التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشيطان ذو المطرقة !

 

ها هو النداء يتردد من جديد :

" أقتل يا جون .. لماذا توفرهن على أية حال ؟! "

إن المسن وديع الملامح ليس رجلا عاديا أبدا ، في الأصل لا يوجد إنسان عادي ، كل منا غريب بأسلوبه الخاص ، كلنا غريبو الأطوار بشكل أو بآخر ، لكن النساء هن الأكثر غرابة وتطرفا على الإطلاق ، الرجال جميعهم ، مهما اختلفوا ، متشابهون حد التطابق .. تعتمل في نفوسهم نفس النوازع الكبيرة المثيرة للسخرية ، لديهم ذات الحزمة من الرغبات والأفكار ، والاعتقادات الهشة التي تنكشف مع أول اختبار حقيقي ، ولا تلبث أن تتهدم وتنهار مع قليل من التجارب ، يعتقدون في أنفسهم القوة ، والقدرة على البطش ، يدعون القسوة والغشامة والصرعة ، ولكنهم لا يلبثون أن يتساقطوا كفراخ صغيرة أنتهك مخبئها ثعلب يجمع بين الحصافة وحدة المخلب ، أما النساء فهن ألغاز حقيقية ، لا يفهمن أنفسهن ولا يفهمهن غيرهن ، علب مقفلة ومصفدة بالحديد ، أوعية صغيرة دقيقة الساقين من المكر والدهاء ، والعاطفة المبالغ فيها ، ومن المحبة المفرطة والكراهية الفائقة ، كل شيء فيهن تعدي مداه وتخطي مرحلة الاعتدال ، محبتهن ككراهيتهن شديدة وباطشة ومروعة ، ذكاءهن متقد وتغابيهن مروع ، فطرتهن قاسية صلبة كما هي رقيقة هشة ، المرأة التي تنطرح على فراش مبلل بالدم لتدفع كتلة بلا ملامح من اللحم والعظام ، كتلة تضطرب بحياة غير محددة بعد ، من جوفها ، تشق السماء بصرخاتها وتصدع الأرض باستغاثاتها ،هي نفسها من تقدر على أن تدس رجلا راشدا ، يفوقها حجما مرتين أو ثلاث ، في التراب بلا ضجيج ولا صوت ، حيا كان أو ميتا .. لقد جرب وحشية النساء الرقيقة ،الوحشية المصبوغة الشفاه والمطلية الأظافر ، وحشيتهن الملونة الصاخبة التي تفوق وحشية الرجال البدائية الصرفة ، لم يدخل الرجال زمن الألوان بعد ، وربما لن يدخلوه أبدا ، فلا زالت كل صفاتهم ، مشاعرهم ، طموحاتهم ، وردات فعلهم تتراوح بين نقاء الأبيض وشر وقتامة الأسود ، إلا أن النساء هن ملونات بالسليقة ، ملونات بالفطرة ، منهن الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء ، وأكثرهن شرا وخطرا هي من كانت بلا لون ، كحية لم تستكمل تحولها بعد ، أفعوان أنسلخ من جلده القديم ولم يكتسب جلدا جديدا بعد ، وقد كانت كل النساء اللائي لقيهن " جون جلوفر " ملونات بصخب كأمه الساقطة ، الأم التي لم تترك له من ذكريات سوي الهرب والاختفاء والظلام والوحشة .. والجورب المربوط حول رقبتها !

