كان "حسين" يدور حول نفسه بالقرب من بيت
"بتول".. حول نفسه وحول البيت مضى دائرًا محتارًا، ككوكب انفلت من مدار
جاذبيته وفارقه نجمه، يهيم باحثًا عن مداره
المفقود، الذي غادره قسرًا، وقذفته الجاذبية المسحوبة خارجه.. الجاذبية التي كانت
تقيده، لكنها تحميه من السقوط والزلل والضياع، الحب الذي يمد خيوطًا يربطنا
ويقيدنا بها، خيوطًا من حرير لا تحز سواعدنا ولا تترك آثارًا على جلودنا، لكنها
تسحبنا وتلفنا برقة، وتغللنا بغلالة من حرير.. شرنقة حريرية رقيقة.. بيت عنكبوت
يُرى من خلاله كل شيء وهو أقوى من القوة نفسها.. هل سمعت صوت الحرير وهو يتمزق من
قبل، وهل رأيت بيتًا للعنكبوت يُهدم ويزال؟!
منتهى
الرقة والضعف، لا مقاومة، شيء ينحل ويموت بسهولة.. لكنه لا يعود أبدًا كما كان!
يستحيل
إحياؤه واسترجاعه.. والحب إن تمزقت خيوطه يستحيل تضميدها بأي خيط جراحي، إنه شرنقة
من الحرير، بيت من العنكبوت.. ما إن تدوسه يد غليظة غبية حتى ينتهي أمره ويتحطم،
قد يحل محله شعور يشبه الحب، نسيب له، قريب له من بعيد، مشابه له، يُخيل إليك أنه
هو.. لكنه ليس هو ولن يكون أبدًا!
وهو
قد مزق بغباء جملة خيوط من التي تربطه بحبيبته، بدأها بخيط الثقة، شك في كلامها،
وأراد أن يضعها على سيف الاختبار البارد، وهي قد مزقت له خيطًا ثانيًا، هتكت له
وترًا، حينما رفضت أن تضع نفسها موضع اختبار، وأن تجعل ثقته بها محلًا لفحص من
أيدي الأطباء ولشهادات من غرباء يفحصون ويقلبون، ثم يعلنون له أن الفتاة التي
يحبها سليمة، وأن البضاعة التي سيشتريها لا تزال محفوظة مصونة بغلافها!
موقفه
سيكون مفهومًا لو كانت "بتول" فتاة قابلها في صالون بيتهم، وقبلها
وقبلته بعد رؤية شرعية، ووضع في أصبعها دبلة تدل على أنه قد حجزها لنفسه، وكأنه
يحجز عقارًا أو وحدة سكنية أو دورًا في طابور الخبز.. لكنها لم تكن خطيبة ليل، ولا
جلسة أمهات يرتبن لتوثيق رأسين معًا برابط الحلال الغليظ المقدس.. إنها حبيبته
التي اصطفاها لنفسه، عرفها قبل أن يعرف أهلها، وقبلته هي قبل أن يقبل بها أهله
وقبل أن يضع يده في يد أبيها.. زوجته نفسها على مذهب الحب والقبول، ولم تكن شهادة
أبيها وأهلها إلا توثيقًا لعقد كُتب بالفعل، وتجليلًا لوضع قام فعلًا.. إنهما
متحابان عاشقان، وقد اختار كل منهما الآخر على عينه وعلى عيبه.. تعرف شدة غيرته،
وتذبذبه وصعوبة حسمه لأي أمر بسرعة ما لم يتعرض لضغط هائل، ويعرف عنادها وشدة
تمسكها برأيها وصعوبة إقناعها بشيء وشدة تعلقها بطموحها وحبها لتحقيق نفسها والبحث
عن كل ما يرفع قيمتها في نظر نفسها أولًا.. وإلى حد ما كانا كقطعتي الزجاج المعشق،
عيوبه تكمل عيوبها، ونواقصها تكمله فضائله.. حليب حبها كان كافيًا لتغذية كليهما،
وفائض قوته كان يمنح القوة لكليهما.. يركن إليها وتركن إليه.. فما الذي حدث
بينهما؟!
