التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صناع الملائكة ! Angel Makers

 

 
تلمظ وهو يزدرد قطعة اللحم ،المحاطة بطبقات البصل والصلصة الشهية ، كانت زوجته خير من يعد شرائح اللحم في القرية بأكملها ، ولا توجد امرأة تستطيع أن تتفنن مثلها في الطهي وطبخ صنوف الطعام المختلفة ، كان يأكل بنهم وهو يركز عينيه على طبقه ، غير ملتفت يمنة أو يسرة ، كان يعاني جوعا وظمأ يفتتان أحشائه ، وقد وضع كل همه في الطعام وفي الشراب الرخيص ،الذي قدمته إليه زوجته ، التي كانت تعلم بمدي الأهوال التي قاساها ، والتي خرج منها لتوه سليما معافى ، إلا إنها لم تستطع ، مع ذلك ، أن تمنع نفسها من أن تراقبه باشمئزاز وهو يبتلع الطعام مشبهة إياه في سرها ، بخرتيت أو بخنزير بري ،لا يعرف عن قواعد اللياقة شيئا .. شتان بينه وبين " إليكسي " !
نعم " إليكسي " اليافع الوسيم ، ذو البنية القوية والعضلات الصلبة ، رقيقا رغم ضخامة بنيته ، نعم كان رقيقا وحالما ، أسير مسكين لا حول له ولا قوة ، حكي لها أنه أصلا فلاح من احدي قري خاباروفسك ، عاش في هدوء وسط مزرعته الصغيرة وقطيعه المكون من بضعة رؤوس من الماشية والأغنام ، لم يكن يرجو شيئا من الوجود سوي أن تتركه الحكومة يمضي بقية أيامه في سلام ، لكن نفير الحرب لم يدع مكانا للرجال الذين يبحثون عن السلام والهدوء ، سيق ضمن من سيقوا من شباب قريته ، وغيرهم ألوف على امتداد السهول الشاسعة لكي يحاربوا في أراض غريبة ،دفاعا عن آراء رجال أغبياء متعصبين ، لا تعني أفكارهم ولا طموحاتهم السياسية شيئا ل" إلكسي " ،ومن هم على شاكلته ،كان يحكي ل"أولاه " وهو يكاد يبكي جزعا على أرضه التي فارقها ، فلاح لكنه لم يكن جلفا ، كان يغني لها أيضا ، ويحمل اسم أمير روسيا وقيصرها القادم ، " إليكسي " هو اسمه ، وقد جاءت به الأقدار من مجاهل سيبيريا البعيدة جدا لكي يشبع تعطش امرأة هنغارية، جف ضرع محبتها واضمحلت نوازع أنوثتها ،من فرط ما كابدت من عنت على يد زوج سكير مجنون ، زوج لم تختره حتما ، لكنها أُجبرت على القبول به ، وقد ذهب غير مأسوف عليه إلي الحرب ، الحرب التي تسبب الآلام للجميع ، والتي هي نفسها أحيت أملا في نفوس نسوة عانين الشقاء وسوء المعاملة في أن تكون خلاصا لهن مما يؤرقهن ويفسد عليهن حياتهن ، ذهب الزوج متبوعا بأمل في ألا يعود ثانية  أبدا، لكنه رجع بكل أسف ، وها هو يلتهم الطعام كخنزير منتظرا أن يعود للإمساك بزمام الأمور في هذا المنزل مرة أخري .. هيهات يا رجل !
فقد تغير كل شيء في هذه السنوات الأربع التي مرت ، و" أولاه " التي عدت إليها ليست هي نفسها " أولاه " مكسورة الجناح التي تركتها ، إن لها لسانا ناطقا يعبر عنها الآن ، وقد جرت الدماء في عروقها ، جربت طعم الحب ، وعرفت معني أن ترقد بين ذراعي رجل اختارته هي ، جربت العشق وأدمنته ، وجربت قوة رجل بري ، فلاح صادق لا يغش ولا يخدع ، ولا يتظاهر بقوة غير حقيقية ، ولا يداري ضعفه الموروث بطبابة العطار ولا بصنوف الأخلاط التي تسمم البدن ،ولا تؤدي غرضا أو تقضي وطرا .. لقد عدت إلي أحضان امرأة لم يعد هناك مكان خالي بين ذراعيها لك ، أو لأي رجل آخر ، عدا " إلكسي " الممشوق العفي الرقيق الولهان !
