كانت عشرة أيام قد مرت على خروج "بتول" من الحبس حينما قام "حسين" وأمه وأخوه وزوجة الأخ بزيارة عائلية رسمية إلى بيت خطيبته.. جاءت الحماة المستقبلية بعباءة خروج تركية أنيقة، ولكنها أفسدت مظهرها بمصيبة اقترفتها في حق نفسها - بكامل إرادتها - حين غطت رأسها بطرحة مزينة بكمية مهولة من القطع اللامعة الصغيرة والخرز والترتر، حتى بدت المرأة في النهاية وكأن أحدًا أمسكها من قدميها، وغطس رأسها في بحيرة ترتر.. أما زوجة الأخ الشابة فقد كان مظهرها أكثر عصرية وتناسقًا، رغم أنها أسرفت في وضع البودرة ومساحيق الزينة، وكاد جفناها يسقطان من عظم ما وضعت فوقهما من مسحوق (ظل الجفون) الغامق، الذي أعطى وجهها مظهرًا قاتمًا غير لطيف، وأسبغ على نظرتها غموضًا وعمقًا لا تتمتع بهما في الحقيقة.. أما شقيق "حسين" فقد كان طويلًا نحيفًا كأخيه، يماثله في السمرة، ويشبهه في الملامح والشكل العام للجسم إلى حد بعيد.
فتحت
لهم الأم الباب، إذ جاءوا على غير موعد، ورحبت بهم ترحيبًا حارًا، وقادتهم إلى حجرة
الجلوس النظيفة المرتبة.. ثم هرولت إلى غرفة "بتول" وأيقظتها برفق،
وقالت لها بوجه متهلل:
-
عريسك وأهله جوه.. يلا هيئي نفسك وتعالي سلمي عليهم!
هرشت
البنت شعرها الثائر، وكادت تطرح سؤالًا معينًا.. لكن أمها لم تعطها فرصة، وهرولت
خارجة، بنفس السرعة التي دخلت بها؛ لتعود إلى ضيوفها وتقدم إليهم واجبات الضيافة،
حتى تأتي العروس بعد أن تستعد للقاء عريسها الذي ينتظرها في الخارج..
غسلت
"بتول" وجهها، وبدلت بيجامتها بعباءة منزلية أنيقة جدًا، ثم مشطت شعرها
جيدًا، ووقفت أمام المرآة تضع لمسات من المساحيق على وجهها، قبل أن تلف حجابها،
وتذهب للقاء الناس الذين ينتظرونها.. وضعت طبقة خفيفة من كريم الأساس، أتبعتها
بلمسات من (الكونسيلر)، ثم راحت تفرد قليلًا من بودرة الخدود.. وهي تقوم بذلك
وتتطلع إلى وجهها في المرآة داهمتهما فجأة ذكريات اليومين اللذين قضتهما في ضيافة
حراس الوطن من ضباط وأفراد الشرطة!
أحست
بأنها تنسحب رويدًا رويدًا من العالم الحقيقي المحيط بها الآن، وبدا كل ما حولها
يغيم ويتلاشى من مجال رؤيتها؛ لتحل محله أشياء ومشاهد أخرى جرت منذ أيام قليلة..
لكنها تحس الآن كما لو كان دهر كامل يفصل بينها وبين تلك اللحظات والمشاهد!
...
بينما
كانوا يثرثرون في حجرة الجلوس كانت ثرثرة أخرى تملأ رأس "بتول"، وتأخذ
بعقلها وبسمعها فلا تدعها تسمع أو تدرك شيئًا مما يجري حولها!