كل تلك الخواطر تداعت على وعي السيد " جلوفر " وهو يتأمل الشقة الراقية التي أستدعي إليها ، كانت شقة جارته السيدة " بينلوب " ، عجوز يونانية مهاجرة عاشت عمرها في أستراليا ، لكنها لا تزال تتحدث عن فاكهة البحر المتوسط ، وتتحسر على أعمدة أثينا وزهورها الحجرية ، عجوز دمثة الخلق ، ثرثارة ككل من هم في مثل سنها ، وحادة الطباع قليلا ، بيد أنها لطيفة محببة ، على الأقل ليست من النوع الذي يسهل أن تكرهه وتضمر شرا نحوه بمجرد أن تقع عيناك عليه .. العجائز الذين يستدرون عطفك كمثال على زوال القوة واضمحلال الشباب ، أولئك الذين يقفون بين العتبتين منتظرين البت في أمرهم ، عتبة الموت والفناء أقرب إليهم ، لكنهم يتجاهلون النداء المعلق فوق رؤوسهم ، منتظرا النطق به في أية لحظة ، بالتشبث العبثي ، الذي يكاد يكون عنادا خالصا ، بكل مظاهر الحياة .. يطاردون القطط ويتملصون من سرد الذكريات ،ويدعون الجيران للحفلات ، ويتدخلون للإصلاح بين الأزواج الشباب ، ويكورون أنوفهم في امتعاض معترضين ، بصمت ، على الأوضاع الجديدة التي تتقدم لتكتسح كل ما ألفوه وتعودوا عليه ، تجرف ماضيهم وتشعرهم بوحدة قاتلة لا شفاء لها ، وحدة الإنسان حينما يدرك أن زمنه قد ولي ومضي ، هذا النوع الوحشي من الوحدة الذي لا يزيده وجود الأصدقاء ، ومن تبقي من رفاق الماضي ، إلا شراسة وقسوة ، إنكم جميعا غرباء هنا ، تجتمعون لتحتموا ببعضكم ، تنتظرون الهجمة القادمة من شبح الموت ، أو من مطاردة الصبية العابثين الذين لا تزال الحياة تفور في عروقهم وتجري ، هادرة كماء شلال ، في أوصالهم .. السيدة " بينلوب " كانت تعاني هذا النوع القاسي من الوحدة ، لذلك نصبت نفسها راعية ، وربما قيمة غير مكلفة ، على حيها الصغير ، جعلت من نفسها مستشارا لكل من هو أقل من سبعين عاما من العمر ، وأما لكل من يقل سنه عن الخمسين ، وجدة لجميع من هما دون هذا وذاك ، شقتها الفاخرة ، التي لا ينقصها شيء من الكماليات ، مفتوحة للجميع ، وحاجياتها تكاد لا تستقر في مواضعها ،حتى تخرج من جديد ليد هذا أو ذاك من جيران الحي .. حسنا إن مجرفتها وأدوات حديقتها قد مر عليها شهر دون أن تعرف في أي منزل من منازل الجيران تؤدي وظائفها الآن !

لكن كل شيء يبدو على ما يرام في نهاية الأمر ، وسوف تحظي المرأة الوحيدة برفقة جيدة حينما ترقد والموت يحلق فوق جفنيها المثقلين المقفلين ، وعندما ترقد بسلام فسوف تمتلئ الكنيسة المحلية الصغيرة برجال ونساء يرتدون الأسود حدادا عليها ، ويلقون أكواما من الزهور فوق حفرة قبرها قبل إنزال الصندوق وردم الأتربة فوقه .. وما الذي تطمح إليه هي أكثر من ذلك ؟!

الموت بطريقة محترمة هو كل ما يحلم به من هم مثلها ، من عاشوا بالقدر الذي عاشته ، وتألموا كيفما تألمت !