ما
الذي مزق الخيط الحريري وجعل جاذبية النجوم تتلاشى وكليهما ينفلتان من مداريهما
ويهيمان تائهين معذبين حائرين!
إنها
رهبته وذعره من أن يكون أحد قد لمس فتاته أو مسها مسًا!
إن
تخيل يد يغطيها الشعر الكثيف تمتد لتلامس خد فتاته، أو تمر على شفتيها، أو تدنو من
صدرها، أو تفعل ما هو أكبر يصيبه بجنون وسعار كسعار الحيوان المتوحش الذي يعود إلى
عشه، فيجد حيوانًا غريبًا يفترس صغاره.. إن الافتراس نفسه لا يفزعه، كما يفزعه
الغدر والمخاتلة، أن تسطو على العش في غياب صاحبه، وأن تأخذ ما ليس لك حق فيه بطرق
غير شريفة أيضًا!
القتال
الشريف يجعل الغنائم حلالًا مباحة.. أما السرقة فتباع غنائمها للصوص مثل سارقيها
وبأبخس الأثمان!
وهذا
ليس شيئًا قابلًا للتفريط فيه، أو المساومة عليه.. إنه شرف زوجته المستقبلية، ليس
شرف الفتاة التي ربطها بدبلة ذهبية ووعود بين أسرتين، بل الفتاة التي أحبها،
وارتبط قلبه بقلبها، ومصيره بمصيرها، حتى قبل أن تعرف أسرة كل واحد منهم أن أسرة
الآخر موجودة في الوجود!
الكارثة
أن "بتول" تخفي وتضلل التفاصيل، وتخنق الأحداث وتفصل الصورة على هواها..
الكل يعلم بما يحدث في المعتقلات، وفي أقسام الشرطة، وقصص التعذيب والتحرش وهتك
الأعراض طافحة حتى عنان السماء، وحتى إن كان مبالغًا فيها، أو مكذوبة بالكامل،
فإنه ليس هناك دخان بلا نار.. والنار تحرقه بينما حبيبته لا تريد أن تريح قلبه
وتبل ريقه بكلمة صريحة تقولها له!
أخبرها
أنه سيغفر وينسى الأمر، إن كان ما يخشاه قد حدث، ويمضي قدمًا في مشروع زواجه بها..
لكنها لم تصدقه وهو لم يعد يصدق نفسه فيما يقول!
هل
يمضي قدمًا فعلًا، ويتزوج من "بتول" إن كانت قد اغتصبت في قسم الشرطة،
أو في أي مكان، كانوا يحتجزونها هي وزملائها فيه؟!
ارتعد
في تلك اللحظة، وأحس ببرد يشمله.. ارتجف وأغمض عينيه مرعوبًا!
من
المؤلم أن حبه لابنة قلبه قد صار معلقًا بقطعة لحم، أو بغلاف صغير من الجلد.. ولكن
الأمر ليس كما يبدو عليه.. لو كانت "بتول" مطلقة لكان أحبها وتزوجها
وعاش معها سعيدًا، برغم أنها ستكون ثيبًا، لكن الأمر مختلف.. أن تكون حبيبتك لرجل
من قبلك بالزواج، فهو شيء مفهوم ومقبول.. لكن الانتهاك مختلف!
الانتهاك
يغير تركيبة المرأة ويحطم نفسيتها ويطفح ألمًا وورمًا في روحها، لا تعود الفتاة
المنتهكة إلى سابق عهدها أبدًا.. لأن البنت التي كانتها من قبل قد ماتت وهلكت في لحظة الاغتصاب والتعدي.. دُفنت
حية في قعر مظلم، ومن قبرها المفتوح تخرج امرأة أخرى!
امرأة
فقدت صفتها كبنت في عرس جهنمي مرعب لم يشهد عليه أب ولا أخ ولا قريب ولا ذو رحم..
لم يشهد عليه إنسان طبيعي من لحم ودم، بل شهد وصدق عليه شيطان مخلوق من نار!
شيطان
حاقد مجنون ملوث مريض.. وحش له سمت إنسان، وشيطان لا يشبه الآدميين في شيء.. ترى
هل يتحمل فكرة أن يكون وحش قد تسلل إلى فتاته وختم فرحته- التي كان يستعد لها- بها
وجعلها عروسًا له في زفاف في الجحيم!
