ليلة
غير عادية شهدوها بالأمس .. ليلة غير عادية حقا فلم ينم أحد من أفراد العائلة طوال
الليل تقريبا !
لقد
أزعجتهم أشياء غريبة تحدث حولهم .. كانت الساعة قد اقتربت من العاشرة مساء ،
والعشاء قد تم تقديمه وأوشك الجميع على الانتهاء من تناوله ، حينما بدأت الأمور
الغريبة تحدث .. سمعوا أصوات نباح كلب العالية في الحديقة فجأة .. كان الكلب ،
الذي من المفترض أنه يرقد نائما ساكنا في بيته الخشبي المعد له خصيصا بالقرب من
باب المنزل ، ينبح بقوة وبعصبية فائرة .. دهشت الأم لتلك الفورة المباغتة من
النباح لكنها تجاهلت الأمر .. فربما رأي كلبهم حشرة غريبة أو جندبا أو ربما قارضا
صغيرا يتسلل إلي حديقتهم المظلمة ليلا ويحاول أن يعيث فيها فسادا ، كان كلبهم يكره
الحشرات كما كانت لديه حساسية عالية من لدغات بعض أنواع الحشرات لكنه كفيل
بالتعامل معها بحذر ، مهما يكن نوعها ، وعلى ذلك فليس هناك داع للقلق .. لم تري
الأم ما يستحق أن يخرجوا ، تاركين بقية وجبتهم ، ليتفقدوا الكلب .. وساعد الهدوء
التام الذي خيم فجأة على أثبات صحة وجهة نظرها .. لكن سرعان ما عاد الكلب ينبح
بقوة وشراسة .. وكشف نباحه تلك المرة أنه مذعور بحق !
كان
الزوج أول من تحرك ، تحرك صوب باب المنزل وفتحه دون أن ينتظر من يعرقله أو يحاول
إيقافه ، دفع الباب ، إذ كان من النوع الذي يفتح إلي الخارج ، بعد أن حرر القفل
الداخلي تاركا أنوار الحديقة الخافتة تتسلل إلي داخل البيت الدافئ ومعها لسعات
البرودة الشديدة .. لكن الحديقة لم تكن خافتة الإضاءة بل كانت تسبح في بحيرة من
النور القوي الأزرق المتوهج !
شعر
الجميع بالفزع للحظة ، وأنعدم وزن الزوج فلم يجد قوة كافية للتحرك من مكانه خطوة
واحدة ، ووقف يحدق في هذا المنظر الشاذ المبهر .. بينما من خلفه وقف الجميع كأوتاد
خشبية يتطلعون بوجوه جامدة ساكنة من فرط التوتر والمفاجأة .. لم يعرف أحدهم ، في
اللحظة الاولي ، المصدر الذي يخرج منه هذا الضوء المبهر !
كان
النور أكبر من أن يكون ضوء لمصباح عادي أو أية نوعية من مصابيح الإضاءة بمختلف
أحجامها ، بل بدا شيئا رهيبا قويا كشمس صغيرة زرقاء الأشعة .. مرت لحظة الذهول ثم
حرك الزوج قدميه بصعوبة وسحب نفسه إلي الخارج شاعرا بكل كيلو جرام في وزنه ، وكأنه
حمل ثقيل يجره خلفه .. تقدم إلي الأمام ومن خلفه جاءت زوجته ثم الطفلين ، وظلت
الخادمة الصغيرة في عمق المنزل ، واقفة تتطلع بقلق وغطاء قماشي صغير منحسر يغطي
نصف رأسها .. في الخارج كان الضوء أكثر توهجا وإبهارا ، وبعد تجوال نظر قصير على
الأرض تأكد الجميع من أن النور منبثق من أعلي فرفعوا وجوههم صوب السماء كلهم في
حركة واحدة .. وكان فوقهم قرص لامع متوهج بإضاءة زرقاء شنيعة يسبح في السماء فوق
منزلهم بالضبط !
طبق
طائر !
