التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أكبر من أن يكون ملاكا !!

 


لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ومدي الضرر الذي تتسبب فيه ، أما " ماري " فلم يكن الأمر معها على هذا النحو أبدا !
لقد نشأت هذه الطفلة نشأة غير عادية ، إنها نفسها لم تكن بذرة طيبة نبتت في أرض طيبة ، بل كانت بذرة مريضة مشوهة ، ربما لو وجدت غارسا أكثر حنكة ورحمة لوجدت من يقوم اعوجاجها ، لكن القدر دائما ليس بكل تلك الرقة وحسن التصرف ، فقد شاء للبذرة أن تغرس وتسقي وتنمو في حمي زارع مجرد من كل رحمة وخلق ، وحاصد أكثر قسوة وأشد شرا ، ولدت لتجد نفسها تدعي لأب الجميع يعرفون أنه ليس أباها .. الجميع ما عداها هي !
ولكن الأمر كان أبسط من ذلك بكثير ، فحتي أمها نفسها لم تكن تعرف ، على وجه الدقة ، من هو والد طفلتها ، برغم ذلك فلم يكن للأمر أية أهمية ، ما قيمة أن تعرف أباك في عالم يوجد فيه الكثير من الرجال الذين يمكن أن يقوموا بذات الدور ، أو كثير من الصالحين للتظاهر بأنهم آباء على الأقل.. كم أبا حقيقيا رأت " بيتي " في حياتها ؟!
تقريبا عددهم بعدد أصابع اليد الواحدة ، أباها كان من هؤلاء الذين تخطاهم حصر الأصابع الخمس ،وضاعت صورته وسط المحيط المليء بصور الآباء التي أحرقها ومزقها وتخلص منها الأولاد ، المنسوبين إليهم بحكم القانون ، بعد أن امتلكوا من القوة ما يكفي لكي يضعوا هؤلاء الآباء المزعمون في مكانهم المناسب .. كم تمنت " بيتي " أن تمتلك الجرأة والعزم يوما لكي ترسل أباها إلي الجحيم جثة مشوهة !
وليس أبيها فحسب ، بل إن أمنيتها في أن تقتل جميع من أذوها ، وأفسدوا حياتها كثيرا ما داعبت الفتاة ، التي لجأت إلي بيع جسدها مبكرا جدا ، لكنها أبدا لم تملك القوة ولا الإصرار اللازمين لفعل كل تلك الجرائم التي طالما طافت بأحلامها ، فاستعذبت تفاصيلها وابتسمت وهي غارقة في نومها القلق المضطرب !
لم تعرف " بيتي " الابتسام إلا في نومها ، وهي تحقق أحلامها المقموعة وتلبي رغباتها التي يحرمها القانون والمجتمع ، الغريب أن الأم ،التي أرغمت على أن تتقبل هذا الدور الصعب المقيت ، لم تكن تعرف أن البذرة الحرام المجهولة المنبت التي حملتها في أحشائها ، ولفظتها كما تلفظ قطعة مخلفات من داخلها ، هي التي ستتحقق لها كافة أحلامها وتفعل ما عجزت أمها عن فعله !