واليوم قد أثمرت مواهبها في تحريض الناس على الالتفاف حولها خيرا ، سقطت حلقات ستارة غرفة الصالون العملاقة ، فحضر السيد " جون جلوفر " بنفسه فورا لكي يؤدي لملكة الحي غير المتوجة هذه الخدمة الصغيرة .. قدمت إليه شايا وبسكويتا صنعته بنفسها في فرن مطبخها ،التي نادرا ما تلجأ إلي إشعالها ، حسنا كان البسكويت سيء الصنع للغاية ، لكن السيد " جلوفر " كان لطيفا ودمثا بدوره ، تظاهر بقضم القطعة التي في يده باستمتاع ، ثم بصقها ، مستغلا غفلة العجوز ، في إناء الزهور العملاق الذي يستند على قدمي النافذة التي يعمل الرجل بمطرقته ومساميره فوقها ، لم ينقطع حبل الحوار بينهما ، برغم أن " جون " ، الذي لم يكن شابا بدوره ، قد أصيب بصداع كاد يشق رأسه نصفين ، وهو يستمع إلي ترهات العجوز ذات الألف لسان ، إلا أنه لم يُظهر لها أي ضيق أو تبرم .. بل واصل عمله بحماس ملقيا بما تبقي من انتباهه إليها لتحكي له كيف هاجرت برفقة عائلة مكونة من شقيقين شابين ، وأم مسنة واهنة ، على متن مركب من اليونان إلي أستراليا ، سكتت في المنتصف موحية بمرحلة انتقالية لا تريد أن تطلع أحدا على تفاصيلها ، ثم راحت تحكي كيف تأقلمت على أستراليا ومجتمعها الوليد ، وكيف جاهدت لتتحرر من اعوجاج اليونانية في منتصف لسانها ،حتى تمكنت آخر الأمر من التحدث بإنجليزية معتدلة ، ليست إنجليزية مثالية ورائعة جدا كما تعترف بذلك ، لكنها على الأقل أقل بشاعة من إنجليزية المهاجرين الصينيين الذين تصادفهم في كل مكان الآن :

-" إنهم يغزون العالم .. لا يتركون مكانا لغيرهم .. عما قريب سوف يحكمون العالم ونحن سوف نصبح رعاياهم ! "

ابتسم " جون " بخبث وهو يواصل عمله ، كان يعرف أن العجوز الطيبة عنصرية حتى النخاع ،وتكره الشعوب الآسيوية كراهيتها للجذام، ألم يصر أبدا على أن النساء غريبات الطابع ،ومن يتوقعهن دوما يغامر بأن يصاب بخيبة أمل لا يزول طعم مرارتها من فوق شفتيه !

ولكن على أية حال لماذا هو هنا الآن ،ليؤدي مهمة صغيرة ، معروفا بسيطا لجارة الحي الثرثارة ، ثم يستأذن بعدها ويختفي من أمام عينيها القادحتين ..

احتفظت العجوز بحدة نظراتها برغم أن بصرها كاد يتلاشى ، ترمقه من خلف زجاج منظارها السميك بإمعان ثم فجأة تلتمع نظرة غير مفهومة في عينيها ،وتهتف بصوت مهشم ، جراء تعب أحبالها الصوتية من كثرة الكلام :

-" إنك رجل غير عادي يا سيد " جلوفر " .. وددت لو أنني كنت من معارف السيدة والدتك ! "

أرتعد " جون " بغتة عند ذكر سيرة والدته وسقطت المطرقة من يده ، انتبهت السيدة العجوز لجسامة ما أحدثته من ضرر ،وراحت تزجي اعتذارها الطيب :

-" إنني آسفة لو كنت قد كدرتك .. فقدان الأم ليس بالأمر الهين حتى لمن هم في مثل سننا ! "

لكن " جون " ، في الحقيقة ، لم يرتجف لأن ذكر أمه ذكره بفقدانها الفادح ، بل لأن تلك العجوز الثرثارة الغبية ، دونما قصد ،قد بعثت في خلاياه الشخص الآخر الذي خرج من المنزل وهو عازم على أن يتركه مختبئ ، نائم بسلام ، هناك ،" جون جلوفر " الابن الذي لم ينسي أبدا أن أمه قد تخلت عنه يوما ، وعن أبيه الطيب ، لأجل خاطر شخص سافل ، وتحولت من سيدة مجتمع إنجليزية محترمة إلي عاهرة يلتقطون لها الصور وهي تعقد شرابا حول عنقها العاري القبيح !

