سحبت
ضلفة الباب برفق استجابة للطرقات الخفيفة عليه .. كانت ثمة نقرات خفيفة بدت وكأنها
محدثة بأطراف الأصابع .. فُتح الباب وظهرت خارجه امرأة ثلاثينية حسناء ترتدي
فستانا أنيقا قصيرا من التويد يكسوه معطف طويل يصل إلي الركبتين ويحلي أعلاه كرات
من الفراء الضارب للصفرة تمنح المزيد من الجمال وتضفي أناقة زائدة علي بدنه
المصنوع من قماش بني سميك .. وفي يد المرأة ذات المعطف كانت هناك طفلة في نحو
الخامسة من العمر بقبعة أنيقة على رأسها وبنظرة هادئة في عينيها العسليتين الواسعتين
، لكن صاحبة البيت التي تولت فتح الباب أحست أن تحت نظرات الطفلة توجد شقاوة راسخة
وعبث كامن يستحسن جدا أن تأخذ حذرها منهم .. أما على الجهة الأخرى من الباب الضخم
فكانت السيدة " رودولف " ، وهي امرأة نحيفة لها وجه مستطيل غائر
الوجنتين وملامح قاسية ونظرة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال .. كان وجهها
وملامحها يوحيان بالقسوة .. وقد كانت فعلا أكبر ممثل في زمنها للقسوة وبرود
المشاعر !
ورغم أن
إحضار طفلة إلي مثل هذا المنزل ولمشاهدة ما يأتي الجميع لمشاهدته هنا لم يكن أمرا اعتياديا
فقد امتلأت نفس المرأة الثانية بالدهشة .. لكن ملامحها الصلبة الثابتة لم تبين أي
شيء .. فتحت الضيفة حقيبة يدها بصمت وأخرجت منها كومة عملات معدنية دفعتها بصمت في
يد السيدة " رودولف " فشدت الأخيرة شفتيها إلي الوراء محاولة رسم
ابتسامة مداهنة ، نظيرا للمال الذي دُفع مقدما ، إلا أنها فشلت في تحقيق غرضها ولم
تستجب عضلات وجهها لمحاولاتها المضنية التي تبذلها لرسم ابتسامة زائفة .. فتلك
الملامح تعودت الجمود والتصلب حتى لم تعد تعرف كيف يمكن أن ترتخي صانعة ابتسامة
حتى لو كانت مزيفة بالكامل !
تنهدت
السيدة " رودولف " أخيرا وقالت للسيدة الزائرة وعينيها أصلا على الطفلة
التي ترمقها بهدوء وهى متعلقة بيد أمها :
"
أتبعيني ! "
أطاعتها
الزائرة علي الفور وتحركت مقتفية أثرها عبر ردهتين طويلتين متصلتين ، أفضت الثانية
منهما إلي سلم رخامي مغطي بسجادة وثيرة تفترش كامل درجاته .. ارتسمت ابتسامة باهتة
علي شفتي الزائرة وهي تتابع مضيفتها التي تتقدمها وقال في نفسها :
"
سجادة باهظة الثمن .. تلك المرأة تكسب جيدا من عملها ! "
وبالفعل
كانت السيدة " رودولف " تكسب جيدا ، بل جيدا جدا من عملها .. رغم أنه لم
يكن لها عمل على الإطلاق !
...
منذ
سنوات قليلة لم يكن " هيل هاوس
" بتلك الأبهة والفخامة ، وبالطبع لم يكن يحوي شيئا من تلك المفروشات ولا
الأثاثات الفاخرة .. في الحقيقة كان مجرد منزل حجري ضخم ، مقر بدائي بني على هيئة
متحضرة .. ورغم أنه أنشئ ليكون شيئا معينا فإنه تحول ليصير شيئا مخالفا مختلفا
تماما .. ومن مقر إقامة خاص تغير ليصبح مؤسسة عامة .. ومن منزل للرفاهية والارستقراطية
تحول ليصبح ملجأ للأيتام حيث البؤس والشقاء والفقر والتقاتل من أجل الحصول على ربع
رغيف زائد ليلة الأحد السعيدة المنتظرة !