لا
يتحمل ولا يطيقه.. إنه لا يُكذب "بتول" في الحقيقة، لكنه يبحث عن مبررات
لنفسه!
فهو
يريد الهروب.. يريد الهروب من نفسه، ومن بقايا الرجل القديم الساكن في أعماقه..
فتاته بريئة، بلا ذنب، وحتى وإن كان ما يتصوره قد حدث، فهي فيه غير مذنبة.. لكن
أيضًا ما ذنبه هو ليتحمل كل هذا؟!
ما
ذنبه لكي يتحمل تحطم حلمه، ودمار فرحته، وخنق لحظة سعادته.. وحلاوة قبلته الأولى
على جبين عروسة بعد أن يجلي وجهها ويرفع عنه الطرحة!
لو
كانت "بتول" قد انتهكت هناك فلن يجد تحت الطرحة إلا مسخًا مشوهًا.. وهو
يريد فتاته وحبيبته، يريد كما هي، كما كانت.. يريدها كاملة وليس ما تبقى منها بعد
أن افترسها الوحش وأكل لحمها وحطم عظامها!
لا
يفهم أحد ما يعانيه سواه هو!
أمه-
بأفكارها القديمة- تبحث عن خيالات القوة والفتوة ورقصة الدم في ليلة العرس
المخلوطة بالزغاريد والفرح.. تبحث عن وهمها ووهم قومها القديم، ولا فارق عندها بين
فتاة منتهكة أو أرملة أو مطلقة.. فكلهن نساء غير صالحات للاستعمال، نساء كمناشف
الحمام لوثها كائن آخر وتمخط فيها.. وهي تريد لولدها منديلًا عفيًا وناصع البياض!
بينما
هو لا يريد إلا أن يردوا له حبيبته كما كانت.. يريد "بتول" التي عرفها،
وليس تلك التي عادت من السجن بوجه شاحب وعقل هائم، وقد اكتسبت شخصية جديدة، وتمخضت
عن فتاة أخرى كانت تسكن تحت لحمها.. تغييرها الكبير وحده يدفعه للشك.. هو أكبر
دافع له للشك في أقوالها!
ما
الذي يضيرها أن تطمئن قلبه، وترد عليه حلمه، وتؤدي له معروفًا صغيرًا يجعله يمضي
رافع الرأس، مطمئن الفؤاد، واثق الخطى يمشي ملكًا، متحررًا من هواجسه وأحلامه
وكوابيسه المزعجة؟!
إنه
لا يريد شيئًا سوى أن يسترد "بتول" كاملة كما عرفها.. فهل هو مخطئ في
هذا؟!
هل
عليه لوم أن أحب فتاته كاملة.. ويبحث عنها ويريدها كاملة أيضًا؟!
...
تراجعت
"بتول" أمام عنف المشهد الذي تراه أمامها.. كانت قد وصلت إلى الممر رقم
(3) حيث تقع غرفة العناية المركزة، التي ترقد فيها أم الطفلة المجني عليها، مريضة
تصارع الموت طريحة على فراش، لا تود أن تغادره إلا إلى القبر.. التقارير عن حالة
الأم الصحية تشي بأنها لم تكن تصارع الموت بقدر ما كانت ترحب به وتفتح له ذراعيها!
لم
يُبقِ لها ما حل بابنتها أملًا تعيش من أجله.. لقد تحطمت روحها، ولا شيء يغريها
بالبقاء!
حينما
جاء زوجها ليبلغ أمها قرار الطلاق بهدوء، لم تكن واعية ولم تشعر بقدومه.. هو لم
يدخل ليلقي عليها نظرة فقد اعتبرها غريبة عنه، منذ اللحظة التي علم فيها أن ابنته
قد انتهكت واعتُديَ على عرضها، وحاولت الصراخ وكتم المدرس فمها براحة يده، كل ذلك
بينما أمها ممددة على فراشها في الغرفة المجاورة تشاهد التلفاز.. كانت تسلي نفسها
بينما المعلم الكهل يُسلي نفسه أيضا بطريقته بانتهاك طفلة في سن أولاده وربما أصغر
سنًا!
