لم تبقَ دقيقة واحدة في الخارج بعد رحيل
"حسين".
دخلت غرفتها، وأغلقت بابها على نفسها، رغبة
عارمة في أن تكون وحدها وألا ترى أحدًا، أو تسمع تنظيرات وتبريرات فارغة من أي
أحد.. كان الأبوان في حالة شبيهة بحالتها، لكنهما وجدا أنفسهما مسئولين عن حل تلك
المشكلة العويصة الدقيقة، مشكلة زواج ابنتهما الذي يبدو أنه لن يتم على خير.. أو لن يتم أبدًا!
كانت
الأم بالذات تدرك حالة ابنتها في تلك اللحظة، فلم تلح عليها كثيرًا في دعوتها
للعشاء، العشاء الذي أُعِد من أجل أن يأكلوه مع عريس ابنتهم، الذي جاء وألقى عليهم
عرضًا في صورة إنذار وتحذير.. إن عرضه مرفوض جملة وتفصيلًا!
كيف
يأتمن الأبوان "حسين" على "بتول" في عصمته، وهي في وسط معادٍ
وكاره لها، إنهما متأكدان أن الأم هي العقبة الكبرى في سبيل إتمام كل شيء، يدركان
هذا، ويشاركنها في جزء من رأيها، لكن ما يمنعهما من شد السلخ على العروس، وإجبارها
على إهانة نفسها، وجرح كرامتها من أجل أن تثبت لهما أنها لا تزال بريئة طاهرة، هو
كونها ابنتهما فحسب.. لو كان الوضع مقلوبًا لتغيرت نظرتهما وتغير رأيهما تغيرًا
تامًا، كانا سيجدان الأم على حق تمامًا فيما تطالب به فقط لو كان العريس ابنهما
والعروس ابنة غيرهم!
لكن
لم يكن من الوارد أن يصارحا البنت بمثل تلك الخواطر، أو أن يشددا عليها ويحاولا
إجبارها أكثر من ذلك.. سوف تهتز صورتهم وصورة ابنتهم في عيني عريسها، وسيركب
مذلتها إذا تزوجها.. فمن يهينها أبويها هل سيكرمها زوجها؟!
تركاها
وجلسا إلى المائدة يتبادلان النظر ولا يأكلان شيئًا، أما الولدان اللذان أُجبرا
على البقاء حتى الآن بدون عشاء، فقد أكبا على الطعام غير مبالين بأي شيء، ظل الأب
جالسًا على طرف المائدة، وطبقه من الأرز وقطعة كبيرة من اللحم، ونصف دجاجة، موضوع
أمامه مهجورًا وحيدًا.. لم يمس الأب طعامه ولم تفعل الأم، ظلا جالسين شاردين،
والهم يكسو ملامحهما، بينما يأكل الأولاد ويتلمظون، ويمضغون طعامهم باستمتاع
شديد.. مضت دقائق حتى نفد صبر الأب، ولم يعد يجد على التفكير بقية طاقة، فهب
واقفًا وقد تحول وجهه إلى اللون الرمادي.. وألقى فوطة المائدة من يده، فسقطت فوق
الطبق المكدس بالطعام، وأدت إلى تناثر الأرز المفلفل في دائرة غير محكمة حول
الطبق.. قال بسخط وغيط وهو يبتعد متجهًا إلى غرفته:
-
الله يقطع البنات وخلفة البنات!
رمقته
الأم وفي عينيها حزن وعذاب، لا يمكن سوى للصمت الكامل أن يعبر عنهما،
بدورها
نهضت الأم تاركة أولادها يأكلون بنهم، ومشت نحو غرفة "بتول"، فقد قررت أن
تتحدث إليها بحزم وتحسم الأمر معها الليلة.. كانت غرفة الفتاة مضاءة، ولكن لم يكن
يصدر من داخلها صوت مميز، لم تكن متأكدة ما إذا كانت ابنتها مستيقظة أو نائمة، لكنها استبعدت أن
تكون قد واتتها القدرة على النوم، بعد كل ما جرى أمامها الليلة.. مشت بضع خطوات
نحو الغرفة المغلق بابها، لكنها فيما يبدو غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة، وبدلت خط
سيرها لتأخذ منحنى يوصلها إلى باب غرفتها هي وزوجها.. دخلت حجرتها وأغلقت خلفها
الباب بحرص وهدوء!
