حينما عادت "بتول" إلي البيت، يتبعها
خطيبها الصامت، كانت فكرة واحدة تعشش في رأسها وتستولى على كل كيانها.. فكرة أن
تعود إلى عملها!
صحيح
أن تلك الفكرة أصبحت في حكم المقضي عليها، بعد خروجها من الحبس، وحتى فكرة التحدث
بشأنها صارت مقفلة تمامًا، وممنوع الالتفاف حولها أو محاولة خرقها.. لكن لقاءها
اليوم بـ "حسين" قد غير أشياء كثيرة حولها، لقد استسلمت لرغبة أبيها
وأمها في ترك عملها وبقائها في المنزل، عقب الظروف الصعبة التي مروا بها، والأيام
العصيبة التي عاشوها وهم لا يعرفون لها طريقًا ولا يعلمون عنها شيئًا، كان
استسلامًا مؤقتًا وطاعة لها هدف بعيد تتوقع تحقيقه.. لقد كان كل شيء يشير إلى قرب
اقترانها بخطيبها الحبيب، سيتزوجان عما قريب، وسوف تنتقل إلى بيت جديد، وحياة
جديدة، حياة ليس لوالدها كلمة عليها فيها، وبالطبع فسوف يقلل وجودها في عصمة رجل
من قلق أبويها عليها، ويُسقط كثير من حقهما في مناقشة اختياراتها، بل والوقوف
ضدها، ستصبح مسئولة من رجل، تثق به وبحبه وتقديره لها.. إنها تعرف أن "حسين"
يحبها؛ لدرجة أنه لن يرفض لها طلبًا، وكانت تنوي إقناعه- عقب الزواج- بأن يسمح لها
بالعودة إلى عملها.. كانت تعرف أنه لن يقف ضد رغباتها، ولن يحرمها من شيء تحبه
وتريد أن تكمل فيه.. وساعتها لن يكون بوسع أبويها سوى الاعتراض، ويمكن لـ
"حسين" أن يدعمها، ويقف معها ليجنبها أي خلاف عائلي أو خصام مع
والديها.. نقلت كل عطاءات حياتها ورهاناتها على زوج المستقبل.. لكنها، وبعد ما
سمعته ولاحظته منه اليوم في لقائهما خارج البيت، قررت أنها كانت مخطئة تمامًا..
أدركت أن الشيء الذي تعجز الفتاة عن فعله قبل الزواج، لن تستطيع أن تفعله بعد الزواج..
إن تأجيل الأحلام واستبعاد الطموحات مؤقتًا لحين الزواج هو خطأ فاحش، وأغلب من
دخلن بيوت أزواجهن متبوعات بذيل طويل من الأحلام الخائبة ازدادت أحلامهن خيبة
وفشلًا وأُجلت إلى أجل غير مسمى في بيوت الأزواج!
لقد
أخطأت في حق نفسها حين خضعت مؤجلة حلمها وطموحها، وأخطأت في حق "حسين"
نفسه حين حاولت أن تجعله جنديًا يقاتل وحده دون أحلامها، بينما تكتفي هي بالمشاهدة
والتصفيق!
هذا
كوم.. ومخاوفها التي أشعلتها مقابلة اليوم، وما أشاعته في نفسها من تبدد ثقتها
وتلاشي يقينها في دعم خطيبها لها، بل وفي استمرار وجوده في حياتها كوم آخر أكثر
ارتفاعًا وشموخًا!
إنها
معركتها الخاصة، وليست معركة "حسين"، ولا أحد غيره.. معركتها وحدها!
من
الخطأ أن تطلب من أحد أن يخوض معركتك بدلًا منك؛ لأنه حتى إن استطاع أن ينتصر لك
في هذه المعركة، فقد خسرت فرصة عظيمة لتكسب على أرض العدو!
صرت
دجاجة أليفة ونعامة تدفن رأسها في الرمل حتى تنتهي الصقور من التهام مؤخرتها.. لن
تنتظر من أحد أن يقف لها حيث يجب أن تقف لنفسها!
عادت
إلى المنزل وودعها "حسين" وداعًا فاترًا على الباب، رفض دعوة الأم
الحارة وتشديدها عليه بالدخول.. ذهب وهو غير مستقر النفس ومتقلب القلب، وبقيت
"بتول" مع أمها في البيت، الذي غادره كل إخوتها.. ذهبت البنت إلى المطبخ
وشربت كوبين من الماء، ثم أعدت لنفسها شطيرة من الجبن المطبوخ وقضمت منها لقمة،
لاكتها ببطء، ثم لفظتها وألقتها في سلة المهملات بعد أن لم تستطيع أن تبتلعها..
كانت الأم في الصالة تقطع كمية من البامية الخضراء وتعدها للطهي، وهي جالسة تتابع
برنامج طبخ في قناة من قنوات التليفزيون المفضلة لديها..
خرجت
"بتول" من المطبخ، وذهبت إلى غرفتها وتخلصت من طرحتها وحذائها، ثم نزعت
الجاكت الذي ترتديه، وفكت رباط شعرها وألقت بالبنس السوداء الصغيرة على الفراش.. ثم
خرجت إلى الصالة وراقبت أمها التي حدثتها فور أن أحست بحركتها خلفها قائلة بلهفة:
-
ها يا بت طمنيني اتفقتوا هتتجوزوا إمتى؟
لم
ترد "بتول" فالتفتت الأم إلى التلفاز لتتابع (الشيف)، وهو يقلب الصلصة
بهوادة ويضيف إليها بعض التوابل والإضافات الخاصة، ثم كررت إلقاء سؤالها على
ابنتها.. وللمرة الثانية لم تجب البنت!
استدارت
الأم في جلستها لتنظر إلى ابنتها الواقفة خلفها، فوجدتها مسمرة مكانها، وعلى وجهها
علامات الذهول الكاملة.. كان وجهها جامدًا وبلا تعبير، شأن شخص أصم لا يسمع شيئًا
مما يدور حوله أو مما يقال له، ذهلت الأم وأحست بقلق مفاجئ يغرق قلبها.. رفعت
صوتها منادية ابنتها الغائبة الشاردة:
-
بتول!
انتفضت
البنت وارتعشت فجأة، ثم عادت عيناها تلمعان ورُد إليها وعيها.. تطلعت إلى أمها
بتردد للحظة ثم قالت بهدوء:
-
ماما!
أجابت
الأم فرحة لأنها كانت تتخيل أنها سوف تسمع
شيئًا مخالفًا تمامًا لما ستسمعه الآن:
-
نعم يا عين أمك!
ردت
"بتول" بإصرار شديد:
-
أنا عايزة أرجع شغلي!
تعليقات
إرسال تعليق