لكن الأب لم يرضَ ولم يستسلم بتلك السهولة!
افتعل مشاجرة حادة مع ابنته، حين عاد من عمله
وعلم بما فعلته، ورفع صوته عليها وكاد يضربها، وهو يصرخ فيها بغضب محمر الوجه،
حجزت الأم بين زوجها وابنتها، ومنعت "بتول" من الرد بعنف على أبيها،
كحالها كلما فقدت أعصابها أو تعرضت لضغط شديد.. دخلت البنت غرفتها أخيرًا، بعد
شجار من جانب واحد، دام نصف ساعة تقريبًا، يلحق بها تهديد من أبيها بألا يسمح لها
بالخروج ثانية من المنزل وحتى تتزوج وتنتقل لبيت زوجها!
وبمجرد
أن صارت وحدها حتى كان "حسين" يتصل بها لسوء حظه.. كلمته بنفاد صبر ولكن
بتهذيب حتى قال لها بأسلوب حذر:
-
أنا كلمت ماما وهنيجي نتفق مع بابا النهاردة على كل حاجة..
قطع
كلامه ثم صمت لفترة، وسمعت "بتول" صوت تنفسه الثقيل من الناحية الأخرى
يشي بتوتره وقلقه الزائدين، استأنف كلامه أخيرًا، وهو يقول بصوت مستدرج معسول:
-
بصي هقولك حاجة يا "بتول" بس أرجوكِ تفهميني ومتزعليش، بصي يا حبيبتي
أنتِ عارفة غلاوتك عندي، وقد إيه أنا بحبك.. إحنا خلاص هنتمم الجواز وهنبقى مع بعض
على طول، ماما موافقة وأنا أقنعتها خلاص.. بس معلش هي عايزة تطمن يعني قبل ما نتجوز..
قاطعته
الفتاة وقد بدأت أعصابها تشتعل بالرغم منها قائلة:
-
تطمن على إيه إن شاء الله؟!
رد
"حسين" وهو ينتقي كلامه بعناية، ويحاول أن يبدو صادقًا، بالرغم من أن
رنة صوته أعلمت "بتول" بسهولة أنه يكذب عليها، ويحاول أن يخدعها:
-
ولا حاجة بس أنتِ عارفة الناس دلوقتي بتكشف قبل الجواز، وتطمن إنها تقدر تخلف
وكده.. ماما عايزة تعملك تحليل وبتاع وتاخدك لدكتور نسا عشان نطمن على نفسنا بعد
الجواز.. على الخلفة يعني!
سألته
"بتول" بعنف:
-
وإذا طلعت مبخلفش هتسيبني؟!
أجاب
خطيبها فورًا مرددًا:
-
لا طبعًا لا لا خالص..
قاطعته
للمرة الثانية بطريقة أكثر حدة:
-
أُمال إيه لزوم الفحص ده بقى إن شاء الله؟!
أجاب
"حسين" بتلعثم، وهو يبحث عن كلام يبرر به موقفه:
-
دي الحجة بس عايزة تطمن وأنتِ عارفة ناس زمان وعقولهم بقى.. الحكاية بسيطة!
قالت
له بغضب:
-
بسيطة عندك أنت.. ويا ترى أمك طلبت من مرات أخوك تحلل بقى قبل ما تتجوزه ولا ده
عليا أنا بس؟!
بتردد
أجاب "حسين":
-
لا، بس أنتِ عارفة ساعتها مكانتش الدنيا كده..
قاطعته
بحدة لكن بهدوء وإصرار:
-
طيب ماشي أنا هحلل وهكشف.. بس أنت كمان تحلل وتكشف الأول، وتجيبلي نتايج التحليل
أوديها لدكتور، وأتأكد إنك ممكن تخلف.. أنا كمان من حقي أكون أم!
صمت
الآن ولم يستطع أن يرد، ردت هي عليه، وعلى نفسها غاضبة وساخطة:
-
أنت كداب يا "حسين" وأنت عارف إنك كداب، أمك مش عايزة تطمن إني بخلف،
أمك عايزة تطمن على حاجة تانية أنت عارفها كويس.. بطل كدب ونفاق بقى وخليك راجل،
وبلاش شغل اللف والدوران بتاع العيال ده.. أنت عارف أنت وأمك عايزيني أكشف ليه
وعلى إيه!
أجاب
الآن وقد بدأ يغضب ويحتد بدوره، فقد آلمته كرامته مما قالته له "بتول":
-
وماله؟! ده حقي على فكرة!