" ماري " الصغيرة ، التي خرجت لتجد ظلاما يكتنف مهدها ، وبيت مقوض يتوالي عليه رجال غرباء ، لا تعرف نوع العلاقة التي تربطهم بها وبأمها ، ولم تتعود أن تبالي بذلك ، هذه التي نشأت كما قال المرنمون في جوقة الكنيسة ( الحجر الذي رفضه البناءون ) ، وقد رفض الجميع " ماري " ، حتى قبل أن يكون للآخرين حق الحكم عليها ،وتقرير ما إذا كانت تستحق رفضهم أم قبولهم ، وأولهم المرأة التي حملتها ، كرها ، في أحشائها ، ووضعتها كرها ، وتحملت وجودها بجوارها كرها ،لمحض أنها لم تجد وسيلة ناجعة للتخلص من تلك المشكلة الصغيرة ذات الشعر الأسود القصير والأعين المحملة بحزن وقمع وحشيان ، كرها جاءت الفتاة إلي حياتها ، وبالمثل عاشتها ، إلا أنها ، بكامل قواها العقلية وإرادتها الحرة هذه المرة ، قررت أن تكمل لأمها آيتها المفقودة ، آيتها التي لم تسمعها بأذنيها قط ، لأنها لم تذهب أبدا إلي الكنيسة ، وتصير هي ، اللبنة المرفوضة ، حجرا للزاوية ورأسا محملا بخطايا الفكر واليد واللسان ، شيطانا متمردا ،رافضا لحقيقة أن الجميع ينتظرون منه أن يكون ملاكا ، غير مدركين ، لضعف بصيرتهم ، أنه قد شق ثوبه المصنوع من النور ، ونما له ، بدلا من الجناحين ، زوجين من المخالب ، وأنه لم يعد مناسبا أبدا للعب هذا الدور الأبله .. لأنه أكبر من أن يكون ملاكا .. ولأنه ولد في آتون الجحيم !
...
تبعهن بهدوء وهو يكركر بسعادة ،منتظرا الوعد الطيب الذي بذلوه له ، الوعد الذي له طعم الحلوى التي ينتظر حصوله على قطعة منها .. وهل يزيد  العالم في نظر طفل ،له من العمر ثلاثة أعوام ، عن قطعة من الحلوى ؟!
لا وله طعم السكر أيضا ، خاصة إذا كان ( الحالم الصغير ) لم يعرف إلا طعم المرارة على شفتيه الرقيقتين منذ مولده ،المرارة ومذاق الحرمان من ثدي الأم وحضنها الدافئين ، ومن سعادة قلب يرق له ،بالضبط كحيوان صغير فتح عينيه ليجد نفسه راقدا في حظيرة تسكنها مجموعة من الضواري، على الأقل كان من نصيب الطفل ، مبكرا أكثر مما يجب ، أن يقابل الضواري ويجرب بطشها ، والمرعب أن الوحوش التي قدر له أن يقع بين براثنها لم يكن لها أشكال الوحوش ، لا ،والمصيبة الأكبر أنهم كانوا مثله يحملون ملامح وسمت وصفات الأطفال، طفل وحشي ليثير رعبا يعادل قطيعا من الوحوش البالغة، كل شيء ينضج قبل أوانه يفسد قبل أوانه أيضا .. وهاتين فتاتين إحداهما ليس لها من العقل شيء ، منقادة مسحوقة ضللتها من هي أقوي منها وأكثر عقلا ، في الظاهر فقط كانت " ماري " تملك عقلا أكثر وعيا وإدراكا من عقل رفيقتها " نورما " ، لكن الحق كل الحق أن عقل " ماري " لم يكن سليما أبدا ، كاملا بلا عيب ، لكنه مريض مشوه ، عقل فتاة نشأت في بيئة مريضة ، مكروهة مبعدة ، لم يكن لها رأي في قدومها إلي هذا العالم ، كمثل كل البشر ، لكنها خبرت تجربة قلما مر بها أحد من الناس ، تجربة رفض الأم للكائن الذي نمته في أحشائها ،وخرج من بين صرخات الوجع والدماء الحارة المندفعة ، كنافورة ، مبشرة بخلق جديد وروح جديدة تطل على العالم ، لكن أي خلق وأية روح هي ؟!
 إنها روح آتت بلا ذنب، لكنها تلوثت بما يكفي لا لكي تتحمل بالذنوب فحسب بل لكي تلطخ مجتمعها كله بوصمة العار ،وتهينه إهانة كافية وتلفق له ببراعة تهمة مرعبة ، أنه حول النبتة الخضراء الطرية إلي شوكة حادة تقطر سما ،ولا تمر بقرب شيء إلا خدشته ووخزته وجرحته ، وقتلته ربما ..ولما لا ؟!
