التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بتول : ماذا فعلوا بالشمس ( رواية مسلسلة ) الحلقة العشرون

 

نهضت فزعة تتلفت حولها، لم يكن هناك ظلام وحشي بدائي يحيط بها، ولا صمت يهيمن على الكون، ويطبق على أنفاسه.. ولم تكن ممددة على الأرض تعتليها وحوش تمزقها وتنهشها، لم يكن شيء من هذا كله حقيقيًا أو واقعيًا.. بل كانت في غرفتها، جالسة براحة على سريرها، جالسة نصف جلسة، مرتاحة، ولا شيء يقلقها أو يهددها، النور يغمر حجرتها، وكامل ثيابها تستر جسدها وتزينه، وصوت موسيقي رقيق يداعب أجفانها التي كانت مقفلة، ويدعوها لليقظة والتحرر من سلطان الغفوة.. شاركه حفيف أوراق قليلة ممسوكة بين يديها، وقريبة من صدرها، النداء.. إنها في فراشها جالسة، وصور المحضر الخاص بقضية اغتصاب طفلة الابتدائي  بين يديها، لقد ذهبت في غفوة، وهي تقرأ السطور وتطلع على الحقائق، وتتخيل الأحداث المرعبة.. ترى كيف عاشت الطفلة تلك اللحظات القاسية المخيفة وكيف تحملتها؟!

مفروض عليها أن تتحمل قدرًا بتلك القسوة والانتهاك والظلم، ومفروض على الأخرى- "بتول"- أن تشارك في تلك اللحظات وتعيشها وتتألم مع صاحبتها.. لقد أبعد بها خيالها، وأوصلها إلى منطقة نائية شديدة الإظلام والكثافة، والدسامة والوجع والغرابة والغربة، كانت تشارك الطفلة لحظاتها بحلم خاطف، شاهدته في غفوة سريعة لم تتجاوز دقائق قليلة.. لكنها لم تنم، مؤكد أنها لم تنم.. وإلا فكيف كانت تقرأ وهي نصف نائمة؟!

كيف أنهت أول ورقتين من المحضر، وبدأت في الثالثة وهي غافية نائمة؟!

تبلبل ذهنها للحظة وراحت تنظر حولها، كان كل شيء هادئًا مطمئنًا حولها، إننا نستمد أماننا وطمأنينتنا من ثبات الأشياء حولنا، من رتابتها وتكراراها، من تشابهها وطول بقائها، وكمعمر يطمع في المزيد من النسيء، كان كل يوم جديد يشرق عليه هو وعد جديد يُبذل إليه بأن أمنيته ستلبى وحلمه سيتحقق!

حولها كل شيء تعرفه، وتحبه وتركن إليه.. لكن عقلها يبدو أنه كان قد انفصل عنها، وهام في مناطق وعرة وغريبة عليها!

أكانت تحلم أم كانت تتخيل وهي يقظة.. أهو حلم متعدد المراحل.. أم تداعي ذكريات؟!

ارتجفت الآن ونهضت بقفزة من فوق سريرها، كانت لا تزال بالثياب التي استقبلت بها خطيبها، والتي بها ودعته، لم تستبدلها بعد، ولم ترتدِ ملابس النوم وقضاء الليل وحيدة في فراشها.. يبدو أنه كُتب عليها أن تقضي الليل وحيدة في فراشها إلى الأبد!

لأول مرة تدرك معنى المشهد الذي جرى الليلة!

إن زواجها من "حسين" مهدد، وأن استكمال حياتها بشكل طبيعي مهدد، وأن مسار حياتها قد ينحرف انحرافًا حادًا، أو حتى قد تجد نفسها (تلبس) في حائط!

قفزت من السرير وصارت خارجه تمامًا، الأوراق بين يديها لا تزال تواصل حفيفها، فألقتها من بين يديها مذعورة.. سرت شحنة كهرباء ساكنة في جسدها، فأحست أنها تنجذب لكل شيء، وكل شيء ينجذب نحوها، كأنها تحولت لمغناطيس هائل وكل ما حولها ينجذب إليها ويلتصق بها، تشعر أن الأوراق تتشبث بثيابها، ولا تريد أن تنزلق وتسقط أرضًا، وبقايا شعر من وسادتها على يديها ومؤخرة عنقها، شيء يسير على يدها فتنفضها بعنف، ثم تحس بشيء يتسلل إلى أعماقها ويزحف كثعبان، كحية خبيثة لئيمة في أمعائها، ثم يدخل مجرى دمها ويسير مع دورتها الدموية، شعرت بشيء يزحف داخل عروقها، وبحرارة وصهد يتصاعدان من جلدها.. لم تعد تطيق ملابسها، فراحت تنزعها بسرعة وقوة، تحررت من أغلب قطع ثيابها، وألقت بها عفو الخاطر في كل مكان وصلت إليه يديها.. ثم هرعت نحو المرأة تتطلع إلى جسدها!

