تساقطت الكتلة فوق
بعضها .. واندمجت الرؤوس والأذرع والسيقان للحظة ..
تداخلت الأجساد وتقاربت
، حتى كادت الأطراف تتبادل ، ويستعير كل جسد طرفا أو رأسا أو نسيجا من الآخر .. لم
يكن عدد الأطراف المتداخلة مجتمعة في تلك الكتلة ليزيد عن ستين طرفا ، خمسة عشر
زوجا من الأذرع والأقدام ، ومعها عدد مماثل من الرؤوس المختلفة الأشكال .. بعضها
رؤوس ضخمة حليقة ، والقليل منها بشعر طويل مربوط ، وأقل مغطاة بقطع من قماش يفرض
الدين ارتدائها تحت اسم ( حجاب ) .. شبابا مكتملي الرجولة ، و مراهقين متحمسين ،
ومعهم ثلاث فتيات !
كلهم تكوموا فوق بعضهم ، حينما انتشرت أدخنة
قنابل الغاز وامتلأ الميدان برائحتها النفاذة الحارقة .. لم تبخل الشرطة المتحمسة
دوما على هؤلاء الشباب ، هؤلاء المتظاهرين العزل ، بدفعات سخية متتالية من قنابل
الغاز .. من كان حظه يخطط له أن يمر في ذلك
الميدان في تلك الساعة كان حري بأن يشعر بالفخر ، وتنتفخ أوداجه بالوطنية .. بدا
أن مصر دولة ثرية حقا ، وتمتلك في مخازنها ، من قنابل الغاز، أكثر مما يوجد في
صوامعها من قمح ، وأكثر مما تختزنه خزائن البنك المركزي من عملة صعبة .. إن أموال
دافعي الضرائب تستخدم جيدا جدا ، يُشتري بها قنابل غاز وهراوات ، وعصي صعق لحماية
أمن الوطن من ثلة من الشباب المخربين ، الذي يريدون ، بأصواتهم وبهتافاتهم
وبحناجرها العارية ، أن يسقطوا دولة تأسست منذ سبعة آلاف عام على العبودية والخرس
.. يريدون أن يفتحوا الأعين ، لكن ها هي الشرطة تقوم بمهمتها المقدسة وتعمي عيونهم
بقنابلها الغازية بغية أن تعلمهم درسا لا ينسي .. درس ثمين للغاية .. إن كان
أسلافكم قد ماتوا ، وهم ممدين بجوار الحائط ، الذي حرصوا العمر على أن يسيروا
بجواره ، فجدير بكم أنتم أن تحفروا لأنفسكم نفقا وتدخلوا داخله ، لتجدوا الراحة والطمأنينة
والسكينة حتى يدرككم الموت !
انهالت القنابل على
المتظاهرين ، فتساقطوا فوق بعضهم ،وحاول بعض الشباب تغطية وجوههم بملابسهم أو
بكوفيات يتدثرون بها اتقاء للبرد ، بينما غطت الفتيات وجوههن بطرحهن ، ومالت
إحداهن ، وكانت مكشوفة الرأس ، على زميلة لها ، لتشاركها الاحتماء بأطراف حجابها
الصغير .. وبعد أن قامت الشرطة بالخطوة الأولي ، جاء دور الخطوة الثانية .
تقدم جنود أمن مركزي متجهمين ، متسلحين بدروع
وبهراوات غليظة ، وبدئوا يضربون بها الشبان بقسوة وغل .. كان الغل باديا في أوجه
جنود الأمن المركزي ، الذين يؤتي بهم كل يوم ليفضوا مظاهرة صغيرة سخيفة كتلك .. إن
هؤلاء الشباب المتحمسين ، الذين لا يكفون عن التظاهر ، وإطلاق الشعارات والصراخ
والجعجعة يقضون مضاجعهم ، يهددون رزقهم ، وربما يكونون سببا في جوعهم وجوع أطفالهم
وتشردهم .. أحسن من يملكون الزمام إدارة اللعبة .. وضعوا الفقراء في مواجهة
الفقراء ، وتركوهما معا يطحنون بعضهما لتأكلهما معا رحايا النظام الحاكم ،
ويتحولان في كرش الدولة إلي كعك إسفنجي .. وضعوا رزق فئة على حد سيف يلامس حياة
وكرامة فئة أخري ، فقراء يقتتلون معا ، ويقتلون ويضربون بعضهم بعضها ، لينعم
الناهبين والآكلين والسارقين بغنائمهم ، ويناموا مليء أجفانهم ، مطمئنين مستريحي
البال ، قريري العين على أموالهم وكنوزهم !
