دارت الأم في أنحاء
البيت متوترة قلقة !
لقد بلغت الساعة الرابعة عصرا ، ولم ترجع "
بتول " أو تتصل بها ، وجميع المحاولات التي قامت بها الأم ، في المقابل ،
للاتصال بابنتها باءت بالفشل .. هاتفها يعطي جرسا لكنها لا ترد ، هذا أفظع من أن
تجد الهاتف مغلقا في وجهها ، هناك ألف تفسير مرضي لهاتف مغلق لا يصل صاحبه بأحد في
العالم ، ربما يكون الشحن قد نفد ، أو أن الهاتف قد تعطل فجأة ، أو سُرق منها في الزحام
مثلا ، وأول شيء يفعله سارقي الهواتف
المحمولة عادة هو أن يغلقوا الهاتف المسروق ، أو ينتزعوا البطارية كلها ، إن لم
يكن لديهم معرفة أولية بطريقة إغلاق نوع معين من الهواتف .. لكن ما المبرر المطمئن
لهاتف يعطي جرسا ولا يرد صاحبه ؟!
استبعدت تماما فكرة أن
ابنتها لم تسمعها في وسط الزحام ، فهي قد أخبرتها ، قبل نزولها من البيت ، أنها
مجرد وقفة احتجاجية صغيرة مع بعض الأصدقاء على سلم أحدي النقابات ، وأنها ليست
مظاهرة بالمعني المعروف ، بل هي أقرب لفسحة ونزهة صغيرة مع بعض الأصدقاء ورفقاء
المهنة .. تركتها الأم تذهب ، ولم تخبر
الأب شيئا .. لكن ها هو الأب قد عاد من مكتبه ، في الثانية ظهرا أي قبل ساعتين ،
وسأل عن البنت ، ولما استمهلته الأم مقدمة له شتي المعاذير والمبررات ، قبل أن
يتناول غدائه بدون وجود ابنته ، التي أكدت له أمها أنها ستكون في البيت بين دقيقة
وأخري ، لكنه أكل بدون شهية ، وبقي معظم طبقه ممتلئا بالطعام .. ثم غسل يديه ، وذهب
إلي غرفته ليدخن ، لكنه ظل يسأل عدة مرات في الساعة الواحدة :
-" هل عادت "
بتول " ؟ "
فترد الأم بالنفي ووجها
يزداد شحوبا ، وقلقها يتزايد مع كل نفي ترد به على زوجها .. ومما زاد من قلقها
وتوترها أنها كانت تعرف أنها تكذب ، لم تخبره بما قالته لها ابنتها ، بل أكتفت
بقولها أنها ، أي " بتول " ، في مهمة عمل صغيرة ، وسوف ترجع في موعدها
.. فات موعد الفتاة الطبيعي ، وزاد توتر الأم ، ومعه زادت أسئلة الأب ، وغادر
غرفته ليجلس في الصالون ، وهو يمسك هاتفه محاولا الاتصال بابنته .. نفس النتيجة
التي حصلت عليها الأم من محاولاتها كانت من نصيب الأب ، ووجد هاتف ابنته مغلقا في
وجهه .. هنا بدأ يقلق حقا ويفقد صبره ، إنه هادئ رزين ، ومتفهم إلي حد كبير ، ولولا
ثقافته وتفهمه وحسن احتوائه لأبنائه ، خاصة " بتول " ، ما وجدت البنت كل
تلك المساحة من الحرية ، التي تعطيها الفرصة لأن تفعل كل ما تشاء .. ارتبطت بوعد
مع أبيها ألا تفعل شيئا من خلف ظهره ، وألا تخفي عنه أمرا من أمور حياتها ، فمنحها
، في مقابل هذا الوعد الموثوق ، مساحة كاملة من الحرية والثقة .. اختارت مجال
دراسة لم يكن من ضمن طموحات الأبوين لابنتهما الوحيدة ، وعملت بمهنة تعتبر في محيط
العائلة عملا غير مناسب لبنت ، لعروس يجب أن تبحث عن مهنة مأمونة ، مهنة تتيح لها
الجلوس في الآمان على مكتب ، تعمل ما تجده وإن لم تجد فبها ونعم ، ويكفيها أن