كانت المناطق المكشوفة من جسدها نظيفة وصحيحة، لا آثار لخدوش أو لجروح عميقة أو لانتهاك، الذراعين وأعلى الصدر، وأسفله والبطن والجذع، كلها بلا آثار لأي شيء غير طبيعي!

نزلت تستكشف ما حول حوضها وفخذيها، فلم تجد شيئًا ملفتًا للأنظار، ثم عثرت في باطن فخذها الأيسر على بقعة زرقاء كبيرة، تتوسطها خطوط تبدو كشعيرات دموية متورمة، وواضحة على قلب الندبة الطرية، حملقت في البقعة بدهشة وصمت، والطير تسكن فوق رأسها، فلم يصدر عنها أي رد فعل حركي.. ثم مدت أصابعها بحذر ولامستها، فلم تحس لها بألم، زادت من قوة ضغطها فشعرت بألم طفيف، لم يكن الأمر خطرًا.. لكن من أين حصلت على تلك البقعة الكبيرة المخيفة الشكل؟!

لا تذكر أنها سقطت أو اصطدمت بشيء خلال الأيام القليلة الماضية، على الأقل ليس في تلك المنطقة المخفية من اللحم، تحيرت وظلت منحنية مكانها تراقب البقعة، وتتحسسها برفق مرة بعد مرة، من أين أصيبت بتلك الضربة التي تركت أثرًا واضحًا على لحمها.. وما الذي يضمن لها أن جسدها لا يخفي بقعًا أخري شبيهة بهذه أو ربما أكثر بشاعة؟!

فجأة اعتدلت وراحت ترمق نفسها في المرآة.. لقد سكنها الوهم وعششت في رأسها تخيلات سوداء مرعبة!

عادت تنظر إلى فراشها الذي غادرته لتوها، وإلى ملابسها المكدسة عليه، والتي تكومت فوق الأرض حوله، أثار منظر كومة الملابس القشعريرة في جسدها، لم تكن قشعريرة برد بل رعب.. لقد شبهت إليها بالكفن.. بقطع الثياب التي يتركها الإنسان خلفه بعد أن يموت!

بشكل ما فإن الإنسان في النهاية ليس إلا كومة من الأغراض التي يستخدمها، ثياب وملابس وأحذية، فوط وأدوات شخصية، وزجاجات عطر وغسول ومعجون وفرش أسنان، كتب وكراسات وأقلام وأوراق، صحف متناثرة، وبقايا طعام في الأطباق، وقصاصات أظافر وبقايا شعر، وصور على الحائط مجللة بأشرطة سوداء.. وكل هذه الأغراض، أو معظمها، كانت متوفرة في غرفة "بتول"، في مملكتها الخاصة التي تأوي إليها كل مساء، وتغادرها مودعة رعاياها وأغراضها كل صباح، أشيائها الحميمة المألوفة فجأة شعرت أنها غريبة عليها، لم تعد تتعرف على مكتبها، ولا على كتبها وأوراقها المكدسة فوقه، ولم تعد تشعر بألفة نحو مرآتها، وأدوات زينتها المرصوصة بنظام فوق منضدة تزينها، صارت أقلام كحلها وأصابع طلاء شفتيها، زجاجات عطرها وبخاخات مزيل العرق، خيوطها وإبرها المتناثرة فوق المنضدة، ملابسها المعلقة في الدولاب، وتلك المطوية بعناية فوق الأرفف، اسمها المنقوش على أخبار، وتحقيقات قليلة في قلب الصفحات الداخلية لجريدة (كرمة الحق).. كل تلك الأشياء أصبحت غريبة عليها وهي غريبة عنهم.. رجعت لجسدها تتأمله، تمسكه، تدعكه، تحاول أن تستنطق لحمها، وتجعل الخلايا الصامتة تبوح لها بالسر.. بما حدث وهي عنها لاهية أو غافلة.. هل اعتدوا عليها في الحجز  وهي لا تعرف!

هل خدروها، هل نوموها مغناطيسيًا.. هل سقوها شرابًا جعلها لا تدرك شيئًا مما يدور حولها؟!

