جلست
على فراشها ترتجف، كانت ثمة رضوض وسجحات على وجهها ويديها، وكدمتين كبيرتين حول
عينيها من أسفل، بالقرب من أعالي الخدين.. ثيابها كانت مبتلة قليلًا، وتفوح منها
رائحة قوية نتنة، والحجاب الذي على رأسها منزلق عند منتصف أعلى الرأس، وملفوف بغير
إحكام، وبإهمال شديد تم ربطه ربطًا بشكل جعله شبيهًا بإيشارب منزلي رخيص.. أوصالها
كانت ترتجف، لكنها برغم كل ذلك كانت تبتسم محاولة أن تبدو بخير:
-
أنا بخير متقلقوش!
قالتها
وهي توسع من مدى ابتسامتها، التي اقتصرت على سحب الشفتين من عند زاويتي الفم
بالقوة، وجعل الفم ينشق في ابتسامة بائسة واضحة الافتعال والتكلف!
أحس
أبوها بالذعر، الذي لازمه اليومين الطويلين اللذين لم يعرف فيهما أخبارًا عن
ابنته، يتراجع ليحل محله نوع آخر أكثر اختلافًا، وأكثر ضراوة، من الخوف والقلق..
بينما وقفت الأم ترمق ابنتها، ولا تزال الصدمة التي أصابتها، عندما فتحت باب
الشقة؛ لتجد ابنتها واقفة أمام عينيها، لم تزايلها بعد.. كانت الأم تنظر إلى
ابنتها في دهشة حقيقية، وتبدو عاجزة تمامًا عن التفكير، وحتى عن الكلام.. أما الأب
فقد تنهد بحرقة، وسأل "بتول" قائلًا:
-
كنتوا فين، قلبنا الدنيا عليكم.. في القسم قالولنا إنهم مجابوكمش على هناك!
سحبت
البنت الحجاب المتسخ من فوق رأسها، وألقت به على الفراش بجوارها، لكن رميتها كانت
أقوى مما ينبغي، فطار الحجاب الصغير، واستقر على جانب السرير، ثم ما لبث أن انزلق،
بتأثير نعومة قماشه، وسقط فوق الأرض، وبقي هناك دون أن يفكر أحد في التقاطه،
وإعادته فوق السرير.. أجابت الفتاة أخيرًا قائلة:
-
كدابين، كنا هناك، حجزونا كام ساعة.. وبعدين ودونا حتة غريبة أنا وأصحابي.. قعدونا
يومين وبعدين طلعونا!
قصة
مقتضبة لا تحوي شيئًا من التفاصيل، التي يتشوق الأبوين لمعرفتها:
- ها
وبعدين.. احكلينا عملوا إيه معاكم هناك؟!
مستعجلًا
استحثها الأب على أن تحكي لهم كل شيئًا، لكن الأم استوقفته وهي تنظر إلى ابنتها
بعطف وشفقة هائلين:
-
مش تصبر على البت لما تستريح حبة، وتاكل لها لقمة يا "يوسف".. حرام
عليك، تلاقيها جعانة.. هروح أجبلك لقمة وأجهز لك الحمام يا عين أمك!
صرخ
فيها الأب وقد بدأ يفقد صبره:
-
أستني هنا، أكل إيه وحمام إيه دلوقتي.. مش لما تتزفت تحكيلنا اللي حصل بالظبط!
كان
من الواضح أن الأب يريد التفاصيل كلها، كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، مرة واحدة.. الأم
المشفقة أرادت أن تستريح ابنتها، وتأكل وتغتسل أولًا، ولكن الأب لم يكن مستعدًا
لإنهاء المناقشة والاستجواب بتلك السرعة.. سألها وعينيه النفاذتين تقيسانها طولًا
وعرضًا، وتتفحصان كل خلجة من خلجاتها:
-
احكيلنا بالتفصيل.. عملوا إيه معاكم هناك؟!
تنهدت
"بتول"، ومدت يدها تلتقط كوب العصير الطازج، الذي أحضرته لها أمها وشربت
منه جرعتين ثم أجابت قائلة:
-
ولا حاجة! حطونا أنا والبنات في حتة زي زنزانة كبيرة، مكانش في حد غيرنا إحنا
التلاتة.. وكانوا بيستجوبونا كل يوم تلات أربع مرات ويسألونا، وبعدين يرجعونا
الحجز، ويجيبولنا أكل معفن وكله حشرات، وعيش مليان سوس.. وكانوا..
لم
يتركها الأب تستكمل وصفها، الذي وجده مملًا، لأنه لم يكن ينصب على النقطة التي
يريد أن يعرفها تحديدًا فقاطعها بنفاد صبر:
-
كانوا بيسألوكم عن إيه.. عملوا فيكم إيه.. ضربوكم؟!
تنهدت
"بتول"، وردت مبتسمة بسخرية، وهي تستكمل كوب العصير لتروي ظمأها الممتد
الشديد:
-
كانوا بيسألونا عن الحاجات إياها اللي بيقولوا عليها في التليفزيون، المنظمات
والتمويل الأجنبي، والتدريب على قلب أنظمة الحكم وحكوك الإنسان.. شغل شكوكو ده!
تحولت
ابتسامة الفتاة إلى ضحكة، استفزت الأب جدًا لأنها في وقت وظرف غير مناسبين، من
وجهة نظره، فقال لها وهو يرعد ويبرق محاولًا في نفس الوقت الاحتفاظ بهدوئه وثباته
الانفعالي:
-
ما قولتلناش برضه، عملوا فيكم إيه؟! ضربوكم يا بت، عذبوكم.. عملوا حاجة تانية؟!
انتبهت
الأم لعبارة (عملوا حاجة تانية!)، وضربت على صدرها وهمت بالكلام لولا أن جاءت
إجابة "بتول" سريعة حاسمة:
-
لا ما عذبوناش ولا حاجة، بس كانوا بيهددونا كل شوية.. مرة هنحبسكم، مرة هنعلقكم،
مرة يقولولنا هنلفق لكم قضية أمن دولة، ومش هتطلعوا من السجن أبدًا.. بس شكلهم
كانوا بيهوشونا عشان نخاف ونعترف على أصحابنا!
ابتسمت
"بتول" ثانية مكبرة شجاعتها وشجاعة رفيقاتها، لكن الأم تساءلت وقد
انتقلت عدوى الرعب من الأب إليها:
-
أُمال اللي على وشك وإيديكِ ده إيه؟!
تطلعت
البنت إلى ساعديها للحظة، ثم ردت بثقة:
-
لا دول كام قلم كده لزوم التفاريح.. أما إيديا فده بسبب الهرش، الزنزانة مليانة
براغيت وحشرات عمري ما شوفتها ولا أعرف اسمها.. وكانت بتاكل فينا أكل وإحنا
نايمين!
لا
زال الأب غير مقتنع وغير مطمئن، تفحص ابنته بنظرات نارية حادة.. ثم سحب زوجته من
ذراعها وخرج بها من الغرفة!
وقفا
أمام باب الغرفة المفتوح، يتبادلان حديثًا هامسًا قصيرًا بدا شديد الأهمية، مال
الأب على أذن زوجته، وأسر لها ببضع كلمات تحول وجه الأم- على إثرها- إلى اللون
الرمادي.. ونظرت نحو ابنتها بملامح مرعوبة مذهولة.. أمسك الأب بذراعها وهزها برفق،
ثم تركها واختفى من أمام الباب.
تنفست
الأم بعمق، ومسحت على وجهها بيديها.. ثم اتجهت ناحية باب غرفة ابنتها، ودخلت الحجرة..
ثم أغلقت الباب خلفها بحرص وعناية!
تعليقات
إرسال تعليق