فعقب
القبض عليهم، ووضعهم في سيارة الترحيلات، ثم نقلهم إلى قسم الشرطة، وجدوا أنفسهم
في موقف بالغ السوء والقذارة.. تخلى عنهم بعض الداعين للوقفة أساسًا، ولم يظهر لهم أثر في أثناء التظاهرة، ولا بعد فضها،
وحين داهمتهم الشرطة بقضها وقضيضها كانوا يعتقدون أن الناس سوف تتعاطف
معهم، سوف تنضم إليهم وتؤازرهم لكن شيئًا من كل هذا لم يحدث.. لقد جرى القبض
عليهم، بما فيهم البنات، بينما كانت سيارات كثيرة ومارة أكثر يمرون من حول المكان
الذي يتظاهرون فيه، والذي عبق الآن برائحة الغاز المسيل وبأدخنة الهجوم، دون أن
يهتم أحد بتقديم المساعدة لهم، أو بمحاولة كف أيدي رجال الأمن عنهم.. الأخيرين
أنفسهم أحسوا كما لو كانوا يطاردون مجموعة من الفئران الحبيسة في مصيدة، وامتلئوا
إحساسًا بأنهم منتصرون، وأنه لا أحد يقدر لهم على شيء، وانعكس كل ذلك على تعاملهم
مع الأولاد حينما صاروا في قبضتهم.. زجوا بهم أولًا في حجرة ضيقة خانقة، معتمة
بسبب إغلاق جميع نوافذها وبابها الوحيد عليهم من الخارج، وعدم وجود أي وسيلة إضاءة
كهربائية بها.. وبرغم قلة عددهم فإنهم كادوا يختنقون تحت وطأة الزحام وتكدسهم فوق
بعضهم في ذلك الجحر الضيق.. حاول الرجال أن يبدوا شهامتهم، وضغطوا على أنفسهم
متجمعين في ثلثي الحجرة، منضمين على أنفسهم، تاركين الثلث الباقي للفتيات الثلاث..
لم يكن هذا الحل مجديًا، إلا لأقل من نصف ساعة؛ لأن الحجرة ما لبثت أن كُتمت
الأنفاس فيها، مع التلاصق والتزاحم، وسخن هواؤها وفسدت رائحته، وصار من العسير
إيجاد كمية نظيفة صالحة للتنفس من الأكسجين.. بدءوا يشعرون بالاختناق وبحبس
الأنفاس.
تركوهم
على هذا الوضع أربع ساعات متواصلة!
في
النهاية لم يعد الأولاد يتحملون الاختناق والحرارة برغم أنهم في الشتاء أصلًا،
خلع الشباب ستراتهم وأمسكوها متدلية من أذرعهم،
بينما جلست الفتيات الثلاث على الأرض، وأخذن يغازلن الهواء الضنين ويحركنه بأطراف
طرحهن، أو بقطع ثيابهن التي يمكن خلعها والاستغناء عنها، مثل السترات الخارجية، أو
الأوشحة الملتفة حول الرقبة، وأخذن يروحن بها على وجوههن جيئة وذهابًا استجلابًا
لبعض الهواء.. ولكن بعد منتصف الساعة الثالثة أصبح الأمر لا يطاق حقًا، تراكمت
الحرارة وثقلت الأنفاس في الغرفة المكتومة،
وفاحت في الحجرة رائحة غريبة كريهة كرائحة أرز متعفن، محملة بالسخونة، وهبت في
جميع الاتجاهات وصفعت أوجه وأنوف الشباب والبنات.
مرت
بضع دقائق أخرى محملة بالعذاب، السعادة تقاس بالساعات والأيام بل والسنوات، التي
سرعان ما تمضي ثلاثتها وتفر كالهواء الهارب من قمقم طال حبسه فيه.. أما الألم والعذاب فهو يوقف الزمان، ويعطي لكل
دقيقة وثانية قيمتها وقدرها، ويجعل الثانية ثقيلة، والدقيقة مؤلمة، والساعة مرعبة،
واليوم محنة لا تطاق.. ساعاتهم الثلاث مرت محملة بالعذاب، ومما فاقم من عذابهم
أنهم وجدوا أنفسهم معزولين عن العالم من حولهم، لم يسوقهم أحد إلى التحقيق، أو
يدخلهم مكتبًا لينتظروا فيه مسئولًا أو وكيل نيابة، ولم يروا وجه محقق مهما تكن
صفته.. ولم يسألهم أحد، أو يدعوهم لكتابة محضر، أو حتى يحاول إرغامهم على كتابة
اعترافات زائفة، أو التوقيع على أوراق لا يعرفون ما تحتوي بالضبط من مصائب وكوارث
معدة لهم.. إنهم متروكون وحدهم تمامًا.. تُركوا لخيالهم وحدسهم يعذبانهم كيف
شاءوا!
