التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بتول : ماذا فعلوا بالشمس ( رواية مسلسلة ) الحلقة التاسعة


 كانت عشرة أيام قد مرت على خروج "بتول" من الحبس حينما قام "حسين" وأمه وأخوه وزوجة الأخ بزيارة عائلية رسمية إلى بيت خطيبته.. جاءت الحماة المستقبلية بعباءة خروج تركية أنيقة، ولكنها أفسدت مظهرها بمصيبة اقترفتها في حق نفسها - بكامل إرادتها - حين غطت رأسها بطرحة مزينة بكمية مهولة من القطع اللامعة الصغيرة والخرز والترتر، حتى بدت المرأة في النهاية وكأن أحدًا أمسكها من قدميها، وغطس رأسها في بحيرة ترتر.. أما زوجة الأخ الشابة فقد كان مظهرها أكثر عصرية وتناسقًا، رغم أنها أسرفت في وضع البودرة ومساحيق الزينة، وكاد جفناها يسقطان من عظم ما وضعت فوقهما من مسحوق (ظل الجفون) الغامق، الذي أعطى وجهها مظهرًا قاتمًا غير لطيف، وأسبغ على نظرتها غموضًا وعمقًا لا تتمتع بهما في الحقيقة.. أما شقيق "حسين" فقد كان طويلًا نحيفًا كأخيه، يماثله في السمرة، ويشبهه في الملامح والشكل العام للجسم إلى حد بعيد.

فتحت لهم الأم الباب، إذ جاءوا على غير موعد، ورحبت بهم ترحيبًا حارًا، وقادتهم إلى حجرة الجلوس النظيفة المرتبة.. ثم هرولت إلى غرفة "بتول" وأيقظتها برفق، وقالت لها بوجه متهلل:

- عريسك وأهله جوه.. يلا هيئي نفسك وتعالي سلمي عليهم!

هرشت البنت شعرها الثائر، وكادت تطرح سؤالًا معينًا.. لكن أمها لم تعطها فرصة، وهرولت خارجة، بنفس السرعة التي دخلت بها؛ لتعود إلى ضيوفها وتقدم إليهم واجبات الضيافة، حتى تأتي العروس بعد أن تستعد للقاء عريسها الذي ينتظرها في الخارج..

غسلت "بتول" وجهها، وبدلت بيجامتها بعباءة منزلية أنيقة جدًا، ثم مشطت شعرها جيدًا، ووقفت أمام المرآة تضع لمسات من المساحيق على وجهها، قبل أن تلف حجابها، وتذهب للقاء الناس الذين ينتظرونها.. وضعت طبقة خفيفة من كريم الأساس، أتبعتها بلمسات من (الكونسيلر)، ثم راحت تفرد قليلًا من بودرة الخدود.. وهي تقوم بذلك وتتطلع إلى وجهها في المرآة داهمتهما فجأة ذكريات اليومين اللذين قضتهما في ضيافة حراس الوطن من ضباط وأفراد الشرطة!

أحست بأنها تنسحب رويدًا رويدًا من العالم الحقيقي المحيط بها الآن، وبدا كل ما حولها يغيم ويتلاشى من مجال رؤيتها؛ لتحل محله أشياء ومشاهد أخرى جرت منذ أيام قليلة.. لكنها تحس الآن كما لو كان دهر كامل يفصل بينها وبين تلك اللحظات والمشاهد!

...

بينما كانوا يثرثرون في حجرة الجلوس كانت ثرثرة أخرى تملأ رأس "بتول"، وتأخذ بعقلها وبسمعها فلا تدعها تسمع أو تدرك شيئًا مما يجري حولها!

فعقب القبض عليهم، ووضعهم في سيارة الترحيلات، ثم نقلهم إلى قسم الشرطة، وجدوا أنفسهم في موقف بالغ السوء والقذارة.. تخلى عنهم بعض الداعين للوقفة أساسًا، ولم يظهر لهم أثر في أثناء التظاهرة، ولا بعد فضها، وحين داهمتهم الشرطة بقضها وقضيضها كانوا يعتقدون أن الناس سوف تتعاطف معهم، سوف تنضم إليهم وتؤازرهم لكن شيئًا من كل هذا لم يحدث.. لقد جرى القبض عليهم، بما فيهم البنات، بينما كانت سيارات كثيرة ومارة أكثر يمرون من حول المكان الذي يتظاهرون فيه، والذي عبق الآن برائحة الغاز المسيل وبأدخنة الهجوم، دون أن يهتم أحد بتقديم المساعدة لهم، أو بمحاولة كف أيدي رجال الأمن عنهم.. الأخيرين أنفسهم أحسوا كما لو كانوا يطاردون مجموعة من الفئران الحبيسة في مصيدة، وامتلئوا إحساسًا بأنهم منتصرون، وأنه لا أحد يقدر لهم على شيء، وانعكس كل ذلك على تعاملهم مع الأولاد حينما صاروا في قبضتهم.. زجوا بهم أولًا في حجرة ضيقة خانقة، معتمة بسبب إغلاق جميع نوافذها وبابها الوحيد عليهم من الخارج، وعدم وجود أي وسيلة إضاءة كهربائية بها.. وبرغم قلة عددهم فإنهم كادوا يختنقون تحت وطأة الزحام وتكدسهم فوق بعضهم في ذلك الجحر الضيق.. حاول الرجال أن يبدوا شهامتهم، وضغطوا على أنفسهم متجمعين في ثلثي الحجرة، منضمين على أنفسهم، تاركين الثلث الباقي للفتيات الثلاث.. لم يكن هذا الحل مجديًا، إلا لأقل من نصف ساعة؛ لأن الحجرة ما لبثت أن كُتمت الأنفاس فيها، مع التلاصق والتزاحم، وسخن هواؤها وفسدت رائحته، وصار من العسير إيجاد كمية نظيفة صالحة للتنفس من الأكسجين.. بدءوا يشعرون بالاختناق وبحبس الأنفاس.