لما لا وكل شيء يدعوها إلي ذلك ؟!
ما القيد الذي يمسكها ،وما المانع الذي يقف حائلا أمامها ؟
ليس شيء هنا سوي " ماري " الساخطة ، وفتاة بلا عقل تقول نعم فنعم ، ونفس تشوهت من قبل أن تعاين الجمال ، وروح فُض غلافها الحامي وسقطت قشرتها مبكرا ، فتمرغت في الأوحال وتسللت الأدران حتى قلبها ،الذي تحول إلي قطعة لحم عفنة تتكاثر عليها الديدان ويزحف عليها العفن ، لم تعرف " ماري " حياة لكي تصير إلي الموت ، من ضيقة الرحم إلي ضيقة القبر مباشرة ، هذا مصيرها ومصير كثير غيرها من الناس .. بعضهم تقبل قدره وحظه بدماثة خلق أو صبر أو إيمان أو بتثبيت من قلب قريب يحبه ويجعل كل مر حلو في عينيه ،لكن " ماري " لم تفعل ، لأنها لم تكن تملك شيئا من هذا كله ، ولأنها ، أيضا ، لم تعرف في حياتها كيف تتقبل قدرها بشجاعة !
...
ثلاثتهم يجلسون إلي المائدة : الأب المفترض والأم المفترضة والطفلة المفترضة !
ثلاثتهم كانوا مفترضين ،وكل منهم يحمل صفة لا تليق به ونعتا لا يستحقه ، أبا وأم وابنة ، مسميات لطيفة لعائلة صغيرة سعيدة ، ضحكة ماجنة فالكل يعرف الحقيقة هنا ، أم منفلتة احترفت بيع جسدها وهي لا تزال عودا أخضر لم تنضج ثماره بعد ، وزوج ، يسمونه هكذا في الأوراق الرسمية ، لا يعرف لما تورط في أمر كهذا ، لكنه فعل ذلك منقادا لمصيره ، بل قبل أن تنسب طفلة زوجته إليه ، لم يعترض أبدا ، ولم يرضي أبدا كذلك ، بل وقف في منتصف الطريق خانعا متقبلا عن ضعف وجبن لا عن شهامة وقوة ، حملت الطفلة اسمه ، وصار اسمها " ماري بيلي بيل " ، الآنسة الصغيرة ابنة السيد " بيلي بيل " ، الذي هو نفسه لم يكن يعرف إن كان والدها فعلا أم لا ، ولا أسرة زوجته نفسها كانت تعرف ذلك ، يشكون دائما ، لكن ما من دليل في يدهم ، وأي يكن فإن وجود أب حقيقي ل" ماري " من عدمه لم يكن أمرا يستحق اهتماما ، الأمر أبسط من ذلك كثيرا ، ليذهب جميع الآباء والأمهات إلي الجحيم ، إن " ماري " قد صنعت نفسها بنفسها  ، من قطع الخزف المحطمة المتناثرة على الأرض ، من سخرية الأطفال وتعييرهم ، من ضربات أمها وقسوتها ، من فراشها المبلل ، دون إرادتها ، كل ليلة ، من المكان الذي ولدت لتجد نفسها فيه ، من الأسرة التي حُكم عليها أن تترعرع فيها ، من بيت بلا أخلاق تحكمه أم ساقطة ، وأب ،مسجل اسمه في شهادة ميلاد ، لكنه حاضر غائب ، حاضر بجسده أحيانا ، غائب بروحه وتأثيره إلي الأبد .
