في الشارع الممتد أمام النقابة كانت بقايا المعركة،
التي خاضها طرف واحد، لا تزال متناثرة في الأرجاء.. بقايا غريبة وأشياء معدنية،
وحصى وحجارة صغيرة، وقذارة وغبار متطاير، ووجوه مذعورة تتنحى جانبًا، وتتحرى جوانب
الطريق.. منظر كامل متكامل من الفوضى والخراب النازل من أعلى، الذي يشبه قنبلة
فوضى تلقيها السماء على الأرض، كنوع من المداعبة التي تتحول إلى مصيبة.. الطفل
الذي يرمي عليك (بمبة) ليرعبك فقط، فتنفجر في عينك وتدمر ما تبقى من حياتك وحياته
أيضًا!
ذنب
كبير اقترفته السماء، وهي لاهية تعتقد أنها تفعل معروفًا صغيرًا، وليس أمامها إلا
أن ترسل زلزالًا شاملًا ليصحح أخطاءها.. أو تبعث البديل الرقيق للزلزال والبراكين،
والفيضانات والسيول المدمرة، المطر الذي يمحو، كمنديل مبلل، خطايا السموات ويحولها
إلى هباء رطب فوق الأرض!
وفوق
الأرض كانت ثمة أغراض متناثرة كبقايا معركة أو زلزال وقع هنا، نظارة شمسية تحطمت
إحدى عدستيها، وعلبة سجائر مهروسة، يبدو أن شخصًا ينتعل حذاء غليظًا داس عليها،
باكو لبان كبير مقطوع من أعلاه، وإحدى حباته- الملفوفة بورق أخضر وأبيض خفيف- تطل
بنصفها على العالم في ذعر.. فوارغ متعددة تشي بأن معركة صغيرة تم خوضها هنا، ونثار
زجاج ورمال وأتربة مختلطة، ربما يكون الزجاج ناجم عن تحطم نظارة، أو علبة طلاء أظافر
كانت تحملها إحدى الفتيات المشاركات في المظاهرة.. وبقايا نعاس وصدأ وخمول، وسخط
ولا مبالاة وبرود وغضب مكبوت، تغطي الأوجه التي تمر بالمكان صدفة، أو بتدبير عفوي
ساذج يحاول أن يعطي نفسه مظهرًا من مظاهر البراءة وعدم التعمد.. إن شر الأوطان هي
التي تعيش فيها الدهر تكتم مشاعرك، وتكذب على نفسك، قبل الناس، وتظل تختلس النظر
من يوم مولدك حتى يوم الممات.. وشر المعارك هي التي تخوضها القوة ضد نفسها لا ضد
عدو حقيقي..
هل
كان يوجد أعداء حقيقيون على سلم النقابة ذلك اليوم؟!
حركت
بقايا المعركة، ومخلفات المظاهرة مخاوف الأب.. من الجلي أن الشرطة كانت هنا، وفضت
التظاهرة بالقوة، ووجوه الناس الذين ظلوا هنا تنبئ بالحقيقة التي شهدوا عليها، ولم
يستطيعوا التدخل أو جبنوا عنه.. لقد سيق كل أولئك الشباب المشاركين في تلك الوقفة
إلى أقسام الشرطة للتحقيق معهم، الشباب والبنات، وابنته معهم.
تجمدت
ملامح وجه الأب، وأخرج هاتفه النقال ليحاول- لآخر مرة- الاتصال بابنته؛ ليعرف أين
هي الآن.. المفاجأة أنه وجد الهاتف يدق تلك المرة، بعد فترة من وجوده على وضع
مغلق؛ فملأته قطرة أمل وكاد يشعر ببعض التفاؤل.. إلا أن الاتصال انقطع فجأة؛
مخبرًا المتصل أن الرقم الذي يحاول أن يكلمه مشغول.. أنهى سريعًا وكرر محاولة
الاتصال.. فعاد الهاتف يخبره بتلك الرسالة المرعبة أن الهاتف الذي يحاول الاتصال
به.. مغلق!
...
وصلوا
أخيرًا بعد رحلة من الرج والاصطدام ببعضهم، ومعاينة قبح العالم من خلف تلك الفتحات
الضيقة المخيفة.. من المخيف حقًا أن تطل على العالم من فتحة ضيقة، وأن تري العالم
بعين واحدة، الفاقد لنعمة البصر تمامًا خير ممن يراوحه العمى ويداعبه، ويأتيه
كاملًا ويذهب عنه جزئيًا، ويعود إليه في صورة بصر مغشي ضعيف؛ لأن ضيق النظر وقلته
يعلم الانتظار والأمل، بينما العمى الكامل حقيقة بيضاء ساطعة، الحقائق البيضاء
أكثر سطوعًا من الشمس.. إنها قوية، وتعلمك مجابهة الحق، وعدم التستر وراء حطام
جدران الأمل، وبقايا كلمات مثل (ربما) و(قد يحدث) و(نتمني).. لا لن تتحقق ربما،
ولن يحدث ما تعتقد أنه قد يحدث، وليس من حقك أن تتمنى.. لقد قُضي الأمر!
