يوم عمل شاق للغاية في المجلة.. كانت مجلة (حلم مصري)
تحاول أن تثبت جذورها في تربة العمل الصحفي المليئة بالأعشاب الشافية النافعة،
وبالزهور وبأشجار الفاكهة، وأيضًا بالحشائش الضارة والفطريات السامة؛ ولذلك كانت
الفترة الأولى من عمر المجلة تتطلب عملًا شاقًا مستمرًا.. تحولت صالة التحرير إلى
خلية نحل عامرة بالحركة والأزيز والنشاط، وترك رئيس التحرير باب غرفة مكتبه
مفتوحًا على مدار الساعة، وأخذ الصحفيون ورؤساء الأقسام، يوالون الدخول من وإلى
مكاتب رئيس وسكرتير التحرير، حاملين المواد التي تم جمعها لمراجعتها، والتأشير
عليها إما بالنشر أو برفض النشر، أو بطلب إدخال تعديلات مهمة عليها.. كانت
"بتول" قد عُينت كمحررة بقسم الحوادث والمتابعات القضائية، بناء على
طلبها، وأبدت نشاطًا مذهلًا وتمكنت من جمع مادة صحفية ثرية ومثيرة عن بعض الجرائم
التي يكون ضحيتها من الأطفال..
وجدت "بتول" نفسها في ذلك الموضوع،
وانغمست في جمع مادته بحماس، زارت ورشًا للحرف تقوم بتشغيل صبية دون الخامسة عشرة،
وسمعت شكاوى الضرب المبرح والتعذيب بالكي
والحرق، والحرمان من الطعام وساعات الراحة، والإجبار على العمل تحت ظروف شاقة وغير
إنسانية، وحتى حالات التحرش وهتك العرض سمعت منها الكثير والكثير وهي ترتجف رعبًا،
ثم تحولت إلى الأطفال المشردين، الذين تمكنت من أخذ بضع كلمات من قليل منهم عن
طريق الإغراء بالحلوى، والقليل من النقود، ومثل الأولين كان لهؤلاء الأطفال مظالم
كثيرة ضد مجتمع لم يرحم طفولتهم، وضد أسر وآباء أنجبوهم وهم يعلمون يقينًا أنهم
عاجزون عن إعالتهم والإنفاق عليهم، وتعليمهم وكسوتهم وتوفير اللقمة والفراش الآدمي
لهم، وكانت معظم البنات الذين قذفتهم ظروفهم، أو رمت بهم أسرهم، إلى الشارع قد
تعرضوا لعمليات تحرش عنيفة أو ربما اغتصاب كامل، بل فيهن من حملت وولدت قبل أن تصل
الرابعة أو الثالثة عشرة، وكما فُعل فيهن فقد فعلن، وتركن هؤلاء المواليد نتاج
عمليات الاغتصاب، التي تعرضن لها، أو ممن أتوا من علاقات أقمنها برغمهن، أو
برضائهن مع صبية مشردين مثلهن، أو مع زبائن ليل لا يفرقون بين امرأة وطفلة، على
عتبات المساجد أو دور الرعاية لتتكفل بتربيتهم.. حيث يكون مصيرهم غالبًا أن
يشاركوا آبائهم وأمهاتهم، الذين لا يعرفونهم،
الشوارع والأرصفة!
قصص
مروعة أنصتت إليها "بتول"، ومع كل قصة جديدة كانت تدرك حقيقة كانت خفية
عنها إلى حد كبير حتى الآن.. وهي أنه لا يوجد كوكب أرض واحد يدور في نفس المدار،
ولا يوجد عالم واحد، ولا مصر واحدة.. هناك عدة كواكب تحتل نفس المدار وتتشاركه
معًا، وعوالم متعددة متداخلة لكنها منفصلة بقسوة، وهناك عدة نسخ من (مصر)، التي
كانت تعتقد حتى اللحظة أنها دولة واحدة بها عدة طبقات وعدة صور من صور الحياة،
هراء كامل إنهم ثلاث دول منفصلة يحملون نفس الاسم، ولهم نفس العلم وينشدون كلهم
نفس النشيد الوطني، الذي لا يعرف أحدهم غالبًا الطريقة الصحيحة لنطق أغلب كلماته!
