التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بتول : ماذا فعلوا بالشمس ( رواية مسلسلة ) الحلقة الخامسة عشرة

 

هي مجلة جديدة من التي نشأت وازدهرت عقب يناير 2011.. أسسها مجموعة من الشباب الواعي المثقف، المتطرف ثوريًا حتى النخاع، كان جلهم ممن درسوا الصحافة دراسة أكاديمية، وبقيتهم ممن يهوونها ويجدون في أنفسهم الكفاية والموهبة للعمل بها، حتى وإن لم يكونوا قد درسوا الصحافة كعلم وفن له قواعد وأصول.. كانت تلك المجلة حلمهم، وقد أطلقوا عليها اسمًا يلائم صفتها في حياتهم، كانت حلمًا تحقق، وفكرة خيالية وطموح جنوني، وقد ترك السماء وهبط لهم على الأرض في صورة قابلة للمس وللإمساك بها.. كان معظمهم شبابًا، وإن كان رئيس تحريرها أكثر مرونة وأقل سلطوية من رئيس تحرير جريدة (كرمة الحق)، وأقل ميلًا لتحييد كبار السن واستبعادهم؛ لذلك كان من ضمن هيئة تحرير المجلة كتاب كهول أو كبار السن، وقد تفضل كاتب كبير اسمه يثير الرهبة لدى المكتبات ودور النشر، بقبول دعم هؤلاء الشباب الطموحين، من خلال وعده بأن يكتب مقالًا نصف شهري في المجلة بدون مقابل، كانت المجلة نصف شهرية، وقد وُعد بأن تتحول إلى أسبوعية خلال فترة قصيرة.. استخدم لها مقرًا صغيرًا أنيقًا، وقد شعرت "بتول"، حين دلفت بقدمها أول مرة إلى ذلك الوكر الصحفي الراقي بأنه مختلف تمامًا عن جريدتها السابقة، وعن الظروف التي أحاطت بإصدارها وبعملها هي وزملائها فيها.. كان من الواضح أن للمجلة تمويلًا جيدًا.. لكن من يمولها تحديدًا؟!

لم يُطرح هذا السؤال في الاجتماع التمهيدي، الذي حضرته "بتول" بدعوة من ثلاثة شباب صحفيين جدد ممن رُشحت أسماؤهم للعمل بالمجلة، وكان أحدهم زميلًا سابقًا لها في (كرمة الحق)، أما الآخرين فقد كانا زميلين لها في الكلية، وكانا يعرفان مدى نشاطها وحبها للصحافة، وقدرتها على ابتكار واستيلاد الأفكار الجديدة.. كانت تلك الرفقة الصغيرة مشجعة لـ "بتول" على الموافقة على فرصة العمل والقبول بها، كانت تعرف أن أباها وخطيبها توافقا على منعها من العمل، وإجبارها على البقاء في المنزل، وقد خضعت لفكرهما لفترة لعدة أسباب، فقد كانت محطمة النفس بعد اعتقالها المؤقت، وإطلاق سراحها السريع، ملأتها خيبة الأمل والإحباط بعد إغلاق جريدتها الأولى،  وتسريح من بها من صحفيين، بعد القبض على معظم العاملين بها في وقفة النقابة الاحتجاجية، أما "حسين" فقد كان يمثل لها الأمل في الخروج من منزل العائلة، وأن يصبح لها بيت وحياة مستقلين، وأن تكون في عصمة رجل تحبه ويحبها، وتثق أنه لن يرفض لها طلبًا ولن يؤخر لها رغبة أو يمنعها من تحقيق أحلامها.. لكن أيام قليلة وبدأت كافة تلك الأوهام تنهار وتسقط فوق رأسها، أدركت أنها أخطأت حين قررت أن تحمل مسئولية أحلامها كلها لخطيبها، وتجعله مسئولًا عن تحقيقها لها، أبوها وأمها و"حسين" لم يعد يشغلهم روحها ولا نفسيتها، ولا حلمها ولا مستقبلها، إنهم فقط يحصرون تفكيرهم فيما بين ساقيها.. يريدون الاطمئنان على عذريتها التي هي أهم لديهم من حياتها، ولا يبالون بكسر نفسها أو إهدار كرامتها، لا يصدقونها، ويجعلون منها متهمة وهي بريئة.. وجانية ملزمة بتقديم دليل براءتها وهي مجني عليها!

إنها وحدها في معركتها حتى خطيبها بات من الواضح أنه ينوي أن يتخلى عنها ويتركها ويقفل بابه في وجهها إن لم تقدم له دليل طهارتها وصون شرفها!