نسي
الزوج والأب أن زوجته إن كانت قد أخطأت فعلًا، فخطأ الجاني وجرمه أشد عظمًا وقسوة
وبشاعة.. المرأة التي رقد بين ذراعيها، وأنجبت منه أطفالها الأربعة، صارت فجأة
غريبة عنه، عدوة، انتقلت من خانة الأسرة الدافئة إلى مربع الأعداء الكريه المجلل
بالأحمر الصارخ الغادر.. لولا أنه عاد من سفره فوجدها شبه ميتة على سرير مستشفى،
ربما لكان قد قتلها بنفسه.. جرمها أعظم حتى مما لو كانت قد خانته، ورمت بنفسها بين
يدي رجل غيره.. كان سيقتلها ببساطة، ويرفع رأسه متشرفًا بأنه غسل عاره بيده، أو
يطلقها ويتركها تذهب غير مأسوف عليها!
لكنها
لم تعطه فرصة ليكون لديه اختيارات وبدائل.. فقد دمرت بغفلتها وإمعانها في الغباء
وحسن الظن حياة طفلة لا ذنب لها في شيء، إلا أن أمها ساذجة مفرطة في الطيبة والثقة
بكل من هب ودب، تركت لحمها غضًّا بين يدي وحش اعتقدت أنه رجل، لكنه تمخض عن وحش
بلا أخلاق ولا شرف، ومزق لحمهما، هي زوجها، وقضى على حياة عائلة بأكملها في لحظة!
وضعته
في دائرة مفرغة بلا بدائل ولا خيارات متعددة.. ليس بإمكانه الوصول إلى الجاني
وقتله والمباهاة بذلك، ولا يمكنه أن يتجرد من رحمته وأبوته ويقتل طفلته الصغيرة،
إنها غير مذنبة في شيء، وهو يعلم ذلك.. لكن دماءه الفائرة الثائرة توحي إليه
أحيانًا بأفكار يرتجف أمام هولها ورعبها!
لا
يمكنه قتل الجاني، فالقانون ورجال العدالة سيمنعونه من ذلك، ولا يستطيع قتل ابنته،
يفكر فيما سيحل بها عندما تكبر وتفهم معنى ما جرى لها!
لقد
تحطمت حياتها وحياة الأسرة كلها، ولابد من أحد يدفع ثمن كل هذا.. إنه ليس مستعدًا
لبذل أية تضحيات أو أية أثمان إضافية، فكفاه ما سيدفعه وما سيواجهه بقية عمره.. رب
أسرة محطمة وراعٍ لبنت لا مستقبل لها!
ثمن
باهظ لابد من دفعه مقابل الحياة التي تحطمت والبيت الذي خرب، والمستقبل الذي أسدل
عليه الستار وأظلم قبل أن تظهر له- على البعد- أية معالم!
جاء
ليخبر الأم أن ابنتها طالق، وأن تطلب منها ألا تبحث عن زوجها وأبنائها إن تعافت
وخرجت من المستشفى.. فقد صارت غريبة عنه، وقسيمة زواجهما ملغاة بقسيمة طلاق أشد
منها وقعًا وأكثر صراحة ووضوحًا.. أما أولاده، استخدم مصطلح (أولادي) منسوبًا إلى
ضمير المتكلم لأول مرة، فسوف يأخذهم، بمجرد انتهاء إجراءات القضية وصدور الحكم
فيها، ويهاجر بهم إلى أرض الله الواسعة.. إلى بلاد تجيد التفرقة بين الجاني
وبين المجني عليه، بلاد أهلها يحترمون
الضحية، ويبذلون جهدهم لتعويضها وإعادة تأهيلها ورد الابتسامة إلى شفتيها، ولا
يسلقونها بألسنة حداد، ويجللونها بالعار، ويهربون منها هروب السليم من الأجرب..
بلاد أهلها يعرفون الفضيلة فعلًا ولا يدعونها.. ويمارسونها ولا يكتفون بالطنطنة
بها والتحدث عنها والنصح بها!