كل ذلك
كان يمكن غفرانه للسيدة النحيلة ذات الوجه المتصلب المضبوط علي سمت
واحد لا يتغير ، فكل مؤسسات ودور رعاية الأيتام
واللقطاء تكون عادة على ذات الشاكلة ، إنها شريكة في جريمة عامة وليست مجرمة فيها
وحدها .. لكن ما يحدث الآن ، وما بدأ قبل بضع شهور ، كان جريمة فريدة من نوعها ..
جريمة هي الفاعلة الوحيدة فيها ، ولا شركاء لها ، تلك المرة .. فقد بلغ الحد
بالمرأة الجسور أنها جعلت من عاهة طفل وليد بلا أب ولا أم ولا نسب معروف ، مصدر
رزق وفير لها .. لها وحدها فلم يكن للجمعية ، التي تديرها ، بصفتها وكيلة المؤسسين
والمشرفة المباشرة عليها ، نصيب في الأرباح الهائلة التي كانت السيدة تتحصل عليها
من مجرد فتح الباب للزائرين وإغلاقه خلفهم !
...
كانت
الزائرة آتية أصلا بتوصية من صديقة موسرة مولعة بالطرائف والغرائب تدعي "
آناستازيا " .. نصحت " أناستازيا " صديقتها الأم لطفلة وحيدة
والمتزوجة من تاجر ثري ، والتي تعاني من الملل الدائم وقلة الإثارة والشغف في
حياتها ، بالقيام بزيارة خاطفة إلي " هيل هاوس " .. مؤكدة لها أنها ستري
هناك ما يجعلها تغفر فاها إعجابا ودهشة .. وربما تشعر بذعر وقلق وتوتر يكفونها ما
بقي من حياتها !
ذلك أن
السيدة " رودولف " كانت تحتفظ في المنزل / المؤسسة بشيء فريد من نوعه ..
شيء لا يمتلك مثله كثيرون ، ولا سبيل للحصول عليه مهما دُفع في مقابلة من أموال
طائلة .. شيطان حقيقي !
شيطان
حقيقي وحي يتنفس .. شيطان في صورة طفل ينام في مهد منفرد ، بعيدا عن الآخرين ، ولا
يمكن الدخول إليه أو رؤيته إلا بإذن من حاميته ومثمنته العجوز وبعد دفع مقابل سخي
لها !
مقابل
كان تافها حقا في نظر الزوجة الشابة ذات البعل الذي لا يألوا جهدا في سبيل إسعادها
ويغمرها غمرا بالمال !
لذلك
أتت اليوم مصطحبة طفلتها لتمتع نظرها وتستمتع بالرجفة الهائلة والذعر المسيطر الذين وعدتها صديقتها
بهما !
خطت
المرأة بثقة مقتادة ضيفتها وطفلتها إلي باب جانبي بدا أنه الوحيد المستخدم في ذلك
الممر ، فقد أحاطت به أبواب متجهمة مقفلة عليها أقفال ضخمة صدئة تظهر بوضوح أنها
مغلقة للأبد أو حتى إشعار آخر لا يعرف أحد متى يأتي !
استخرجت
مفتاحا من جيب مريولها وفتحت الباب ذو اللون الضارب إلي النحاسي ، بدت المرأة
وكأنها تعيش في محيط كله مصبوغ باللونين البني والنحاسي مع درجات من الأخضر الناجم
عن الرطوبة والتصبغ الذي يتركه الإهمال على المباني الحجرية القديمة .. طفت بقع من
التعفن الأخضر على الجدران المحيطة وأسفر الجو العام عن مكان لا يصلح لعيش أطفال
يستقبلون الدنيا بأرواح لا تزال طرية تظهر عليها علامات الخلق ودلائل النقش الذي
خطته اليد العليا في الكون على وجوهم النضرة الصغيرة .. مكان لا يصلح فعليا لهم
ولا لأي كائن بشري طبيعي .. ربما فيما عدا السيدة " رودولف " التي بدا
الجو المقبض المحيط بها متسقا تماما مع ملامحها وشكلها العام المثير بدوره
للانقباض والكآبة !