ما أشد ضراوة تلك اللحظة التي واجهها فيها ، لقد عادت الغدة تفرز سما في جسده ،الذي كاد يتعافى ويتماثل للشفاء، قفزت إلي حياته مرة أخري فلماذا ، بحق المسيح ، قد عادت ؟!

تلك المرأة ، لا يتركه شبحها ، ولا ترحمه ذكراها غير العاطرة ، حتى بعد أن تخلص منها وأرسلها ، مثلما أرسل نسوة أخريات على شاكلتها ، إلي مكانها اللائق بها وبهن ، في الجحيم !

تري هل سوف تنتهي أمه في الجحيم ؟!

إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال من قبل ، إلا أنه يملك ، على الناحية الأخرى ، إجابة لسؤال آخر أكثر إحاطة وأعظم شمولا ، إنه لا يعرف إن كان مصير أمه سوف يكون في الجحيم أم لا، إلا أنه سوف يعثر عليها هناك على أية حال ، إن كانت قد سبقته ، لأنه هو ، بكل تأكيد ، سوف ينتهي في الجحيم !

في  تلك اللحظة صر " جون  " على أنيابه وهبط من فوق المقعد ، التي يرتفع فوقه بجوار النافذة ، ببطء ، راقبته " بينلوب " العجوز بنظرة متسائلة ،إذ كانت  تلاحظ  جيدا أن العمل لم ينتهي بعد ، ولا زال الجانب الأيمن من الستارة يرتكز مائلا على حافة النافذة العليا ، قالت متلطفة وقد أساءت فهم السبب الذي دفعه إلي التخلي عن إكمال مهمته في تلك المرحلة :

-" هل أرُهقت يا سيد " جلوفر " .. يمكنني أن أقدم إليك قدحا من القهوة ! "

لكن " جون " لم يكن ينقصه المزيد من القهوة أو المنبهات ، فرأسه عامرة بمكيفات تكفيه قرونا قادمة ، فلا شيء قادر على تنبيه حواس الإنسان، وإبقاءها قيد اليقظة الحادة الشرسة ،قدر الدم الذي سفكه ، الكثير والكثير من الدماء ، لا يعجز السفاحون عن النوم لأنهم يعانون تأنيبا ، معاذ الله ، في ضمائرهم ، أو تهاجمهم أشباح ضحاياهم وتعضهم بأسنانها ، بل لأن الدماء التي أراقوها تناديهم وتدعوهم لسفك المزيد والمزيد منها ، للدم خواص فريدة ، وله نداء خفي لا يسمعه ، لحسن الحظ ،كل البشر ، نداء مخيف ، ينساب فوق البشرة ، ثم يدخل إلي اللحم ، ومنه يتسلل إلي العروق وينفذ إلي الخلايا الحمراء والبيضاء ويكمن هناك ، ثم لا يلبث أن ينمو وينمو كسرطان خفي حتى يملأ الأحشاء ويحتل الجسد كله .. من الصعب على المرء أن يقتل مرة ..فإن فعلها صار من المحال عليه أن يتوقف !

من يستطيع أن يوقف هذا النداء ، ويكبته ويخرسه ، بعد اقتراف جريمته الأولي هو بطل بلا شك ، ويستحق أن تخصص جائزة لمن هم مثله ، بيد أن " جون " واثق كل الثقة من أن جائزة كتلك ،إن وجدت يوما ما ،فهو سيكون آخر من يمكن أن ينالها ..إن نالها أبدا !