اندفع الجنود يضربون
بغشم في الكتلة البشرية المتساقطة المتداخلة ، وحاول بعض الشباب مدافعتهم وصدهم ،
وكان هم الشباب الأكبر ألا يدعوا الجنود يصلون إلي الفتيات .. أندفع شاب بقميص
مقلم يمسك بهراوة جندي أمن أسمر اللون ضخم ، وحاول ثني ذراعيه ، وانتزاع الهراوة
منه ، لكن الجندي كان أقوي منه بكثير , وحقده وخوفه على رزقه ورزق عياله ، الذي
زرعه فيه كبار لا يخشون فوات رزقهم ، فكل خزينة مصر رزقا حلالا مباحا لهم ، يجعله
شرسا وقاسيا .. حد إنه لو رأي أباه نفسه في تلك المظاهرة ما تردد لحظة في تهشيم
رأسه أو تحطيم عظامه !
دوت أصوات المزيد من
قنابل الغاز ، وتكاثر الجنود على الشباب الذين لم يكن لديهم من أسلحة يدافعون بها
عن أنفسهم ، سوي أذرع وسيقان وحناجر تهتف بصدق بما تعتقد أنه الحق ، وأنه صلاح
البلد وصالحها .. لكن من يبحث عن صلاح أحد أو مصلحته هنا ؟!
لقد تعلموا أن كل رزق
يلحق بغيرهم إنما يُنتزع من أرزاقهم ، وكل حق يسترده أحد ما هنا يقلل من حقوقهم
وامتيازاتهم ، لذلك فهم يقاتلون بضراوة
ليحافظوا على القليل الذي لديهم .. فقد تشبعوا بفلسفة الفقر والعوز والرضا ، وزادهم
رجال دين لا يفرقون عن الراقصات شيئا ، ويجيدون هز حناجرهم أكثر مما تجيد الراقصات
هز وسطهن ، خبالا وضمنوا لهم خسرانا مبينا في الدنيا وفي الآخرة أيضا !
تلاحمت الكتلتين للحظة
، ثم انفرجت الدائرة غير المفرغة ، كانفجار ورم إلي الخارج .. طفح الصديد الأبيض ،
ومن ورائه اندفعت الدماء ، وبأيدي غليظة أحيط بالأولاد ، الذين تلقوا لكمات وركلات
كمقدم أتعاب وترحيب مبدئي ، في انتظار الحفلات التي تنتظرهم في أقسام الشرطة ، ثم
سيقوا وهم مخضبي الوجوه بالدم .
امتدت الأيدي إلي الفتيات ، اللائي حاولن الهرب
محتميات ببعضهن ، لكن المسالك كلها انسدت وأغلقت في وجوههن ، وأحاطت بهن وجوه صلبة
متجهمة ، وأنقض رجال مسلحين محتمين بدروعهم عليهم وأمسكوا بهن بقسوة وغلظة ، رغم
كل المحاولات التي بذلت من قبل زملائهن الرجال للحيلولة بين الجنود وبين البنات ،
لكن شيئا ما لم يعد يجدي .. فشلت المظاهرة ، والمراهنة على انضمام المزيد من
الجماهير المتحمسة لهم باءت بفشل مؤلم مرير .. تُركوا وحدهم يدافعون عن حقوق من لا
يريدون أن يدافع عنهم أحد ، من لم يتعودوا حتى أن يدافعوا هم عن حقوقهم أو يجرون
ورائها ، من سلموا أنفسهم وأقدارهم ومصائر أولادهم وأحفادهم للقدر والنصيب ، والمكتوب
فوق الجبين الذي لا يمكن الهروب منه أو منعه .. تُركوا وحدهم مجموعة صغيرة ، أمام
قوة تفوقهم عددا وعدة وسلاحا وتدريبا وقسوة وغلظة .. وتباعا اقتادوهم إلي العربات
الكبيرة ، التي تنتظر شحنها بالمزيد من هؤلاء الصارخين المحتجين !
لا يحب الموتى من يعكر
صفوهم .. نعم .. لا يجب أن يعكر العقلاء صفو هدوء الموتى أو يقلقوا نومتهم الطويلة
.. الممتدة .. الأبدية !
تعليقات
إرسال تعليق