هرول
الأب نحو قسم الشرطة الأقرب إلى مبنى النقابة، لم تكن درجة تركيزه تسمح له بتقدير
المسافة تقديرًا صائبًا، وحساب أنه يحتاج لوسيلة مواصلات تقله إلى هناك.. لكنه بعد
أن جرى مسافة لا بأس بها، أدرك أخيرًا أنه لن يصل إلى هناك في وقت مناسب، فوقف
يجفف عرقه براحتي يديه؛ محاولًا استيقاف أي سيارة أجرة تعبر من أمامه.
مرت
من أمامه عدة سيارات عادية وتاكسيات، وحاول أن يستوقف أي منها، لكنها كلها مرقت من
أمامه متجاهلة إياه تمامًا.. بدا أن سائقي التاكسي يسيرون في المدينة، وفي هذه
الساعة من المساء، وبرغم الأضواء القوية التي تحيل ليل الميدان إلى نهار أبيض،
بعيون عمياء لا ترى شيئًا.. تجاهلوا الأب القلق، الذي يقف في منتصف الشارع محاولًا
اقتناص أي واحدة من سياراتهم، ثم ما لبث الأب أن لاحظ أنهم يتجاهلون غيره أيضًا!
كان
هناك بعض من الرجال والنساء، في سنه أو أقرب ما يكونون إلى عمره، يحاولون مثله أن
يستوقفوا سيارات أجرة، لكن السائقين كانوا يتعمدون تجاهلهم، كما تعمدوا تجاهله هو
أولًا.. إذن فالأمر مقصود وليس عفويًا.. فجأة سمع الأب صوتًا بجواره تمامًا يقول
بلهجة صعيدية صرفة واضحة:
-
خدوا العيال.. خدوا العيال يا حزين!
التفت
والد "بتول"، فوجد على يساره- وبالقرب منه جدًا- رجلًا أسمر ضخم الحجم،
يرتدي سترة بذلة رمادية، وقميصًا أبيض مبقع بالعرق على صدره وحول ياقته، وسروالًا
من القماش مغبرًا، وقد علق به بضع أشياء صغيرة يصعب تمييزها.. بدا أن هذا الرجل
كان يكنس الشارع كنسًا بثيابه، وقد أمسك هاتفًا محمولًا كبير الحجم باهظ الثمن من
شكله، وراح يصرخ فيه محاولًا إثارة أكبر قدر ممكن من الفزع في نفس محدثه على الطرف
الآخر:
-
ما قولنالهم متعملوش وقفات ولا مظاهرات ولا هباب، مبيجيش منه يا أبو خالو خلاص..
يلعن أبو المظاهرات على الاحتجاجات.. الداخلية جات وقشت العيال قش.. هنروح فين
ونيجي منين بس يا ربي دلوقتي!
بدا
الرجل منهارًا، رغم ضخامة حجمه وصلابة ملامحه، وموشكًا على البكاء حقًا.. تشجع
والد "بتول" بمشاهدته لحالة الرجل، التي لم تكن أحسن من حالته في شيء،
واقترب منه بخطوات سريعة حتى حاذاه ووقف بجواره تمامًا، كادت أكتافهما تتلامس،
حينما رفع الرجل رأسه وتطلع بوجه قلق مهموم إلى ملامح وجه والد "بتول"،
الذي بدا أنه لا يقل قلقًا ولا همًا عنه.. مرت لحظة صمت قبل أن يبادر الأول
متكلمًا في حرص:
-
حضرتك لك حد في المظاهرة اللي فضوها دي؟
تطلع
الرجل إليه بنظرات حذرة متفحصة؛ محاولًا أن يستشف من ملامحه ما إذا كان مخبرًا، أو
رجل مباحث متخفٍ يحاول أن يوقعه في الخطأ، ويجرجره لقول أشياء ضد السلطة والحكومة،
أم أنه صاحب هم مثله فعلًا.. فلما اطمأن إليه ووجد الصدق مرتسمًا في عينيه أجابه
غاضبًا:
-
الواد الفقري ولد أختي، الله يخرب بيت اللي بلاني به.. جاي يتزفت يتعلم في مصر
ورايح يعملي فيها بطل.. أهم خدوه ويا عالم هنعرف نطلعه تاني ولا لأ!
