بقيت
في البيت تسعة أيام دون أن تخرج أو ترى وجه الشارع.. اللهم إلا بعض الوقفات
الخاطفة في الشرفة، كانت وقفاتها في الشرفة وقفة غير احتجاجية، مع أن قلبها وعقلها
كانا محملين بالاحتجاج، والاعتراض وصخب الشعور بالظلم والقهر..
كان
الأب قد قرر أن يمنعها من مواصلة العمل في الجريدة وطلب منها تقديم استقالتها
ببساطة!
رفعت
إليه عينين محملتين بدموع ساخنة مفاجئة، وسألته غير مستوعبة بعد لحجم ما يدور في
رأس الوالد من خطط بشأنها:
-
أسيب الجريدة، أُمال أشتغل فين؟ الجرايد الكبيرة كلها بالواسطة والمعارف!
نهرها
الأب، دون أن يرفع صوته، قائلا، وهو يرفع كفه علامة إنهاء الموقف، وقفل باب
النقاش:
-
لا جرايد كبيرة ولا صغيرة، هتسيبي الصحافة كلها.. مجالناش منها غير وجع الدماغ..
هدورلك على شغل في مدرسة خاصة تبع واحد دكتور مشهور معرفتي!
تهلل
وجه الأم، التي كانت واقفة عند باب المطبخ، متظاهرة بتقشير حبات من الكوسة، بينما
كانت تُعمل سكينها بشكل تمثيلي، وأذنها ووعيها كله مركزين مع الحوار الدائر بين
زوجها وابنتها في الصالة الصغيرة، على بعد خطوات من باب المطبخ المفتوح..
بصوت
من يقاوم البكاء قالت "بتول" مستعطفة والدها:
-
بس أنا يا بابا مبحبش التدريس، وبحب الصحافة يا بابا.. الصحافة هي دراستي ومعرفش
أشتغل في حاجة غيرها!
احتد
الأب قليلًا، لكنه تحكم في نفسه، وقال أخيرًا بصوت حاسم:
-
متشتغليش خالص.. إحنا مش محتاجين شغلك ولا أنت محتاجاه.. اقعدي في البيت وأظن
خطيبك أصلًا مش عايزك تشتغلي بعد الجواز!
تجهم
وجه الفتاة حينما ذُكرت سيرة خطيبها أمامها.
كان
قد زارها مرتين فقط منذ تم إطلاق سراحها هي وزملائها في الوقفة الاحتجاجية!
...
"حسين
علي" شاب في أواخر العشرينات، طويل نحيف أسمر، صافي السمرة ورائق الملامح،
وسيم على طريقته الخاصة.. جده الأكبر من "بني سويف"، لكنهم استقروا في
القاهرة منذ سنين تزيد عن الخمسين عامًا، أصبحوا قاهريين، وإن لم ينسلخوا عن أصلهم
القديم انسلاخًا تامًا كاملًا.. دائمًا كانت هناك حالة (البين البين) التي تلمحها
في طريقة معيشتهم، وفي تعبيراتهم المنزلية، في أمثال الجدة، التي بقيت حية بعد
وفاة الجد بأكثر من عشرين عامًا، وحكمها ومواعظها.. الأم، رغم أنها قاهرية صرفة،
فقد انتقلت إليها طريقة الجدة في الحكم على الأشياء.. ولم تحتاج كثيرًا من الوقت
لتصبح نموذجًا مصغرًا، أكثر حيوية ومرونة، من الجدة بصفتها من عائلة محافظة،
متدينة جدًا أصلًا.
كان
"حسين" قد درس الصحافة والإعلام مثل "بتول"، تعرفا ببعضها
عندما كانت هي في السنة الجامعية الأولى، بينما كان هو يستعد للحصول على درجته
العلمية الجامعية ؛ ليتخرج ويواجه الحياة.. لكنه، بعد التخرج، لم يسعَ للحصول على
فرصة عمل في مجال الصحافة فقد كان الأمر محسومًا لديه:
-
الصحافة والحاجات دي متأكلش عيش في البلد دي!
وهكذا
لجأ إلى ما يوفر العيش فعلًا، وبلا صعوبة تذكر، وجد نفسه على رأس عمل والده، الذي
كان يملك محلين للملابس الجاهزة والإكسسوارات والهدايا والعطور، وأخر للأدوات
المنزلية والأجهزة الكهربائية.. ولأنه لم يواجه مشكلة الحصول على عمل، أو تدبير
النفقات وتجهيز نفسه للزواج ، وتكوين بيت وأسرة ، فقد تقدم لخطبة
"بتول"، التي تعلق قلبه بها منذ أن تعرف بها في إحدى الأسر الجامعية
النشطة، عقب تخرجه بشهور قليلة.. وافقت به البنت وعائلتها، وقدم لها دبلة عريضة
ومحبسًا، وأسورتين كبيرتين من مقتنيات جدته، التي قررت أن تهبها لعروس حفيدها
البكري.. وتمت الخطبة في جو ودي ومستقر وآمن!