تركوهم على هذا الوضع أربع ساعات متواصلة!

في النهاية لم يعد الأولاد يتحملون الاختناق والحرارة برغم أنهم في الشتاء أصلًا،

 خلع الشباب ستراتهم وأمسكوها متدلية من أذرعهم، بينما جلست الفتيات الثلاث على الأرض، وأخذن يغازلن الهواء الضنين ويحركنه بأطراف طرحهن، أو بقطع ثيابهن التي يمكن خلعها والاستغناء عنها، مثل السترات الخارجية، أو الأوشحة الملتفة حول الرقبة، وأخذن يروحن بها على وجوههن جيئة وذهابًا استجلابًا لبعض الهواء.. ولكن بعد منتصف الساعة الثالثة أصبح الأمر لا يطاق حقًا، تراكمت الحرارة  وثقلت الأنفاس في الغرفة المكتومة، وفاحت في الحجرة رائحة غريبة كريهة كرائحة أرز متعفن، محملة بالسخونة، وهبت في جميع الاتجاهات وصفعت أوجه وأنوف الشباب والبنات.

مرت بضع دقائق أخرى محملة بالعذاب، السعادة تقاس بالساعات والأيام بل والسنوات، التي سرعان ما تمضي ثلاثتها وتفر كالهواء الهارب من قمقم طال حبسه فيه.. أما الألم والعذاب فهو يوقف الزمان، ويعطي لكل دقيقة وثانية قيمتها وقدرها، ويجعل الثانية ثقيلة، والدقيقة مؤلمة، والساعة مرعبة، واليوم محنة لا تطاق.. ساعاتهم الثلاث مرت محملة بالعذاب، ومما فاقم من عذابهم أنهم وجدوا أنفسهم معزولين عن العالم من حولهم، لم يسوقهم أحد إلى التحقيق، أو يدخلهم مكتبًا لينتظروا فيه مسئولًا أو وكيل نيابة، ولم يروا وجه محقق مهما تكن صفته.. ولم يسألهم أحد، أو يدعوهم لكتابة محضر، أو حتى يحاول إرغامهم على كتابة اعترافات زائفة، أو التوقيع على أوراق لا يعرفون ما تحتوي بالضبط من مصائب وكوارث معدة لهم.. إنهم متروكون وحدهم تمامًا.. تُركوا لخيالهم وحدسهم يعذبانهم كيف شاءوا!

ترى كيف سيتعاملون معهم؟!

لقد سمعوا الكثير عن قصص التعذيب في الأقسام، تلفيق القضايا، الاختفاء القسري، المتظاهرين الذين يؤخذون من بيوتهم ثم يبدون وكأنهم تبخروا في الهواء، أو حتى كأنه لم يكن لهم وجود أبدًا.. كانوا يؤمنون بأنهم في دولة فاجرة، والدولة الفاجرة تشبه المرأة التي هذا شأنها أيضًا، تملك قدرًا من الوقاحة والبجاحة، والقدرة على تلفيق أي شيء ببساطة تامة، وهي ترسم ابتسامة طهر وصدق وبراءة على محياها.. يمكنهم الآن أن يلفقوا لهؤلاء الشباب قائمة تهم تذهب بهم وراء الشمس.. أو تأتي لهم بالشمس نفسها في زنزانة مظلمة، لا يرون فيها نورًا ولا نهارًا ولا يعرفون ما إذا كانوا في الليل هم أم في النهار!

الشجاعة لا تُختبر إلا في مواقف الخطر.. الشجاع في فراشه، يشبه الأمين الذي لا يجد ما يسرقه، والشريفة التي لا تجد من يمنحها قرشًا مقابل أن يصطحبها إلى شقته.. هؤلاء الفاضلون في قماقمهم المغلقة يجب أن ينتظروا حتى يتسرب الدخان، ويخرج لهم الجني ملبيًا مطالبهم؛ ليعلموا هل هم أهل فضل فعلًا أم أهل عجز وقصر يد؟!