...
أما
"بتول" فقد كانت مستيقظة تمامًا في حجرتها، لم يخاصمها النوم، فلم تطلبه
عيناها أصلًا بعد، كانت في أشد حالاتها يقظة، وعقلها صاف رائق كالبللور.. كانت
تفكر بمنطقية وقد قررت أن تكون فتاة عملية، تفكر وتقرر بعقلها لا بقلبها، بنقاط
قوتها لا بنقطة ضعفها!
من
الواضح أن زواجها من "حسين" لن يتم، أو على الأقل لم يتم بهدوء، ولن
ترتدي ملابس العرس، وتسمع الزغاريد، وترقص في ليلتها بين أحضان عريسها، وتتلقى
التهاني والزهور بلا مشاكل، فهي محاطة الآن بالكراهية وبسوء الظن، من جانب والدة
خطيبها على الأقل، إن المرأة تكرهها، أو بدأت تكرهها، بسبب واقعة اعتقالها،
واحتجازها لمدة يومين من سلطات الأمن بعد مظاهرة النقابة الشهيرة.. العجيب أن
المرأة تكرهها، ولا تريدها زوجة لولدها؛ لأنها تعتقد أن البنت تعرضت لاعتداء وهي
في السجن، وأنها لم تعد (فتاة)، لم تعد عذراء، ولهذا لا تريدها زوجة لابنها.. مع
أن الأمر يخصها هي- "بتول"- ويخص من سيصبح زوجها ولا يخص أمه في شيء!
ما
شأن أمه بذلك الأمر؟!
ولماذا يصر الجميع على رغبتهم في التأكد من أنها
لم تتعرض لاعتداء من هذا النوع في السجن.. هل كان شيء كهذا يمكن أن يحدث؟!
لقد
سمعت طوال حياتها عن مئات من حالات الاغتصاب وهتك العرض.. لكنها- بينها وبين
نفسها- لم تكن تصدق أن شيئًا كهذا ممكن الحدوث!
إنها
تتخيل أن تلك الأمور لا تحدث، إلا بين اثنين يحبان بعضهما، يرغبان ببعضهما، اثنان
يربطهما رابط شرعي وقانوني، يجعل من نداء الطبيعة شيئًا نظيفًا راقيًا، بل وربما
ساميًا أيضًا.. لكن بتلك الطرق التي تسمع والتي تقرأ عنها؟!
يستحيل
أن تقدر على تخيل شيء كهذا!
وفي
تلك اللحظة عادت إليها ذكرى جريمة الاغتصاب، التي تكتب عنها في تحقيقها الموسع،
الطفلة التي اعتدى عليها رجل في سن أبيها، وربما أكبر منه سنًا، ما الذي دعاه لفعل
شيء كهذا.. أي شيء أثاره وحرك غرائزه في طفلة لا تحمل من سمات الأنوثة إلا الاسم،
وربما قليل من الشعر الطويل الذي يغطي مؤخرة عنقها؟!
كيف
تحدث تلك الأمور وكيف يتخيل أحد أن تتم؟!
عقلها
رافض تمامًا لتصور الأمر، وخيالها محجم حتى عن محاولة التخيل.. أخرجت صورة المحضر
التي حصلت عليها، وبدأت تجري عيناها على السطور المسودة، المصورة من ورقة مكتوبة
بخط شديد القبح والرداءة، كانت الطفلة الضحية تحكي في تلك السطور مأساتها، تحكي
ببراءة ردًا على أسئلة، ربما كانت لا تفهم مغزى تسعين بالمائة منها.. تحكي وتحكي،
ووعي "بتول" يتابعها بتركيز ودهشة، وقد بدأت طبقات من الضباب الكثيف
تنزاح من أمام عينيها.. وعقلها يستعيد مشاهد وصورًا، لا تعرف ما إذا كانت من وحي
الحقيقة الكامنة المخبئة جيدًا في وعيها.. أم هي بسبب تأثرها الشديد بما سمعته،
بعينيها، من فم الطفلة المنتهكة المسكينة!
...
فتحت
عينيها لتجد ظلامًا شاملًا مطبقًا حولها!
