في الحقيقة لم
تكن تخطط للقتل ثانية أبدا ، لكن يبدو أنهم مصرين أن يجبرونها على الإتيان بأفعال تمنت
لو أتيحت لها الفرصة للإقلاع عنها للأبد ، القتل من أجل القتل لم يكن بغيتها .. ولكن
ما حيلتها والرجال كلهم متشابهون في حب الرذيلة ،وسهولة الإقدام على الخيانة وانعدام
الإخلاص والوفاء ؟!
لقد أحبت
" جورجيو " في الحقيقة ،وكانت تتمني لو أختلف الوضع معه ،كانت تتمني لو أختلف
الوضع والمصير بالنسبة له ولها أيضا ،لكنه أبي عليها تلك المنحة والهبة الصغيرة ،مقابل
كل ما منحته إياه من حب ومال وسعادة وأوقات طيبة .. لقد جاءها الليلة كما هو موعدهما
الدائم ،في الساعة الأخيرة قبل منتصف الليل، كانت تحب تلك الساعة دائما حبا خاصا ،
فهي الساعة التي التقت فيها ب" كارل " و " جوزيف " ووقعت في حبهما
،وهي أيضا نفس الساعة التي قتلتهما فيها .. فلا غرو إذن أن تكون تلك ساعتها المفضلة
!
لكن " كارل
" و " جوزيف " شيء ،و" جورجيو " شيء آخر تماما .. أو هكذا
كانت تتمني !
لقد أحبته فعلا
فيما يبدو ، إلا فلماذا تجد صعوبة بالغة في التفكير في قتله ،وهي التي لم تتورع عن
قتل أكثر من عشرين رجلا من قبل ،رغم أن ذلك لا يكلفها شيئا يذكر في الحقيقة .. فكأس
النبيذ ليس أرخص منه حتى لو كان مكللا بجرعة قاتلة من الزرنيخ !
لقد استعدت لتلك
الليلة جيدا ،ارتدت أفضل ثيابها وأكثرها أناقة وفتنة ،وتزينت بذوقها العالي الرفيع
،وغمرت نفسها بعطر البنفسج المفضل لديها ، طبعا لابد أن تكون في أبهي زينتها الليلة
،ولابد أن تغمر " جورجيو " بعطفها وجمالها ،فهي آخر ليلة في حياته بالتأكيد
،ولن يتاح له ولا لها فرصة جديدة للتمتع برفقتهما المحببة !
إنها خبيثة كما
هي قاتلة وغادرة ، فلم تبدر منها أقل لمحة أو يبدو عليها أي تغيير نحو العشيق المنحوس
يدل على أنها عرفت بخيانته لها ، إنها لم تسعد كثيرا بتلك المعرفة ،حتى ولو كانت تمنحها
الفرصة لمعاودة القتل بعد انقطاع طويل دام أربعة أشهر كاملة !
وبعد أن أنهت
تجهيز نفسها لتلك الليلة الموعودة سمعت من أسفل صوت " جورجيو " يداعب الوصيفة
الثانية لها " بيلا " مداعبة بريئة ،ويعلو صوته كالعادة ليدل علي وصوله ،ارتجفت
" فيرا " عند سماع صوت " جورجيو " المرتفع الرخيم ،وارتعشت يداها
رغما عنها ،وأحست بمنابت شعرها تتحبب وتئن ،أرهفت أذنيها جيدا لتسمع كل كلمة يفوه بها
،فتلك آخر مرة ستسمع فيها صوته المحبب الذي لن يشنف آذانها ثانية إلي الأبد !