ترى
كيف سيتعاملون معهم؟!
لقد سمعوا الكثير عن قصص التعذيب في الأقسام، تلفيق القضايا، الاختفاء
القسري، المتظاهرين الذين يؤخذون من بيوتهم ثم يبدون وكأنهم تبخروا في الهواء، أو
حتى كأنه لم يكن لهم وجود أبدًا.. كانوا يؤمنون بأنهم في دولة فاجرة، والدولة
الفاجرة تشبه المرأة التي هذا شأنها أيضًا، تملك قدرًا من الوقاحة والبجاحة،
والقدرة على تلفيق أي شيء ببساطة تامة، وهي ترسم ابتسامة طهر وصدق وبراءة على
محياها.. يمكنهم الآن أن يلفقوا لهؤلاء الشباب قائمة تهم تذهب بهم وراء الشمس.. أو
تأتي لهم بالشمس نفسها في زنزانة مظلمة، لا يرون فيها نورًا ولا نهارًا ولا يعرفون
ما إذا كانوا في الليل هم أم في النهار!
الشجاعة لا تُختبر إلا في مواقف الخطر.. الشجاع في
فراشه، يشبه الأمين الذي لا يجد ما يسرقه، والشريفة التي لا تجد من يمنحها قرشًا
مقابل أن يصطحبها إلى شقته.. هؤلاء الفاضلون في قماقمهم المغلقة يجب أن ينتظروا
حتى يتسرب الدخان، ويخرج لهم الجني ملبيًا مطالبهم؛ ليعلموا هل هم أهل فضل فعلًا
أم أهل عجز وقصر يد؟!
وهؤلاء الشباب كانوا شجعانًا، لكنهم لم يجربوا أنفسهم في مواقف تستدعي
الشجاعة من قبل.. سمعوا وشاهدوا وناقشوا وحللوا، وكتبوا على صفحاتهم منشورات ضد
الدولة والنظام، وانضموا لحملات في العالم الافتراضي مطالبين بإطلاق سراح فلان
وفلان، وتكلموا عن الورد الذي تفتح في جناين مصر، وغيروا صورهم الشخصية بصور
معتقلين ومختطفين ومختفين وشهداء.. واجهوا الدولة من ظهرها، الدولة الضعيفة
المفككة التي يهزها منشور، أو صوت يخرج من حنجرة تهتف.. الدولة التي تغرق في شبر
ماء، ويقدم مسئوليها على تصرفات بلهاء تضحك عليهم الثكلى، وطوب الأرض إن كان
للفئتين أن تضحكا.. لكنهم لم يواجهوا الدولة بوجهها حتى الآن.. رأوا الخلفية ولم
يروا الوجه بعد، لا تحكم على إنسان لم ترَ معالم وجهه بعد، ولا تتكلم عن دولة لم
تقف وجهًا لوجه أمام سلطانها النافذ بعد.. الدولة التي فوق، مختلفة عن الدولة التي
تسكن الأقبية وأقسام الشرطة والمعتقلات والسجون السرية وقصور علية القوم الخفية، ووساياهم
المسورة المحجوبة عن أعين العامة.. إنك تستطيع أن تكفر بالإله وتزدريه بل وتسخر
منه وتلعنه في أيامك على الأرض، لكن ما إن يضمك القبر أو تشرق عليك الشمس من الغرب
حتى تصبح بين يديه، ولا يمكنك حينئذ أن تدعي أنك كنت تعرفه حقًا.. ليس هذا هو
الإله الذي كنت تظنه، أو الذي كنت تظن أنه غير موجود، رغم أنك تعرفه جيدًا، إنه
يومه هو بعد أن استنفدت أنت أيامك كلها.. والسلطة في مصر هي صورة مصغرة ليوم
القيامة، النيابة والتحقيق ورجالهم وهيبتهم، السجون والحراس والقيود الحديدية،
غياهب السجن التي لا تستطيع عائلتك كلها، ولو ملأت السماء والأرض، ما لم تكن صاحبة
نفوذ أو مال، أن تستخرجك منه، أو تصل يدها إليك فيه.. السلطة والرهبة والأوجه
المسنة البغيضة، التي يختفي خلفها جيوش من الحرس، وسلطات القبض والمنتفعين
والمستفيدين والآكلين من فتات الموائد والمتنعمين بقشدة الكعكة وزبدتها وسكرها!