أغمضت " أولاه " عينيها وتنهدت ، كانت تختبئ خلف جفنيها من زوجها الذي يأكل بشراهة ، بينما أفضت تنهيداتها بسر شوقها إلي حبيبها الذي حذرته من الاقتراب من منزلها اليوم ، لقد بدأ الشوق ولن ينتهي أبدا ، كُتب عليها أن تشقي ، ما بقي لها من عمر ، بقرب رجل لا تطيقه ، وبالشوق إلي رجل لم تعد تطيق الابتعاد عنها .. تري حتى متى تتحمل اشتياقها وظمأها إلي حضن حبيبها ؟!
أنتبه " بودو " إلي تنهيدة زوجته الحارة ،فرفع إليها عينين أحاطت بهما طبقات من السواد القاتم ، فصارت تلمعان لمعانا شديدا في وجه أسمر مكتسي بالأوساخ ، ولما وجد أنها ماضية في إبقاء عينيها مغلقتين ، حاجبة عنه النار المتقدة التي تضطرم في حدقتيها ، دفع بالقدح المعدني نحوها عبر المائدة ، وخبط به خبطة قوية مقابلها مباشرة ،فأصدر الوعاء المعدني رنينا مزعجا مفاجئا انتفضت على إثره " أولاه " ،وفتحت عينيها لتضربها نوبة إفاقة حادة مباغتة ، ودون أن يبالي بسؤالها عما بها قال الزوج آمرا :
-" مزيدا من الشراب "
تطلعت إليه زوجته للحظة بوجه أبيض ثلجي خاو من كل تعبير، ثم وبكل هدوء تناولت قنينة صغيرة وأزالت غطاءها ، ثم أمالتها لتصب منها بضعة قطرات في قدح زوجها الممدود إليها ،وهتفت وهي تدفعه نحوه ساخطة :
-" إنها الأخيرة .. لقد أتيت على كل ما فيها من خمر ! "
تطلع إليها الزوج بسخرية للحظة ، ثم عاد إلي طعامه وشرابه دون أن يعلق ، أما " أولاه " فقد رفعت الزجاجة الفارغة إلي شفتيها الجافتين  ، وامتصت آخر ما فيها من قطرات ضنينة ، ونظرت إلي زوجها وهي تمسح فمها بيدها ، ولم يلبث لونها أن تحول إلي الرمادي وخبا بريق عينيها وانطفأ !
...
أزالت الحجاب الصغير الذي يغطي وجهها وهي تدلف إلي منزل القابلة الوحيدة بالقرية ،كان الوجود في منزل السيدة " فازيكاس " أمرا طبيعيا بالنسبة لأي امرأة في العالم ، بقدر ما كان الدخول إلي منزلها يعني أن تحاصرك الشبهات بمجرد أن تقف قدماك على عتبة بابها الواقع في نهاية القرية ، قبل المقابر بقليل ، لا يمكن فهم تلك العلاقة الشائكة بين المرأة المهمة وبين زبائنها ومريداتها من النساء ما لم يتم أولا توضيح من هي " جوليا فازيكاس " ، إنها ، باختصار ،ملاك القرية الرحيم وشيطانها الأكبر ، الحياة والموت يصطرعان في نظرات عينيها الميتة المخيفة ، والشفاء والهلاك تقدمهما مزيجا صدئا في قواريرها السحرية ، لم يكن لهذه الدخيلة الخاملة أية أهمية زائدة من قبل ، بالوسع الاستغناء عن خدماتها ،خاصة بالنسبة للسيدات الموسرات ، والذهاب لطلب المساعدة الطبية من حكيمات المدينة المتعلمات ، اللائي درسن على أيدي أطباء حقيقيين ، أو حتى اللجوء ، حين توفر المال الكافي ، للأطباء الحقيقيين أنفسهم ، لكن ، وبمجرد أن بدأ رجال ( ناجيريف ) يتوافدون عائدين من الحرب ، بعد أربع سنوات قصيرة ومريرة ، حتى أصبحت " فازيكاس " فجأة أهم شخصية في القرية بلا جدال .. فهي الوحيدة ، دونا عن كل قابلات وحكيمات وحتى أطباء العالم ، من تملك الدواء الناجع لآلام نسوة القرية ومخاوفهن المزمنة ،وقد جاءت " أولاه " اليوم لتطلب جرعة من دواء صديقتها ، وصديقة نسوة القرية بأكملهن ، السحري :
-" إنه هنا .. لا أستطيع تحمل إطالة النظر إلي وجهه ! "
لم تقدم الزائرة نفسها ، ولم تهتم صاحبة البيت بسؤالها عمن تكون ، من تكون ربما يكون السؤال الوحيد الذي يمكن أن تطرحه القابلة المتمرسة على ضيفتها غير المتوقعة اليوم ، أما ما تريده فهي ليست بحاجة إلي سؤالها لتعرفه ، فقد قدمت لها عبارة المرأة المقتحمة نافدة الصبر كل المعلومات المطلوبة والممكنة !