وهؤلاء الشباب كانوا شجعانًا، لكنهم لم يجربوا أنفسهم في مواقف تستدعي الشجاعة من قبل.. سمعوا وشاهدوا وناقشوا وحللوا، وكتبوا على صفحاتهم منشورات ضد الدولة والنظام، وانضموا لحملات في العالم الافتراضي مطالبين بإطلاق سراح فلان وفلان، وتكلموا عن الورد الذي تفتح في جناين مصر، وغيروا صورهم الشخصية بصور معتقلين ومختطفين ومختفين وشهداء.. واجهوا الدولة من ظهرها، الدولة الضعيفة المفككة التي يهزها منشور، أو صوت يخرج من حنجرة تهتف.. الدولة التي تغرق في شبر ماء، ويقدم مسئوليها على تصرفات بلهاء تضحك عليهم الثكلى، وطوب الأرض إن كان للفئتين أن تضحكا.. لكنهم لم يواجهوا الدولة بوجهها حتى الآن.. رأوا الخلفية ولم يروا الوجه بعد، لا تحكم على إنسان لم ترَ معالم وجهه بعد، ولا تتكلم عن دولة لم تقف وجهًا لوجه أمام سلطانها النافذ بعد.. الدولة التي فوق، مختلفة عن الدولة التي تسكن الأقبية وأقسام الشرطة والمعتقلات والسجون السرية وقصور علية القوم الخفية، ووساياهم المسورة المحجوبة عن أعين العامة.. إنك تستطيع أن تكفر بالإله وتزدريه بل وتسخر منه وتلعنه في أيامك على الأرض، لكن ما إن يضمك القبر أو تشرق عليك الشمس من الغرب حتى تصبح بين يديه، ولا يمكنك حينئذ أن تدعي أنك كنت تعرفه حقًا.. ليس هذا هو الإله الذي كنت تظنه، أو الذي كنت تظن أنه غير موجود، رغم أنك تعرفه جيدًا، إنه يومه هو بعد أن استنفدت أنت أيامك كلها.. والسلطة في مصر هي صورة مصغرة ليوم القيامة، النيابة والتحقيق ورجالهم وهيبتهم، السجون والحراس والقيود الحديدية، غياهب السجن التي لا تستطيع عائلتك كلها، ولو ملأت السماء والأرض، ما لم تكن صاحبة نفوذ أو مال، أن تستخرجك منه، أو تصل يدها إليك فيه.. السلطة والرهبة والأوجه المسنة البغيضة، التي يختفي خلفها جيوش من الحرس، وسلطات القبض والمنتفعين والمستفيدين والآكلين من فتات الموائد والمتنعمين بقشدة الكعكة وزبدتها وسكرها!

لا تدعِ أنك تعرف دولة لم تخضع للتحقيق فيها ولم تقضِ في سجونها يومًا واحدًا!

وهذه هي الدولة التي لم يكن هؤلاء الشباب يعرفون عنها شيئًا، نعم سمعوا ورأوا وقيل لهم، وحُكي أمامهم الكثير.. لكنهم لم يخوضوا التجربة المباشرة معها بعد.. وهذا يعني شيئًا واحدًا.. أن معرفتهم بالدولة التي خرجوا يهتفون ضد قراراتها وخبرتهم بها تساوي صفرًا!

ومعرفتهم بما هو قادم ليلاقيهم الآن كانت تساوي صفرًا أيضًا؛ لذلك ارتجفوا جميعًا حينما سمعوا صوت الباب وهو يُفتح عليهم.. ونهضوا كلهم ليواجهوا ما يتحتم عليهم أن يواجهوه.. والغريب أنهم لم يشعروا بلحظة فرح واحدة لشعورهم بتسرب الهواء إلى محبسهم أخيرًا، وكون الهواء الفاسد المكتوم ذو الرائحة الكريهة ينزاح إلى الخارج.. وقد بدءوا يأخذون أنفاسهم بحرية من جديد!

...

ارتجف بدن "بتول" حينما وصلت إلى تلك النقطة وتلك الذكرى الموجعة.. أن تخشى الهواء والنور بينما أنت في قبضة الظلام؛ لأن النور ربما يحمل إليك أخطارًا أعظم وأكثر جسامة.. ولكن لم يكن وقع الذكرى هو سبب ارتجاف بدنها، واستيلاء الرعشة عليها، بل لأنها أحست بلمسة مفاجئة على عاتقها، فانتبهت منتفضة، ثم التفتت خلفها بسرعة خاطفة لتجد أمها تستعرض تفاصيل وجهها المرسومة بمساحيق التجميل بدقة ثم تقول لها بقلق:

- في إيه يا بنتي؟! الناس منتظرينك بقالهم نص ساعة.. عيب كده!

تطلعت الفتاة حولها في قلق وشعور بالدهشة، ثم خرج صوتها مبحوحًا قائلة:

- يلا بينا.. أنا خلصت خلاص!

لكن الأم لاحظت أن شفتي ابنتها عاريتين من الطلاء، فقالت لها آمرة بلطف:

- لأ.. استني!

ثم تناولت قلم روج سائل فاتح اللون، واقتربت من ابنتها تمامًا.. وراحت تفرد اللون المبهج على شفتيها.. تركت البنت نفسها لأمها تمامًا بينما كانت أفكارها شاردة بعيدًا عن كل ما يجري حولها الآن.. بعيدًا جدًا!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...