نطق أحد
الولدين بخوف وتردد قائلا بصوت خافت :
"
يوفو ! "
لكن
الأب ولا الأم لم يكونا ينصتان إليه .. فجأة توترت الأم وقالت وهي ترمق الطبق الذي
يسبح فوقهم بهدوء مستفز :
"
إنها طائرة حربية تتفقد الأجواء .. هيا إلي الداخل ! "
نظر
إليها زوجها للحظة مندهشا من إقدامها على سوق كذبة مكشوفة كتلك ، ثم لم يلبث أن
أدرك غرضها سريعا فقال مؤكدا :
"
نعم إنها طائرة من طراز الشبح .. لندخل إلي المنزل ! "
لم
يقتنع أحد الطفلين ، في الحقيقة فإن كلا الطفلين لم يبديا أي اقتناع بالترهات التي
تقال لهما ، لكن أحدهما وهو الأكثر جرأة رد بثقة وصراحة :
"
إنه يوفو وليست طائرة .. لقد رسمنا طبقا طائرا بالأمس في حصة الرسم ! "
نفخت
الأم بضيق ومدت يديها تجمع الطفلين معا كما تجمع زهرتين بريتين متناثرتين وهتفت
غاضبة لائمة :
"
سأشكو تلك المدرسة غدا .. هيا لنعد إلي الداخل ولنحضر الكلب ! "
كان
قرار الأم بإحضار الكلب وإدخاله إلي داخل المنزل يعني أنها خائفة .. وأنها تشك أن
ثمة شيئا خطيرا أو مخيفا يحدث هنا .. لكن أحدا لم يستطع أن يعصي أوامرها .. أنصاع
الطفلين داخلين برفقتها بينما هرع الزوج ليحضر الكلب الخائف المنزوي في ركن بيته
الخشبي .. ثم لحق بهم وأغلق الباب خلفهم جيدا ووضع خلفه قطعة كبيرة من أثاث حجرة
المعيشة !
...
لكن
الليلة لم تكن قد انتهت .. كان هناك المزيد في جعبة الساعات فلم تلبث الضجة أن
بدأت ..
تعالت
دقات على جدران المنزل ، ثم تبعتها أصوات أقدام كثيرة بدا أنها تتمشي فوق سطح
المنزل الخشبي وتهز الألواح الخشبية هزا .. أستمع الأولاد بفزع بينما أرهفت الأم
أذنيها جيدا ، واحتضنت طفليها وجلست بهما بجوار المدفأة .. رفضت الخادمة أن تأوي
إلي حجرتها وحيدة في تلك الليلة وبقيت جالسة بالقرب من الأب .. اختارت أن تجلس
بجوار رب العائلة لأنه كان يحمل البندقية في يده ، أحضر بندقية أباه العتيقة غير
المجهزة للإطلاق من حجرة الحاجيات المتروكة أعلي المنزل ، ثم نظفها سريعا كيفما
أتفق وحشاها بطلقات عثر عليها في علبة بجوار حافظة البندقية القديمة .. لم يعرف إن
كانت تلك الطلقات لا تزال صالحة للاستخدام أم أنها صدئت ، تماما كما لم يكن يعرف
نوع الخطر الذي يحدق بهم والذي يمكن أن تحميه البندقية ، وتحمي عائلته ، منه ..
لكنها أحضرها ووضعها بجواره لتكون نوعا من الدعم المعنوي لهم !
كانت
كافة الخطوط الهاتفية مقطوعة تماما بسبب العاصفة ولا سبيل إلي طلب النجدة ..
استمرت
الدقات والخبطات للحظات .. ثم اختفت .. مرت دقيقة أخري ، ثم عادت ، استغرقت أربع
دقائق .. ثم توقفت .. عادت مرة ثالثة وبدا أنها انتقلت إلي أماكن أخري من بدن
البيت ، الذي كان أغلبه مبنيا من الخشب العتيق .. سُمعت أصوات خبط متواصل على
ألواح في مقدمة المنزل العليا ، وكأن هناك من يريد تهشيم الأخشاب وتكسيرها .. ثم
عادت الدقات وأتت فوق باب المنزل الخارجي بالضبط تلك المرة مصحوبة بأصوات عاصفة
زاعقة مما أعطي الأمر تأثيرا مرعبا للغاية .. لم تعد الأم تتحمل في تلك اللحظة
فأطلقت صرخة صغيرة ثم جذبت طفليها بعنف صوب الدور العلوي من المنزل .. هنالك اختبأت
معهما تحت الأغطية في غرفة زواجها حتى الصباح ، وهم يرتجفون كأفراخ مذعورة ..
