هي مجلة جديدة من التي نشأت وازدهرت عقب يناير 2011.. أسسها مجموعة من الشباب الواعي المثقف، المتطرف ثوريًا حتى النخاع، كان جلهم ممن درسوا الصحافة دراسة أكاديمية، وبقيتهم ممن يهوونها ويجدون في أنفسهم الكفاية والموهبة للعمل بها، حتى وإن لم يكونوا قد درسوا الصحافة كعلم وفن له قواعد وأصول.. كانت تلك المجلة حلمهم، وقد أطلقوا عليها اسمًا يلائم صفتها في حياتهم، كانت حلمًا تحقق، وفكرة خيالية وطموح جنوني، وقد ترك السماء وهبط لهم على الأرض في صورة قابلة للمس وللإمساك بها.. كان معظمهم شبابًا، وإن كان رئيس تحريرها أكثر مرونة وأقل سلطوية من رئيس تحرير جريدة (كرمة الحق)، وأقل ميلًا لتحييد كبار السن واستبعادهم؛ لذلك كان من ضمن هيئة تحرير المجلة كتاب كهول أو كبار السن، وقد تفضل كاتب كبير اسمه يثير الرهبة لدى المكتبات ودور النشر، بقبول دعم هؤلاء الشباب الطموحين، من خلال وعده بأن يكتب مقالًا نصف شهري في المجلة بدون مقابل، كانت المجلة نصف شهرية، وقد وُعد بأن تتحول إلى أسبوعية خلال فترة قصيرة.. استخدم لها مقرًا صغيرًا أنيقًا، وقد شعرت "بتول"، حين دلفت بقدمها أول مرة إلى ذلك الوكر الصحفي الراقي بأنه مختلف تمامًا عن جريدتها السابقة، وعن الظروف التي أحاطت بإصدارها وبعملها هي وزملائها فيها.. كان من الواضح أن للمجلة تمويلًا جيدًا.. لكن من يمولها تحديدًا؟!
لم يُطرح هذا السؤال في الاجتماع التمهيدي، الذي حضرته "بتول" بدعوة من ثلاثة شباب صحفيين جدد ممن رُشحت أسماؤهم للعمل بالمجلة، وكان أحدهم زميلًا سابقًا لها في (كرمة الحق)، أما الآخرين فقد كانا زميلين لها في الكلية، وكانا يعرفان مدى نشاطها وحبها للصحافة، وقدرتها على ابتكار واستيلاد الأفكار الجديدة.. كانت تلك الرفقة الصغيرة مشجعة لـ "بتول" على الموافقة على فرصة العمل والقبول بها، كانت تعرف أن أباها وخطيبها توافقا على منعها من العمل، وإجبارها على البقاء في المنزل، وقد خضعت لفكرهما لفترة لعدة أسباب، فقد كانت محطمة النفس بعد اعتقالها المؤقت، وإطلاق سراحها السريع، ملأتها خيبة الأمل والإحباط بعد إغلاق جريدتها الأولى، وتسريح من بها من صحفيين، بعد القبض على معظم العاملين بها في وقفة النقابة الاحتجاجية، أما "حسين" فقد كان يمثل لها الأمل في الخروج من منزل العائلة، وأن يصبح لها بيت وحياة مستقلين، وأن تكون في عصمة رجل تحبه ويحبها، وتثق أنه لن يرفض لها طلبًا ولن يؤخر لها رغبة أو يمنعها من تحقيق أحلامها.. لكن أيام قليلة وبدأت كافة تلك الأوهام تنهار وتسقط فوق رأسها، أدركت أنها أخطأت حين قررت أن تحمل مسئولية أحلامها كلها لخطيبها، وتجعله مسئولًا عن تحقيقها لها، أبوها وأمها و"حسين" لم يعد يشغلهم روحها ولا نفسيتها، ولا حلمها ولا مستقبلها، إنهم فقط يحصرون تفكيرهم فيما بين ساقيها.. يريدون الاطمئنان على عذريتها التي هي أهم لديهم من حياتها، ولا يبالون بكسر نفسها أو إهدار كرامتها، لا يصدقونها، ويجعلون منها متهمة وهي بريئة.. وجانية ملزمة بتقديم دليل براءتها وهي مجني عليها!
إنها وحدها في معركتها حتى خطيبها بات من الواضح أنه ينوي أن يتخلى عنها ويتركها ويقفل بابه في وجهها إن لم تقدم له دليل طهارتها وصون شرفها!