لم
تسمع الأم شيئًا مما دار، ولم تعرف أن زوجها، ووالد أبنائها، قد جاء وذهب.. مخلفًا
وراءه وعدًا أبديًا ينتظرها بألا ترى أولادها ثانية ولا تقع عينيها عليهم أبدًا،
ولا تعرف لهم طريقًا، ولا تراقبهم وهم يكبرون
أمامها ويبنون مستقبلهم حولها وبالقرب منها!
لم
تسمع شيئًا ولم يصلها الخبر.. لكن الأنباء تسللت إليها رغم ذلك، اخترق الغضب
المحيط بها سياج الأنابيب والخراطيم والأجهزة المحيطة بها، وذاب في المحلول الذي
ينفذ إلى عروقها، واختلط بدمها وصعد حتى مراكز عقلها، فانتبه شيء في وعيها وتحركت
مضطربة في فراشها.. بالطريقة التي تدرك بها القطة الأم، وهي بعيدة عن عشها، أن
غريبًا يهاجم قططها الوليدة الآن، فتعود سريعًا لتنفر في وجهه، وتهاجمه وتبعده عن
أولادها حتى لو خاطرت بحياتها في سبيلهم، وبنفس الغريزة التي تجعل الأم تعرف أن
وليدها يوشك أن يسقط من فوق فراشه، فتجري لتدركه وهو على طرف السرير قبل أن يهوي
أرضًا.. بتلك الغريرة المقدسة الغامضة، التي تجري في دم الأم كله، أدركت تلك الأم
البائسة ما يدور حولها، لكنها لا تملك مخالب تدافع بها عن أبنائها مثل القطة، ولا
تستطيع أن تجري لتنقذ أولادها مثل الأم الحرة.. فهي مقيدة بأجهزة تبقيها على قيد الحياة، مربوطة في فراش لين كريه، ومحاطة
بمجتمع يراها مذنبة آثمة، ويحملها من الوزر فوق ما يحمل الجاني وسائر الجناة مثله
كلهم.. ليس لديها ما تدافع به عن أولادها ولن يسمح لها أحد بأن تفعل!
انتفضت
روحها المقيدة فهرعت أمها تحضر الأطباء والممرضات.. جاءوا محاولين إنقاذها، وصعقوا
قلبها بمزيد من ضربات الحرارة ووخزات الكهرباء.. لكنها لم تكن تريد أن تعيش..
وماذا يفعل الطب والدواء وحيل النطاسيين في روح تريد أن تنطلق، ولا يستطيع شيء أن
يستبقيها أكثر من ذلك!
همدت
وسكنت أخيرا ، واهتزت الرؤوس علامة التسليم المطلق واليأس ، وانطلقت صرخات أمها في
نفس اللحظة التي كانت فيها "بتول" تقترب مذعورة من باب الحجرة.. كانت
خطوات تجري هنا وهناك وأصوات استغاثات وصراخ وتعازي حارة.. دنيا مقلوبة على رؤوس
من فيها وقد استعادت الأرض بربريتها وهمجيتها القديمة.. وانطلق كل شخص يتصرف على
فطرته وسجيته.. ارتجفت "بتول" وهي تسمع الصراخ والعويل.. لم يكن هناك من
يعول سوى أم المرأة التي ماتت لتوها، وجدة الطفلة التي اغتصبت منذ أيام.. ضربتين في رأس تلك المسنة
التي كانت غافلة راضية بالعيش، ولا تعلم أن الدنيا بها كل هذا القدر من الكرب
والوحشة والهمجية ولو عرفت فلم تكن لتصدق ! أما الشابة، التي لديها محنة كمحنة
الأم وطفلتها، فقد تجمد كل شيء فيها للحظة.. عجزت عن إبداء أي رد فعل.. ثم سقطت
الحقيبة الجلدية الصغيرة المعلقة على كتفها، وانزلقت عبر الكتف حتى لامست كف اليد
المرتعشة الذي بلله العرق، فانزلقت من فوقه ملتمسة طريقها إلى الأرض.. هوت الحقيبة
محدثة صوتًا مكتومًا مرتفعًا.. ثم هوت إلى جوارها صاحبتها.. سقطت على ركبتيها،
اللتين ارتطمتا بالأرض أقوى مما ارتطمت بها الحقيبة، واندفع بحر من الدموع من
عينيها!
تعليقات
إرسال تعليق