ضحكت
مستخفة، وقالت له بحقد:
-
طيب ماشي، بس خد بالك في عمليات بتتعمل دلوقتي بترجع كل حاجة لأصلها.. تحب تكشف
عليا كمان عند واحد خبرة لأكون رقعت نفسي يا حيلة ماما يا اللي ساحباك وراها زي
الخروف..
قاطعها
غاضبًا ثائرًا:
-
عيب عليكِ يا "بتول" متغلطيش..
أجابته
بعنف، فلم تعد بعد كل هذا تخشى شيئًا، أو تقيم له وزنًا:
-
العيب عليك أنت وعلى أمك! لو أنت مش واثق فيا ومش مصدق كلمتي، لو أنا كل قيمتي عندك
في حتة جلدة، لو كرامتي متفرقش معاك وعايز تهيني وتذلني، عشان دماغك الوسخة ودماغ
أمك الأوسخ يطمنوا.. يبقى يلعن أبوك على أبو أمك على أبو الجواز كله!
لم
تعطه فرصة للرد، فقد سارعت بإغلاق الهاتف في وجهه.. ثم أغلقت الهاتف تمامًا وألقته
على الفراش.. وهي ترتجف من الغضب والغيظ!
...
في
المساء حضر "حسين" إلى منزل عائلة خطيبته.. كان بمفرده تمامًا!
وكان وجهه مسودًا، وملامحه محملة بالهم والكآبة،
لكنه كان يحاول التظاهر بأنه بخير، جاء ومعه باقة ورد وعلبة أنيقة من الشيكولاتة..
تهلل وجه الأم عند رؤيته، وامتلأت ملامحها بعلامات الاستبشار والتفاؤل، أدخلته
فورًا، وهي تمطره بعبارات الترحيب.. ثم سارعت بإيقاظ زوجها، وأرسلته إلى غرفة
الجلوس ليجالس خطيب ابنته ويرحب به، بينما انطلقت هي لتخبر ابنتها وتدعوها للقاء
عريسها.. كانت "بتول" قد أغلقت بابها على نفسها، بعد المشاجرة التي نشبت
بينها وبين أبيها، ورفضت أن تتناول طعامًا، أو تخرج من بابها أو ترد على أحد..
طرقت الأم الباب بأطراف أصابعها وهي تهمس منادية محاذرة أن يسمعها
"حسين" الذي لا يفصله عنها سوى بضعة أمتار وباب مفتوح:
-
بتول.. بتول.. خطيبك جه يا حبيبتي!
لم
تتلقَ ردًا من ابنتها فكررت النداء وقد رفعت درجة صوتها قليلًا:
-
بتول.. يا بنتي ردي عليا..
مرت
لحظات ولا زال الصمت والظلام يخيمان على غرفة البنت المغلقة، وهنا دب القلق والذعر
في قلب الأم.. رفعت صوتها، وأخذت تطرق باب ابنتها بيدها بقوة، غير مبالية بأن
يسمعها "حسين" أو لا يسمعها.. صرخت منادية مرتين فاندفع نحوها زوجها
خارجًا من حجرة الجلوس مذعورًا، وتبعه الشاب مترددًا شاعرًا بالخجل:
-
في إيه.. في إيه؟!
قالت
الأم وهي ترتجف خوفًا وهلعًا:
-
البت مبتردش عليا يا أخويا.. البت مش بترد ولا بتتكلم.
هجم
الأب على الباب، وكاد يهشمه بقبضته وهو يدقه بعنف، وينادي بصوت جهوري غليظ:
-
بتول، بتول.. ردي علينا!
لم
يعد هناك شك في أن مكروها حل بالفتاة، وأنها لا تتعمد عدم الإجابة على نداءاتهم
وتوسلاتهم.. خلال دقيقتين كان الأب والخطيب قد بدآ في تهشيم الباب.
كان
الباب عصي على التحطيم، وشدة اضطراب الأم لم تسمح لها بأن تتذكر أين توجد نسخة
مفاتيح غرف الشقة وأبوابها كلها.. استمرا يحاولان فتح الباب بالقوة، حتى أذعن
الخشب الثقيل أخيرًا وبدأت المنطقة المحيطة بالرتاج تتهشم، تحت وقع ضربات شاكوش
ثقيل، أحضرته الأم المذعورة من المطبخ، ضربتين وثلاث وصار القفل من الماضي، وتمكن
"حسين" من إدخال يده والإمساك بالمفتاح، الذي كان لا يزال موضوعًا في
ثقب الباب الداخلي، ولفه وفتح الباب.. هجموا أخيرًا كلهم محاولين دخول الغرفة دفعة
واحدة، لكن الأم أخرت زوجها بذراعها، ففهم على الفور وانسحب إلى الوراء آخذًا
"حسين" معه.