هناك
دولة الأثرياء، الدولة المستقلة التي لها كل المميزات وتتمتع بكافة الحقوق، الطبقة
التي لا تتحمل تبعات شيء، ولا تدفع فاتورة مصاعب الوطن وأزماته، بل ربما تكون هي
أول مستفيد منها.. وهناك الدولة التي تنتمي إليها هي وأسرتها وملايين الأسر مثلها،
بقايا الطبقة الوسطى المحطمة، الذين يحملون وحدهم أعباء الوطن ويدفعون مقابل أخطاء
حكامه، ومصائب رجاله ورعونة من يجلسون على مقاعد السلطة فيه، الطبقة المتحللة التي
تتمسك بالشموخ القديم، وتتحمل خلاياها بالوطنية المعلبة، وشعارات (ارفع راسك فوق)
وأحلام النصر، والتي تحفظ أهازيج النصر وخطب الزعماء الحافلة بالهراء، والوعود
الزائفة والأحلام المؤجلة جيلًا بعد جيل، الطبقة التي تعيش في واقع ترفض الاعتراف
به، وتنتظر حلمًا لا يتحقق، وتراهن على أيام لا تأتي أبدًا، وتصدق ترهات مطلقوها
هم أول الكافرين بها!
أما
المهمشون ومن بلغوا حد الفقر الأدنى فقد استغنوا عن الطبقتين اللتين فوقهما، لم
يعودوا يعترفون بأن فوقهم أحد، فقد انفصلوا وأنشئوا لهم وطنًا خاصًا بهم، وطن بلا
نشيد ولا علم ولا دستور، ولا قانون ولا حاكم له، إلا من يرتضونه هم من كبارهم
الذين يمسكون لهم السوط بيد، ويحملون لهم الحماية والأمن، ويبسطون سلطانهم عليهم
باليد الثانية .. دولة المنبوذين التي تتضاءل أمامها كل قوى، ونفوذ وهيمنة الكبار،
والتي تتلاشى أمامها أحلام ومثل وخطب، وأخلاقيات الأوسطيين التافهة العقيمة.. لقد
حققوا انتقامهم الكامل فقد نبذهم من فوقهم، فنبذوهم بدورهم، جعلوا لدولتهم هيبة
ونفوذًا وسلطان، ربما كان يفوق كل نفوذ وسلطة دولة الأغنياء، وكل هيلمان المثل
والشعارات الجوفاء لذوي الدخل المتوسط والعقلية المتوسطة، التي تظل عمرها تتأرجح
كبندول ساعة، صاعدة هابطة، تلامس الأعلى وترتد سريعًا، وتلامس الأدنى فترتد أسرع..
متحملة لعنات الاثنين وكراهيتهم.. ينفر منهم المنعمين، ويصب عليهم المطحونين
كراهيتهم، باعتبارهم الأكثر قربًا والأسهل في توجيه كراهيتهم ونار حقدهم ضدهم!
عدة
دول تشترك في الاسم العام، ويحمل أبناؤها جميعًا، على الورق، جنسية واحدة.. لكن
الحدود بينها قاسية حادة، لا يسهل عبورها، ومحاولة اجتيازها تعني أمرًا واحدًا: أن
يرميك جندي بطلقة ليحمي حدود بلاده، بينما هو لا يدرك أنه مجرد فأر في مصيدة، وعبد
في وسية هائلة، وأنه لا يحمي سوى أسياده،
أما نفسه وأهله فينتظرهم غالبًا نفس المصير!
مصر
الطاهرة المتدينة التي تقع على السطح، يقابلها مصر مظلمة، أكبر مساحة وأكثر
امتدادًا، تقبع تحت السطح، قاع مظلم مليء بالوحشية والموبقات، أرض (موردور)
السوداء الجرداء، حيث يهيمن الشيطان وأعوانه، وفتيات ليله الماجنات بأجنحتهن
الحمراء ذوات الريش!
ما
الذي أتى بأساطير (موردور) و(سورون) سيد
أرض الظلام في مصر؟!
إنهم
لم يخرجوا من مصر أبدًا، إنها موطنهم الأصلي.. وحتى إن ذهبوا وتغربوا قليلًا، فهم
يعودون ليبيتوا فيها.. يجوب الظلم العالم كله على قدميه، لكنه يعود إلى مصر كل
ليلة لينام فيها ملء جفونه!