لا دليل على جسدها يشي بانتهاك لحرمته، ولكن ما الذي يمنع أن يكون هذا قد حدث؟!

إنهم شياطين، ولهم أساليب تعذيب لم تصل الشياطين إلى اختراع مثلها بعد، زبانية  مخضرمون، ولهم في كل قبر ضحية، وفي كل قعر جهنم رئيس من رؤسائهم يُعذب أو يستعينون بخبرته في تعذيب الناس والتنكيل بهم!

فجأة شعرت ببرد هائل يغمرها، وراح جسدها كله يرتجف، تناولت غطاء مطويًا من فوق سريرها، وفردته سريعًا ثم لفت به جسدها، اصطكت أسنانها وغمرها البرد، ارتجفت وأحست أن كل شيء يرتجف حولها، فجأة داهمها سيل من الأفكار، ووجدت نفسها تمسك قلمًا وتتناول أوراق المحضر التي كانت تراجعها منذ دقائق، وكأنها آلة للكتابة أخذت تخط سطورًا، وتبيض جزءًا من ورقة فارغة الظهر، وتكتب دون أن تشعر حتى بما تكتبه أو تحس بوقع الحروف وهي ترسمها وتضعها بجوار بعضها:

أول شيء تحس به الفتاة عند اغتصابها هو الغربة عن نفسها، تحس أن جسدها انفصل عن روحها، وأنه لم يعد ملكها.. عمق الانتهاك وقسوة الألم، الذي تتعرض له،  يجبرها على أن تتخذ حيلًا دفاعية لتحمي نفسها من الجنون والسقوط والموت، تتخلص من مصدر الألم، ومنبع الشعور بالعار، تنفصل عن جسدها وتلقي باللائمة عليه، تزدريه وتبعده وتبتعد عنه، وتنفر منه وتكرهه.. إنها تكره نفسها في تلك اللحظة، وتلومها وتحملها ذنب الفظاعة التي وقعت عليها، ولكن ولأن الإنسان من الصعب أن يكره روحه، فإنه يوجه كراهيته لشيء أقرب إلى روحه، لكنه ليس روحه نفسها، تنفصل الروح وتتقمص شخصية سامية، وتلقي باللوم والذنب على الجسد، وترغب في تحطيمه وكسره والتخلص منه، لكنها في نفس الوقت تريد ستره وتغطيته، واحتوائه بين ذراعيها.. فتاة كتلك تحتاج لمن يداوي روحها، ويخيط جروح قلبها، ويعيد الصلة بين روحها وقلبها، وبين الجسد المظلوم في كل تلك المعادلة، ولكن ولأن مجتمعاتنا تعودت أن تلوم الضحية، وتبرر للجاني فعلته، فإن فتاة منتهكة في مجتمعنا تجد من العذاب ضعفين.. فهي كلما خاطت جرحًا من جروح نفسها، كلما فتحه لها المجتمع بنظراته وكلماته، بنظرات احتقاره، وبشفقته المحملة باللوم، تغوص أيديهم في لحمها بحثًا عن تبرير للجرم الذي وقع عليها، ينقبون داخلها عن سبب جعل المغتصب يترك بنات العالم كله ويأتي إليها هي.. لابد أن السبب منها والعيب فيها!

لذلك فلا حياة لفتاة منتهكة في مجتمعنا.. عليها ببساطة أن تختار بين الجنون والعهر  والموت!

...

نامت نومًا متقطعًا، مفعمًا بالأحلام والتخيلات والمخاوف والأوهام.. كانت تخطف ربع ساعة من النوم، وتستيقظ على عرق غزير، وشعور بالبرودة في وجهها وكفي يديها، وإحساس بالعري، وأنها تريد أن تغطي جسدها، تسحب الغطاء لتشعر فورًا بحرارة تكوي أوصالها، وتجبرها على إبعاده.. وتعاود الرقاد ليتكرر نفس الأمر مرارًا وتكرارًا!