لكن
الأمور ما لبثت أن تعسرت، وتلبدت سماء الخطوبة الصافية ببعض الغيوم والضباب.. كان
"حسين" يريد أن تبقى عروسه في البيت بعد الزواج، وأن تصبح سيدة منزل،
نسخة حديثة حسنة الطبع من أمه وجدته وخالته وعماته الثلاث.. وشجعه على اتخاذ هذا
الموقف كونه مستغنيًا ماليًا، فليس بحاجة إلى زوجة تعينه على تكاليف المعيشة
براتبها، وثانيًا أنه كان يرى مهنة الصحافة غير مناسبة لفتاة أو لامرأة متزوجة فيما بعد.. إنها مهنة متعبة ومجلبة
للمتاعب، إنها أساسًا مهنة تمتلئ بالبحث عن المتاعب، والنبش في جحور الثعابين،
والجري وراء القصص الكبيرة، والتحقيقات الملتهبة.. لقد درس أصول المهنة وحفظها
جيدًا؛ لذلك فقد قرر أنها مهنة لا تلائمه.. ولا تلائم زوجته المستقبلية.. ولا أي
فتاة أخرى على وجه العموم!
لكن
"بتول" لم يكن رأيها من رأيه، كيف تدرس الصحافة أربع سنوات، ثم يقال لها
أنها مهنة وعمل غير مناسبين لها، وعليها أن تبقى في البيت ببساطة.. فلماذا إذن
سمحوا لها، عن طيب خاطر، بدخول تلك الكلية واختيار ذلك التخصص؟!
كان
رأي الأب، والذي يوافقه عليه الخطيب، أنها مجرد شهادة جامعية تختال بها، وتحتفظ
بها ليوم قد تضطر فيه إلى العمل لسبب ما، وليس مهمًا أبدًا أن تعمل في المجال الذي
درسته وأحبته، ولا أن تعمل من الأساس، طالما أن هناك زوج مستعد لتلبية كل طلباتها،
وتوفير كل احتياجاتها دون أن تتعب أو تصدع رأسها بالعمل ومشاكله التي لا تنتهي!
تلك
كانت نقطة الخلاف الأولى بين "بتول" وخطيبها، وبسببها تم تأجيل الزفاف
مرتين.. وإطالة مدة الخطوبة إلى ثلاث سنوات كاملة!
لم
يكن "حسين" يريد أن يخضع لرأي خطيبته، ويتركها تتبهدل في مهنة شاقة
متعبة، لكنه في نفس الوقت لم يكن مستعدًا للتفريط فيها.. كان يحبها فعلًا، وهي
كانت تحبه أيضًا، وهكذا وقفا معًا على حافة الجرف، وكلٌّ منهما لا يريد أن يضحي
بنفسه لأجل الأخر.. ولا أن يضحي بالأخر في سبيل ذاته ومنفعته!
كانت
المشكلة في البداية محصورة بين الخطيبين، والخلاف الصغير بوسعهما أن يحلوه معًا،
لكن بعد مضي بضعة أشهر، وبعد أن تم تأجيل الزفاف للمرة الأولى، أخذت الرؤوس
الكبيرة تتدخل وتدلي بدلوها في الأمر.
وتحزب
لكل طرف مؤيدين، ووقف ضده معارضين أشداء.. كانت عائلة "حسين" بأكملها،
وعلى الأخص أمه وجدته، في صفه تمامًا، كما أيده في موقفه والد العروس، وأخوها
"ناصر" وأعمامها.. أما "بتول" فلم يقف بجانبها سوى أمها،
وأخيها الأصغر "إسلام" وخالها الوحيد، الذي كان يعمل صحفيًا بالقطعة
لبعض صحف الخليج، لكنه كان موظفًا بوزارة الثقافة في الأصل.. كانت البنت تكاد تعدم
النصير، ورأي الجميع أنها على خطأ، وأن عريسها على صواب، أنه عريس جاهز مستعد
لتغطية نفقاتها وتوفير احتياجات بيت الزوجية.. فما حاجتها إلى العمل وإلى المكابرة
والعناد معه؟!
لم
يفهم أحد موقفها ودوافعها أبدًا، حتى أمها كانت تناصرها من باب ألا تحس البنت أن
الجميع يقفون ضدها، فيركبها العناد، وتصر على رأيها وتفسد الزيجة السانحة التي ليس
من السهل تعويضها!
الخال
فقط كان يفهم أنها تريد أن تحقق ذاتها، لكنه في نفس الوقت كان يرى أن تحقيق الذات
هذا يمكن أن يتم بعدة طرق، نعم إنه يرى أن من حقها أن تعمل، لكن ليس من الضروري
الإصرار على العمل في الصحافة تحديدًا.
