جلست إلى مكتبها الأنيق المنسق تخطط مقالها، وتضع له
رؤوس مواضيع وعناوين رئيسية، كان موعد تقديم تحقيقها مكتملًا هو اليوم، لكنها كانت
تخطط لشيء مهم.. أرادت أن تضيف إلى عناصرها عنصر الملاحظة والمشاهدة العينية،
وتنقل للقارئ وصفًا حقيقيًا لمشاعر أم تقبع في سرير المرض، منتظرة موتًا سريعًا
عاجلًا يقصف عمرها؛ لتترك زوجًا وأطفالًا محطمين خلفها.. أو موتًا مؤجلًا، تدفع من
خلاله بالتقسيط من عمرها آلامًا وتحتمل لومًا وتأنيبًا، وتحميلًا للمسئولية،
وفقدانًا لطعم الحياة وحسرة على طفلة كانت- منذ أيام قليلة- تستقبل الحياة، فإذا
بها، ونتيجة فعل صغير من حيوان لا يميز بين الخبيث والطيب، ولا بين المرأة
والطفلة، التي هي مشروع مبكر لامرأة لم
يئن أوان إطلاق هذا المسمى عليها بعد، زهرة قُطف عمرها مبكرًا دون وجه حق..
أم ترقد بانتظار أحد أمرين كل منهما أسوأ وأعظم خسارة من الآخر!
إنها
تريد أن ترى تلك الأم، وتريد أن ترى الطفلة أيضًا.. تريد أن تسمع من الضحيتين في
تلك الجريمة، ففي كل أنواع الجرائم يقع الجرم على ضحية مباشرة، أو ضحايا، وحدها..
أما في الاغتصاب وحده فإن المجني عليهم يتجاوزون مجرد فرد واحد أو ألف، إنها أسرة
كاملة، وربما جيل، بل ربما أجيال متعاقبة تدفع ثمن جريمة كتلك.. تتجلل بعارها، وتعاني
من وبالها، وتهاجر من أرض إلى أرض أخرى، وقد تترك كل ما لديها، من أجل لحظة قصيرة
غلبت فيها هرمونات إنسان إنسانيته.. وغلبت فيها عوامل الطبيعة كل ما تناقله وكل ما
اخترعه جنس الإنسان من قواعد وما التزم به من أخلاقيات وقوانين!
إنها
لحظة عاتية حيث يتجرد الإنسان من جلده المزخرف؛ ليعود حيوانًا، رجل كهوف.. يشارك
الحيوانات وحشيتها وبدائيتها وهمجيتها.. الفارق الوحيد أن الحيوانات لا تجتمع
أبدًا على لوم الضحية مثلما يفعل البشر!
إنها تعلم أن الأم لا تزال في المستشفى، وعنوان بيت
الأسرة لديها، وعنوان بيت المتهم أيضًا.. بشكل ما لا تريد رؤية بيت المتهم، ولا
رؤية عائلته، إنها تثق بأنهم حوصروا بجيوش من الصحفيين والإعلاميين والمحققين
والشامتين والمتظاهرين بالاشمئزاز والتعالي والشموخ المثالي الفلسفي.. لابد أن
طوفانًا من الأسئلة والتوبيخات واللعنات قد حاصرتهم، حيث يتوجب عليهم كل مرة أن
يجلسوا أمام العدسات وعلى وجوههم شاش العار الأبيض؛ ليتكلموا عن ثقتهم في براءة
أبيهم، وأن التهمة ملفقة، وأن ثمة مخلوقات فضائية آتية من عوالم أخرى تتآمر على
أسرتهم الكريمة، وعلى أبيهم الذي لولا أن سبقهم القضاء والقدر باتهامه في تلك
التهمة الملفقة، لكان قد تم اختياره معلمًا مثاليًا، وربما المواطن المثالي للعالم
كله.. الكل يتآمر علينا حتى يتم إدانتنا، فإن أداننا القضاء فتفتح صفحة وتغلق
أخرى، ويكون الجنون من نصيبنا، وظروف الطفولة القاسية، والأم التي كانت تضربه على
مؤخرته حين يبول على نفسه، والأب الذي كان يصرخ في وجهه ويحرمه من الحلوى.. مبررات
مبررات.. لا يا عزيزي رجل كهذا ليس مجنونًا، أغلب المجرمين عقلاء جدًا.. لكنهم
مجرد بشر استسلموا لنوازع لا يجرؤ الآخرين على الاستسلام لها.. الكل يريد أن يقتل،
لكن القتلة وحدهم هم من تجرؤا على تنفيذ ما يدور برؤوسهم، المجرمون ليسوا مجانين؛
لأنهم لو كانوا مجانين حقًا لعاشوا حياة يدورون في ساقية، معلقين فيها ليل نهار،
وكل هدفهم في الحياة أن يأتوا للعالم برقاب أخرى يعلقونها مكانهم في نفس الساقية
قبل رحيلهم.. لذلك لا يجب أن يُقبل دفاع مجرم بالجنون.. فالمجانين حقًا لديهم طرق
أخرى لإظهار جنونهم غير الجرائم الصغيرة التافهة!
