التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بتول : ماذا فعلوا بالشمس ( رواية مسلسلة ) الحلقة الرابعة عشرة

 

أسبوع في الجحيم عاشته "بتول" بعد تلك الجملة القصيرة المقتضبة..

لم ترد الأم بشيء وسكتت على مضض، على أمل أن يكون كلام ابنتها قرارًا عفويًا طائشًا، تتراجع عنه خلال ساعات، وقبل عودة الأب من الخارج.. لكن البنت انتظرت أباها حتى رجع، وبمجرد أن بدل ملابسه وأكل لقمة، كانت تنتظر على صبر ولهفة، حتى ذهبت إليه وقالت له بهدوء رغم نظرات أمها المحذرة الصريحة:

- بابا أنا عاوزة أرجع الشغل!

كان الأب جالسًا أمام التلفاز يدير جهاز التحكم الصغير بين يديه، ويتجول حول القنوات باحثًا عن القناة التي سوف تذاع عليها مباراة القمة بين الأهلي والزمالك بعد قليل، لكنه وما إن سمع ما تقوله ابنته حتى قطب جبينه وانعقد حاجباه وقال لابنته بلين ولطف:

- الموضوع ده مش كنا قفلناه وخلصنا منه يا "بتول"، وبعدين أنتِ خلاص يا حبيبتي جوازك قرب وخطيبك مش عايزك تشتغلي.. ركزي بس في جهازك والتحضير للجواز وشوفي ناقصك إيه وكمليه!

انشق فم الأم عن ابتسامة عريضة، ظنًا منها أن الأب أنهى بكياسة هذا الموقف الصعب، لكن البنت  ردت بهدوء وبلا أثر للاضطراب في صوتها:

- أنا هشتغل على طول ومش هبطل شغل قبل وبعد الجواز لإني متعلمتش تمناتشر سنة في المدارس والجامعة عشان أقعد في البيت.. وبعدين "حسين" مش هيتجوزني!

كادت الأم تطلق صرخة رعب، بينما شحب وجه الأب وصفرت الدماء في أذنيه، وهو يتساءل غير مصدق:

- إيه؟! يعني إيه مش هيتجوزك؟!

كان اهتمام الأب منصبًا على الجزء الثاني من كلام ابنته، متجاهلًا الجزء الأول الذي كان يعتبره نوبة عناد وتحدٍ من فتاة معتدة برأيها، وسوف تذهب لحالها دون حاجة إلى جدال.. أمام الأم فقد كانت في حالة يرثى لها، وهي تنتظر توضيح ابنتها للخبر المهبب الذي ساقته إليهم بهدوء وبلا رحمة.. قال الأب بصوت مبحوح مكررًا سؤاله:

- يعني إيه "حسين" مش هيتجوزك؟!

ردت عليه "بتول" بهدوء قائلة:

- مش هيتجوزني لإنه بيشك فيا.. مش مصدقني ولا مطمنلي!

هب الأب واقفًا وتحول وجهه إلى جميع ألوان الطيف مضروبة في الألوان الأساسية والفرعية والخليطة، ثم تجهم واسود وجهه، وكادت سحابات دخان تندفع من أذنيه وهو يهتف مستنكرًا مصدومًا:

- إيه.. بيشك فيكِ إزاي يعني.. إزاي يعني بيشك فيكِ؟!

كادت الأم تتدخل في الحوار لكنه نهرها فسكتت، ثم تحول إلى ابنته التي عجزت عن كبح دموعها، فوجدت نفسها تبكي ودموعها تغسل وجهها وقالت من بين شهقاتها:

- البيه فاكرني بكدب عليه..

كادت تكمل لكنها لم تستطع، فذهبت إليها الأم والتصقت بها والذعر يغطي ملامحها.. تصبر الأب حتى تمكنت من السيطرة على نفسها وفسرت أخيرًا بحزن وخجل:

- فاكرني بضحك عليه ومقلتلوش الحقيقة وخبيت عليه اللي حصل لما كنا معتقلين!

اصفر وجه الأم وفهمت فورًا ما تقصده ابنتها، أما الأب فقد لاح عدم الفهم في ملامحه للحظة، قبل أن يشرق ذهنه فجأة ويدرك معنى كلام "بتول"!