والثورات
شبيهة برد البصر إلى أعمى، إنها تفتح عينيه وتمنحه الأمل، وتجعله يرى ما كان
خافيًا عنه؛ لذلك يكون السقوط في الظلام ثانية، والعودة إلى العمى، أكثر إثارة
للرعب وأوجع ألمًا.. أن تُحرم من النور، بعد أن عاينته ورأيته ولمست خيوطه وحلمت
في ظل أمواجه، هو العقوبة الأكثر قسوة ووحشية!
وهؤلاء
الشباب كانوا عميانًا فأبصروا، استيقظوا ذات يوم على شمس مشرقة تملأ حجراتهم،
وخيوطها الذهبية ملقاة على أسرتهم وملابسهم، وفرش حلاقتهم ومناضد زينتهم وزجاجات
عطورهم، ثم إذ بيد تغلق شيش النوافذ وزجاجها وتقول لهم بصفاقة:
-
كفي ما نلتم من نور الشمس وحرارتها وضيائها.. فإنها ليست مجانية!
بلا
ثمن الشمس متاحة للجميع، فمن أعطاكم السلطة لتثمنوا الأشياء المجانية، وتضعوا لها
سعرًا.. ربما يكون نفسه الذي أعطاكم الحق في أن تبيعوا الهواء في (قزايز) من قبل؟!
أنزلوهم
من السيارة بأياديهم الغليظة، ولم ينسوا طبعًا أن يضربوا الأولاد على أقفيتهم،
أثناء نزولهم في مزاح سمج سخيف، أما الفتيات الثلاث فقد تلاصقن خشية الاعتداء
والضرب، أو ما هو أكثر، ونزلن كتلة واحدة متشابكات الأيدي، رغم محاولات بعض
مرافقيهن الرسميين لتفريقهن، وإجبار كل واحدة منهن على أن تسير بمفردها.. طابور
ذنب صغير عبر بين صفين من الرجال ذوي الثياب الرسمية، ثم تم توجيهه إلى مدخل لامع
متسع، تحتله عتبة منخفضة بها بضع بلاطات مهشمة ومحفورة، انسابت حولها أتربة ناعمة
كالدقيق، وملأت ما حول العتبة ومسافة قصيرة داخل المدخل، وعلى جانبي المدخل باب
حديدي مشغول مفتوح على مصراعيه، لا تغلق أقسام الشرطة أبوابها في وجه من يقصدونها
أبدًا، ولا ترد زياراتهم من على أبوابها، لكن الكارثة أنه لا يدخلها إلا خائف أو
ذو مصلحة أو مرغم مجبر على أمره.. قليل ما يأتي ها هنا الأبطال، وهم إن جاءوا
فليسوا بخارجين منها.. إلا إذا حدثت معجزة ما أو تدخلت ملائكة الموت الكثيرة على
الأرض، أو ملاك الموت الوحيد في السماء!
كانت
البنات خائفات فعلًا الآن، وتسلل الخوف والرهبة إلى قلوب الشباب أيضًا،
لقد
سمعوا ما قيل أنه يحدث في مثل تلك الأقسام، وما يجري فيها.. صدق أو كذب فهي أشياء
مرعبة، وحكايات مروعة تدل على مدى الظلم الذي يتم في الحقيقة، وعلى مدى السادية في
خيال مؤلفيها إن كانت قصصًا زائفة ووهمية ومبالغًا فيها!
الضرب
والصفع، التعليق، الكي، التعذيب بالكهرباء، الصعق، الجلد على العروسة، يقال أن
العروسة أصبحت موضة قديمة بالية، وأنهم استبدلوها بوسيلة حديثة أكثر تقدمًا.. مصر
سباقة دائمًا في اقتناء كل حديث وكل جديد خاصة لو كان شيئًا يحمل في طياته عوامل
الإيذاء والتخريب!
مبيدات
مسرطنة، وثمار مهجنة وراثيًا، ولحوم مجهولة المصدر والمنشأ.. من البديع أنهم لم يبتدعوا قنابل ذرية صغيرة للاستخدام
الشخصي بعد، وإلا لكانت مصر أول دولة تستوردها وتجرب استخدامها، سباقون نحن إلى كل
خير.. يعود علينا ويضر بالآخرين!
بدءوا
بدفع مقدمة الصف، وفرقوا بين المجموعة التي تتقدمه، فأسرعوا الخطى وتحركوا بسرعة،
بينما كان الرجل ذو الشوارب الغليظة يصيح مطالبًا إياهم بالإسراع؛ مستخدمًا نعتًا
بذيئًا يمس الأمهات.. لا أحد يعرف سبب ولع الناس بسب الآخرين بأمهاتهم تحديدًا!
ربما
في الأمر سر ولغز قديم، يحسن بالباحثين أن ينقبوا عن تفسير له في كتب التاريخ، وفي
البقايا الأثرية المتروكة في كل مكان، فربما عثروا على تفسير منطقي وتاريخي لتلك
المعضلة الحضارية العويصة.. أنقدس أمهاتنا لدرجة أننا نرى كل أم غيرهن لابد وأنها
عاهرة ؟!
تعليقات
إرسال تعليق