دار
المفتاح في الباب وصارت المرأتين والطفلة المترددة خلفهما علي عتبة الغرفة
الداخلية .. كانت الغرفة تسبح في نور مصباح غاز مضمحل فأسرعت السيدة بإشعال مصباح
ثان ليكثف من النور بالغرفة ويزيد الموجودات بها وضوحا .. وحتى في رابعة النهار
فلم يكن سيظهر من الموجود بالغرفة شيء .. لأنها كانت خاوية تماما من كل شيء !
لم يكن
بها سوي مهد مرتكن إلي الجدار الجنوبي من الغرفة وليس حوله أي شيء .. بدا وحيدا
جدا ومنعزلا ومثيرا للشفقة .. لكنه لم يكن قد بدأ يبدو مثيرا للهلع بعد !
تلك
مرحلة آتية حتما وبمجرد أن تزيح السيدة " رودولف " الغطاء الذي يكسو
المهد ويخفي ما يوجد بداخله عن أعين المتطفلين الراغبين في مشاهدة مجانية !
لا
مشاهدة مجانية هنا فإذا أردت أن تشاهد الشيطان فعليك بمنتهي التأكيد أن تدفع ..
دفعت الأم الشابة وانتظرت أن تحصل على الخدمة ولم تتأخر عليها السيدة مالكة الطفل
في تلبية رغباتها !
ولأن
الزائرة دفعت أكثر مما أعتاد الآخرون دفعه بمرتين ونصف فقد كانت تستحق أن تحصل على
خدمة خاصة زائدة .. ولذلك لم ترفع السيدة " رودولف " طرف الغطاء تاركة
الضيفة تلقي نظرة خاطفة علي الشيطان الطفل بل إنها ، وإظهارا لكرمها الِشديد وحسن
ضيافتها ، انتزعت الغطاء بأكمله وفكت أطرافه من الحلقات المثبت إليها معرية الفراش
الصغير بأكمله وكاشفة عما يرقد فيه .. ألقت الزائرة نظرة واحدة على وجه الطفل ثم
وضعت يدها على فمها لتكتم صرختها وتحبسها قبل أن تجلجل في الجيرة بأكملها .. وارتدت
خطوتين إلي الخلف وانقبضت ملامحها وتقلصت !
كان
أبشع طفل يمكن تخيله يرقد نائما ، غارقا في النوم ، في المهد الفقير !
وجه
صغير مفلطح بجبهة مرتفعة تتوسطها كتلة محمرة لم تكن ماهيتها واضحة من النظرة الأولي
.. لكن عند إمعان النظر يتبين بسهولة أنها عين !
عين إضافية
نابتة في جبهة الرضيع ومكشوفة لا تغطيها جفون ولا أهداب ومغطاة بعروق دموية نابضة تظهر
حمرة الدماء وهي تجري في العروق المغذية للعين الثالثة .. وأسفل الجبهة المفلطحة أستقر
حاجبان مرتفعان وزواياهما منحدرة بشدة إلي أسفل صانعين أقواسا غير مستوية تغطي
عينان مغلقتان صغيرتان جدا جدا ، بدتا لشدة صغرهما غير موجودتين أصلا !
وبالإضافة
إلي ذلك كانت الجبهة وما حول العينان وحتى منتصف الوجه مصطبغة بلون بني غامق مسود
أما باقي الوجه فكانت حمراء زاعقة الحمرة ملتهبة بالنار ., الخدين كانا منتفخين ومسودين
بشدة تعلوهما كتل جافة متكلسة عظمية غريبة الشكل .. ويتوسط الوجه أنف متسع الحواف
شبيه بمنخر جواد يلهث لكن أنف الفتي كان أكثر ضخامة وفتحاته أكثر اتساعا !
أما
الفم فكان مزموما بشدة ومسحوبا إلي الداخل .. وبدا وكأن هناك يد خفية تضغط علي
شفتي الولد وتسحبهما وتضغطهما إلي الداخل !