غاص
قلب والد "بتول"، حينما سمع الجملة الأخيرة، فإذا كان خال لولد يعاني
القلق والرعب هكذا، فحق له هو، وهو له بنت مفقودة، أن يفعل أكثر من ذلك.. وجد نفسه
يشد الرجل من كمه ويسأله متلهفًا:
-
ما نروح ندور عليهم في القسم يمكن خدوهم هناك!
مريحًا
باله قليلًا هتف الرجل:
-
ما هو أنا مستني الواد "حاتم" ولدي يجي ياخدني بالعربية، نروح ندور على
واد المحروق ده في القسم ولا في المديرية، وهنروح مع بعض يا واد عمي.. أياكش بس
نعتر فيهم!
تحملت
عيون الأب بالامتنان، وداخلته الطمأنينة قليلًا.. وما لبثت سيارة (لادا) سوداء أن
توقفت بالقرب منهما، وأطل من النافذة المجاورة لمقعد السائق شاب بشعر أكرت، ونظارة
طبية رقيقة، ووجه طويل بأنف عظمي بارز له طرف شديد البروز.. لوح الشاب بذراعه،
فأطبق الرجل الذي يتحدث بلهجة أهل الصعيد على ساعد والد "بتول" برقة،
وقاده نحو السيارة وهو يردد وكأنه يدعو ويتوسل:
-
أهو الواد "حاتم" جه أهو.. يا رب نعتر فيهم يا رب!
مؤمنًا
على دعائه أخذ الأب يردد وهو يدلف إلى السيارة بصحبة الرجل الذي يراه للمرة
الأولى:
-
يا رب والنبي.. يا رب!
...
قادوهم
عبر ممر ضيق على جانبيه أبواب بيضاء معظمها مغلقًا، كان الشباب يحاولون أن
يتلاصقوا، ويتضامنوا وهم يسيرون، كانوا يشعرون أن مجرد سيرهم معًا وبجوار بعضهم،
يمنحهم حماية وأمانًا، ليست حماية القطيع الذي يسير أفراده في الطريق معًا، خطأ
كان طريقهم أم صوابًا، بل حماية الفريق الذي يؤمن بهدف يعمل من أجل الظفر به،
ويبذل كل ما لديه، إن كان لديه أي شيء، في سبيل الوصول إليه وتحقيقه.. لكن رعاة القطيع
حرصوا على التفريق بينهم، والفصل بين كل واحد فيهم وبين الآخرين، وفي نهاية
الطابور المفصول بعدد من ذوي الملابس الشرطية، اقتيدت البنات وأحطن بعدد من رجال
الشرطة وأمنائها.. كان "شريف" يسير في مقدمة الصف، كما كان يسير في
مقدمة المظاهرة، مقموعًا بعدد من رجال الشرطة والقيود التي تكبل يديه، ولكنه مع
ذلك كان يحرص على أن ينظر خلفه كل دقيقة؛ ليطمئن أن "بتول" والبنتين
الأخريين خلفهم، وأنهن في حالة جيدة.. نظر "شريف" خلفه مرتين، وكانت
الفتيات موجودات.. كن يسرن بصعوبة متلاصقات، يحاولن أن يبقوا كذلك على الأقل،
وأعينهن في الأرض تمسحها بقلق وترقب.. كانت ثمة بقع مزعجة ذات لون بني على الأرضية
في كل مكان تقريبًا!
ارتعشت
"سمر"، الفتاة السمراء ذات الشعر الطويل (الكيرلي)، والسروال الجينز،
والقميص الرجالي المقلم، الذي بدا رقيقًا مفعمًا بالأنوثة عليها.. وأخذت تحدق بفزع
في بقع الأرضية وقد دار بخلدها أنها دماء!
لمست "بتول" كتفها برفق، فارتعدت
الأولى، وانتقلت الرعدة إلى الثانية، وكأن بينهما موصل كهربي عالي الجودة، وانتقلت
عيناها لتنظر إلى ما تنظر إليه "سمر" برعب.. انتقلت عدوى الرعب إلى
"بتول"، التي تداعت إلى ذاكرتها فورًا ذكرى بقع الدماء المخيفة، التي
رأتها على أرضية المستشفى الحكومي القذر، حينما زارت ابنة خالتها، التي ترقد في
عنبر الولادة.. وكيف أخذت تتخيل أن كل بقعة تراها بعد ذلك، في أي موقع آخر
بالمستشفى، هي بقعة دماء، وأخذت ترفع قدميها وتدور من حولها.. ولكن من الطبيعي أنك
حينما تكون في مستشفى أن تتخيل أن كل بقعة على الأرض هي بقعة دماء، لكنهم لم يكونوا في مستشفى هنا..