كانت
"بتول" متكومة بجوار فراشها، بكامل ثيابها.. حجابها منزلق ورأسها نصف
مكشوف، وجهها شاحب.. وجسدها ساكن بارد لا يستجيب لشيء مما حوله!
انطلقت
الأم، بعد أن فحصتها بذعر لنصف دقيقة،
تصرخ بأعلى صوتها، فدخل الأب و"حسين"، وأصابهما الهلع بدورهما حين رأيا
المنظر.. حتى كادا يشاركان الأم في الصراخ والعويل!
...
غادرت
المستشفى بعد يومين مستندة على ذراع أبيها، بينما كان "حسين" يسير
بجوارها سعيدًا، رغم رفضها أن تعطيه يدها ليمسك بها، ومن خلفهم جاءت الأم، وهي
تحمل حقيبة سفر صغيرة، بها حاجيات ابنتها وملابسها وبعض الأغراض الصغيرة.. كان
الجميع سعداء بنجاة "بتول" عدا "بتول" نفسها!
لقد
كانوا في حالة ذعر هائلة، وهم يطلبون الإسعاف، الذي لم يتأخر كثيرًا كالعادة لحسن
الحظ، وأخذوا يتخبطون ويهرولون ويحطمون أشياء، ويُسقطون أخرى وهم يحاولون إسعافها
بأي شيء حتى تصل عربة الإسعاف.. الأم كانت في حالة يرثى لها، وهي تراقب تنفس
ابنتها الخفيف وهداها تفكيرها إلى إجراء تنفس صناعي لها، أما الأب فقد عكف على
تدليك قلب ابنته، بينما انكب "حسين" على يديها، يدلك عروقها ويدفع
بأظافره ضاغطًا تحت أظافرها، خشية أن تكون في نوبة فقدان وعي، ويلزم إفاقتها
سريعًا قبل أن يتوقف قلبها.. ارتجل كل منهم ما يعرفه من وسائل الإسعاف والإنقاذ،
لكن سرعان ما جاء الإسعاف الرسمي لينقذهم من تخبطهم، وينقذ الموقف.. تعامل
المسعفون بحنكة وسرعة، وضعوها على محفة، وسرعان ما كانوا يحملونها خارج الشقة، وفي
السيارة وضعوها على جهاز التنفس، وأعطوها حقنة وبعد قليل كانت تتقيأ بعنف، وتشهق
وصدرها يعلو ويهبط.. كان من الواضح أنها تناولت شيئًا بغرض الانتحار والإجهاز على
نفسها!
التصقت
بها الأم، التي أخذت تبكي وتنتحب، وتزداد التصاقًا بابنتها رغم محاولات المسعفين
لإبعادها عنها؛ ليقوموا بأداء عملهم، دون أن تعطلهم الأم بما تصبه عليها من مشاعر
جارفة وبذعرها الشديد وارتباكها المهول!
أبعدوها
عنها أخيرًا، بعد أن تلطخت ثيابها بقيء ابنتها، وتلقاها الأب بين ذراعيه وأحاطها
بقوة، ومنعها من الذهاب إلى حيث مددوا "بتول" وعكفوا على إسعافها ثانية.
وفي
المستشفى، وبعد فحوصات وتحاليل سريعة، تبينت حقيقة الأمر، محاولة انتحار جدية
استخدمت فيها أقراص (multi relax)، التي كانت جرعتها كافية
لإصابة الفتاة بغيبوبة، لكنها لم تكن كافية للقضاء عليها!
وبسبب
إصرار الأب واتصاله ببعض معارفه ونقوده، وضعوا البنت في غرفة مستقلة، وليس على
سرير في عنبر كبير، بقي "حسين" طوال الوقت معهم، وفي المستشفى جلس
حزينًا ورأسه بين كفيه، وأخذ يهتز بلا توقف.. ثم سرعان ما تبين أنه كان يبكي!