إنها معركتها وحدها، وقد فهمت أخيرًا أن من الخطأ أن تجعل هدفًا واحدًا مدارًا لحياتها، أو أن تقصر عمرها على مرضاة أحد.. البائس هو من يقصر عمره على هدف واحد.. سنوات عمرها بيوض حياتها.. وقد قررت ألا تضع بيوض عمرها كلها في سلة واحدة!

...

رحبوا بها ترحيبًا حارًا في المجلة، والتف حولها عدد من الشباب والفتيات المتحمسين، الذين يعرفون أنها اعتُقِلَت وتم حبسها لمدة بسيطة، عقب فض مظاهرة سلالم النقابة بالقوة.. كانوا ينظرون إليها كما ينظرون إلى سلمندر خرج لتوه من النهر، ووقف وسط مكاتبهم المودرن الخفيفة يقطر ماء،  إنه حدث كوني أن يلتقوا بفتاة واجهت الشرطة وقنابل الغاز والحبس والاعتقال والتهديد والتحقيق وربما التعذيب كذلك!

التفوا حولها وأخذوا يرحبون بها، ويحادثونها ويلقون عليها الأسئلة والنكات.. ثم أرسل رئيس التحرير في طلبها!

شعرت بالارتباك وأخذت تفكر في التخلص من حقيبة يدها أو أخذها معها، كانت تلك أول مرة تدلف إلى مكتب رئيس تحرير حقيقي.. لم يكن هناك مكاتب منفصلة، ولا رهبة الفصل بين الموظفين، أو التعالي البيروقراطي في الجريدة التي كانت تعمل بها سابقًا، كانوا مجرد أسرة مع بعضها، وحتى الطعام كانوا يتشاركونه، وزجاجة المشروب الغازي كان كثيرًا ما يشترك فيها شابان أو فتاتان من أسرة الجريدة معًا، رئيس التحرير نفسه لم يكن يزيد عن شاب عصري أنيق في بساطة وبغير تكلف، ولديه كل مرح الشباب وانطلاقهم، وكرههم للصرامة الإدارية والتعقيدات الوظيفية، إنها تفتقد جو العمل الودي، والأخوة الطبيعية البسيطة، لم يكن هناك تعقيدات، ولا رئيس تحرير متوارٍ في مكتب مغلق الأبواب، ولا مكاتب لامعة تؤذي العين بلمعانها وإحساس البرودة والتنائي الذي تنشره حولها.. لكن برغم ذلك هي سعيدة بتلك الفرصة وتنوي أن تستغلها أفضل استغلال.

ستذهب للقاء رئيس التحرير، وسوف تحصل على ثقته، ولن تضيع فرصة أن تفتح صفحة جديدة مع نفسها ومع العالم كله.. تحركت بأقدام ثابتة نحو باب غرفة مكتب رئيس التحرير، كانت تشعر ببعض البرودة والاضطراب، إلا أنها طردت أحاسيسها غير السارة بعيدًا، وتماسكت وسيطرت على أعصابها وأعضاء جسدها.. وفي اللحظة التي صارت فيها مواجهة لباب المكتب المغلق مباشرة إذ بهاتفها المحمول يدق.. ملأت أصوت عصافير غرفة التحرير ومعها نغمات آلات وترية مصاحبة.. أحست "بتول" بالمفاجأة، وفتحت حقيبتها بسرعة، وانتزعت الهاتف المنزوي في ركن بجوار علبة البودرة الغامقة اللون التي تحملها معها؛ لتصلح من زينتها في وقت العمل الطويل، وبمجرد أن نظرت إلى الشاشة حتى عرفت أنه هو من يطلبها.. "حسين"!

نظرت إلى الاسم المكتوب برفقة كنية تدليل وتحبب، أسبغتها عليه منذ يوم أن تلاقيا واتفقا على المحبة والإخلاص، كنية الحب والإخلاص، الحب حينما يتم اختصاره واختصار كل المعاني الجميلة التي تدور حوله، والتي يحملها في أحشائه، في كلمة واحدة أو كنية صغيرة، أو بضعة حروف تبدو غير مترابطة، لكن بينها أشد الصلات وأقوى الروابط.. تذكرت كل هذا، ثم ما لبث تفكيرها أن انحرف إلى ما فعله معها، وما يطلبه منها الآن، يطلب  أن تقدم إليه دليلًا على أن أحدًا لم يمسها قبله.. أن قطعة الحلوى التي اختارها لنفسه لم يمزق ورق غلافها قبله إنسان.. وكأنه اشترى لنفسه الورقة لا قطعة الحلوى نفسها!