بينما بقي الأب يحرس الجميع ، والخادمة بجواره ، والبندقية المعطلة متدلية من يده كقطعة
معدن مطلية عديمة النفع !
لكن
الليلة مرت على أية حال !
...
في
الصباح كان الجميع مرهقين مكدودين ، فلم يذوقوا طعم النوم تقريبا في الليلة
الماضية .. أعدت الخادمة المتعبة ، بسبب قلة النوم ، لهم إفطارا بسيطا وساعدتها
الأم ، التي لم تكن أقل إرهاقا ولا تعبا منها .. لكن أحدا لم يأكل تقريبا .. فقد
كان كل ما يريدونه هو أن يخرجوا لتفقد الحديقة للبحث عن آثار الليلة الماضية
الصعبة !
كانت
الأم تريد حبس الجميع في المنزل طوال اليوم ، لأنها كانت لا تزال ترتجف خوفا ،
وقررت أن يبقي الجميع حيث هم حتى يتسن لهم الاتصال بالشرطة ، ويأتي رجال الأمن ويأخذوا
علما بكل ما وقع بالأمس ويحققوا بالأمر .. إنها ليست مستعدة لأي مخاطرة .. لكن
الزوج والأطفال لم يستمعوا لرأيها !
هرع
الزوج يفتح الباب ، وأتي خلفه الطفلين المتشوقين الشغوفين ، بينما فشلت كل الجهود
الرامية إلي إقناع الكلب بالخروج معهم إلي الحديقة .. بقي الكلب معتصما بداخل
البيت بينما خرج الأب وطفليه .. ثم تبعتهم الأم بعد تردد طويل !
لم يكن
هناك أي شيء غير عادي في حديقة البيت الصغيرة المنسقة .. كان كل شيء في مكانه ،
فأحواض الزهور الثلاث مرتبة تماما كما كانت بالأمس ، والأعشاب النامية واقفة
منتصبة مكانها بقوة .. لكن شيئا غريبا واحدا ، مع ذلك ، لوحظ على الفور !
إنها
طبقة من شيء أبيض غريب تفترش بعض المسافات الواقعة بين الزهور أو أعواد العشب ..
كانت تشبه مخمل أبيض ممزق وملقي في كومة على الأرض .. لفتت المادة الغريبة أنظار
الطفلين أولا ثم لاحظها الأب .. تقدم أحد الولدين نحو بقعة مجللة بالمادة البيضاء
الغريبة فصرخت فيه الأم بحسم أن يبتعد .. أطاع الولد كارها وتراجع لكن أبيه تقدم
بدلا منه في فضول .. جثا على ركبتيه وبدأ يلمس الكتلة اللينة الطافية التي تشبه
الزبد الذي يعوم على أسطح البحار والمحيطات .. حاولت الأم إيقافه لكنها لم تستطع
.. مد يدها ولامس الشيء فشعر كما لو كانت يده قد غاصت في بقعة مخاط وشعر بالاشمئزاز
الشديد .. فجأة انتفشت بقعة البياض وبدت وكأنها تكبر وتتضخم في الحجم .. صرخت الأم
وحاولت جذب الطفلين بعيدا .. لكن المادة ما لبثت أن خمدت وتكومت فوق بعضها كما
كانت ، بدت شبيهة بفقاقيع الصابون المتراكمة في تلك المرحلة لكن طبيعتها لم يكن
بوسع أحد أن يحدس بشأنها !
ملأه
الفضول فقرر أن يعرف ما هذا بأي وسيلة .. مد عينيه ولحظ أن هناك بقع أخري في
الحديقة مغطاة بتلك المادة فقرر أمرا .. نادي زوجته وطلب منها برقة أن تحضر له
زجاجة فارغة .. نظرت إليه بدهشة وغيظ وهمت بأن ترميه بعبارات اللوم والتأنيب لكنها
أوقفها سريعا مظهرا أنه لا ينوي أن يسمح لأحد بتعطيل مشاريعه .. استسلمت سريعا فقد
كانت تعرفه عندما يصر على أمر وذهبت لتحضر له بنفسها الزجاجة الفارغة التي يريدها
!