غمره
شعور هائل بالذنب والحزن، والتسبب في محاولة حبيبته إنهاء حياتها، كانت تريد أن
تهرب من شكوكه، وإهانته لها بمحاولته الكشف عن أدق شيء تخاف عليه البنت الحرة
وتحافظ عليه، لم يصدقها ولم يثق بما تقول، أوصلها لمرحلة اليأس الكامل، والرغبة
المطبقة في الرحيل من مكان لا تجد فيه الحب أو التفاهم.. أما الأب فقد كان متيقنًا
أن مشاجرته هذا النهار مع "بتول" هي سبب ما أقدمت عليه من محاولة مجنونة
للانتحار، أخذ يلوم نفسه ويعنفها بصمت، وهو يراقبهم وهم يسعفونها، وينقلونها
محمولة من مكان إلى مكان لإجراء التحاليل والفحوصات، ثم وهي تُنقل لإجراء غسيل
معوي عاجل لها.. كانت هناك معركة داخلية ساخنة تدور بين عقله وقلبه، بينما زوجته
بجانبه لا تكف عن البكاء والعويل وتكاد تلطم خديها..
ما
الذي أخطأ فيه بحق ابنته؟!
إنه
لا يريد سوى الاطمئنان عليها، وعلى أنها لم تتعرض لانتهاك يؤذي شرفها، أو يعكر صفو
حياتها إلى آخر عمرها، كانت نيته طيبة لكن يبدو أنه جرحها في الصميم، جرحوها كلهم
في الصميم، وأتلفوا شيئًا في داخلها، قطعوا خيط الثقة بينهم وبينها، فلم يعد
كلامها مصدقًا أو تأكيداتها ذات قيمة.. لم يهتم أحد بأن يعرف حالتها النفسية، أو
محاولة دعمها وترميم روحها، حتى تنسى ما ألم بها وتتغلب عليه وتتجاوزه، حصروا
تفكيرهم كلهم في نقطة واحدة، بدت أهم بالنسبة لهم من حياتها نفسها، هل هي عذراء، هل
تعرضت لاعتداء يمس الشرف!
أما روحها، وأما ما دُمر داخلها فلا بأس.. إنهم
مستعدون أن يضحوا بأي شيء لتحتفظ ابنتهم بذلك الشيء الصغير المؤقت!
كانوا
أبناء مجتمعهم، أبناء زمنهم، وعبيدًا لتفكيرهم وتفكير آبائهم، بينما هي ابنة زمن
مختلف وتفكير مختلف، وحرة لا تقبل أن يستعبدها أحد، أو يتخذها جارية لهواه..
أحاطوها بسوء الفهم وسوء الظن.. فقررت أن تترك لهم الدنيا بأسرها يمرحوا فيها كيف
شاءوا!
لماذا
لا يصدقونها وحسب.. يصدقون كلمتها ويمنحونها ثقتهم؟!
"حسين"
يعرفها جيدًا، ويعرف أنها لم تكذب عليه قط من قبل، ولا مرة، لم تكذب عليه أو تخفي
أمرًا، فلما لا يصدقها تلك المرة ويعطيها ما تستحقه من ثقة وتقدير؟!
كان
يخشى الآن من فقدانها، إن رؤيتها وهي ممددة باردة شاحبة بلا حس ولا حركة، ومشاهدة
الأطباء وهم يحاولون إعادتها إلى الحياة، والنظر إليها وهي تتقيأ وتخرج ماء قلبها
وروحها، وتكاد تختنق من فرط الإجهاد، غيَّرا شيئًا داخل هذا الفتى الأسمر الصلب،
وهو واقف هناك كالصنم يراقب وينظر ولا يحق له التدخل.. لأول مرة يجد نفسه عاجزًا
عن معاونتها، وعن مد يديه إليها.. راقبها بصمت، وهو يحس بشيء يتهشم داخله، ثقته في
صواب موقفه، وفي أحقية أمه فيما تقوله وفيما تطلبه منه وتأمره به.. ما شأن أمه
بالأمر على أية حال؟!
هل
هي من سوف تتزوج "بتول" وتعيش معها، هل هي من أحبت تلك الفتاة وعاشت
معها أجمل أيام حياتها؟!
تريد أن تفرض قواعد زمنها عليه، وعلى حياته
الآتية، ومن سوف تشاركه فيها.. بينما زمن الأم يوشك على الأفول والغروب والانتهاء!
هل
من العدالة أن يفكر في التخلص من الفتاة التي أحبها، وتضييع حب عمره، وتحطيم ما
بقي من سنوات حياته في الندم والتألم وكسر قلبه وقلبها لشيء عارض، إن كان قد حدث
فعلًا فهو تم رغمًا عنها، وبالقوة والإجبار والافتراء والتهديد والسلطان الغاشم؟!