اندفع فجأة مكيلًا السباب لـ "حسين" وعائلته، وهو يرتجف من الغضب ويردد:

- الغبي الحمار ابن... والله لوريه شغله وأعرفه مقامه! هو فاكر نفسه مين.. بيشك في مين ابن الجزمة ده؟! طيب.. والله لأوريه والله لأوريه!

أفحمت "بتول" في البكاء حين سمعت تهديدات أبيها، بينما ظهرت ملامح الهم على وجه أمها التي ترددت للحظة، قبل أن تذهب نحو زوجها الثائر وتميل على أذنه قائلة بصوت هامس:

- تعالى عايزاك!

أبعدها الأب بخشونة وقليل من القسوة، كان يريد أن يفرغ ما تبقى من غضبه في وصلة سب وشتم جديدة، لكن زوجته كانت مصرة كذبابة لزجة، تعلقت بذراعه بشدة وقالت له بصوت أكثر ارتفاعًا:

- تعالى عاوزاك!

حاول التملص منها لكنها سحبته من ذراعه مستخدمًا ذلك القدر الخفي من القوة البدنية، الذي تختزنه المرأة وتخفيه داخلها، حتى يحين أوان استخدامه، عندما يتهدد خطر مهلك أولادها، أو حين ترغب في السيطرة على زوجها الغاضب ورده إلى جادة العقل والصواب، انقاد لها أخيرًا وسحبته من ذراعه نحو غرفتهما.

كان لا يزال يرغي ويزبد، بينما زوجته تسحبه إلى حجرتهما، وهي تقول له محاولة تهدئته وإحكام السيطرة عليه في نفس الوقت:

- تعالى.. بس تعالى ربنا يهديك!

أدخلته الغرفة وأغلقت الباب عليه وعلى نفسها!

كانت "بتول" لا تزال واقفة مكانها حزينة، لكنها مندهشة في نفس الوقت من التصرف الذي أقدمت عليه أمها، والذي يخالف طبيعة هذه الأم، كما تعودت عليها ابنتها، تمامًا!

لكن عمومًا لم يغب الأبوان داخل حجرتهما طويلًا، خرجا أخيرًا يكسوهما الهدوء والتصميم ليجدا الصالة خالية تمامًا.. أما البنت فكانت قد انسحبت إلى غرفتها، وبدلت ثيابها، ثم جلست في سريرها تحاول أن تتناسى مواجعها وآلامها بالتركيز في أي عمل تافه.. كانت السماعات في أذنيها والصوت على أعلى درجاته، وموسيقى كلاسيكية محببة تنساب عبر الهواء، وتنفذ نغماتها الحالمة إلى أذني البنت القلقة الخائفة فتهدئ روحها، وتطبطب على جروحها وتجعلها تنصرف عما حولها متأملة كل هذا الجمال والسحر الذي تشعه الموسيقى والذي تنشره في الأرض!

لكن "بتول" لم تستمتع بتلك الخلوة الفنية طويلًا؛ لأن أمها فتحت الباب بهدوء، ودخلت على ابنتها؛ لتجدها مغمضة العينين مسندة رأسها إلى وسادتها، لكنها ليست نائمة كما هو جلي.. دخلت الأم بهدوء واقتربت من سرير ابنتها، لامست كتفها برقة ففتحت "بتول" عينيها، رأت أمها واقفة أمامها فاعتدلت في جلستها، وأخرجت السماعات من أذنيها وتركتها تسقط على الفراش بجوارها.. لاحظت الأم أن ثمة دموع محبوسة في عيني ابنتها، وأنها في الحقيقة تدافع البكاء فشعرت بالشفقة عليها.

ربتت الأم على كتف "بتول"، وقالت لها مترفقة بحنان:

- عايزاكي يا حبيبتي!

...

بعد دقيقتين سمع الأب صوتًا مرتفعًا يتسلل من خلف باب حجرة ابنته المغلق، نهض من مكانه وهرع مقتربًا من الباب فقط ليتأكد أنه صوت ابنته الصارخ المحتج، كان صوتها مرتفعًا، وكلماتها واضحة تخرج حامية غاضبة تشق عنان الحجر، الذي صنع منه سقف حجرتها وتنفذ إلى السماء مباشرة.. سمعها تقول:

- لا طبعًا، مستحيل إيه القرف والتفكير الزبالة ده.. لو هو ده اللي هيخليه يصدقني وميسبنيش يولع بجاز!