كان الجميع يتكلمون وكانت " ماري " تسمع ، تسمع وتدرك جيدا ما يحيط بها وما يدور حولها ، مشكلة الكبار الأزلية أنهم لا يفهمون أن الصغار يدركون كل شيء ، وربما أكثر منهم، تتسرب المواقف والكلمات والآراء إلي داخل الكبار فتبقي هناك بعض الوقت ، حتى يتطاول الزمان وتنصرم الأيام وتأتي المحن وتتكاثر الهموم ،وتمتلئ الأوعية بكلمات ومواقف وآراء جديدة ، فتمحي القديمة محوا ، ويندثر كل أثر لها ، لكن كل شيء يتسرب إلي داخل الصغار يثبت هناك ، صفحتهم البيضاء غدوها شهر ورواحها شهر ،وبوسعها أن تسجل وتحتفظ بكل شيء ، كل شيء يدخل إلي الكبير يتحول إلي رماد يتسرب ، كبقايا جلد ميت ، من فتحات الثياب ومن ثقوب الروح ومن جروح النفس ، ولكن كل شيء يدخل إلي روح الصغير يبقي هناك ، وينمو كبذرة ، وينبت منه شجرة ، أو عودا أخضر ، أو سنبلة بهية ، أو غصن من الشوك !
...
-" ستعطيك الجنية الطيبة قطعة حلوي .. إن رقدت هنا ساكنا يا " براين " ! "
-" براين " ولد طيب .. ولد طيب ! "
ردد الصغير مؤكدا ، بطريقته الخاصة ، على براءته وطاعته ،واستحقاقه للمكافأة التي وعد بها ، قطعة كبيرة من الحلوى .. للطفل الصغير الذي بلا أم ولا حلوي !
يا له من وعد يشبه وعود الجنة ، لكن الجنة بعيدة جدا ، حتى " برايان " ، رغم صغر سنه بدأ يدرك ، في تشوش ، تلك الحقيقة ، لقد قالوا له أن أمه ، التي لم تقع عيناها عليه أبدا لأنها لفظته من أحشائها ،ومن ثم لفظت الحياة من جسدها مباشرة ، تنتظره في الجنة ، يؤكدون له هذا منذ أن بدأ يفهم معني الكلمات ويرددها ، لكنه ينتظر أمه كل ليلة فلا تأتي لتحمله إلي الجنة ، حسنا " بات " أخبرته أن ماما لا يمكنها مغادرة الجنة ،لكنهما هما سوف يذهبان إليها قريبا ، قريبا ، قريبا ، الضمادة التي توضع فوق الجروح كلها ، والبلسم السام الذي يصفه المداوون والمشعوذون ومدعي الحكمة لكل متعب أو مجروح أو منتهك ، قريبا سينتهي كل هذا ، لكن لا شيء ينتهي ،ولا " برايان " يذهب إلي الجنة ليقابل أمه ، وعلى ذلك فقد أدرك الطفل الخديعة مبكرا جدا :
-" أريد الحلوى يا " ماري " الآن ! "
نعم بالطبع تريدها أيها الصغير ، وهل يمكن ألا تفعل ،لكن " ماري " الطيبة كانت تعرف كل شيء :
-" سوف تأتي المرأة الطيبة الآن وسوف تأخذك إلي الجنة ! "
آه ! وقعت " ماري " في نفس الخطأ البشري القديم القاتل ،الوعد الذي لا يتحقق أبدا ،بيد أن " برايان " كان منتعشا في انتظار الحلوى الموعودة فلم تخل عليه اللعبة :
-" لا أريد الحلوى في الجنة .. أريدها الآن ! "
ليس في الجنة لكن الآن ،سوف تحصل على الاثنين يا صغيري ، وفوقهما قصة مخيفة وصورة منك سوف تبقي ثابتة إلي الأبد، سوف تبقي لتقلق نوم " ماري بيل " إلي آخر أيامها ، لن تشعر بالذنب حتما ولا ضمير لها ليؤنبها ، لكنها كالمسيو " لوران " تندم بلحمها وعظمها وأوصالها ، فلا روح ولا قلب لها .. لم يعد لديها شيء من هذا كله !