كان ظلام بكر كثيفًا، طبقات فوق بعضها كالزبد،
تحس معه وكأن كل الأضواء عاجزة عن كشطه، أو اختراقه أو تقليل كثافته.. ظلام بدائي
ثقيل متوحش، كان مثله يخيم على الأرض قبل أن يرف النور على الماء وتبدأ رحلة الخلق
والحياة، ويبدو أن العالم قد خرب وأقفر مرة أخرى؛ لأن هذا الظلام الوحشي قد عاد
يفرض سلطانه عليه من جديد!
كانت
العينان تقفلان وتفتحان على فترات، يغلفهما الألم والشعور بوجع حبيس بعيدًا في
مركز الإبصار، الذي انطفأ نوره وأسدلت ستائره الآن، الصمت شارك في المؤامرة بحيث
بدا العالم خاويًا خربًا خاليًا من كل شيء، ومن أي شكل من أشكال الحياة.. مدت يدين
واهنتين وتحسست وجهها، دهشت لأنه لا زال هناك، وتعاظمت الدهشة أكثر حين نزلت
اليدين لتجد الرقبة والصدر والجزع، وتهبط أكثر لتتحسس الساقين المضمومين الملتفتين
حول بعضهما البعض.. كان الجسد سليمًا، لكن خواءً وفراغًا مخيفًا يحيط به من كل
جانب، همت بالصراخ لكنها خشيت أن توقظ الأشباح التي لابد أنها تختفي، وتكمن لها في
زوايا هذا الظلام المتوحش، وتنبهها من سباتها فتأتي لتغرس أنيابها في لحمها، وتخدش
جلدها بأظافرها.. التهب الألم في يديها ورقبتها وأعالي ساقيها في تلك اللحظة..
إنها تتذكر الآن!
ذاكرتها
بدأت تعود.. ضرب.. ضرب عنيف!
أحست
بذعر هائل مفاجئ، فمدت يديها تتحسس ما حولها، ضربت يديها فيما حولها، فوجدت فراغًا
متكاثفًا ثقيلًا وقحًا يجثم حولها.. إنها تعرف للمرة الأولى أن للفراغ وزنًا
وثقلًا وكثافة، مثلما يعرف خبراء الصمت أن للسكون المطبق صوت ضجيج مدوٍ يصم
الآذان، كما جرب السائرون في الظلمة نور الظلام وكشفه العميق وانبهار وضوحه!
خيالات
وشر كامن يحيط بها.. لكن يدها اصطدمت بجسم الآن!
جسم
لين ممدد بالقرب من يدها، إذا مدتها بأقصى امتداد لها، جسد ملتوٍ على نفسه وساكن
وغارق في الظلام.
أهو
جسد ميت تفوح منه نتانة الموت ورهبته، أم جسد حي محمل بشر الحياة وقسوتها، وفرحتها
التي لا تلبث أن تتحول إلى حزن مقيم لا يستطيع شيء أن يزحزحه!
إنها
تشعر كما لو أنها ألقيت خارج الزمان والمكان، في عالم مظلم مليء بأشياء ملقاة على
الأرض، ولا وجود فيه لنور أو لتقويم أو لشهور أو لسنين!
عالم
بلا مقاييس ولا مسطرة تصلح لقياس شيء فيه، مدت يدًا مترددة لتلامس الجسد الممدد
المنطوي على نفسه بقربها، انطلق صوت شهيق متألم فجأة، فأفزعها وروعها حقًا.. وجدت
نفسها تجيب عليه بشهيق مماثل، وتحبس أنفاسها وتنتظر أن يفرخ الظلام نورًا كاشفًا،
أو يسفر الجسد الممدد عن نفسه ويفصح عن شخصيته:
-
بتول، بتول.. أنتِ فين؟!
سمعت
صوتًا ينادي اسمًا.. فلم تعرف صاحب الصوت ولم تعرف لمن الاسم!
كان
كل شيء مشوشًا حولها، نوم ثقيل يغشي رأسها، تقابله يقظة صافية كماء مقطر، حالتين
يصطرعان في رأسها.. لكنها لم تعرف بعد من يتكلم ومن المخاطب!
دارت
رأسها وعادت عيناها تؤلمانها، شاع ألم وانتشر في حواسها، للجسد ألم وللحواس ألم
خاص بها، يشملها كلها معًا في نفس اللحظة، أحست أن كل حواسها تتداعى وتدعو لنفسها بالسهر والحمى، والوجع
الذي لا شفاء منه.. من أين يأتي هذا الوجع الرهيب، وأين يدخر الجسد البشري تلك
القدرة الرهيبة على الشعور بالألم، وحبسه واستدعائه عند الضرورة والحاجة؟!