انتهت
" فيرا " من تجهيز نفسها لاستقبال الحبيب ورش عطرها المفضل ، ثم أخذت تهبط
السلم بخيلائها المعهود مستمتعة بمنظر " جورجيو " ،وهو يحدق فيها من أسفل
بنهم وشوق ولهفة ، كان مفتونا بجمالها الآخاذ ، مثلما فُتن به رجال كثيرون قبله ، وكما
لم ينتبه غيره للقسوة المفرطة والغدر والخديعة الكامنين تحت الأجفان الرقيقة ،التي
ترصع عينان واسعتان جميلتان غامضتان كألغاز أبو الهول ، لم ينتبه المسكين ولم يفهم،
لم يفهم أنها غادرة ماكرة وأنها مختلة ، مختلة العقل استوي عودها على الخيانة والغدر
،لذلك فقد صار مطلب حياتها هو الإخلاص من محبيها .. الإخلاص الذي تفتقده هي ذاتها ولم
تعرفه يوما !
تبادل العشيقان
حديثا قصيرا شيقا ،ريثما أعد العشاء في غرفة الطعام الرئيسية ، كان " لورينزو
" الصغير قد وضع في فراشه في غرفته القصية ليكون بعيدا عن مخدع أمه وعن غرف استقبالها
وما يحدث فيها كل ليلة من موبقات ، لسوء الحظ كان " جورجيو " جائعا بحق تلك
الليلة ،فهجم على المائدة وركز كل قواه في التهام أكبر قدر من ذلك الطعام الطيب ، رمقته
" فيرا " بنظرة مستنيمة حادة من تحت جفنيها المصبوغين بظلال ثقيلة قاتمة
، كانت نظرتها مزدرية وعازمة ، فقد حسمت أمرها منذ أيام خلت ولم تعد في حاجة إلي أية
مراجعات مع نفسها ،من لا يثبت إخلاصه التام ووفائه لها ولعشقهما يمكنه ببساطة أن يأخذ
نفسه ويختفي .. من الكون كله !
كان الشراب ،
الذي أعدته السيدة بنفسها ، ممزوجا بالزرنيخ
،وكذلك لحم الحمل ، لم تحجم " فيرا " عن الاشتراك في الوجبة لئلا تثير مخاوف
" جورجيو " وشكوكه ،بل أعلنت أنها تتبع حمية غذائية خاصة لإنقاص وزنها مكتفية
بشريحة لحم بقري مدخنة ،وقليل من الخضراوات النيئة ،كان " جورجيو " يلتهم
طعامه بشراهة ليملا معدته ،ممنيا نفسه بليلة غير عادية بين ذراعي تلك الفاتنة غير العادية
.. وبالفعل فقد هناك ليلة غير عادية أبدا بانتظار العاشق الغافل الأبله !
انتهت الوجبة
،فنهض " جورجيو " من مقعده ،وعيناه تلمعان ببريق كأنه ومضات نار تتلظي وتأبط
ذراع حبيبته ،وتهاديا معا إلي السلم المؤدي للدور العلوي !
...
في غرفتها الفسيحة
المزودة بحمام خاص استأذنت " فيرا " من معشوقها لتذهب إلي الحمام ،وتصلح
من شأنها لأجله ، لم يري " جورجيو " ما يجب إصلاحه في " فيرا
" ،التي كانت في أوج تألقها وهندامها ،لكنه لم يملك إلا أن يأذن لها راجيا إياها
ألا تطيل انتظاره ..
دخلت "
فيرا " الحمام وصفقت الباب خلفها بحركة غاضبة ،ـتاركة " جورجيو " وحده
في الغرفة المترفة يلاقي مصيره المروع ، كان الصب المتيم قد أحضر زجاجة (شاتو لافيت
) باهظة الثمن خصيصا للاحتفال بتلك الليلة الرائعة ، ففتحها محدثا فرقعة مدوية ،وملأ
لنفسه كأسا عبه سريعا ،ووضع بقية الزجاجة بجواره منتظرا حضور " فيرا " العزيزة
لتشاركه الشراب ، لكن " فيرا " تأخرت ووجد " جورجيو " من العسير
عليه مقاومة سحر الشراب ، فصب لنفسه كأساً أخري رشف منها رشفة أولية مستمعتا بطعم النبيذ
عالي الجودة ،قبل أن يشعر بشعور غريب للغاية ، كانت معدته وكأنها بالون يريد التحليق
خارج حلقه ، ترك " جورجيو " الكأس ووضعها على أقرب قطعة أثاث له ،قبل أن
تسقط أرضا وتتناثر محتوياتها ،ويسقط هو علي بعد خطوات منها مفرغا معدته بقوة ، تقيأ
" جورجيو " محتويات جوفه كلها ، وشعر بدوار شديد وزغللة جعلت كل شيء حوله
يتراقص ويتداخل ، مسح فمه بكمه للمرة الأولي في حياته .. لكنه بعد أقل من دقيقة أنكفأ
للأمام وتقيأ للمرة الثانية !