وبينما كانت " نورما " تراقب ببلاهة ، سادرة في معايشة عالمها الخاص ،الذي لا أحد يعرف بالضبط ما الذي يوجد بداخله ، طلبت " ماري " من الصغير أن يتمدد على الأرض ، قالت له مؤنبة بلطف حينما عصاها الصبي في أول مرة :
-" لن تعطيك المرأة الطيبة قطعة من الحلوى ما لم تتظاهر بالنوم وتبقي ساكنا .. وإلا فسوف تلقي عليك قطعة من البراز ! "
مقرفة " ماري " هذه ، وألفاظها في غاية الابتذال ، لكن " برايان " لم يستبشع الكلمة ولم يجدها غريبة الوقع على أذنيه ، فهو يسمع كلمات أشد بذاءة منها في منزله وحوله ، حيث لا يكاد يفارق الشارع ويبقي فيه دائما ليلعب ، يلعب وحده منتظرا من يعطيه لعبة أو قطعة حلوي صغيرة ، أحلامه صغيرة كعدد أيامه ، والصغار يرون العالم كبيرا عليهم ، وكلما كبروا وجدوه يضيق أمامهم ويخنقهم ، وهذه هي كل المشكلة : أن الصغار يكبرون كل يوم بينما يظل العالم صغيرا ، تافها ، ضيقا كما هو ،و" ماري " ، التي قدمت إليه الوعد الجميل ، نبتة وضعوها في أصيص صغير حتى ضاق بها ، فما هو الحل حينما يتحتم عليها أن تختار بين حياتها وبين لحمة قطع الفخار ؟!
تحطم الإناء وتخرج .. تهرب من الباب الضيق !
...
رقد الطفل إذن منتظرا ملمس الحلوى الناعم الدبق ينزلق بين أصابعه اللينة ، ومن ثم يحمله فورا إلي شفتيه ، من اليد إلي الفم ، هذا هو أسلوب العيش في بيتهم الفقير ، لكن الحلوى لم تأتي ، وبديلا عنها أنقضت عليه " ماري " لتخنقه ، لم يكن الأمر منطقيا من أية ناحية ، لكنه حصل فعلا .. فما إن صار الطفل على الأرض مغمض العينين حتى وثبت الفتاة عليه ،وغرزت أصابعها في عنقه ، كتمت أنفاسه وشدت على عنقه الرقيق بقوة لا يمكن أن يكون مصدرها أرضي أبدا ، من نيران الجحيم ومن فم إبليس الذي يصرخ فتندلع منه حرائق مروعة ، كانت " ماري " تستقي مصدر قوتها وغضبها وحقدها ، لم يفعل لها " برايان " المسكين شيئا ، لكن ألف " برايان " ، ألف إنسان ، ألف رجل وامرأة ، آخرين فعلوا!
 هذه هي خطيئة " برايان هاو " الوحيدة ، أنه وقع في مرمي البصر لفتاة تريد الانتقام من الجميع ، لكن يديها لا تطاولان من يستحقون الانتقام منهم ، لذلك اتخذت من طفل ضعيف كبش فداء ، أضحية بشرية ، قربان يُسفك ويحرق ليمحو خطيئة من كانوا يجب أن يكونوا هم في موضعه الآن ، الحياة غير عادلة ، ودائما من يدفع الثمن هو من لم يحصل على قطعة من الصفقة أصلا ، يخرجون خاويي الوفاض ،ثم يُطالبون بدفع الضرائب عما أكتسبه غيرهم، لم تكن الحياة عادلة أبدا مع " برايان " الصغير .. لا ولا حتى الموت كان كذلك !