طفت شبح ابتسامة على شفتي " جون " وهو يفكر في ذلك الخاطر ، سكتت السيدة " بينلوب " تماما الآن وشحب وجهها ، وهي تتطلع نحو " جون " ،الذي يرمقها بنظرة باردة جعلت الصقيع يتسلل داخل صدرها ، أضطرب تنفسها للحظة ، ثم أفرخ روعها وسري عنها ،وقد تذكرت أنه ما من شيء لتخشاه ، إنه ليس إلا " جون " الجار اللطيف ، الذي يشيد الجميع برقة حاشيته ودماثة طباعه .. نطقت المرأة العجوز بوهن قائلة :

-" يمكنك أن تستريح يا عزيزي وتكمل العمل فيما بعد .. أو لنؤجله ليوم آخر أشعر كأنك سوف تصاب بوعكة صغيرة ! "

لكن " جون " لم يسمعها ، لم يعد " جون " هناك ليفعل ، فقد رحل العقل والإرادة والطباع التي عرف بها " جون جلوفر " بين أسرته وجيرانه ، بقي فقط الجسد ، الذي أحتله كيان غامض مهيب ، كأنه شيطان ، لا يعرف من الدنيا إلا هدف واحد : أنه مكلف بالقضاء على أولئك النسوة العجائز اللائي يسبب وجودهن أعظم الضرر !

لا ريب أن السيدة " بينلوب " لم تكن تسبب ضررا محسوسا لأحد ، بيد أنها امرأة في النهاية ، وامرأة مسنة وثرثارة ،وتهوي حشر أنفها فيما ليس لها به علاقة ، ولا تكاد تفهمه ، هؤلاء البقايا المتحجرة التي ترفض أن تموت ، لا يتوقفن عن الحياة ، حتى عندما تغادرهن الحياة وتخلفهن وراءها ، لما لا يمتن ببساطة ، يصمتن ، يغطين أنفسهن بالأكفان ، ويرقدن في التوابيت ، كملوك الشر ، منذ مطلع الشمس حتى مغيبها ، أمامهن الليل كله ليفرضن وجودهن المخيف ، وشرهن الأبله السام ، على العالم ، لكنهن لا يكتفين بالليل ، بل يأبين إلا أن يسممن على الناس نهارهم وليلهم .. أليس عمل عظيم يقوم به المرء إذ يخلص العالم من تلك الكائنات المزعجة ؟!

تلفت " جون " حوله ، وقد خوي عقله تماما ،وتجمدت نظرة باردة في عينيه ، حوله باحثا عن سلاح يصلح للقضاء على هذه الكتلة الصغيرة ، المكونة أصلا من عظام قديمة نخرة وقليل من اللحم والأوتار والعضلات ، والتي تلف نفسها بشال ثقيل ، ولا تكف عن دفع الكلمات الصاخبة من حلقها ،الذي لا يستحق سوي أن يمُزق شر ممزق بساطور له شفرة لم يستخدمها أحد من قبل !

كانت الغرفة البهيجة خالية تماما من أي شيء صالح للقيام بتلك المهمة ، وقد جاء " جون " مجردا من سلاحه المحبب ، مطرقة صنع البوفتيك التي صارت رفيقته الوحيدة ، وعشيقته المفضلة ، لكنه فجأة ، وهو يفحص يديه الخاويتين بنظرة جامدة لا تكاد تري جيدا ما تتطلع إليه ، تذكر أن مطرقة آخري بالقرب منه ، فليكن اسمها ما يكون ، ما يهم حقا أنها مطرقة وأنها ثقيلة بما يكفي ، وأنها صالحة لإخراس تلك العجوز المملة إلي الأبد !