تتبادل الحديث مع الزميلات ، ولا مانع من تبادل الكلام مع الزملاء من الذكور ،
خاصة إن كان فيهم من يصلح لكي يكون عريسا لها ، وتعود في موعد يومي محدد ، لتفرغ
بقية طاقاتها في الوقوف بجوار أمها في المطبخ ، وتعلم صنع المحشي والمحمر والمشمر
، وتدخر راتبها لتشتري منه جهازها ، وتهيئ نفسها للزواج باكتناز قطع الثياب ،
والملابس الداخلية ، والأواني الصغيرة ، ولا مفر من بعض قطع المشغولات الذهبية إن
أمكن ، ثم تضع يدها على خدها بقية أيامها منتظرة العريس ، الذي سيأتي ليدق بابها
لتبدأ في بيتها حياتها الجديدة الحقيقية ..خط مرسوم وسيناريو معتمد اختارت "
بتول " أن تخرج عنه ، وتتمرد على مناظره الداخلية والخارجية .. انحرفت
انحرافا شرعيا مقبولا ، واختارت مهنة متعبة وجالبة للمشاكل ، وغير مناسبة من أكثر
من وجه لفتاة في مقتبل العمر وفي سن الزواج والأحلام المعتمدة من قبل أسرتها ، وغالبية
المجتمع الذي تعيش فيه .. قررت أن تدرس الإعلام وتعمل بالصحافة ، وتركض خلف الخبر
، وتمد يديها النظيفتين في مستنقعات ملوثة وتحرك ماء عفنا راكدا ، ممتلئا عن آخره بالميكروبات
والجراثيم والأمراض القديمة الكامنة ، لتستخرج منه الحقيقة وتعرضها على الناس ..
والتحقت بالعمل في جريدة خرجت إلي النور مع شروق فجر التغيير على مصر كلها ، جريدة
جديدة يديرها مجموعة من الشباب المتحمس المثقف .. قال لهم رئيس تحريرها الشاب جدا
في أول اجتماع عمل :
-" العواجيز ملهمش
مكان في جريدتنا هنا .. العواجيز بيديروا البلد كلها كفاية عليهم كده ! "
ضحكوا لقوله غير منتبهين
لما فيه من خطورة !
إنهم يمارسون إقصاء
مماثلا لما يمارسه الآخرون نحو فئتهم العمرية ، يرفض العجائز الاستعانة بطاقات الشباب ، مغترين
بخبرتهم ، فيرفض الشباب بالتالي الاستفادة من خبرات المسنين مغترين بطاقاتهم ،
فتضيع على البلد بالتالي بركة الخبرة وبركة الطاقة ، ويسير كلا منهما في خط موازي
للآخر .. يتجاوران ولا يتقاطعان ولا يستفيد كلا منهما مما عند الآخر !
تركوا لها حرية مطلقة
لكن الأم تحس بالندم على ذلك الآن ، لو كانت ابنتها مجرد موظفة على مكتب ، أو مدرسة
، أو عاملة في فندق لها مواعيد عمل محددة ، ومكان عمل ثابت لا يتغير ، لما عانت كل
ذلك القلق والتوتر كلما خرجت البنت في مهمة تحقيق صحفية وغابت قليلا ، أو لم تتصل
في مواعيد متقاربة أو انقطعت أخبارها ، ولو لساعة واحدة من الزمان .. يصر الأبناء على ألا يقيدهم الآباء بنير على
أعناقهم ، لكنهم لا يقدرون أن الآباء بدورهم قبلوا هذا النير ، قبلهم بكثير ، فوق
أعناقهم وقلوبهم ورغباتهم الخاصة ، من أجل أن يوفروا فراشا دافئا وبيتا آمنا ، ومورد
رزق ولقمة عيش مؤمنة لأبنائهم .. صراع لا ينتهي سببه الوحيد أن كل طرف في تلك المعادلة
، الآباء والأبناء ، لا يفكر في أن يضع نفسه مكان الآخر ولو لدقيقة واحدة !
...