وكان
من أشد الحالات التي رأتها "بتول"، وأثرت فيها، حالة بنت في العاشرة من
عمرها، طالبة لم تتجاوز المرحلة الابتدائية، اعتدى عليها مدرسها الخصوصي في شقتهم،
بينما كان يعطيها درسًا في اللغة العربية وحدها.. أما أمها فقد كانت بعيدًا في
حجرتها، مستلقية تشاهد التلفاز ولا تدرك أن ابنتها في الخارج تصرخ مرتين طالبة
النجدة.. قبل أن يغلق الأستاذ فمها بيده
ويكتم صرخاتها إلى الأبد!
...
ألعن
ما رأته الفتاة التي تتوق إلى الخروج إلى العالم وإثبات موهبتها كانت قواعد المجتمع
المعكوسة، وعقائده الخرافية ونظراته التي يغلب عليها التناقض والازدواجية،
والإيمان بالشيء وعكسه تمامًا وفي نفس الوقت.. أدركت أخيرًا أن ثمة جرائم في
مجتمعنا تُلام فيها الضحية أكثر مما يُـلام الجاني، وتتحمل هي من المسئولية أكثر
مما يتحمله هو!
عندما
عادت إلى المجلة محملة بمواد تحقيقها الأولية، وصورة من محضر الشرطة الذي يسجل
واقعة الاعتداء، جلست إلى مكتبها لتقوم بفرز مادتها وإعدادها والبدء في كتابة
تحقيقها المكبر.. كانت على صلة ومتابعة كاملة بجريمة اغتصاب طفلة الابتدائي على يد
مدرسها الفاضل، وقد حرصت على أن تكون على كثب من الأحداث بصفة مستمرة، وبعد عودتها
إلى المجلة بدقائق نما إلى علمها أن والدة الضحية قد أصيبت بجلطة في القلب، وتم
نقلها إلى المستشفى، كان الهاتف في يدها تتابع ما يقال لها، عندما اقتربت منها
زميلة لها، وفي يدها كوب من القهوة السوداء تقدمه لها.. تناولته "بتول"
شاكرة بابتسامة، وهزة رأس، وواصلت الاستماع حتى انتهت المكالمة.. وضعت الهاتف
ونظرت إلى زميلتها، وعلى وجهها علامات الحزن والانقباض.
ابتسمت
لها الفتاة برقة وهتفت متسائلة:
-
مالك؟
جاوبتها
"بتول" بحرقة شديدة:
-
قضية محزنة جدًا، راجل مدرس محترم لكن وسخ وعايز الحرق..
تساءلت "ماهي" بفضول:
- ليه عمل إيه؟!
فأخذت "بتول" تحكي لها القصة بتفاصيلها،
وقرأت لها بضعة سطور من محضر الشرطة الخاص بالواقعة، والذي يصف عملية الاعتداء
نفسها، كما وصفتها الطفلة المجني عليها ببراءة، تنتزع الحزن والحسرة.. استمعت
الأخرى صامتة، ووجهها يتلون كل فترة بتعبير مختلف، وعندما انتهت أخيرًا، ردت
الصحفية الشابة مستدعية حكم جداتها العتيقة:
- عايزة رأيي.. الست دي لو ماتت يبقى ربنا رحمها!
نظرت إليها "بتول" بدهشة وقالت غير مصدقة:
- ربنا يشفيها ويخليها لبنتها ولعيالها، حرام البنت
الصغيرة تتحرم من أمها كمان بعد اللي جرالها ده.. حرام والله دي طفلة!
ابتسمت "ماهي" بزاوية فمها ابتسامة مرة،
وقالت مقررة حقيقة تعتبرها هي واقعًا لا فرار منه:
- ما هي لو مماتتش دلوقتي هتموت كل يوم بعد كده،
والناس بتعايرها وهي بتشوف بنتها هتقضي عمرها وحيدة ومنبوذة، ومحدش هيقرب ناحيتها!
شعرت "بتول" بالدهشة الشديدة، وزوت ما بين
حاجبيها قائلة:
- وحيدة ومنبوذة ليه.. هي إيه ذنبها؟!