سمع صوتًا خافتًا يحادث الفتاة متوسلًا، فعرف فيه صوت زوجته الرزين الهادئ، التي تستخدم عقلها حينما تتصدى لحل موقف عويص أو لإخراج الأسرة من مشكلة مستفحلة.. لكن "بتول" كانت قد فقدت كل صبرها وهدوئها فيما يبدو؛ لأنها ردت على ما قالته أمها بصوت خافت بكلمات نارية حاسمة تقولها بأعلى صوتها:

- أبدًا ورحمة ستي أبدًا، والله لو مسكتوا السماء بإيديكم  ما أعملله اللي عايزني أعمله ده.. لو مش مصدقني أرجعله شبكته وحاجته ويغور في داهية.. أنا محدش يدوس على كرامتي مهما كان!

استمرت المجادلة نحو نصف ساعة، خافتة هادئة من جانب الأم، صاخبة صارخة من ناحية البنت الثائرة الغاضبة!

أخيرًا سمع الأب صوت باب الحجرة يُفتح، وخرجت إليه زوجته بوجه رمادي مكتئب وقالت له بهدوء جملة واحدة لا غير:

- مش راضية أبدًا!

...

في صباح اليوم التالي طرقت الأم باب غرفة ابنتها عدة مرات لتخرج وتفطر معهم فلم ترد!

 كانت هذه ثاني وجبة تفوت الفتاة مشاركتها مع أسرتها، فلم تتعشَّ معهم الليلة الماضية، ونامت على لحم بطنها.. كانت الأم حائرة لا تدري ماذا تفعل، لكن الأب كان أكثر حسمًا وحزمًا منها، قال لزوجته معزيًا ورنة غضب واضحة في نبرات صوته:

- سيبيها هي حرة، لو ضيعت العريس ده من إيديها عمرها ما هتعرف تعوضه.. وهتفضل تندم بقية حياتها!

لكن الأم لم تكن تريد لابنتها الندم ولا الحسرة، كانت تريدها أن تفرح، وتفرح هي بها، المشكلة أن الأم لم تدرك سببًا قهريًا يجعل ابنتها ترفض شيئًا كهذا، إنهم يريدون أن يطمئنوا عليها، وخطيبها يريد أن يطمئن ويستريح باله.. لكن "بتول" نفسها كانت تأخذ الأمر بشكل آخر تمامًا!

بعد انصراف الأب إلى عمله حاولت الأم مرة أخرى إقناع ابنتها بالخروج، وتناول الطعام، لكن البنت ردت عليها من خلف الباب المغلق ببرود أنها ليست جائعة،

جلست الأم في الصالة، بعد أن رفعت بقايا الإفطار، تشاهد التلفاز وتتنقل بين القنوات وعقلها شارد، وذهنها كله في مكان آخر.. أقل من نصف ساعة على محاولتها الثانية مع ابنتها، وسمعت صوت باب الغرفة المغلق وهو يُفتح، ثم ظهرت "بتول" بوجه مشرق معتنى به، مرتدية ثياب الخروج، وفي يدها حقيبة جلدية كبيرة تتدلى من ذراعها، بينما تتدلى من بين أصابعها سلسلة مفاتيح كبيرة لها ميدالية على شكل دب بالأبيض والأسود، دهشت الأم وقامت فورًا من مكانها، وذهبت ناحية ابنتها:

- على فين يا "بتول"، مش تيجي تاكليك لقمة كده وتستهدي بالله يا بنتي!

أجابت الفتاة، وهي تفتح حقيبتها لتطمئن على وجود نقود فضية معها من أجل الأتوبيس، ثم تعيد إغلاقها بهدوء:

- أنا مش جعانة يا ماما، لما أجوع هجيب أكل وآكل أنا مش عيلة.. سلام!

تعاظمت دهشة الأم، وأمسكت بذراع ابنتها وقالت لها متسائلة بقلق:

- على فين العزم أنت وراكِ مشوار؟! رايحة تقابلي خطيبك ولا إيه؟!