لكن ، وكتاجرة خبيرة ، احتفظت " جوليا " بقناع الحياد والبرود فوق وجهها الغريب ،وهتفت وهي تتقدم الزائرة إلي فناء معتم تفوح منه روائح الرطوبة والعشب المتعفن :
-" تشرفت بكِ أيتها السيدة أخشي أن تكوني قد ضللت طريقك ! "
ابتسمت " أولاه " ،برغم الغم الذي يعتمل في نفسها ،وردت مطمئنة بلهجة تستدر العطف مصرحة برغبتها في الحصول على المعونة العاجلة :
-" هيا يا " جوليا " ،إننا جميعا نعرف من تكونين .. لست من طرف البوليس وبالطبع لا يمكنني أن أشي بك .. ولمزيد من التأكيد فأنا أريد التخلص من زوجي ! "
لم تتبدل نظرة " فازيكاس " الباردة ، بينما استطردت الأخرى وهي تكور أنفها اشمئزازا :
-" لو رأيت منظره وهو يلتهم الطعام ويردفه بأقداح الشراب كالخنزير .. لو كان زوجك لما ترددت لحظة في خنق أنفاسه ! "
على أن خنق الأنفاس لم يكن حلا واردا هنا ، بل إن الأمر أسهل وأبسط من ذلك بكثير . رمقتها " جوليا " لدقيقتين أخريين بنفس النظرة الباردة ،التي لا تفصح عما وراءها ، ثم فجأة استوعبت الأمر ،وتأكدت من أنه ليس فخا منصوبا للإيقاع بها ، وقالت آمرة ضيفتها دون أن تتحدث كثيرا عما تنوي الإقدام عليه :
-" أتبعيني أيتها السيدة واحتفظي بثباتك طويلا ! "
...
منتشيه عادت "أولاه " إلي المنزل ، حيث وجدت الأولاد الثلاثة يفترشون عتبة الباب ، بينما من المفروض أن يكون زوجها بالداخل نائما ، أو منكبا على التهام ما بقي من طعام في البيت ، أو منشغلا بأي نشاط ، مثله ، تافه وبلا جدوى ، لكنها لم تلبث أن عرفت أن الأولاد لم يطردهم خارجا سوي أبيهم ،معللا فعلته بأن الصغار يثيرون ضجة تمنعه من الخلود للراحة !
استمعت الأم لشكوى صغارها فأنصرف فكرها فورا إلي عشيقها " إلكسي "..
تري أين يستقر الآن ؟!
 لقد حذرته من الاقتراب من منزلها ،فور علمها بأن زوجها ، لشديد الأسف ،عائد فيمن سيعودون إلي بيوتهم من الجند الهنغاريين ،كم تمنت لو أنه كفاها مئونة هذا كله ومات ، كأي رجل شريف ، في الحرب ولم يعد ،ولم يدعها تطالع وجهه الكريه مرة أخري أبدا !
بيد أن تذكر كل تلك الأمور الميئسة لم يظل هناك فائدة من اجترارها ،وعموما فقد أكدت لها ملاك القرية " جوليا " أنه ما من شيء لا يمكن تداركه أو إصلاحه !
ربتت " أولاه " على رؤوس أطفالها ،وحملتهم إلي الداخل ، حيث وجدت البيت يعبق بدخان كثيف خبيث الرائحة ، كان الزوج يدخن وهو ممدد على مقعد خشبي طويل أستخدمه كفراش ، ورأسه مرفوع إلي السقف متطلعا إلي أعلي بنظرة خاوية غريبة ،نظرت إليه " أولاه " وفجأة أحست بالكره يعبأ نفسها تجاهه ، وشعرت بأنه ليس بإمكانها تحمل وجوده أمامه ليوم واحد آخر ، لكن تعليمات " فازيكاس " كانت صارمة وباترة .. سيستغرق الأمر وقتا طويلا وسوف يتحتم عليها أن تصبر على هذا الشقاء أيام طوال قادمة !