لذلك
أراد أن يوجد لها حل وسط، فعرض عليها أن يعاونها في العمل بوزارة الثقافة في وظيفة
أمينة مكتبة الطفل بقصر الثقافة الذي يعمل به منذ نحو ستة عشر عامًا.. رفضت
"بتول" الحل الوسط، كما رفضت عرض خالها، ورغبة أبيها في أن تعمل بأي
وظيفة أخرى خلا الصحافة، على أن يتكفل هو بإقناع "حسين" بأن يسمح لها
بالعمل فيها؛ لتتم الزيجة في أمن وسلامة.. في فترة أحست "بتول" وكأنها
تحارب العالم كله بمفردها، حتى أمها وخالها سحبا دعمهما لها متهمين إياها بالعناد
وركوب الرأس بدون مبرر!
وحينما
دعتها جريدة (كرمة الحق) للكتابة فيها، ثارت ثائرة الخطيب، ووجد في هذا تحديًا
صريحًا له.. آزرته أمه وتدخلت في الأمر، حتى اضطرمت النار في الرماد الخامد، ووصل
الأمر حد التهديد بفسخ الخطبة.. بل أرسلت الأم فعلًا- من وراء ظهر ابنها- إلى أهل
"بتول" مطالبة بشبكة ابنها وهداياه التي قدمها لابنتهم!
لكن
المياه سرعان ما عادت إلى مجاريها، وتم تحديد موعد جديد للزفاف.. بيد أن الأمر
تعسر وتوقف مرة ثانية.. فقد أصرت البنت على أن تسافر رفقة زملاء لها في الجريدة
إلى (أسوان)؛ لتغطية أحداث مذبحة ثأرية مروعة بين عائلتين هناك، راح ضحيتها العديد
من القتلى.. رفض "حسين" ذلك رفضًا باترًا حادًا، ولأول مرة تقف أم البنت
ضدها مباشرة وبصراحة.. صرخت فيها واتهمتها بالعناد، وبأنها تريد أن تفرط في عريس
لا يعوض من أجل نزواتها ورغبتها الفارغة في الظهور وادعاء التحرر والجري وراء
الصحافة التي ستؤدي لخراب بيتها - بيت الابنة - قبل أن تدخله بقدمها!
وتلك
كانت المرة الثانية التي يتم فيها فسخ الخطبة، معنويًا على الأقل!
إلا
أن مرور الأيام كفيل بكل شيء، أدرك "حسين" أن فتاته ليست من النوع الذي
يسهل فرض السيطرة والرأي عليه، وأنه لن يستطيع أن يتربع في قلبها، وهو يعاندها ويقف
ضد رغباتها على طول الخط.. سلم الأبوان أمرهما إلى الله في هذه البنت، وتركوها
تفعل ما تريد طالما التزمت بما اتفقت عليه مع الأب من شروط:
لا
سفر خارج القاهرة، بدون أن ترافقها اثنتين أو ثلاثة على الأقل من زميلاتها في
العمل..
لا
تفريط في الحجاب، ومراعاة الملابس المحتشمة..
لا
تدخين..
لا
سهر خارج البيت مهما تكن الأسباب..
وأخيرًا
الالتزام بمصالحة خطيبها، وإتمام الزيجة التي تأخرت عن موعدها شهورًا وشهورًا!
وقد
كان وفعلت "بتول" كل ما أرادوها أن تفعله.. وعاد "حسين" إلى
غرامه السابق بها، ورغم كل شيء فربما كان إصرار البنت وتمسكها بموقفها، قد جعله
يشعر نحوها بشيء من الاحترام والتقدير، أعجبته صلابة دماغها.. وأدرك أنها لن تكون
نسخة من أمه وجدته، ونساء أسرته الخانعات الخاضعات.. وهو بوصفه متعلمًا فاهمًا رغم
كل شيء، فقد عرف أن هذا النموذج الأخير من الزوجات قد عفا عليه الزمن ولم يعد
صالحًا تلك الأيام بشكل كامل!
هذه
الزوجة يمكنه أن يطمئن لدعمها ومساعدتها له في حالة وقع في مصيبة، أو نزلت به
نازلة من نوازل الزمان ومصائبه التي لا تنتهي ولا
يسهل توقعها!
عادا
للمرة الثالثة.
لكن بعد القبض عليها والإفراج عنها وعن زملائها
بدأ كل شيء يتغير!
أحست
"بتول" أن هناك شيئًا شريرًا ينمو بشكل خفي تحت ثياب خطيبها، الذي تحبه
وتحفظه كما تحفظ راحة يدها.. شيئًا مخيفًا شريرًا وغامضًا هلامي الملامح.. لقد
بدأت ملامحه وهو يحدثها تتبدل وتتغير .. بدأ يصبح غامضًا مبهمًا ولا يسهل لها
تفسير ما يقوله أو يفعله!
كان
كل شيء ينمو ويكبر في الظلام في البداية.. ثم بدأ يخرج إلى النور وتنكشف تفاصيله..
وإذ به مخيفًا ومرعبًا أكثر مما تخيلت ومما قدرت بكثير!
تعليقات
إرسال تعليق