لا تريد "بتول" أن ترى أسرة المتهم ولا
منزله، فهي تعرف ما ستجده هناك، وتعرف ما الذي ستسمعه، إن قبلوا أن يتحدثوا معها
ويعطوها كلمة، ممن يعيشون هناك!
فكرت قليلًا ثم توصلت إلى الاختيار الأفضل المطروح
أمامها.. سوف تذهب لزيارة الأم في المستشفى!
...
استدعاها رئيس التحرير إلى مكتبه، كان هناك اجتماع
مصغر حيث وجدت رؤساء أقسام التحقيقات، والصحة والجمال، والمرأة، والإعلانات،
متجمعين وملتفين حول الأستاذ "راجـي" في حلقة مفرغة كاملة الاستدارة..
شعرت بالدهشة وقليل من الارتباك لوجودها وسط كل هؤلاء الأعلى منها مرتبة والأكثر
منه خبرة وحنكة في العمل الصحفي، وبصحبة رئيس التحرير نفسه، لكن الرجل كان لبقًا
وبسيطًا فطلب إليها أن تأتي نحوه، ثم سألها بود عما وصلت إليه في تحقيقها بشأن
الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال ومن هم دون سن البلوغ.. همست بصوت مبحوح ما لبث
أن استرد قوته وحيويته الطبيعية وهي تقول:
- هقفله النهاردة.. بس لسه عندي زيارة صغيرة وهرجع
أكمله وأسلمه للمطبعة!
نهض رجل متحفظ الثياب، يقف بقميص شاهق البياض وسروال
سميك مكوي جيدًا وزوى ما بين حاجبيه قائلًا في اعتراض واحتجاج رسمي بارد:
- هو سعادتك ناوية تبعتيه المطبعة من غير ما يمر عليا
وعلى السيد رئيس التحرير ولا إيه يا شاطرة؟!
كان هذا هو رئيس قسم التحقيقات المعروف بتحفظه
وروتينيته وعشقه للرسميات، وكانت لغته كريهة، وطريقته مطابقة لطريقة المسنين
والكهول الذين يعتبرون أنهم حاذوا خبرة العالم كله، ويفضلون أن ينظروا إلى الأجيال
الأقل منهم عمرًا كلها، حابلها ونابلها، على أنهم مجرد عيال!
لكن رئيس التحرير خف لنجدتها فقال وهو يبتسم برقة:
- الآنسة قصدها يعني هيكون جاهز نبعته المطبعة بعد ما
نراجعه يا أخينا.. متبقاش حنبلي كده وتقف على الوحدة!
سكت الرجل مغلوبًا.. لكن "بتول" أحست بود
مفاجئ نحو رئيسها الجديد الذي بدا متفهمًا وحنونًا أكثر مما توقعت!
نظر إليها الرجل لمدة نصف دقيقة ثم صفق بيديه مشجعًا
وقال بطريقة مرحة:
- يلا يلا بقى يا بطلتنا.. شوفي هتروحي فين عشان
تخلصيلنا التحقيق الجميل ده.. على فكرة فلوس المواصلات على المجلة!
استأذنت لتذهب مبتسمة رغم كل شيء.. ثم خرجت مخلفة
وراءها الآخرين منكبين على أعمالهم.. ومقرًا يغلي محمومًا استعدادًا للعدد الجديد
من المجلة.. العدد الذي يخططون ويتمنون أن يكون مختلفًا ومدويًا!
...
كانت
أم الطفلة المجني عليها محجوزة في (مستشفي المعادي العسكري)، بعد إصابتها بجلطة في
القلب عقب علمها بما جرى مع طفلتها.. كانت المرأة ترقد في غرفة العناية المركزة
نظرًا لخطورة حالتها.. أعلن الأطباء أنها لا تستجيب للعلاج، مضت بضعة أيام وهي
ملقاة في فراشها، تحيطها أجهزة التنفس والرعاية وتمتد، منها وإليها، الخراطيم..