إنها معركتها وحدها، وقد فهمت أخيرًا أن من الخطأ أن تجعل هدفًا واحدًا مدارًا لحياتها، أو أن تقصر عمرها على مرضاة أحد.. البائس هو من يقصر عمره على هدف واحد.. سنوات عمرها بيوض حياتها.. وقد قررت ألا تضع بيوض عمرها كلها في سلة واحدة!
...
رحبوا بها ترحيبًا حارًا في المجلة، والتف حولها عدد من الشباب والفتيات المتحمسين، الذين يعرفون أنها اعتُقِلَت وتم حبسها لمدة بسيطة، عقب فض مظاهرة سلالم النقابة بالقوة.. كانوا ينظرون إليها كما ينظرون إلى سلمندر خرج لتوه من النهر، ووقف وسط مكاتبهم المودرن الخفيفة يقطر ماء، إنه حدث كوني أن يلتقوا بفتاة واجهت الشرطة وقنابل الغاز والحبس والاعتقال والتهديد والتحقيق وربما التعذيب كذلك!
التفوا حولها وأخذوا يرحبون بها، ويحادثونها ويلقون عليها الأسئلة والنكات.. ثم أرسل رئيس التحرير في طلبها!
شعرت بالارتباك وأخذت تفكر في التخلص من حقيبة يدها أو أخذها معها، كانت تلك أول مرة تدلف إلى مكتب رئيس تحرير حقيقي.. لم يكن هناك مكاتب منفصلة، ولا رهبة الفصل بين الموظفين، أو التعالي البيروقراطي في الجريدة التي كانت تعمل بها سابقًا، كانوا مجرد أسرة مع بعضها، وحتى الطعام كانوا يتشاركونه، وزجاجة المشروب الغازي كان كثيرًا ما يشترك فيها شابان أو فتاتان من أسرة الجريدة معًا، رئيس التحرير نفسه لم يكن يزيد عن شاب عصري أنيق في بساطة وبغير تكلف، ولديه كل مرح الشباب وانطلاقهم، وكرههم للصرامة الإدارية والتعقيدات الوظيفية، إنها تفتقد جو العمل الودي، والأخوة الطبيعية البسيطة، لم يكن هناك تعقيدات، ولا رئيس تحرير متوارٍ في مكتب مغلق الأبواب، ولا مكاتب لامعة تؤذي العين بلمعانها وإحساس البرودة والتنائي الذي تنشره حولها.. لكن برغم ذلك هي سعيدة بتلك الفرصة وتنوي أن تستغلها أفضل استغلال.
ستذهب للقاء رئيس التحرير، وسوف تحصل على ثقته، ولن تضيع فرصة أن تفتح صفحة جديدة مع نفسها ومع العالم كله.. تحركت بأقدام ثابتة نحو باب غرفة مكتب رئيس التحرير، كانت تشعر ببعض البرودة والاضطراب، إلا أنها طردت أحاسيسها غير السارة بعيدًا، وتماسكت وسيطرت على أعصابها وأعضاء جسدها.. وفي اللحظة التي صارت فيها مواجهة لباب المكتب المغلق مباشرة إذ بهاتفها المحمول يدق.. ملأت أصوت عصافير غرفة التحرير ومعها نغمات آلات وترية مصاحبة.. أحست "بتول" بالمفاجأة، وفتحت حقيبتها بسرعة، وانتزعت الهاتف المنزوي في ركن بجوار علبة البودرة الغامقة اللون التي تحملها معها؛ لتصلح من زينتها في وقت العمل الطويل، وبمجرد أن نظرت إلى الشاشة حتى عرفت أنه هو من يطلبها.. "حسين"!
نظرت إلى الاسم المكتوب برفقة كنية تدليل وتحبب، أسبغتها عليه منذ يوم أن تلاقيا واتفقا على المحبة والإخلاص، كنية الحب والإخلاص، الحب حينما يتم اختصاره واختصار كل المعاني الجميلة التي تدور حوله، والتي يحملها في أحشائه، في كلمة واحدة أو كنية صغيرة، أو بضعة حروف تبدو غير مترابطة، لكن بينها أشد الصلات وأقوى الروابط.. تذكرت كل هذا، ثم ما لبث تفكيرها أن انحرف إلى ما فعله معها، وما يطلبه منها الآن، يطلب أن تقدم إليه دليلًا على أن أحدًا لم يمسها قبله.. أن قطعة الحلوى التي اختارها لنفسه لم يمزق ورق غلافها قبله إنسان.. وكأنه اشترى لنفسه الورقة لا قطعة الحلوى نفسها!
