا الطبيعة لنستعملها حينما تفرغ من أيدينا
عجائب وبدع البشر !
بمعطفها ، الذي يستر بقايا ثياب وروح ممزقة تحته ، خطت
فوق الصخور ، وفوق هامات المتربصين بها ، باحثة عن النقطة التي قال لها أن تنتظره
عندها ، زوجها الذي مات على وعد بأن يبقي ليحميها طوال عمرها ، تذهب لتنتظر
الحافلة لتقلها إلي أي مكان لا تعرفه .. لم تفقد عقلها لكنها توقن بأنها لم تنجو
من كل هذا وحدها ، بينما هلك الجميع ، لمجرد أن تصبح علبة سالمون حية شهيه للجند
المتخمين ، هناك حكمة أعلي وأكبر من نجاتها .. دم على الصليب لن يكون دمها هذه
المرة ،ولا دم هؤلاء الجند ، فهي ، ولشدة العجب ، لا تتمني لهم شرا .. ليس من حقها
أن تعلن جرائمهم ، دون أن تعرف كم جريمة ارُتكبت في حقهم بدورهم ، وليس من حقها أن
تعتبر زوجها وأخاها أفضل منهم ، ما لم تتأكد من أن العزيزين الراحلين لم ينكلا
بنساء هؤلاء الجند ، ولم يرموا أمهاتهن من أسطح المنازل كتسلية بدلا من صيد البط
والحمام !
ليس من حقنا أن نحاسب الآخرين على ذنوبهم بحقنا ما لم
نحاسب أنفسنا أولا ، أولا نحن ثم الآخرين
يا سيدي السياسي الذي أعلنت الحرب.. ووحدك نجوت من خرابها !
صارت في نهاية الشارع الآن ، أندفع رأسها إلي الأمام ،
وتبعه العنق المختفي بين طية المعطف ، ثم أخذ هيكلها يتضاءل ويختفي .. وتلاشي
معطفها تاركا خطا خلفيا باهتا يصعب من خلاله تحديد ماذا كان لونه الحقيقي .. ما كان لون معطف
المرأة ؟!
لم ينتبه أحدهم إلي تلك النقطة مطلقا .. أمر غريب !
المباني المهدمة في الخلفية تجلل المشهد ، خلفية موحدة
لم يكن أكبر فنان في العالم ليستطيع أن يبدع مثلها ، حتى خلفية " ليلة نجوم
" جوخ لا تفضلها في شيء ، إنها لوحة أبدعتها الطبيعة .. الطبيعة البشرية
والطبيعة لا تضاهيها قوة في الفن والإبداع !
مشهد موحد لكن السيدة العجيبة قد تلاشت ، وتلاشي أثرها
على النفوس، مشهد من ضمن ملايين المشاهد التي تمر على الرجال في الحرب ، بيد أنه
ليس كل المشاهد تمضي وتسودها الذاكرة ، بعضها يبقي .. وهذه المرأة بمعطفها وهدوئها
وثباتها سوف تبقي في ذاكرته ، وذاكرة رجاله إلي الأبد .. إنه الوعد !
لكن ماذا كان لون معطف المرأة !
تبادلوا النظرات في حيرة وتساؤل .. أليس من الغريب أنه
لم يلحظ أحدهم لون معطفها على الإطلاق !
لكن أليست الحرب كلها غريبة ومنافية لكل طبيعة واعتيادية
وألفة ، عادوا يتطلعون إلي بعضهم .. ومن بين الصفين المتراخيين خرج صوت ليرحمهم
أخيرا ، وهو يهش ذبابة ضخمة تحوم حول رأسه المغطاة بخوذة ميلها لتحمي عينيه قائلا
بلا مبالاة:
-" أزرق ! "
تمت
تعليقات
إرسال تعليق