كان الطب الحديث يقاوم، والمرأة تدافعه بمقاومة مضادة ورغبة هائلة في الموت.. لم
يكن أحد بجانبها في المستشفي سوى أمها!
لقد
حضر زوجها بشكل سريع جدًا من السعودية حيث يعمل، حينما انتشرت أخبار الجريمة التي
تعرضت لها ابنته.. كانت الطفلة قد أدلت بأقوالها، وتم صرفها من سراي النيابة برفقة
عمها وخالين من أخوالها، كان العم معقود الحاجبين ووجهه مغبرًا بالغضب والسواد
والحزن.. جذب الطفلة من عنقها بقسوة وقال موجهًا كلامه في الأصل لشقيقي زوجة أخيه،
أم الطفلة:
-
يلا فضحتينا أنتِ وأمك!
نهره
أحد أخوال الطفلة فواجهه صارخًا، وقاومه بضراوة حينما حاول انتزاع البنت منه، وقال
له وقد تحول لحيوان متوحش:
-
والله ما تطلع من بيتي غير لما يجي أبوها ويستلمها ويتصرف فيها براحته.. يخليها،
يدبحها، هو حر في لحمه اللي اتفضح واتعرى!
أما
الأم- الراقدة بين الحياة والموت- فلم يكن بيدها شيء.. لقد جاء زوجها، وذهب من
فوره إلى بيت أخيه، ثم أخذ ابنته، وأخاها وأختها من هناك، واختفى بهم دون أن يفكر
في إلقاء نظرة واحدة على زوجته، وأم أولاده، التي يعلم أنها في المستشفى في حالة
خطرة!
لقد
تحملت المرأة أمام الآخرين وزر ما حل بابنتها، وتدهور حالتها المستمر، ورفض جسدها
الاستجابة للعلاج لا يعني سوى أنها تحمل نفس الوزر وذات المسئولية لنفسها أيضًا..
لن تطيب لها الحياة في كل الحالات والأسلم لها أن تمضي!
فإن
كنت تعيش في أرض يهاجم أهلها المجني عليه، ويلومونه، أكثر مما يهاجمون الجاني
ويلومون عليه فمن الأفضل أن تذهب بسلام تاركًا لهم مبادئهم العفنة، يطبقونها على
الآخرين سعداء فرحين، مؤمنين بعدالة نظرتهم.. حتى يأتي يوم يكتوون هم أنفسهم بتلك
المبادئ، ويشربون من نفس الكأس الذي سقوه لغيرهم ذات يوم!
دائرة
عملاقة مفرغة لا من هم داخلها راضين بالدوران فيها، ولا هم يحاولون الخروج منها..
والأكثر قبحًا أنهم لا يدعون غيرهم يفعل!
قلعة
تحترق ومن فيها يجبرون الباقين على البقاء، ومن هم خارجها لا يستطيعون الابتعاد عن
النار والدخان، ولا يُسمح لهم بالدخول لإنقاذ المحاصرين!
...
استقلت
"بتول" المصعد إلى الدور الثاني -بعد سلسلة من الإجراءات المعقدة للسماح
لها بالدخول- ولم يكن يرافقها في تلك الرحلة القصيرة سوى قلمها ودفتر صغير، وهاتف
محمول تعلقت سماعتيه بأذنيها من أسفل الطرحة.. كانت تفكر طوال الدقائق القليلة
التي قضتها في رحلة الصعود، سهل عليها أن تدخل لزيارة الأم، لكنها لن تقدم نفسها
كصحفية.. ستذهب كزائرة، كصديقة مجهولة، كمتعاطفة، كفتاة تفهم جيدًا وتدرك فداحة ما
لحق بتلك الأم المسكينة وبابنتها.. لقد ذبح هذا المجرم المحترم طفلة في عمر
أبنائه، ولكن أحدًا لم يمد يده ليضمد جراحها أو جروح أمها، بل امتدت المزيد من
السكاكين لتكرر ذبحهما، وتسيل المزيد من دمهما، جرم فعله غيرهما سوف تظلان طوال
عمرهما ، الأم والابنة ، تدفعان ثمنه ، وتعاقبان بعقابه وتؤاخذان بسببه ، وربما
عقاب الجاني نفسه وجزاءه لن يكون مساويًا لعشر ما سوف تعيشه وتعايشه وتكتوي به تلك
الطفلة وأمها.. إنها تتذكر جيدًا ما قالته لها زميلتها "ماهي"، حينما
علمت بقصة الاعتداء على الطفلة.. قالت لها بأن أحدًا لن يرضى بالزواج منها حينما
تكبر!