امتلأت نفسها غيظًا وإحساسًا بالمهانة، اختلطا بحنين جارف مؤلم إليه.. تطلعت إلى الشاشة لنصف ثانية.. ثم حسمت أمرها وضغطت علامة عدم الرد!

أغلقت الهاتف نفسه، ثم مضت بخطوات ثابتة نحو غرفة رئيس التحرير، خطوتها القوية نحو من كانت تعشق الضعف أمامه من قبل، زادتها قوة ورسوخًا في الأرض تحتها.. مدت خطواتها وطرقت الباب بأناملها برفق، ثم دخلت وهي تُذَكر نفسها بأنها معركتها وحدها.. وأنها يجب أن تخوض معاركها، هنا وفي البيت وأمام من تحب، وحدها أيضًا!

...

خرجت منتشية محلقة في السماء من مكتب المدير.

 إنها لم تشعر بأن أحدًا يقدر مواهبها ويثمن جهودها وينوي الاستفادة منها هكذا من قبل!

لقد رفعها الرجل في السماء بكلماته ووعوده الطيبة، تعهد بأن يفتح لها مجالًا للابتكار، ولتطبيق أفكارها الجديدة والخلاقة، وأن يدعمها لتصبح صحفية محترفة، كانت وعود الرجل تشمل الجميع لكنه بدا أنه يخص "بتول" بعناية خاصة فائقة، رجل محترم في الأربعين أنيق بهي الطلعة ومتفهم وحلو الحديث، يمتاز بأنه من النوع الذي يجيد الإنصات ويحسن الاستماع، مستمع جيد ومقدر رائع لما يطرح عليه من أفكار.. وتعبيرًا عن حسن نيته المبيتة المسبقة، وكبادرة طيبة أولية، وافق على اقتراح خجول تقدمت به البنت، وهي تتحدث بشكل طبيعي، ودون أن تتعمد الظهور بمظهر المتدخلة في سياسة المجلة وشئون رئاسة التحرير، بأن يتم تخصيص صفحة في المجلة لطلاب أقسام الصحافة في كليات الإعلام والآداب؛ لعرض وجهات نظرهم ومقترحاتهم وطموحهم للمهنة وتطويرها، صفق رئيس التحرير، الذي كان يجلس بالقميص الأبيض الشاهق، ورباط العنق الأنيق الهادئ الألوان ووعد بأن يضع الاقتراح موضع الدراسة الجادة.. ثم قال للبنت التي بدأت تحلق في السماء من الفرحة:

- وعندما أحيل أنا اقتراحًا للدراسة فهذا معناه أنني شخصيًا موافق عليه! 

غادرت "بتول" الحجرة، وعادت إلى صالة التحرير الصغيرة المنظمة، وابتسامة كبيرة تحتل وجهها.. تقدمت منها فتاة شابة أنيقة ترتدي سروال جينز ضيق يحدد معالم أرادفها بوضوح، وفوقه بلوزة طويلة من الحرير الأزرق الصافي اللامع، وتربط طرحة صغيرة وتلفها بالطريقة الإسبانية (الإسبانيش)، التي راجت في مصر فترة ما ثم كادت تختفي؛ لتعود من جديد، كانت الفتاة تبدو مرحة منطلقة وقد حملت بين يديها سلة صغيرة أنيقة من الخوص الملون، كان بالسلة عدة قطع من شيكولاتة شهيرة، وزجاجة مشروب غازي بطعم الليمون، وقطع من الحلوى الصغيرة الصلبة (دروبس) بطعوم فواكه مختلفة، تفاح وفراولة وخوخ وبطيخ، وتقدمها لـ "بتول" بأناقة وهي تهتف برقة:

- نورتينا يا آنسة "بتول".. إحنا فرحانين جدًا إنك هتبقي معانا هنا! 

ابتسمت "بتول"، وطارت فرحة في السماء، شعرت أن روحها حرة طليقة ترفرف في الأعالي؛ لدرجة أنها سمعت زقزقة عصافير تحلق معها في السماء، وتشاركها فرحة الحرية والانطلاق.. أجفلت لدقيقة، وحسبت أنها زقزقة هاتفها الذي أغلقته منذ قليل، فتحت حقيبتها بوجه قلق الملامح، أخرجت الهاتف وتطلعت إليه، كان صامتًا مسود الشاشة وغائبًا عما يجري في الكون من حوله وحول صاحبته.. ارتدت السعادة كاملة إلى ملامحها وأعادت الهاتف إلى حقيبتها وهي تبتسم سعيدة.. إن العصافير تزقزق وتغني في عقلها لا في حقيبتها! 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...