أتت له
بقنينة فارغة فألتقط بعضا من المادة البيضاء التي لها قوام كالكريمة المخفوقة
ووضعها بحذر داخل القنينة الزجاجية .. ملأ نصف الزجاجة بالمادة الغامضة ثم أغلقها
بغطائها البلاستيكي الأحمر ولف حوله قطعة من الشاش لمزيد من التأمين !
وضعها
في الثلاجة أخيرا .. ثم بدأ الجميع ينسون الأمر ويستعدون للذهاب إلي أعمالهم .. بينما
أعدت الأم طفليها للمدرسة وصعدوا جميعا إلي سيارة الأب وخرجوا تاركين المنزل فارغا
.. إلا من الخادمة والكلب الذي لا زال مذعورا يختبئ تحت فراش الطفلين وهو يرتجف
فرقا !
...
في
الظهيرة كانت المدينة كلها قد أخذت علما بما جري في منزل العائلة في الليلة الماضية
.. ورغم أن البعض سخروا مما يحكيه الأب ولقبوه بالسيد " آى تي " ، إلا
أن شهادات بعض الجيران والقاطنين حول منزله دعمت إدعاءاته وبقوة .. قال أحد زملاء
الأب في العمل ، وهو جار له في نفس الوقت ، أنه سمع ضجة كبيرة بالقرب من منزله
الليلة الماضية وشاهد أضواء ساطعة غريبة في السماء ، شاهدها من نافذة حجرته ، لكنه
أعترف أنه خاف وجبن ولم يفكر في الخروج ليري ما هذا .. لكن الأغلبية لا تصدق حرفا
.. ودفاعا عن مصداقيته أخذهم الأب إلي حديقته ليريهم اللطخ التي تركتها المادة
البيضاء الغريبة على حشائش وأعشاب حديقته .. لكنهم ، وعندما استجابوا لدعوة الأب
الحارة المصرة ، وطافوا حول الحديقة وتفقدوها ركنا ركنا لم يجدوا أثرا لما يدعيه
مطلقا .. لم يعلن الأب هزيمته أو يستسلم بسهولة بل دعي جميع المشككين ليريهم
الدليل الأقوى والأكثر إقناعا الذي يملكه .. كتلة المادة الهلامية التي يحتفظ بها
في قنينة في ثلاجة منزله .. وبالفعل ذهب ليحضر العينة الممتازة المحفوظة جيدا .. كانت
القنينة في الثلاجة محفوظة مصونة ، وكان الكل يتوقعون نهاية الفيلم كما اعتادوا ..
سيذهب الآن ليحضر لهم الزجاجة فيجدونها فارغة ، سيسخرون منه طبعا ويغمرونه بتهكمهم
الثقيل ثم يتركونه ويمضون لحال سبيلهم تاركينه يلملم جراحه ، ويأخذ عهدا على نفسه
ألا يختلق قصصا فكاهية تافهة ثانية أبدا .. لكن أحلامهم الشريرة لم تتحقق لأن
المادة الغريبة كانت لا تزال موجودة في مكانها .. لكن ليس كما تركها بالضبط !
عندما
دخل الزوج إلي المطبخ أصابه الذهول مما رأي .. كانت الخادمة هناك لكنها ملقاة على
الأرض فاقدة الوعي ومغطاة برغوة بيضاء أوشكت أن تخفي حتى رأسها وملامح وجهها ..
باب الثلاجة كان مفتوحا وقد انفجرت من ورائه كتلة هائلة من هلام أبيض .. في أحد
الأرفف كانت القنينة الميمونة ، انتفخت وانفجر بطنها وخرجت منها خيوط هائلة سالت
علي بقية الأرفف السفلية ، ثم نزلت لتغطي الأرض .. ومنها امتدت لتفترش أرضية
المطبخ ، وتتسلق ، كنبات متسلق بغيض ، الدولايب والأرفف والمنضدة وأجهزة المطبخ
وتطغي عليها .. لكن هذا لم يكن كل شيء فثمة ثقوب وفتحات وخروق في أرضية المطبخ
وحوائطه في كل مكان .. كانت المادة تحفر لنفسها أنفاقا وطرقا وممرات ليتاح لها أن
تخرج إلي العالم الخارجي .. وتحتله بأكمله !
تعليقات
إرسال تعليق