مع
أنها مجني عليها وليست جانية..
مع
أنها طفلة وليست ناضجة يمكنها الدفاع عن نفسها ورد الاعتداء عن جسدها الصغير البكر
الهش الضعيف!
سيتصور
كل من يفكر في الارتباط بها أنها بغي.. أو أنها سوف تتحول إلى بغي يومًا ما!
الغريبة
أننا في مجتمع يؤمن بأن المرأة ضعيفة واهنة، لا تقدر على شيء.. لكن الوضع ينقلب في
حالة تعرضها للاغتصاب تحديدًا، تتلاشى معتقداتهم القديمة، وتتبدل أفكارهم مائة
وثمانين درجة، وتتحول المرأة إلى كائن بالغ القوة، يمكنه أن يتغلب على عشرة رجال.. ويمكنها أن تحمي نفسها من كتيبة مدججة
بالسلاح، ويعلنون ببساطة: أنه لا أحد يستطيع أن يأخذ شيئًا من امرأة إلا برضاها!
وهم
أنفسهم الذين يرمون النساء بالغباء وقلة العقل وانعدام القدرات الذهنية، ويعتقدون
أنها آلة مصممة للإمتاع والحمل والولادة والطبخ، ثم يطنطنون بكيدها وقدرة كيدها،
وكيدها الذي يفوق كيد الرجال والشياطين وبني الإنس والجن، متجاهلين أن الكيد يحتاج
درجة عالية من الذكاء.. وأن الكيد لو كان عارًا وشنارًا كما يتخيلون لما وصف ربهم
نفسه في الكتاب الذي يتعبدون به ويؤمنون به بأنه (يكيد كيدًا)!
أنت
في مجتمع ليست له قواعد، مجتمع ينسج لكل حالة نسيجًا خاصًا، ويغير قناعاته ويبدلها
ويتنصل منها وفق أهوائه ومصالحه.. يؤمن بالشيء ونقيضه، وبالضد وعكس الضد وبكل
شيئين لا يجتمعا معًا ولا يوفق بينهما إلا الشديد القوي!
وتلك
المرأة التي جنى مجرم- يرتدي ثياب رجل فاضل- على ابنتها لن يلاقي من العار
والعقوبة والنبذ مثلما ستلاقي هي وطفلتها الغضة.. التي قٌصف عودها الأخضر واجتثت
جذورها وهي لا تزال نبتة تحتاج إلى الماء الصافي وضوء الشمس وليس ظلام القسوة
والعار والمستقبل الذي انتهى قبل أن يبدأ!
أصدر
المصعد صوتًا مفاجئًا فارتجفت "بتول" وانتبهت فجأة لتجد رجلين ينضمان
إليها في المصعد وأحدهما يبدأ في إغلاق الباب، تلفتت حولها مندهشة بذهن أبيض مبقع
ببقع طافية بنية وحمراء قانية، أدركت حينما نظرت إلى لوحة المصعد الرقمية أن
المصعد وقف بها في الدور الثالث، ودخل رجلين جديدين بينما هي لا تزال واقفة فيه
كتمثال حجري.. ملأها خوف مفاجئ طارئ غريب وأحست وكأن الرجلين يغلقان عليها طريق
الخروج ويضمران لها شرًا.. تنفست للحظة بصوت مرتفع وظهر عليها مزيج من الرعب
والتوتر ومدت يدها نحو الباب.. سألها أحدهما بلطف:
-
نازلة تحت؟!
لم
تجب.. لكنها انطلقت كسهم ومرقت من بينهما بسرعة البرق حتى صارت خارج المصعد!
رمقها
أحدهما وهي تجري بهلع مبتعدة وقال لرفيقه:
-
مالها بنت المجنونة دي؟!
فرفع
الآخر حاجبيه وابتسم ببساطة وقال وكأنه يقدم حقيقة كونية مثبتة علميًا:
-
هما كلهم اتجننوا اليومين دول!
لم
يفصح الرجل عما يقصده بـ (كلهم).. لكن "بتول" مضت في طريقها إلى الغرفة
التي ترقد فيها أم الضحية.. بينما مضى الرجلان في طريقهما وهي لا تدرك أن أحدهما
هو والد البنت المجني عليها.. وقد جاء ليلقي نظرة أخيرة على زوجته ويخبر أمها بأنه
قد طلق ابنتها!
تعليقات
إرسال تعليق