سمعت "
فيرا " من الحمام أصوات تقيؤ عشيقها فأدركت أن محبوبها الأول ( الزرنيخ ) بدأ
يؤتي مفعوله الذي لا يخيب ، لو بحثنا في ضمير " فيرا لورينزي " لوجدنا أنها
لم تحب في حياتها بإخلاص ولم تأمن سوي للزرنيخ ، وأنه كان حري بها أن تقع في غرامه
وتتزوجه فقط لو كان مخلوقا حيا صالحا لأن يبادلها الحب !
بعد دقيقة جاء
صوت " جورجيو " المعذب مرة أخري وهو يفرغ معدته ، التي لم يبقي فيها ما يمكن
إفراغه ، للمرة الثانية ثم الثالثة ، قدرت " فيرا " أنه يتهاوى الآن ،ولن
يملك التماسك بعد أن بدأ الزرنيخ في قضمه من الداخل، وبالفعل لم تمر دقائق حتى سمعت
القاتلة المختبئة في حمامها صوت جسم ثقيل يسقط على الأرض يتبعه أصوات تساقط أجسام
معدنية وتهشم زجاج .. لقد سقط " جورجيو " على الأرض سابحا في بحر من قيئه
!
عندئذ فقط شدت
" فيرا " ملامحها المنبسطة وخرجت من مخبئها متهادية في بطئها القاسي المميت
، كان الحبيب ،الذي مني نفسه بتلك اللحظة أكثر مما ينبغي ،ممددا علي كثب من الفراش
الضخم الوثير مصفر الوجه مرتعدا ،وأطرافه ترتعش وفي عينيه تتراقص نظرة زائغة لا تستقر
علي شيء ،حتى أنه لم يدرك أن " فيرا " واقفة فوق رأسه إلا بعد دقائق طويلة
،فتح العشيق عينيه بصعوبة بالغة فوجد ساقي حبيبته المغطاتين بجورب شبكي أسود واقفتين
علي بعد خطوة واحدة منه ، فأخذ يُصعد بصره بصعوبة أكبر لأعلي ،حتى وصل إلي وجهها الجامد
الممتلئ بالقسوة ،كانت " فيرا " تبتسم لكن ابتسامتها كانت شيطانية ومخيفة
لدرجة أنها كانت أبشع من أي شيء آخر رآه " جورجيو " في حياته كلها ،قالت
له بسمتها الذئبية ( أنت رجل مقضي عليه يا أيها المأفون ) !
انفرجت شفتاه
الجافتان أخيرا فقال لها بصوت ضعيف مضعضع :
-" فيرا
، فيرا .. ماذا أصابني ! "
لم ترد عليه
" فيرا " بكلمة ،بل مضت تتأمله بصمت وبرود مخيفين ، لكنه تحامل علي نفسه
مرة أخيرة ،وسألها بصوت أكثر ضعفا وأبعد نبرة :
-" فيرا
حبيبتي ، حبيبتي .. ماذا .. ماذا أصابني ؟! "
ولم يجد
وقتا لإكمال كلامه ، لأن نوبة قيء أقوي وأعنف فاجأته فأنقلب على بطنه ،وهو يصدر أصوات
إفراغ معدة مرتفعة ومخيفة ، مطت " فيرا " شفتيها باشمئزاز ،وتطلعت إليه بعينين
ناريتين للحظة طويلة ،قبل أن تجيبه بصوتها الخالي من الرحمة :
-" لا شيء
أيها الحبيب الخائن .. إنه مجرد ثمن صغير تدفعه نظير خيانتك لي مع تلك الساقطة !