فجأة اتسعت ابتسامة " جون " ،ومد يده خلف ظهره ليتناول المطرقة الثقيلة ، التي كانت تستقر فوق المنضدة بالقرب من النافذة التي لم ينتهي العمل عليها بعد ، وحملها برفق وكأنه يحمل عشيقته المدللة إلي الفراش ، وأقترب خطوتين من مقعد السيدة " بينلوب " ،التي جمدها الخوف ومباغتة الموقف الذي لم تعمل له حسابا مكانها وعقل لسانها :

فجأة تكلم " جون " بصوت رخيم مليء ،ولكنه بارد وبعيد جدا :

-" سيدة " بينلوب " هل تعلمين من الذي يقتل النسوة الوحيدات في موسمن ؟!*"

لم تكن السيدة تملك إجابة ، ولا كان يهمها أصلا أن تعرفها ، بيد أنها أحست أن امتناعها عن إعطاء جواب سوف يشكل خطرا داهما عليها ، فهزت رأسها ونظرة هلع تترقرق في عينيها الدامعتين ،وهتفت متوسلة وكأنها تعتذر عن جهلها :

-" لا لا ! "

حينئذ ابتسم " جون " بغباء وقال متفاخرا :

-" إنه أنا ! "

وأنهي جملته بضربة وحشية من مطرقته نزلت فوق رأس المرأة ، التي ترنحت فوق كرسيها ، ثم فقدت توازنها وسقطت بمقعدها إلي الخلف ، وانزلقت من فوقه وتمددت على الأرض وهي تنزف من مقدمة رأسها بغزارة، تقدم " جون " نحوها فرفعت يديها يائسة محاولة حماية نفسها ،ونطقت مستخدمة آخر حيلة يستعملها البشر كمحاولة يائسة للنجاة والإفلات ،قائلة بصوت واهن :

-" أرجوك .. أرجوك يا " جون " ! "

استخدمت اسمه الأول ، متخلية عن التزامها الصارم بالقواعد الاجتماعية ، لأول وآخر مرة منذ أن طالعت هذا الوجه المستدير ، الذي لا يشي أبدا أن خلفه قاتل موتور ومضطرب تماما ، للمرة الأولي منذ نحو ربع قرن !

بيد أن " جون " لم يرحمها ، بل لحق بها ، ثم أخذ يكيل لها ، وهو يجلس على ركبتيه ، ضربة تلو أخري حتى هشم رأسها تماما ، وأنتزع عظمة التاج جاعلا من رأس المرأة العجوز مصفاة قبيحة ومروعة المنظر !

أنسابت الدماء بغزارة لتغطي الأرض ، وتحول مظهر الغرفة المرحة إلي مظهر لقبر صامت يجلس فوق رأسه قاتل لا يرحم ، بينما تستقر في قعره جثة كانت منذ لحظات إنسانا يملك اسما وصفات ،وله لسان يتحدث وحياة تندفع في عروقه ، وقد تحول الآن إلي كتلة من اللحم الهامد والعظام المحطمة ،والدماء التي تندفع كنافورة مغادرة أخيرا، تاركة البرودة والموات يزحفان على هذا الجسد مستدعيين الدود والآفات وروائح الموت والهلاك المحببة والمروعة معا !

...

ليس أكثر من نصف ساعة بعدها وكان منزل السيدة " بينلوب " قد هيمن عليه صمت مطبق ، غادر " جون " تاركا ضحيته مسجاة على الأرض غارقة في دمائها ،بعد أن رتب ونظف كل شيء .. إنها مجرد رقم آخر سوف يضاف إلي قائمة أرقام ضحايا سفاح " موسمن " المجهول ، كاره النسوة العجائز الذي لا يعرفه أحد ، والذي عجزت الشرطة الأسترالية عن الإيقاع به حتى الآن ، إلا أن اسم " جون جلوفر " سيظل بعيدا تماما عن أية شبهة ،والتنظيف الصارم والمتقن لمسرح جريمته الجديد يخفض فرص سقوطه في أيدي العدالة إلي الصفر ، قرابة الصفر .. فلا زال للقدر ألعابه الصغيرة التي لا يأمنها أحد ،ولا يفلت منها كائن ما كان .. وجون هو أول من يعلم بتلك الضربات العبثية .. وهو كذلك أكثر من يخشاها !

                                                       تمت

 

 للمزيد عن السفاح جون جلوفر 

جون واين جلوفر : سفاح الجدات !

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...