صرت على أسنانها ،وهي تدفع أطفالها إلي الداخل ، وتطلق لسانها في زوجها الصامت الجامد مكانه ، وكأنه مات وتحول إلي نصب من الحجر ، لائمة إياه على ترك الأولاد وحدهم خارجا ، لكنه لم يرد بكلمة ، ولم يقدم تفسيرا لسلوكه الشاذ ، فشعرت " أولاه " مرة أخري بكراهيتها له تنخسها ، كطرف مهماز مسنن ، بين ضلوعها !
ذهبت لتتخفف من ملابس الخروج ،ثم عادت إليه بوجه أكثر صلابة وإصرارا من ذلك الذي ذهبت به ،اقتربت منه ، بعد أن مسحت المائدة وأزالت ما عليها من بقايا ، ثم أغرته بقنينة صغيرة من الشراب .. فقفز " بودو " من موضعه بمجرد أن التقطت عيناه صورة زجاجة الخمر الموعودة ، ووثب إلي الأمام ، كضبع جائع ، واختطف القنينة من بين يدي زوجته ، أزال الغطاء بأسنانه ففار الشراب وتدفقت الرغوة الغنية لتبلل ذقن الزوج وأسفل وجهه ، حيث وضع شفتيه حول عنق الزجاجة ، وراح يشرب ما بها بنهم غير طبيعي ، راقبته " أولاه " والكراهية والمقت ينموان داخلها كورم سرطاني خبيث ،لا يلبث أن يتضخم مع كل دقيقة مهددا الخلايا بالتسمم والبدن كله بالهلاك والتحلل ،وعفونة الموت وبرودته الكاملة !
لكن لا ، ليس بعد اليوم فقد مضي زمن " أولاه " الطيبة الراضية الصابرة ، إن ثمة امرأة أخري قد شقت ثوب الأولي وجسدها وبُعثت من بين بقاياها الميتة، روح ثائرة شبحيه ضاجة وعابثة وساخطة ،وما من شيء قادر على إيقافها أو إرضائها أو إشباع نزواتها .
والكراهية ساقتها أمامها ، ودفعتها إلي أن تقرر إنهاء هذا كله في أسرع وقت، علام كل هذا التكتم والتخطيط ، إن القرية بأكملها تعلم جيدا ما يحدث في كل بيت فيها ، والحكومة مشغولة بتداعيات الحرب التي خلفت في كل بيت مأساة .. المضحك أن مآسي الحرب التي لم تصب رجال (  ناجيريف ) كانت هي نفسها السبب في مآسي آخري أصابتهم وهم آمنون في بيوتهم ،خُلق الرجال للموت ، ويجب أن يواجهوه بشجاعة في ميادين القتال ، أو يرضوا ، بديلا عنه ، بالموت على أيدي نسائهم في أسرتهم ، التي كانوا يتبادلون فوقها الحب ، عندما كان الحب لا يزال قائما .. ولكن الآن لم يعد سوي الكراهية العمياء !
تطلعت " أولاه " إلي زوجها وهو يعب عبا من زجاجة الخمر ، متفكرة في زجاجة الشراب السحري ، الذي أعطته لها " فازيكاس " ، والتي أفرغت محتوياتها بأكملها ، دفعة واحدة ، في شراب زوجها ، كان " بودو" يشرب كخرتيت عطشان ،والشراب يسيل ليبلل ذقنه وتتناثر قطراته على رقبته وأعلي صدره .. غريب كيف يمكن للموت أن يختبئ في أشد الشهوات إثارة وجاذبية !
الحق أن الموت هو أعظم شهوة وأكثر المتع جاذبية ، حتى إن لم يكن بالنسبة لمن يتهددهم خطره ،فعلى الأقل لهؤلاء الذين يمثل لهم الموت أعظم منة وأكبر وعد بالخلاص !
فرغت الزجاجة فرماها الزوج جانبا، وعاد يتمدد فوق مقعده الطويل، وهو يتجشأ ويمسح البلل عن نفسه براحتي يديه القذرتين ، تركته " أولاه " يغلق عينيه في هدوء ،كانت تعرف أن الأمر لن يتم لهذه الساعة ، لا زال أمامه بعض الوقت .. لكن على الأقل فهي تعرف الآن أن كل شيء سوف ينتهي قريبا ، وأن ثمة ساعة ، لعلها دانية أكثر مما تتخيل ، سوف يغلق فيها زوجها عينيه مخفيا عنها نظراتهما الكريهة ، ولن يفتحهما ثانية .. وعلى هذا الأمل والوعد الطيب بوسعها أن تعيش لمائة عام قادمة من الزمان !
اقرأ عن جمعية صناع الملائكة هنا


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...