وحينما دقت الساعة
معلنة السادسة مساء كان حبل الصبر لدي الأب ، ولدي الأم أيضا ، قد انفكت آخر عقدة
فيه وأنسل حتى طرفه .. هب الأب خارجا من غرفته ، وبدأ يزعق مباشرة في وجه الأم !
المسكينة ، التي لا ذنب
لها في شيء ، وجدت نفسها في موقف بالغ السوء .. لقد أخفت الحقيقة عن الأب ، وتركته
يعتقد أن ابنته في عملها الروتيني ، وأنها ، في أغلب الأحوال ، تسعي وراء تحقيق
صحفي صغير في أي مكان ، وستنتهي من عملها وتعود في أي لحظة .. لكن كل اللحظات ،
والساعات أيضا ، مرت ، ولم يظهر للبنت أثر في البيت .. لا زال هاتفها مغلقا وهي لم
تتصل أو ترسل كلمة أو خبر !
هب في وجه الأم صائحا
لاعنا مستفسرا ، فقالت الأم وهي تبعد وجهها عنه ، تحسبا لهجوم لفظي قاسي منه نحوها
يتطاير خلاله رذاذ غضبه في وجهها الشاحب المرهق :
-" الصراحة ..
الصراحة البنت مش في الشغل ! "
حدق فيها الأب للحظة ، وقد
اتسعت عيناه دهشة ، كف عقله عن العمل لدقيقة ، وشعر بأن أذنيه تصفران ، وأمواج
الدم الساخنة تضرب مخه داخل جمجمته .. زمجرت رياح الغضب والشعور بالخديعة في داخله
، وكاد يحطم ذراع زوجته وهو يمسكها منه بقوة ويعتصر لحمها بغل متسائلا بدهشة :
-" آمال فين ؟!
"
تجمعت سحابة رقيقة من
الدموع في عين الأم اليمني ، وحاولت برقة استخلاص ذراعها الممسوك بقوة من بين يد
الزوج المستميتة عليه ، لاحظ والد " بتول " فجأة أنه يقبض على ذراع أمها
بقوة أكثر مما ينبغي ، فحرر ذراعها وهو يكرر سؤال بصيغة أخري أكثر مباشرة وسخطا :
-" بنتك في أنهي
داهية دلوقتي ! "
كانت شبه عاجزة عن
الكلام ، لكنها شهقت مرتين ، محاولة كتمان دموعها ، والسيطرة على عواطفها ، لتتمكن
من الإجابة على سؤال الوالد القلق السهل .. ردت أخيرا وهي تتوقع عقابا قاسيا يحل
بها :
-" الحقيقة البنت
وأصحابها .. عاملين .. عاملين وقفة احتجاجية ! "
أرتفع حاجبا الأب
وتلاقيا ، ثم شعر بصفير حاد في أذنيه ، مرت عليه لحظة عدم فهم ، أحس خلالها أن
عقله صار ورقة بيضاء خاوية .. نظر في وجه زوجته وكأنه لم يفهم ما قالته ، وشعرت هي
بدورها بأنه لم يدرك جيدا معني ما تفوهت به .. كادت تكرر عبارتها لكنه باغتها بصوت
شاحب خفيض متألم متسائلا :
-" أيه ؟! "
قررت الأم أن تلقي آخر
ما في جعبتها من أسرار ، وتخبره بكل شيء ، فقالت مستخدمة نفس الكلمات التي أوصلت
بها " بتول " إليها خبر الوقفة التي سوف تشارك فيها :
-" عاملين هي وأصحابها
وقفة على سلالم النقابة عشان فصلوا صحفيين زيهم ظلم .. بس متخافش الداخلية مش
هتيجي عندهم هما في نقابتهم بعيد عن .. "
لم ينتظر الأب حتى
تستكمل زوجته تطميناتها اللفظية الجوفاء ..
هرع يسحب سترته ، التي
خلعها ووضعها على ظهر مقعد في الصالون ، وجري إلي الخارج وهو يرتعش ويردد ملتاعا
غير مصدق :
-" الداخلية ؟!
أستر يا رب ! "
تعليقات
إرسال تعليق