تفشى
الألم في أوصالها، فوجدت نفسها تكتم صرختها قبل أن تصدر وتجلجل في الكون، لكن
الظلام البكر بدأ يخالط الموجودات ويختلط معها، ويمنحها شيئًا من غموضه ورهبته،
بينما أعطته هي قدرًا من وضوحها وحقيقة وجودها.. إن ثمة خيط من الضوء تسلل إلى
المكان المقفر الآن!
إنه
ليس كونًا خاويًا خاليًا أجدب، إنه غرفة صغيرة قذرة، خانقة مكتومة حارة الأنفاس،
تتمدد عليها أشياء ملقاة تئن وتتوجع وتتلوى ألمًا، لم تستطع أن تسعد باكتشافها، أو
أن تلم بباقي تفاصيل الكون المصغر الذي عثرت عليه للتو.. فقد اندفع نور وحشي
متطرف، أكثر وحشية وتطرفًا من الظلام البكر، اندفع ليغمر الكون الصغير، ويجعل
تكويناته تتضح للحظة في لحظة كشف مبهرة، قبل أن تدلف أقدام ثقيلة قاسية، وتسير على
أرضية الكون الصغير.. ثم انحنى وجه غليظ له شوارب ضخمة كثيفة على وجهها، وأحست بأنفاس
حارة كريهة الرائحة تطفح في وجهها، وتكاد تصيبها بالمرض والاشمئزاز.. صدر صوت غليظ
يقول بقسوة:
-
تعالي أنتِ!
ثم
أحست بيد ثقيلة توضع على منكبها، وتسحبها سحبًا على الأرضية الناعمة القذرة، نهض جسد ممدد على الأرض وأخذ صوت ضعيف يصرخ:
-
بتول.. بتول!
لكن
خلال لحظة اختفت "بتول" خارج الغرفة.. وأغلق الباب دونها!
...
فتحت
عينين مثقلتين متألمتين، فغمرهما ألم إضافي، وانطلق شعاع مؤذٍ من الضوء ليخترق
عينيها، رفعت يديها لتحمي العينين المكدودتين المتألمتين.. ثم أدارت جانبًا
موجوعًا وظهرًا متألمًا.. ذهبت إلى الناحية الأخرى تبحث عن ملجأ طيب وعشب أكثر
لينًا وطراوة!
...
جرجروها
آخذين إياها إلى كون آخر، أكثر ظلمة وشراسة ووحشية، كان الكون الجديد مضاء، لكنه
مضاء بأكثر الأنوار وحشية، وحمرة وشرًا وإثارة للرعب.. كان شخص واحد الذي يظهر في
مجال رؤية عينيها، لكنها كانت تشعر بأيدي كثيرة تجرها وتتقاذفها وتتبادلها، لم
يشفقوا عليها ولم يرفعوها عن الأرض، استمروا في جرجرتها وسحبها فوق الأرض.. في
الكون الجديد انبثق النور الشرير في وجهها، نور أحمر بغيض كنور مصابيح الكيروسين
الخانقة، فأغمضت عينيها متلافية الألم.. لكنهم لم يمهلوها، بل أحست بأيدي كثيرة
تخدشها وتمزقها، وتجرها ناحيتها وتتصارع عليها!
فتحت
عينيها مجبرة لتجد حولها رجالًا بملابسهم الداخلية، يحيطون بها ويتقاذفونها،
وينهشون لحمها ويمزقونه بينهم، ويوزعونه على بعضهم.. خرج صراخها عنيفًا متوسلًا
حارقًا شرسًا متوحشًا، رفعت يديها تقاوم، لكنهم ضربوها ثم ألقوها أرضًا مرة أخرى..
أحست بأجساد ثقيلة قوية كاتمة للأنفاس تجثم فوقها، وتكاد توقف تنفسها، صرخت لآخر
مرة، قبل أن يهوي شيء ثقيل فوق وجهها، وبدأت الأيدي تنهشها وتمزقها، وأحست بسكاكين
حادة تمتد إلى كل جزء من جسدها.. وواصل الرجال نهشها.. وصارت ملابسها كومة من
الخرق تحيط بها.. ملوثة بدمها ومبقعة بصراخها وبدموعها!
تعليقات
إرسال تعليق