أي
عدالة في أن تُحمل الفتاة وزر شيء لا ذنب لها فيه.. كل ذلك بالرغم من أنه ليس
متأكدًا أن مخاوفه قد تحققت وأن كابوسه المرعب حقيقي فعلًا!
غمره
الندم وهو جالس خارج الغرفة؛ منتظرًا خروج الطبيب ليطمئنهم على عملية غسيل المعدة
البسيطة، إنه موقن من نجاة "بتول"، لكن هل سينجو حبها له بعد كل ما
لقيته منه من جفاء، وكسر نفس ورغبة في إذلالها وعرضها كقطعة لحم بين يدي طبيب من
أجل إرضاء أمه وتبديد مخاوفها؟!
وماذا
عن مخاوفه هو في فقدان من يحب، وماذا عن حياته الآتية، التي لا يستطيع أن يعيشها
دون وجود محبوبته بجانبه.. لماذا تخضعنا تقاليد بالية ميتة أكثر مما تخضعنا
عواطفنا ومشاعرنا واختيارات زمننا المختلفة تمامًا عن اختيارات زمنهم وفروضه
الثقيلة العقيمة؟!
...
أخرجوها
محمولة، بعد إجراء الغسيل المعوي، وهرع الأبوان ومن خلفهما "حسين"
لاستقبالها.. بعينين مخضبتين بالدموع جرى الشاب أمامهم، وأخذ يحاول تقديم أي نوع
من المساعدة، ولو كانت شديدة البساطة.. فراح يرتب لها السرير الذي ستوضع فوقه،
ويشد الملاءات ويعدل وضع الوسادة؛ محاولًا إبعاد الممرضة التي كانت تحاول القيام
بتلك المهمة، والحلول محلها.. كانت "بتول" قد استعادت جزءًا من وعيها، عقب
غسل معدتها وأمعائها، وتحسن لونها الممتقع وأصبحت عيناها أكثر وعيًا، وثمة تعبير
يقظ فيهما، بعد أن كانتا مجرد حفرتين
مبيضتين خاويتين من أي تعبير أو علامات على الحياة.. أحس "حسين" أن
الحياة تعود بدورها إلى عروقه وأعصابه المكدودة، لم يشعر بنفسه إلا وهو يهوي
بجوارها، ويتناول يدها ويأخذ في تقبيلها مرارًا بعنف ولهفة وحرارة، لم يصدق كونها
نجت، وأنه يكن لها كل هذا القدر من الحب والغرام، وأنه كاد يفقدها، وأنها كان يمكن
أن تختفي من حياته.. رمقه الأب بملامح يلوح فيها الاعتراض والشجب، لكن الأم منعته،
بطريقة غير ملحوظة، من قطع وصلة الحب بين ابنته وبين خطيبها.. كانت الأم تنظر
إليهما بعينين محملتين بالحنان والعطف والحزن والسعادة.. فقد تأكدت الآن أن زيجة
ابنتها سوف تتم.. وأنها- إن شاء الله- سوف تكون زيجة سعيدة موفقة وستكون زيجة
العمر كله!
...
عادت
معهم وبهم إلى المنزل، كانت تلك اللعبة الصغيرة قد حلت كافة المشاكل المعلقة، بدا
أن "حسين" قد تجاوز عن كل شكوكه ومخاوفه، وعاد حبيبًا وخطيبًا متلهفًا
لإتمام الزواج مرة أخرى، أما الأب فقد وافق- ضمنيًا- على عودتها إلى العمل لكن
موافقته كانت مشروطة.. من ناحيتها قررت "بتول" أن تعطي أباها تنازلًا
مقابل ما أعطاها، فوعدته بأن تبتعد عن السياسة، وأن تختار قسمًا غير مرتبط
بالمواضيع السياسية للعمل به في المجلة الجديدة!
سويت
كل الأمور كيفما تحلم الفتاة وتتمنى.
أحست "بتول" أنها في طريقها للحصول
على السعادة الكاملة، في الحب والعمل، وكانت كل الظروف المحيطة تبشر بذلك.. لكن
تدخلات القدر فيما نخططه لا تتوقف ولا تمل.. أحيانًا ما تتخذ تلك التدخلات شكل
أحداث، وأحيانًا تأتي بشكل أشخاص يقلبون حياتنا رأسًا على عقب.. وقد تأتي في
النهاية على شكل خبر صغير في زاوية جريدة منسية!
تعليقات
إرسال تعليق