والكارثة
أن الطفل كان نصف عاري وظهر قفصه الصدري العاري المشوه بوضوح وأعلي بطنه حيث كانت
توجد قدم صغيرة نامية من حوضه وواصلة إلي بطنه .. قدم بنصف ساق ملتوية وبستة أصابع ضخمة ظاهرة تماما !
أخيرا
لم تعد السيدة تحتمل .. ارتجفت وتقلصت أمعائها وبدأت تفرغ ما بجوفها !
ألتوت
شفتي المضيفة في اشمئزاز ولوم صامت إلا أنه لم يكن بوسعها الاعتراض .. يمكنها تحمل
تكلفة تنظيف القيء على أية حال .. لكنها تنوي أن تطالب بأعباء وظيفية إضافية حينما
تفرغ السيدة من التقيؤ !
أخيرا استعادت
الزائرة سيطرتها على نفسها وجزء من طبيعتها الهادئة .. سارعت السيدة " رودولف
" بإبعاد منظر الطفل المشوه عن عينيها عن طريق إعادة غطاء المهد وتثبيته في
موضعه كما كان أولا .. وعندما فرغت هي الأخرى نظرت إلي ما يوجد أمامها وأخذت تنقل
عينيها بين ضيفتها وبين بقع القيء التي غطت مساحة لا بأس بها من الأرضية الخشبية
المكشوفة هادفة إلي توصيل رسالة للزائرة فحواها :
"
سيكون لهذا أجر إضافي ! "
لكن
الزائرة لم تبالي بها بل أخذت تفكر في سبب ما اعتراها من ذعر واشمئزاز !
هل هو
فقط منظر الرضيع المسكين المشوه المرعب حقيقة .. أم أن رعبها الأساسي كان من
السيدة " رودولف " نفسها ؟!
لقد
بدأت بوادر الاشمئزاز تبزغ داخلها منذ أن دخلت خلف صاحبة المكان إلى هنا وشاهدت
المهد الوحيد المنعزل .. وأحست برغبتها في التقيؤ ليس من أول نظرة ألقتها على الوجه
الصغير المخيف ، بل من لحظة أن شاهدت السيدة وهي تزيح الغطاء عن المهد وتنتزعه
وكأنها تزيح ستارا عن عرض مسرحي تعلق عليه أملا في أن يدر لها دخلا مرضيا كثيرا ..
إن المرأة الحقيرة تتخذ من عذاب طفل لا يدري شيئا عما يجري حوله ، ومن عاهته
وتشوهه وسيلة للكسب ومصدرا لزيادة الدخل !
أحست
أنها تريد أن تبصق عليها .. ليست تلك المتعة ولا السلوى التي وعدتها بها " آناستازيا
" التافهة اللعوب !
إنها حقارة
كاملة .. حقارة ووضاعة تثير الاشمئزاز وتدفع المرء للتقيؤ .. إن السيدة "
رودولف " هي المثيرة للذعر لا الطفل المسكين الذي بدا أنه يرقد وهو ينعم بسلام
لن ينعم به أمثال تلك التاجرة الحقيرة مهما حاذوا من أموال وكدسوا من ثروات !
لم تعد
تحتمل البقاء هنا .. تجاهلت المعني الوضيع الكامن خلف نظرات المرأة الشريرة
المستجدية الشيطانية وهمت بالخروج .. استدارت لتأخذ يد طفلتها وتبعدها وتبتعد بها
عن هنا .. لكنها لم تجد الطفلة واقفة حيث تركتها !
كادت
تصرخ من الذعر وتحولت لتنظر إلي السيدة الواقفة كلوح جامد بلا حياة وصرخت فيها
مستفهمة راجية أن تجد إجابة عندها :
"
أين الفتاة .. أين ابنتي ؟! "
ابتسمت السيدة
" رودولف " ابتسامة كريهة شامتة وهتفت بلا اختلاجة خوف أو رنة كذب :
"
أية فتاة ؟! لم يكن معك فتيات حينما دخلت إلي هنا ! "
تمت
تعليقات
إرسال تعليق