امتلأت نفسها غيظًا وإحساسًا بالمهانة، اختلطا بحنين جارف مؤلم إليه.. تطلعت إلى الشاشة لنصف ثانية.. ثم حسمت أمرها وضغطت علامة عدم الرد!
أغلقت الهاتف نفسه، ثم مضت بخطوات ثابتة نحو غرفة رئيس التحرير، خطوتها القوية نحو من كانت تعشق الضعف أمامه من قبل، زادتها قوة ورسوخًا في الأرض تحتها.. مدت خطواتها وطرقت الباب بأناملها برفق، ثم دخلت وهي تُذَكر نفسها بأنها معركتها وحدها.. وأنها يجب أن تخوض معاركها، هنا وفي البيت وأمام من تحب، وحدها أيضًا!
...
خرجت منتشية محلقة في السماء من مكتب المدير.
إنها لم تشعر بأن أحدًا يقدر مواهبها ويثمن جهودها وينوي الاستفادة منها هكذا من قبل!
لقد رفعها الرجل في السماء بكلماته ووعوده الطيبة، تعهد بأن يفتح لها مجالًا للابتكار، ولتطبيق أفكارها الجديدة والخلاقة، وأن يدعمها لتصبح صحفية محترفة، كانت وعود الرجل تشمل الجميع لكنه بدا أنه يخص "بتول" بعناية خاصة فائقة، رجل محترم في الأربعين أنيق بهي الطلعة ومتفهم وحلو الحديث، يمتاز بأنه من النوع الذي يجيد الإنصات ويحسن الاستماع، مستمع جيد ومقدر رائع لما يطرح عليه من أفكار.. وتعبيرًا عن حسن نيته المبيتة المسبقة، وكبادرة طيبة أولية، وافق على اقتراح خجول تقدمت به البنت، وهي تتحدث بشكل طبيعي، ودون أن تتعمد الظهور بمظهر المتدخلة في سياسة المجلة وشئون رئاسة التحرير، بأن يتم تخصيص صفحة في المجلة لطلاب أقسام الصحافة في كليات الإعلام والآداب؛ لعرض وجهات نظرهم ومقترحاتهم وطموحهم للمهنة وتطويرها، صفق رئيس التحرير، الذي كان يجلس بالقميص الأبيض الشاهق، ورباط العنق الأنيق الهادئ الألوان ووعد بأن يضع الاقتراح موضع الدراسة الجادة.. ثم قال للبنت التي بدأت تحلق في السماء من الفرحة:
- وعندما أحيل أنا اقتراحًا للدراسة فهذا معناه أنني شخصيًا موافق عليه!
غادرت "بتول" الحجرة، وعادت إلى صالة التحرير الصغيرة المنظمة، وابتسامة كبيرة تحتل وجهها.. تقدمت منها فتاة شابة أنيقة ترتدي سروال جينز ضيق يحدد معالم أرادفها بوضوح، وفوقه بلوزة طويلة من الحرير الأزرق الصافي اللامع، وتربط طرحة صغيرة وتلفها بالطريقة الإسبانية (الإسبانيش)، التي راجت في مصر فترة ما ثم كادت تختفي؛ لتعود من جديد، كانت الفتاة تبدو مرحة منطلقة وقد حملت بين يديها سلة صغيرة أنيقة من الخوص الملون، كان بالسلة عدة قطع من شيكولاتة شهيرة، وزجاجة مشروب غازي بطعم الليمون، وقطع من الحلوى الصغيرة الصلبة (دروبس) بطعوم فواكه مختلفة، تفاح وفراولة وخوخ وبطيخ، وتقدمها لـ "بتول" بأناقة وهي تهتف برقة:
- نورتينا يا آنسة "بتول".. إحنا فرحانين جدًا إنك هتبقي معانا هنا!
ابتسمت "بتول"، وطارت فرحة في السماء، شعرت أن روحها حرة طليقة ترفرف في الأعالي؛ لدرجة أنها سمعت زقزقة عصافير تحلق معها في السماء، وتشاركها فرحة الحرية والانطلاق.. أجفلت لدقيقة، وحسبت أنها زقزقة هاتفها الذي أغلقته منذ قليل، فتحت حقيبتها بوجه قلق الملامح، أخرجت الهاتف وتطلعت إليه، كان صامتًا مسود الشاشة وغائبًا عما يجري في الكون من حوله وحول صاحبته.. ارتدت السعادة كاملة إلى ملامحها وأعادت الهاتف إلى حقيبتها وهي تبتسم سعيدة.. إن العصافير تزقزق وتغني في عقلها لا في حقيبتها!
تعليقات
إرسال تعليق