لم يكن في عقل الأم سوى خطيب ابنتها، أما ابنتها نفسها فكان عقلها الخاوي قد احتشد ليلة أمس بمشروعات، لا نهاية لها وكلها تخصها لا تخص خطيبها.. ردت بهدوء وثقة:

- مش رايحة أقابل حد.. أنا نازلة الشغل!

سكتت الأم للحظة تحت وقع الصدمة، تأملت ملامح ابنتها الجامدة المصرة، وأدركت أنها في ورطة حقيقية.. لقد أقسم زوجها على ألا ترجع البنت للعمل في الصحافة بعدما جرى من مظاهرات واعتقال وحبس، وبهدلة لها وللأسرة كلها، ولكن البنت تبدو الآن مصرة وقد ركبها العناد.. نفس العناد والتحدي اللذين أظهرتهما بوجه أمها ليلة أمس حينما طلبت منها- في لهجة لطيفة مخففة- أن تُطمئن خطيبها وأهلها عليها، وتقبل أن تخضع لفحص نسائي لإثبات عذريتها، وأنها لم تتعرض للاعتداء على عرضها في السجن!

كانت "بتول" محملة بمشاعر الاشمئزاز العنيفة منذ أن سمعت تلك الكلمات بأذنيها من أمها، المرعب في الأمر أنها كانت صادرة من أمها، فإذا لم تكن أمها تصدقها وتثق بها، فمن الذي سيصدقها في حياتها ويمنحها ثقته إذن؟!

حاولت الأم استخدام الحكمة والكياسة، فربتت على ذراع ابنتها ورسمت ابتسامة حنونة متفهمة على وجهها، ثم قالت لها برفق:

- مش كنتِ اتفقتِ مع أبوكِ إنك هتسيبي الشغل يا حبيبتي وبلاش من البهدلة ووجع الدماغ.. أنتِ ناقصك إيه يا حبيبتي؟! في حاجة بتطلبيها ومش بتلاقيها، وبعدين أنتِ فاضية؟! ما عندك تجهيز وجواز وقلبة دماغ.. خلينا في الطيب أحسن يا بنتي وبلاش عناد خلي ربنا يكرمك ويفتحها في وشك!

فجأة امتلأت عينا "بتول" بالدموع، وأحست بالضعف، شعرت بأن ثمة ثقب ينفتح ببطء في جوفها وألم يغزوه وصديد يتجمع داخله، قالت وهي تبعد يد أمها وتمسح دموعها قبل أن تسيل:

- قلت لك "حسين" مش هيتجوزني.. وأنا كمان خلاص مش عايزة أتجوزه..

قاطعتها أمها قائلة برفق أشد:

- طاب ما نعمله اللي عايزة يا بنتي ونطمنه ونطمن نفسنا..

صرخت فيها "بتول" وقد عجزت تمامًا عن كبح انفعالاتها الجارفة:

- لو مسكتوا السما بأيديكم ما هعمل كده ولا هبهدل نفسي عشان خاطركم.. اللي عايز يصدقني يصدقني مش عايز هو حر!

قالت لها أمها وقد بدأت تشعر بخوف شديد:

- طيب خلاص خليكِ لما يجي أبوكِ، وهنخليه يكلمه ويفهمه كل حاجة ويرجع الميه لمجاريها..

لم تدعها "بتول" تكمل كلامها بل قالت بإصرار وغضب:

- عنه ما صدق ولا فهم.. أنا راجعة شغلي ومش هفكر غير في اللي نفسي أحققه وبس!

أمسكت بها أمها محاولة إيقافها، مذكرة إياها بوعدها لأبيها وبقسمه عليها، أنهت البنت الأمر قائلة بصمود وتحدٍ:

- أولًا أنا وعدتش حد إني هسيب شغلي للأبد.. ثانيًا حلفان بابا مش هينزل الأرض، لأنه حالف إني مشتغلش في الجريدة الأولانية تاني، وأنا فعلًا لقيت شغل في مجلة جديدة.. سلام!

بدأت الفتاة تتحرك نحو باب الشقة، تاركة أمها من خلفها تناديها وتكرر النداء:

- بتول.. بتول.. طيب اسمعي بس!

لكن "بتول" لم تقف لتسمع.. فلم يكن لديها استعداد لكي تسمع شيئًا أو لمزيد من المناورة والتفاوض!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...