ظلمة رهيبة تحيط بها ،وهي تحمل ربطة ثيابها وتعدو هاربة.. إن الهلع يطاردها وذكري الأجساد المتدلية من
المشانق ، المتأرجحة كبندول ، تطاردها في كل خطوة تخطوها ، المشانق التي عُلقت
بسبب أكاذيبها ، والأجساد التي فارقتها الحياة قسرا بسبب إدعاءاتها المزيفة ،وصراخها
الهستيري المتقن ، هي والفتيات الصغيرات اللعينات ، أذيالها المطيعة التي طالما
تلاعبت بهن وأمضت مشيئتها عليهن ، إنهن ينعمن بالنوم الهادئ ،ودفء الفراش في
القرية ،التي تحطمت بسبب ألاعيبهن ، بينما هي وحدها تدفع الثمن غاليا وتمضي هائمة
متشردة لا تعرف أين سيستقر بها المقام !
لقد سرقت خزانة خالها الأبله ، وجردته من أملاكه
المنقولة الثمينة ، لكنها لا تزال تشعر بأنها لم تقتضي حقها كاملا منه ومن ابنته
بعد ، يكفيها فقط أن الشيطان تركهم كلهم ومضي في أعقابها هي وحدها !
...
البلدة صامتة خاوية والظلام يلفها ، صمت لا تقطعه إلا
أصوات نباح كلاب ضالة تهيم على وجهها في الليل ، كلاب كان لها بيوت تؤويها منذ
شهور قليلة ، قبل أن تحل ضربة الشيطان بسالم الهادئة ،وتأخذ في طريقها الأرواح
المعذبة ، أرواح البشر وأرواح الحيوان أيضا ، إن الشيطان ليضحك ساخرا وهو يراقب هذه
المأساة ،لقد أفرغ يديه وأنتهي عمله هنا .
لا لم ينتهي
تماما بعد ،فلا زالت مهمة صغيرة تنتظره
ليؤديها قبل أن يفرك كفيه ويحمل عصاه ويرحل !
...
عاد الصوت يتردد من خلفها فهرولت جارية ،وهي تدير رأسها
لتتطلع برعب خلفها كل ثانية ،صوت الخطوات الهادئ المنظم الرتيب ، تدير رأسها وتنظر
خلفها ، الطريق ساكنة والظلام يغلف كل شيء ، ثمة أدخنة خبيثة تتصاعد من مكان مجهول
وتتجمع في شكل سحب ضبابية ترتفع حتى تكاد تلامس عنان الماء ، لو كانت "
إبيجايل " مثقفة لخشيت على نفسها أن تهلك بسبب هذا الكم من ( المياسما )الشيطانية
، لكن الحمد لله فلم تكن الفتاة إلا أمية ، جاهلة حقودة بغيضة ،ومحببة لقلب سيدها
الحقيقي ،الذي لم تخدم غيره طول عمرها القصير المحمل بالخطايا ، الشيطان !
كان الشيطان هنا و" أبيجايل " وحدها معه ،لقد انتهت مهمتها ولم يعد سيدها القديم بحاجة
إلي خدماتها ، أو إليها هي نفسها ، يجب أن تموت قبل أن تتوغل في السن ،وتداهمها
نوبة إفاقة وتوبة مباغتة ،وتفتح فاها لتتكلم وتفسد عمل قرون مظلمة طويلة .."
أبيجايل ويليامز " من اتهمت الجميع وأدانتهم حل الليلة يوم دينونتها المرعبة
!
...
نظرت في المرآة طويلا وهي تلاحظ ملامح وجهها الدقيقة ،
لقد وجدت مكانا تبيت فيه أخيرا ، استخدمت طرقها القديمة وألاعيبها .. صاحب المنزل
رجل أعزب ، كهل أحمق متصابي ، لم تحتاج إلي أن تغريه طويلا قبل أن يسقط طريح إغواءها
،ويوافق على أن يعطيها غرفة في منزله ، لقد وعدته بأن تعمل خادمة لديه ، وأشارت من
طرف خفي إلي الخدمات الأخرى التي يمكنها أن تقبل بالقيام بها ،إن هو أكرمها وأحسن
وفادتها ، ويبدو أن الرجل سقط في الفخ من فوره لأنه قادها إلي غرفة بالدور الأرضي ،مفروشة
بشكل جيد جدا ، حجرة متسعة بها فراش وثير ومغسلة نظيفة ومصباح غازي يشع بنوره
الساطع ، الذي لم تري " أبيجايل " مثيلا له في (سالم ) طيلة حياتها ، وتركها تقفل الباب
دونه وعيناه تشعان بلمعة أمل ولهفة ،وأخيرا
صارت الهاربة وحدها بين جدران أربعة تحميها من غوائل الطريق ،والرعب الذي طاردها
في رحلتها الطويلة !
بدلت ثيابها نصف مغمضة العينين ، ثم آوت إلي فراشها دون أن
تنتبه إلي أنها ليست وحدها في الغرفة !
...