لا تدعِ أنك تعرف دولة لم تخضع للتحقيق فيها ولم تقضِ في سجونها يومًا
واحدًا!
وهذه هي الدولة التي لم يكن هؤلاء الشباب يعرفون عنها شيئًا، نعم سمعوا
ورأوا وقيل لهم، وحُكي أمامهم الكثير.. لكنهم لم يخوضوا التجربة المباشرة معها
بعد.. وهذا يعني شيئًا واحدًا.. أن معرفتهم بالدولة التي خرجوا يهتفون ضد قراراتها
وخبرتهم بها تساوي صفرًا!
ومعرفتهم بما هو قادم ليلاقيهم الآن كانت تساوي صفرًا أيضًا؛ لذلك ارتجفوا
جميعًا حينما سمعوا صوت الباب وهو يُفتح عليهم.. ونهضوا كلهم ليواجهوا ما يتحتم
عليهم أن يواجهوه.. والغريب أنهم لم يشعروا بلحظة فرح واحدة لشعورهم بتسرب الهواء
إلى محبسهم أخيرًا، وكون الهواء الفاسد المكتوم ذو الرائحة الكريهة ينزاح إلى
الخارج.. وقد بدءوا يأخذون أنفاسهم بحرية من جديد!
...
ارتجف بدن "بتول" حينما وصلت إلى تلك النقطة وتلك الذكرى
الموجعة.. أن تخشى الهواء والنور بينما أنت في قبضة الظلام؛ لأن النور ربما يحمل
إليك أخطارًا أعظم وأكثر جسامة.. ولكن لم يكن وقع الذكرى هو سبب ارتجاف بدنها،
واستيلاء الرعشة عليها، بل لأنها أحست بلمسة مفاجئة على عاتقها، فانتبهت منتفضة،
ثم التفتت خلفها بسرعة خاطفة لتجد أمها تستعرض تفاصيل وجهها المرسومة بمساحيق
التجميل بدقة ثم تقول لها بقلق:
- في إيه يا بنتي؟! الناس منتظرينك بقالهم نص ساعة.. عيب كده!
تطلعت الفتاة حولها في قلق وشعور بالدهشة، ثم خرج صوتها مبحوحًا قائلة:
- يلا بينا.. أنا خلصت خلاص!
لكن الأم لاحظت أن شفتي ابنتها عاريتين من الطلاء، فقالت لها آمرة بلطف:
- لأ..
استني!
ثم تناولت قلم روج سائل فاتح اللون، واقتربت من ابنتها تمامًا.. وراحت تفرد
اللون المبهج على شفتيها.. تركت البنت نفسها لأمها تمامًا بينما كانت أفكارها
شاردة بعيدًا عن كل ما يجري حولها الآن.. بعيدًا جدًا!
تعليقات
إرسال تعليق