أخيرًا بدأت تباشير الفجر، فنهضت عاجزة عن الاستسلام لمزيد من هذا النوم الممزق المرهق، غادرت سريرها ببطء، وهي تستند على حافة الفراش، كانت تشعر بثقل وألم خفيف في معدتها، برودة خفيفة ضربت أوصالها، لكنها سرعان ما تلاشت.. تحاملت على نفسها، وذهبت نحو مكتبها، كان المحضر الذي يوثق قضية اغتصاب طفلة الابتدائي مكومًا هناك، أوراقه مطوية بلا عناية، ومكبوسة تحت مجلد كبير ضغط على أرواح الأوراق وكاد يفعصها، من حافة سفلية بارزة قرأت سطرًا ظاهرًا كحاشية ثوب.. كانت الطفلة تتكلم على الورق وتشكو بثها وألمها، الذي لا تزال لا تفهم حجمه، ولا تقدر بشاعته بعد:

(الأستاذ أداني مسألة أحلها.. وبعد ما حليتها كنت واقفة مدياله ضهري وبدور على حاجة في شنطة المدرسة.. وفجأة حسيت...)

أغمضت "بتول" عينيها، لئلا يلتقط ثاقب بصرها بقية الوصف والتفاصيل.. كانت الطفلة تحكي، تحكي ببراءة وبرعونة الطهر، حينما يروي قصص الإثم وهو لا يعرف له معنى، الطفل حينما يروي نكتة بذيئة أو يحكي حكاية خارجة فينهره الكبار، إنه لا يفهم لما يفعلون ذلك، ولا هم يعرفون أنهم يلوثون عالمه عندما يقحمون مفردات عالمهم وفجاجته وقبحه على عالمه، ثم يطلبون منه ببساطة ألا يستخدمها وألا يفكر فيها!

ماذا تفهم تلك الطفلة مما جرى لها وعليها؟!

إنها لا تفهم شيئًا، ولا تدرك معنى ما جرى لها على يدي مدرس ائتمنته  أمها عليها، وسلمته قطعة من لحمها ليبيح لنفسه حق انتهاكها والعبث بها!

إن الأم ترقد الآن بين الحياة والموت، وكلاهما شر لها!

 فهي ستتحمل في نظر الناس، وفي نظر زوجها، وفي نظر نفسها ربما، المسئولية الأكبر عما حدث لفتاتها الطفلة المسكينة.. مسئولية ربما كانت أعظم وأخطر من مسئولية المغتصب نفسه، وذنبًا أكبر من ذنبه!

يرددون دومًا أن الحرص واجب، لكنهم ينسون أن الشرف واجب، وأن الأخلاق واجبة، وأن لوم الجاني وليس الضحية واجب.. وأن عقاب الجاني والطبطبة على الضحية وتعويضها هو أعظم الواجب!

سحبت "بتول" بقية أوراق المحضر من أسفل بدن المجلد الضخم، وانغمست في قراءتها للمرة الرابعة، لقد قرأت الأوراق كلها سطرًا سطرًا، وراجعت ما قالته الطفلة، وما قاله المدرس المتهم كلمة كلمة.. فلم تجد إلا كل خوف وتوقع أذى من الطفلة، وكل بجاحة ووقاحة، وفجاجة من المعتدي، الذي تمتع بنعمة البرود التام وهو يجيب عن الأسئلة!

كَذّب الطفلة وكَذّب أمها، لكن كلام الطفلة ضد كلمته.. ودمها الذي غسلته لها أمها في الحمام ضد كل ادعاءاته وباطله وزيفه وبهتانه!

سطرًا سطرًا قرأت القضية، ومع كل تلاوة جديدة للقصة تحس أنها تنغمس فيها أكثر، تصبح جزءًا من تفاصيلها، تعايشها وتغوص في لحمها، تسمع صوت الطفلة وهي تروي قصتها باكية، وترى أمها وهي تقودها وتسندها في الطريق إلى الحمام، تشعر بانزعاجها، وترى ملامحها وهي ترى دم ابنتها الذي يلطخ ثيابها، ولا تعرف لوجوده سببًا.. ترى وجه الطبيب، وهو يواجه الأم بالحقيقة في برود وقسوة، وتجرد ويرمي الطفلة بكلمة حادة قاسية قاطعة كحد سكين حامٍ يقطع ويجرح ويذبح ببرود.. كلما زاد الشيء سخونة كلما كان ذبحه وقطعه أكثر برودة!

ذبح الطفلة مرة ثانية بكلمته الوقحة، مثلما ذبحها الأول بفعله.. وما الفارق بين الفعل الذي يذبح والكلمة التي تفعل نفس الشيء؟!

لا فارق إلا أن الفعل يمكن مداواة أثره ومحو تأثيره.. أما الكلمة فلا!

الكلمة تسمم الدم، وتصعد إلى مراكز الشعور والإحساس، فتغير كيميائية المخ، وتغير تركيبة الإنسان، وتبدل شعوره نحو العالم.. معظم من يقتلون أنفسهم لا يموتون بأفعال الناس بل بأقوالهم التي تشبه السم المركز!