تصاعد صوت رتيب في الكون الخاوي المتصدع ، شيء أشبه
بخوار قطيع أبقار غاضب هائج ، في الظلمة لم يكن هناك أحد ، وفي منتصف البلدة أرتفع
شبح المنصة التي أقيمت فوقها المحاكمات الأخيرة ، هدمها الناس الغاضبون ،وفتتوا أخشابها
الغليظة بضربات معاولهم الثائرة ،المحملة بالحقد والضغينة ،وحولها تناثرت الحبال
المتدلية مما تبقي من المشانق التي تركها الأهالي على حالها ، لقد استبقوا المشانق
لتذكرهم بالرعب الذي فرضته هذه المحكمة الجائرة على البلدة ، لكي لا ينسوا الذل
الذي عاشوه عندما اختاروا الركون والاستسلام ، لكي يجعلوا تلك المشانق الشبحية
درسا عمليا لأطفالهم، يعلمونهم من خلاله أن يثوروا على من يفكر في تجريمهم ورميهم
بالتهم الباطلة الغامضة ،وألا ينتظروا حتى يهيمن الرعب على بلدتهم .. ( سالم ) غافية الآن نائمة في حزن تلعق جروحها لكن الخوف لم يقدر له أن يفارقها بعد !
...
تفقد القس " باريس " ابنته ، فلم يعثر عليها
في فراشها ، بحث عنها محموما مرعوبا في
البيت فلم يقف لها على أثر .. تري أين اختفت
الطفلة في هذا الليل البارد المخيف ؟!
...
نهضت ببطء من سريرها الصغير ، كانت تسمع نداء خافتا يتردد
همسا في أذنيها ، في الحال فتحت عينيها ،وخطر ببالها أن صاحب البيت المتعجل قد
تسلل إلي غرفتها ليحصل على الخدمات الأخرى التي وعدته بها تلميحا ، لكنها عندما
تطلعت حولها لم تري أثرا لأحد ، فقط هي وحدها وحولها الظلام ،الذي ازدادت حدته باضمحلال
ضوء المصباح الذي كاد ينطفئ تماما ، لكن شعورا بالترقب رافقها ودفعها إلي مغادرة
فراشها ، بينما هي تزيح الأغطية جانبا لاحظت يديها في نظرة جانبية عابرة ، توقفت
عن مواصلة دفع الأغطية ونظرت إلي يديها برعب ،وهي تحس كأنها مغموسة في أتون كابوس
مظلم مخيف .. إن بشرتها الرقيقة المشدودة
قد تجعدت كامرأة تسعينية عجوز ، خطر لها أنها تتخيل ، تتوهم ، إنه تأثير
الظلام المنتشر ، تحملت خواطرها المضطربة للحظة ، ثم دفعت طرف الأغطية بجنون وجرت
نحو المرآة بنزق ،فأوقعت كل شيء في طريقها على الأرض ، أخيرا وجدت نفسها أمام
رفيقتها القديمة المرآة ، ولم تكذبها الأخيرة خبرا ، وعلى السطح العاكس المغبش رأت
وجها مجعدا مثيرا للشفقة والرعب !
تطلعت "
أبيجايل " إلي وجهها ، الوجه الذي لم تره من قبل أبدا ، وهي غائبة في نوبة
ذهول ، غير واعية بما تري أو تفعل ، ثم فجأة هبت معبرة عن ذعرها ، صرخت بصوت مروع ارتجت
له جدران المنزل ، ثم انهالت على المرآة ضربا بيديها وأظافرها ، أطلقت صرختين
أخريين ، ثم أحست بشيء ينساب خارجا من جسدها ، حاولت الإمساك به مستميتة ، لكنه
تركها وولي ، كانت تدرك أنه ليس إلا روحها المحملة بقدر أكبر مما تحتمل من خطايا ،
وراحت تسقط بعدها ساحبة معها يديها المشرعة وأظافرها الممدودة ، التي تركت خلفها
خدوشا غامضة على زجاج المرآة ، بينما جلجلت آخر صرخات رعبها في العالم من حولها ،
قبل أن يخرس صوتها إلي الأبد .. ويستعيد الكون صمته الشامت المتآمر !
...
تحركت الحبال المتهرئة استجابة للرياح العاتية التي تلف
( سالم ) الهاجعة ، ودوي صوت دوران وتصادم قطع الأخشاب والمعدن المتبقية من هيكل
المنصة المشئومة ، كان كل شيء يغطس في الظلام ، والفتاة ذات الثوب المنزلي الأبيض
تقترب من المشهد ، كانت تمشي غير واعية ، غارقة في نوم مسحور غريب ، مشت بقدمين
خفيفتين ، لا تكاد أطرافها تلامس الأرض ، وكأنها تطفو في الهواء ، مضت نحو مصيرها ،وهي
لا تعرف ماذا تفعل بنفسها أو ماذا سيفعل
بها من قادها وأخرجها من فراشها وأتي بها ، لأي هدف ؟ ، إلي هنا !
...
في الصباح الباكر كان موقع المحكمة ،التي حلها الأهالي
بالقوة ، يخيم عليه الهدوء والسكون ، لا أحد يجرؤ على الاقتراب من هنا آناء الليل
أو أطراف النهار ، فالمكان محمل بقدر أكبر مما ينبغي من الحزن والانقباض ونوازع
الغضب وهنات الكراهية ، ولذلك كان مقدرا للجسد أن يبقي لساعات طويلة وحيدا ،ولا
أحد يشاهد عذابه ، جسد الفتاة الصغيرة
التي ترتدي ثوب نوم أبيض ، وتتأرجح من مشنقة محطمة ، والحبل يدور حول نفسه برتابة ..
والجسد البارد يدور ويدور معه .. بلا توقف أو نهاية !
تعليقات
إرسال تعليق