لكنه يحاول أن يقاوم ، هذا الصغير المراق دمه بلا ذنب ، يحاول أن يقاوم ، يستخدم القوة النامية ، التي لا تزال تحبو متمشية في عروقه ، في محاولة رد العدوان عن ذاته الضعيفة وجسده الواهن ، بيد أن أية قوة يمكنها إيقاف شيطان متجسد في هيئة فتاة صغيرة بشعر أسود وعيون تشع نارا ، نارا وقودها خيبة أملها وآلامها الخاصة الشديدة ، سيدفع " هاو " الصغير ثمنا فادحا لكونه يقطن بالقرب من " ماري بيل " ، ويلعب على مرمي البصر من " ماري بيل " ، ولا يملك أما تحميه من " ماري بيل " ، أما " نورما " فهي مثله أو أشد ابتلاء ، إنها الدمية التي بلا عقل في يد شيطانة لها عقل مرض حتى تعفن وأنساب على جوانبه الصديد !
أختنق الطفل تحت الأصابع الحاقدة الناشبة حول عنقه بقسوة وغل وحقد ، ليس عليه لكن على آخرين ، بل عليه وعلى الآخرين ، على الجميع ، على الدنيا ، على أمها التي تعرفها ،وعلى أبيها الذي لم تكد تعرفه وليست نادمة على ذلك ، على المجتمع وعلى أسرة أمها ، على الأطفال الآخرين ، على الجيران ، على كل من سخروا وانتقصوا منها ، على الملاءات المنشورة علنا تفضح فعلتها الشائنة ، على القدر الذي زرعها في رحم خبيث ، على الله الذي وضعها في موضع لم يؤخذ رأيها فيه ، على " نورما " التي لم تقل لها لا أبدا ، التي لا تعرف كيف تقول لا ، على " برايان " الذي أذكت براءة طفولته غضبها وحسرتها على براءة لم تعرفها ،وعلى طفولة لم تعشها ، على الرجال الذين انتهكوا براءة جسدها الصغير في حضور أمها غير الأبهة.. وأخيرا على نفسها !
نعم فقد كانت " ماري " أشد ما تكون سخطا على نفسها قبل الجميع !
مات الطفل أخيرا !
أنتفخ وجهه وتورم ، وتشنجت أطرافه ، قاوم بيديه الصغيرتين بآخر ما لديه حتى نفدت كل قواه ، وازرقت ملامحه وتسلل اللون الكريه ، المبشر بالألم والموت ، إلي شفتيه الرقيقتين ،داعيا الفناء ان يقوم بواجبه المقدس اليومي الذي لا ينتهي ، همد " برايان " أخيرا ، وانتزعت روحه من جسده بيد لعلها حانية ، ولعلها تدرك أنه ذهب ضحية بريئة ، لا يعرف شيئا ، ولا يدرك ما هو الشر ، ولا يستطيع أن يفرق بين الأخيار والأشرار ، ولا بين " ماري بيل " وبين المرأة الطيبة التي تعطي للأطفال المطيعون مثله قطعة كبيرة ،بحجم أحلامه الصغيرة ، من الحلوى !
...
رفعت " ماري " يديها أخيرا ، لم يكن هناك دم على راحتيها ، لكن الدم الذي سفكته ، دون أن تسمح له بأن يسيل على الأرض ، قد تسلل إلي داخل روحها فلطخها ، تلوثت بكل هذا وزاد عفن قلبها صاعا ، زحفت دودة هائلة خارجة من عقلها التائه الغائب ، مؤقتا ، وتسللت حتى قلبها الممتلئ صديدا ، وهناك استقرت الآفة المتلوية في أمان وشرعت في وضع البيض!
 ستفرخ كل بيضة دودة جديدة ،وسوف يقودها كل رعب اقترفته إلي رعب آخر أشد منه ،وسيكون " برايان " ضحيتها الأخيرة لكن اسمه لن يكون كلمة النهاية في قصتها .. فمن لهم حياة كحياة " ماري بيل " ، ومن لم قصصا كقصتها لا تكتب كلمة النهاية لهم أبدا .. بل تبقي صفحاتهم مفتوحة .. تسمح بالإضافة والحذف والتعديل ، إلي الأبد !

 هنا اقرأ المزيد عن حياة القاتلة المتسلسلة " ماري بيل""

 


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساسي، استمرت

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم