بعد بضع ساعات تلقت "بتول" اتصالًا هاتفيًا
من صديقتها "نرمين"، كانت "نرمين" صحفية مبتدئة وزميلة لـ
"بتول" في جريدة (كرمة الحق).. لكنها بعكس الأولى والأخريات معها لم يكن
لها أي اهتمامات سياسية أو عامة، فكل ما كان يدور في رأسها ويشغل بالها هو أن تكون
فتاة جميلة مثيرة، وأن تحظى بزوج يقدر جمالها ويقيمه، ويثمنه تثمينًا عادلًا وكافيًا،
كانت "نرمين" تزور مراكز التجميل، ومحلات الملابس والعطور وأدوات
التجميل، بصفة دورية ومنتظمة ودائمة.. حتى في أشد أيام التظاهرات والاحتجاجات،
التي كانت الشوارع فيها تعبق بروائح الدخان وقنابل الغاز، حافظت الفتاة على نظام
حياتها، الذي كانت تقتطع من قوتها الضروري لكي تدفع تكاليفه الباهظة.. الغريب أن
"نرمين" لم يكن لها صديقة سوى "سمر"، رفيقة "بتول"
الدائمة، وصنوتها في الرأي السياسي والاهتمام بقضايا المجتمع.. نقيضين اجتمعا
ليكمل كلًا منهما الآخر، نصفين غير متشابهين، لكنهما تطابقا عندما تقاربا، ووجدت
كل منهما ما ينقصها لدى الأخرى، لكن "نرمين" تمر بفترة قلق وتوتر منذ
أيام، فصديقتها "سمر" مختفية تمامًا منذ أن تم إطلاق سراحها، بعد
اليومين اللذين قضتهما، هي ومن جرى القبض عليهم في تظاهرة النقابة، لم تعد إلى
الجريدة وهاتفها مغلق، وهاتف والدتها لا يرد مطلقًا، ولا أحد يعرف طريقها.. وعندما
غامرت "نرمين" بالذهاب إلى المنزل، الذي تعيش فيه الفتاة برفقة أمها
وجدتها وخالها في (شبرا الخيمة)، وجدت هناك جدة الفتاة وخالها فقط، وعلمت منهما أن أعمام البنت وأهل
أبيها أتوا من (أسيوط) وأخذوها، هي وأمها، عقب الإفراج عنها.. وأنه لا حس ولا خبر
عن البنت منذ تلك الساعة.. لكن الأم، التي تتواصل مع والدتها وأخيها، بشكل متقطع
أنبأتهم بأن أهل "سمر" مستائين جدًا لما حدث مع ابنتهم، وأن البنت تعيش
شبه سجينة هناك، وأنهم يشعرون بالعار الشديد لما حدث، ويحملون أمها مسئولية انفلات
أخلاق البنت وقلة تربيتها.. وقد عزموا على أن ينتظروا مجيء أبيها من الإمارات ليبت
في أمر ابنته.. التي لطخت رؤوس العائلة بالعار والطين!
قالت
"نرمين" لبتول في الهاتف وهي لا تعرف هل تضحك أم تبكي:
-
تصدقي المجانين دول قعدوا يضربوا نار ويزغرتوا أول ما البنت وصلت ولا كأنها جاية
من غزوة يا بنتي!
تجهمت
"بتول" وتساءلت عن السبب في تلك التصرفات، فردت "نرمين" بلهجة
العارفة الخبيرة:
-
معرفش بالظبط.. لكن سمعت ناس بتقول إنهم عملوا كده عشان محدش يفتكر إن البنت حصلها
حاجة جوه وإنها طلعت سليمة!
التقى
حاجبا "بتول" الرفيعين، وتساءلت ببراءة عما تقصد "نرمين"،
فأفهمتها الأخيرة ما تقصده بشكل فج وصريح ومباشر تمامًا!
تضرج
وجه "بتول" بدماء الغضب لا الخجل، ثم فجأة عادت إليها ذكرى ما قالته،
وما لمحت به أم "حسين"، حينما كانت هنا مع ابنها وعائلتها، ومر بخاطرها
ما قالته أمها هي- أم "بتول"- ردًا على كلام والدة خطيب ابنتها.. الآن
فقط أدركت عما كانت العجوز الخبيثة تتحدث، وإلام كانت تلمح.. فصفرت دماء الغضب في
أذنيها، وتضرج وجهها أكثر بما احتشد فيه من دماء الغضب الساخنة، واندفع العرق من
راحة يدها المضمومة على الهاتف.. فانزلق من بين أصابعها وأفلتته رغمًا عنها.. فسقط
على الأرض دون أن يتهشم أو يلحق به ضرر!
...
في
المساء تلقت أول اتصال هاتفي من خطيبها في هذا اليوم.. ولو كانت
"بتول" من ذوي القلوب السوداء ،
والأنفس التي تتذكر أخبار السوء أكثر مما تذكر الخير وأعمال البر، لحسبتها جيدًا
وبدقة؛ لتتوصل أنها المرة السادسة فقط التي يبادر هو بالاتصال بها والاطمئنان
عليها، حدثته أكثر من عشرين مرة منذ إطلاق سراحها، لكن البقية كانت من فعلها
وإقدامها هي.. حادثها بلطف بلهجته الرقيقة، وسألها عن حالها وأحوال أسرتها، بعد أن
طمأنته على الجميع مرت فترة صمت أعقبها تكرار سؤاله عن حالها:
- سألتني
نفس السؤال يا "حسين" من شوية وقولتلك إني بخير.. أنت بقى عامل إيه؟!
كانت
تعابثه بتلك الطريقة دومًا وكان يضحك، لكنه هذه المرة لم يضحك، ولم يبدِ أي قدر من
المرح، فجأة انحرف مسار الكلام، وانجرف ناحية منطقة وعرة شديدة الخطورة.. أمه!
قال
لها أن أمه تسلم عليها، ثم- وبعد لحظة صمت- سألها إن كانت ستعود للعمل في الجريدة
مرة ثانية أم لا؟!!
أجابته
بتردد:
-
لسه بابا منشف دماغه حبة.. بس إن شاء الله ربنا هيهديه وهرجع الشغل خلال أيام!
سمعته
يتنهد من الناحية الأخرى تنهيدة حارة، ثم سألها بحذر:
-
طاب وإن مهدهوش؟!
فكرت
للحظة قبل أن تجيب:
-
خلاص بقى يبقى هشوف شغل في مجلة أو جريدة تانية!
فورًا
بادرها متسائلًا:
-
وهو لازم شغل في الصحافة يعني؟!
ردت
إليه سؤاله المبهم بسؤال أكثر إبهامًا قائلة:
-
أُمال أشتغل في إيه يعني.. ما ده مجال دراستي!
رد
مترددًا قليلًا:
-
مش لازم شغل خالص.. ما أنتِ عارفة إن أمنيتي تقعدي في البيت بعد الجواز، وتراعيني
وتراعي ولادنا!
ضحكت
ضحكة طفلة مرحة، وقالت مستخفة:
-
ولادنا دول إيه؟! مش لما نبقى نتجوز الأول.. هنخلفهم بالبريد الإليكتروني ولا
إيه؟!
كانت
تمزح وهو يعرف ذلك، لكن رد فعله كان غريبًا جدًا فجأة قال لها:
-
أنتِ بقيتي جريئة قوي يا "بتول"!
ران
عليها الصمت، وشعرت بدهشة وحيرة وارتباك، ثم سألته بقلق:
-
قصدك إيه؟!
لم
يجب عن سؤالها، بل بدا أنه يستكمل جملته وكأنه لم يسمعها:
-
زمان مكنتيش بتتكلمي كده، يعني.. كنتِ بتتكسفي كده قوي و....
انقطع
كلامه عند تلك النقطة فأكملت له "بتول" متسائلة:
-
وإيه؟!
بدا
أنه لم يعثر على تكملة مناسبة لجملته، فعمد إلى تغيير الموضوع:
-
بتول.. هو إيه اللي حصل معاكم جوه؟!
كانت
تعرف ماذا يقصد، لكنها قررت أن تطول عليه المسافة فتساءلت:
-
جوه فين؟!
فرد
فورًا وهو يكاد يختنق مما ألم به من كرب داخلي:
-
جوه في السجن يا بتول!
أجابت
فورًا بغضب ظاهر:
-
أولًا إحنا مكناش في السجن، ده مجرد حجز في قسم الشرطة.. ثانيًا أنا حكيتلك اللي
حصل أول ما خرجت، وحكيته تاني قدام والدتك النهاردة، وماما برضه حكته قدامكم!
محاولًا
امتصاص غضبها قال مهدئًا:
- عارف
بس حابب أسمع منك تاني.. اعتبريني فضولي وزنان يا ستي!
لم
تضحك لوصفه لنفسه بـ (الزنان)، وهي الصفة التي طالما قال لها أن النساء يتصفن بها،
نفخت بضيق وسألته مباشرة:
-
عايز تعرف إيه بالظبط يا "حسين"؟!
تلعثم
وتردد، ثم قال حذرًا منتقيًا ألفاظه بدقة وصرامة:
-
يعني كانوا بيتعاملوا معاكو إزاي، قالولكم إيه، عذبوكم مثلًا، ضربوكم، هددوكم..
كده يعني!
مرت
لحظة صمت، ثم سمع صوت خطيبته يقول باستهزاء وإصرار:
-
لا مش ده اللي أنت عايز تعرفه يا "حسين"! مش ده اللي يهمك، لو قلتلك
إنهم علقونا، وقطعوا لحمنا جوه مش هيهمك.. اللي يهمك حاجة تانية أنا وأنت عارفينها
كويس.. خليك صريح كده واسأل السؤال اللي واقف في زورك بقاله عشرة أيام!
تفاجأ
بلهجتها الحادة القاسية فبدأ يتراجع قائلًا:
-
"بتول" أنا مقصدش حاجة يا حبيبتي..
فجأة
قاطعته "بتول" وقد بدأ صوتها يتهدج:
-
دي أول مرة تقولي يا حبيبتي من يومين!
-
إيه؟!
تساءل
"حسين" بدهشة حقيقية، وارتج عليه الأمر، تحول مسار تفكيره مائة وثمانين
درجة، ووجد نفسه ينسى الموضوع الأصلي، ويسأل حبيبته بتعجب حقيقي ظاهر:
-
أنتِ بتتكلمي جد؟! ما أنا بقولك يا حبيبتي طول الوقت.. مش معقولة يعني!
داهمته
بإجابة أوجعته حقًا فقالت:
-
لا أنا عشان بحبك بعرفك لما تكون متغير، بعرف إمتى بتكون بتتكلم من قلبك، وإمتى
بتخبي وتداري وتتظاهر بحاجة أنت مش حاسسها.. بعد كلماتك وبلاحظ الكلمة الزايدة
والكلمة الناقصة..
توقفت
للحظة والتقطت أنفاسها، ثم ألقت في وجهه السؤال الأهم، الذي كان كلٍّ منهما يتحاشى
إلقاءه طوال أيام الكرب الماضية:
-
"حسين" أنا عندي سؤال وعاوزاك تجاوب عليه بصراحة وصدق.. متخافش مش
هزعل..
توقفت
لفترة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بتحطيم أعصابه:
-
هما لو كانوا اعتدوا علينا جوه، أنت ممكن تفضل تحبني.. ممكن تكمل جوازتك بيا؟!
صمت
الآن وخرس تمامًا، كان صوت تنفسه الثقيل يطرق أذنيها بقوة من الناحية الأخرى، فهم
ما تقصده تمامًا، لكنه كان بحاجة إلى مزيد من الوقت ليفكر فيما يجب عليه أن يقوله،
أخيرًا قال متظاهرًا بالغفلة وعدم الفهم:
-
قصدك إيه؟!
ردت
عليه بصلابة، وهي تحس أنها تحولت لجلمود صخر لا يمكن أن يؤثر فيها شيء:
- قصدي أنت عارفه كويس، وعشان منلعبش لعبة القط
والفار دي كتير.. أنا قصدي لو كانوا اغتصبونا يعني زي ما حصل في حالات كتيرة هتكمل
معايا؟!
صمتت هي الآن بعد أن أزاحت عن صدرها عبئًا هائلًا كان
يجثم كصخر على قلبها، أما هو فقد كان في لحظة كرب وألم حقيقيين تمامًا، سؤالها
بتلك الطريقة الفجة والمباشرة، وضعه أمام مسئولياته التي كان يتهرب من مواجهتها
طول الفترة المؤلمة الماضية، لقد فكر في هذا الاحتمال مرارًا، وكان يرتعب من مجرد
تصور الأمر وتخيله، يحلم أحلامًا رهيبة ما تلبث أن تتحول لكوابيس مقيمة، تهاجمه في
نومه وفي أوقات صحوه أيضًا.. يطن التساؤل في رأسه كخلية نحل، ويدافعه بالتغافل،
وإعلان ثقته فيما قالته خطيبته، عقب إطلاق سراحها من الحبس.. لكن أمه هي من بادرت
إلى إلقاء السؤال، والتلميح إليه بطريقة مباشرة معه ومع زوجة ابنها، وبطريقة المواربة
والتلميح مع أم "بتول" وأسرتها.. لم يجب عن السؤال ولم يقبل فكرة توجيهه
من أصلها، إنه يثق في حبيبته وخطيبته ومن تكاد تصبح زوجته، لكن ما معنى ثقته فيها
وهي كانت رهينة أيدي رجال الأمن وحبيستهم؟!
إنه شيء خارج
إرادتها وسيطرتها، لكن لو حدث فهل تُعاقب هي عليه.. هل هي مطالبة بأن تصارحه
بالأمر وتترك له حق الاختيار وتحديد موقفه؟!
استغرق وقتًا أطول من اللازم في التفكير، فنفد صبر
"بتول"، التي تنتظر جوابًا سيحدد مصير حبها وزواجها، ومصير عمرها القادم
كله، استحثته برفق فأجابها أخيرًا بحلق جاف مشروخ:
- طبعًا طبعًا!
بدأت تتنفس الصعداء
ومعالم جوابه تتضح أمامها، إلا أنها كانت بحاجة إلى مزيد من التفسير
والتوضيح:
- طبعًا إيه؟!
بعد مهلة للتفكير، أقل كثيرًا من المرة الأولى، رد
عليها بلهجة محملة بالصدق:
- طبعًا هنفضل مع بعض على طول، وهنتجوز وهنكمل سوا..
مهما كان اللي حصل.. مهما كان!
أخيرًا أطلقت "بتول" زفرة ارتياح، محملة
ببخار خوف ودخان ذعر كانا حبيسين في صدرها، وقد آن الأوان لتفريغهما وطردهما بعد
إجابة حبيبها المطمئنة والصادقة:
- يا حبيبي!
ردت "بتول" برقة ذائبة وهي تكاد تبكي.. أما
"حسين" فقد تحملت عينيه بالدموع فعلًا على الناحية الأخرى!
مضت بقية مدة المكالمة على خير حال، وعندما تواعدا
على لقاء قريب خارج البيت أحست "بتول" بالسعادة تغمر قلبها وتجعلها تكاد
ترفرف في السماء!
انتهت المكالمة، وتفرق الحبيبين يفصل بينهما أثير غير
مرئي، لكنه بدا كيد غليظة قوية تستطيع أن تحطم رباطهما وتفرق بينهما إلى الأبد!
قبلت الفتاة هاتفها، وهي منتشية وهائمة في بحر من
السعادة، أما "حسين" فلم يكد ينهي المكالمة حتى وجد الدموع تطفر فعلًا
من عينيه، ثم تسيل بسرعة خارقة وتخضب صفحة وجهه.. كان يبكي مقهورًا متألمًا!
يبكي لأنه لم يتعود أبدًا أن يكذب على الفتاة الوحيدة
التي أحبها بصدق في حياته كلها.. ولأنه يدرك أنه كان، وللمرة الأولى، يكذب عليها
فعلًا!
تعليقات
إرسال تعليق