قالت الأخرى ببساطة، وكأنها تجد هذا الأمر طبيعيًا
تمامًا ومقبولًا:
- مين هيرضى يتجوزها بعد اللي حصلها ده؟!
كررت "بتول" تساؤلها الحائر بذهن أشد بلبلة
وحيرة:
- وهي إيه ذنبها؟!
قالت "ماهي" بحكمة:
- يا بنتي دي اسمها مغتصبة! ذنبها بقى مذنبهاش مش
مهم! محدش هيرضى يتجوزها، ولا إنها تبقى في عصمته.. خلاص دي ضاعت رسمي وحياتها
انتهت!
شعرت "بتول" بشيء يتحطم داخل صدرها؛ مصدرًا
صوتًا ناعمًا، كصوت تهشم الزجاج، وقالت بحسرة واشمئزاز:
- إيه القرف ده؟! دي طفلة إزاي تتعاقب على حاجة ملهاش
يد فيها.. وبعدين الذنب مش ذنبها.. ده ذنب الحيوان اللي معندهوش دين ولا رحمة ولا
راعى إنها قد بنته أو حفيدته حتى..
قاطعتها الثانية قائلة:
- الذنب في الأول ذنب أمها! مكانش لازم تسيب البنت
لوحدها معاه.. لو عاشت مش بعيد جوزها يقتلها أو يطلقها بسبب الحكاية دي!
استعرت الدهشة وتأججت داخل عقل "بتول"
وقلبها، وهتفت مستنكرة غاضبة:
- والكلب اللي عمل كده؟!
ردت الأخرى فورًا، وكأن الأمر لا يعنيها:
- ولا الهوا! ممكن يطلع منها زي الشعرة من العجينة،
وده راجل يعني محدش هيشاور عليه ولا هيمسك سيرته.. البت وأمها هما اللي هيشيلوا
الليلة!
همت "بتول" بالكلام معترضة حانقة، فقد كان
السخط يعبئ صدرها، كسخام حارق سام، يجب أن تدعه يخرج قبل أن يخنقها ويكتم
أنفاسها.. لكن زميلتها لم تعطها فرصة للكلام بل قالت مفسرة كل شيء:
- فاكرة أيام الحرب بتاعة البوسنة؟! كانوا الناس
مطلعين إشاعات إن في بنات بوسنيات في شرم والغردقة.. وإنهم عايزين يتجوزوا شباب
مصري والبنت فيهم هتدفع لجوزها 500 جنيه كل شهر..
قاطعتها "بتول" بدهشة كاملة:
- ليه تدفعله؟!
أجابت الأخرى في أقل من لحظة:
- لأنها مغتصبة! يعني هتدفعله فلوس كل شهر كنوع من
التعويض.. عشان يرضى بها بعدما فقدت شرفها[*]
!
دهشت "بتول" أكثر وأكثر، وهتفت حانقة:
- ليه؟! دي مش ذنبها ده غصبٍ عنها!
هزت الأخرى رأسها فاهتز شعرها المنسدل الطويل، وقالت
مندهشة لعدم إدراك زميلتها الجديدة للعالم من حولها، وقالت ضاحكة:
- مش مهم! ذنبها مش ذنبها.. برضاها غصبٍ عنها
متفرقش.. خلاص دي بقت بضاعة معطوبة! صحن شوربة وتف فيه كلب! محدش هيرضى يتجوز
واحدة زيها، مهما كانت بريئة وكويسة.. حتى لو كان عمرها لما اغتصبوها شهر واحد!
خلاص فاكهة واتعطبت.. بقت ملهاش تمن ولا لها زبون!
همت
"بتول" بالكلام لكن الأخرى أسرعت مستأذنة للعودة إلى مكتبها؛ لإتمام
عملها المقرر أن يُنشر في العدد الذي يجري الإعداد له.. تركت "بتول"،
التي ودعتها ببسمة مجاملة، لكنها معبأة بالحزن والمرارة؛ لتندفع خلية نحل في داخل
رأسها.. ويصيبها صداع وألم حارق في رأسها.. نكست "بتول" رأسها ووضعتها
بين يديها.. وأخذت تفكر مرتجفة!
تعليقات
إرسال تعليق