دمت عينا "بتول" وهي تتخيل كل شيء، لأول مرة تتأثر بقضية تتابعها، أو تقرأ عنها، مثلما تأثرت بتلك القضية، كانت عيناها قد تسممتا، ووعيها قد تلوث بما قرأته، فلم تسعفها إلا بقطرتين صغيرتين من الدموع، دموع أقل في كميتها من الدموع التي تذرفها ليمونة مجهدة جافة، هكذا يبكي البائسون، يذرفون دموعهم في كل وقت، ويبددونها هنا وهناك، حتى يأتي يوم يحتاجون فيه أن يبكوا، يبحثون عن دموعهم فلا يجدونها.. المحزن أن مخزونهم من الدموع لا ينفد، إلا وهم في أشد اللحظات حاجة إليها!

لذلك كانت جدتها تنصحها ألا تبكي كثيرًا، كانت تقول لها أن البكاء إذا بدأ لا يتوقف، وأن الأحزان كمعازيم الفرح يأتون خلف بعضهم ويجلبون بعضهم بعضًا!

أغمضت عينيها للحظة وهي ترتجف، كانت موزعة بين شعور بالحرارة والصهد، وبرودة تستحثها على أن تلقي بنفسها تحت غطاء ثقيل، فلم تدرِ ماذا تفعل في نفسها!

أخيرًا رأت نور الفجر ينبثق، وخيوط أولى من الشمس المبكرة، تنفذ إليها عبر ستائر الغرفة.. رفعت وجهها وتطلعت إلى الضوء الذي بدأ يتسلل جهارًا، لا يوجد ضوء يتسلل أو يشرق على استحياء.. الظلام وحده هو الذي يجب أن يستحي ويأتي متخفيًا!

...

في الصباح كانت في مقر المجلة، مبكرة عن موعدها وقد نزلت من بيتها دون إفطار.. وجدت أمها تجلس بوجه مهموم وتضع أمامها مائدة حافلة بصنوف الطعام التي تقدمها على مائدة إفطار الأسرة كل صباح.. لم تمد الأم إلى الطعام يدًا، ولا الأب الذي جلس كزوجته مهمومًا.. ألقت "بتول" نظرة على وجوه والديها فأحست بأنهما شاخا وأسنا في ليلة واحدة.. كانت خواطرها ومخاوفها وأحلامها المزعجة لا تزال تطاردها وتسيطر عليها.. لكن رؤية هذا المشهد طرد كل رعب وكل قلق لديها.. شعرت بأن أبويها صارا مسئولين منها، وليس العكس، وأنها أصبحت الآن مسئولة عن دفع الضرر الذي لحق بهذه الأسرة، وحمل الكرة الثقيلة التي يحملها والديها على قرنيهما.. ثورين عجوزين يحملان أنفسهما من الهم ما لا يطيقان من أجل أن يضعا ابنتهما في بيت آخر ويقفلا عليها بالمفتاح!

اندفعت أنفاس منعشة إلى صدرها وأحست فجأة أنها تحررت من كل قيد.. من الخوف، ومن القلق، من الكابوس ومن الوهم.. لقد صارت أقوى، قررت أن تصير أقوى وأن تقف متحملة مسئولية نفسها وحتى  مسئولية أسرتها إن تحتم الأمر.. راقبت الوجهين الصامتين وانحنت على المنضدة لتتناول قطعة من مخلل الجزر تزين وجه طبق الطرشي الصغير.. وقضمتها محدثة صوتًا نزقًا مرتفعًا ثم تأبطت أوراقها، كانت في كامل ثيابها ومتهيئة للنزول، وقالت وهي تتجه نحو الباب وتفتحه وتجذبه بقوة:

- طنشي يا حاجة.. طنش يا حاج.. يروح عريس يجي غيره!

نظرت خلفها فرأت حاجبي أمها يرتفعان في دهشة شديدة.. بينما أبوها تحول إليها يرمقها مذهولًا وهو يكاد يفغر فمه من الدهشة.. ألقت السلام وذهبت.. متأكدة أن مبادرتها المطمئنة المرحة قد أصلحت شيئًا في العطب الشامل الذي أفسدته جلسة الأمس القصيرة.. وفعلًا فإن كان كل شيء لا زال معطوبًا مثقوبًا.. إلا أن المركب لم تكن تواجه خطر الغرق.. ووجه أبيها قد عرف الابتسامة لأول مرة منذ ستة عشرة ساعة أو تزيد!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...