شعرن أنهن لسن في مستشفى.. بل في مسلخ كبير مخيف!
...
وصلوا
إلى قسم الشرطة، فغادر والد "بتول" السيارة سريعًا، وأخذ يعدو بخطوات
لاهثة إلى باب قسم الشرطة المفتوح.. بينما ترجل الرجل ذو اللكنة الصعيدية بهدوء،
وتبعه ابنه الذي كان يقود السيارة.. لم يستوقفهم أحد على الباب، وسرعان ما وجدوا
أنفسهم ضائعين بين عدد من المكاتب والغرف، بعضها أبوابه مفتوحة، والآخر بأبواب
مغلقة متجهمة.. الغريب أن الأبواب المفتوحة بدت أكثر تجهمًا وأكثر إثارة للرعب من
تلك المقفلة بالضبة والمفتاح؛ لأنك عندما تكون في مكان تخافه ترى كل شيء فيه
مثيرًا للخوف والهلع، كل شيء يبدو مصدرًا للخطر والرعب.. حتى هذا الضابط الشاب
الوسيم الذي تصادف مروره أمامهم، فاستوقفه "حاتم" بسرعة وناداه باسمه:
-
سيادة الرائد "باسل"!
كان
سيادة الرائد يرتدي ثيابًا ملكية، ويبدو في عجلة من أمره، لكنه توقف مستجيبًا
للنداء، وناظرًا إلى وجه مناديه، ثم سرعان ما طفت ابتسامة لطيفة على وجهه، وتقدم
خطوتين إلى الأمام ومد يده إلى "حاتم" قائلًا بترحيب:
-
أزيك يا حاتم، خير.. جاي في إيه؟!
لم
ينتظر الأب أن يجيب ابنه فبادر قائلًا:
-
جايين ندور على عيالنا يا ولدي، كانوا في مظاهرة والشرطة فضوها وخدوا العيال..
بيقولوا جابوهم على هنا!
انكمشت
ابتسامة "باسل" فور سماعه لتلك الكلمات، وغدت أكثر تحفظًا ورسمية.. ثم
نظر بملء عينيه إلى الرجل- الذي أجاب على سؤاله- وهو يسأل "حاتم" بدوره:
-
والدك؟
هز
"حاتم" رأسه، وبدأ يتكلم لكن الرائد قاطعه مستفسرًا:
-
واللي كان في المظاهرة بقى يبقى أخوك؟!
سريعًا
نفى الأب تلك التهمة الفظيعة، تهمة أن لديه ابنًا يشترك في مظاهرات واحتجاجات،
قائلًا بصوت جهوري:
-
لا لا أعوذ بالله، ده ولد أختي يا ولدي.. جاي بمصايبه من الصعيد!
ابتسم
الرائد وقال مستظرفًا:
-
من الصعيد كمان.. ده أنتوا ليلتكم مغفلقة!
قالها
مقلدًا، بغير إتقان، لهجة أهل الصعيد، لكن تقليده كان ماسخًا سخيفًا، وسرعان ما
أنهى "حاتم" الموقف قائلًا:
-
نسأل عند المأمور على طول يا "باسل".. ولا إيه رأيك؟!
بملامح
صلبة هذه المرة أشار الرائد عليهم قائلًا بلهجة الناصح الأمين:
-
اسألوا طبعًا، بس بلاش الدم الحامي بتاع الصعايدة ده والنبي يا عم الحاج..
ومتنرفزوش الراجل.. مأمورنا راجل طيب وخليكم حلوين معاه عشان ميصلبش دماغه!
كان
كلامه وتحذيره مبهمين غامضين، لكنهم كغريق يبحث عن أية قشة يتعلق فيها، اعتبروا
نصيحته كنزًا ثمينًا، ومساعدة قيمة قدمها لهم، ولو كان الأمر بيدهم لقبلوه من فمه،
شكرًا له على تلك النصيحة الذهبية العظيمة!
وعندما
رأى علامات التبجيل في أعين الرجلين الكبيرين، قرر الضابط الشاب أن يمضي في لعب
دوره حتى النهاية، وقدم عرضًا كريمًا بأن يصطحبهم حتى حجرة المأمور، وأن يدخل معهم
أيضًا ليسألوا عما حل بالشبان الذين كانوا يتظاهرون على سلم النقابة!
تعليقات
إرسال تعليق