"
فتح " جورجيو
" عينيه اللتين خبا الضوء منهما وتطلع إلي " فيرا " ، كان مبهوتا من
كلامها ،لكن الحالة التي وصل إليها جعلته عاجزا حتى عن رسم تعبير الدهشة على ملامحه
المنهارة ،نظرت له " فيرا " لحظة وهو يتأوه ويتقلب عند قدميها ،ويفرغ معدته
مرة ثالثة ورابعة وكأنها تنظر لفأر يحتضر ، لم تحرك سكرات موته فيها أدني شفقة أو رحمة
، لقد نسيت " فيرا رينزي " تلك المشاعر منذ سنوات .. ولم تعد حتى تعرف كيف
يشعر بها الآخرون !
بعد وقت أدركت
المرأة المجردة من كل إنسانية أن ضحيتها يموت ويدخل آخر لحظات حياته ، فتحركت ببطء
وبثقة مطلقة ،وتوجهت لتنادي وصيفتها وشريكتها الدائمة في كل جرائمها " بيلا
" ،وتأمرها بإحضار " أبنير" الخادم القوي ، شبيه الغوريلا الذي يتمتع
ببنيه متينة ،وبعقل أقرب لعقل إنسان الغابة وغباء منقطع النظير ،ومثله خادم تحمد خدمته
ولا يخشي خطره .
جاء المعاونان
الآثمان ،وساعدا سيدتهما على حمل جثة ضحيتها الجديد إلي أسفل ، إلي القبو المليء بالتوابيت
المغلقة المرصوصة في صفوف بجوار الجدران ،إنها مقبرة عشاق " فيرا رينزي
" الذين يبدؤون كلهم معها نفس البداية ، ثم ينتهون كذلك بنفس النهاية !
سينتهي دور
" بيلا " عند ذلك ،لتعود إلي مخدع مخدومتها لتعمل علي تنظيفه ،وإعادته كما
كان وإزالة أي آثار لعملية الاحتضار الزرنيخي التي تمت ، بينما تتولى الغوريلا البشرية
مهمة حمل الجثة ،وإراحتها في أحد التوابيت الشاغرة ، وإحكام إغلاق الصندوق ورفعه فوق
الصف الأخير ليكون على القمة، كانت مدام " رينزي " تحرص دائما على ترتيب
جثث ضحاياها زمنيا من الأقدم إلي الأحدث، لذلك كان جسد زوجها الأول " كارل شيك
" يقبع في صندوقه أسفل الصف الأول ،بينما سيعتلي " جورجيو " قمة الصف
الثاني ،في انتظار ضحية جديدة آتية عما قريب ،ليتراجع مركزه إلى الثاني على قمة الصف
!
وهكذا انتهت
متاعب الليلة التي لم تكن متعبة لأحد ،سوي ل" جورجيو " المسكين ، وبقيت
" فيرا " أخيرا وحدها وسط صفوف من التوابيت الممتلئة بجثث ضحاياها !
كانت أدوات الاحتفال
متواجدة كالعادة في مكانها المعتاد ،زجاجة شرابها المفضل والكأس تنتظر السيدة ،لتحتفل
بها ومعها بنصر جديد وبضحية جديدة ، جلست " فيرا " بهدوء على أريكة ملقاة
وسط القبو العفن وبين صفوف الصناديق ، وفتحت زجاجة الشراب ،وملئت كأسها بنفسها، وفي
ذلك القبو المعتم العفن ،الذي تفوح منه روائح الموت والغدر والخيانة ،أخذت الأرملة
السوداء تعب كؤوس الشراب ،وتدندن بأغنيتها المفضلة متطلعة بسعادة إلي الصناديق الحاوية
لجثث ضحاياها، لتذكاراتها وجوائزها الخاصة ،التي منحتها لنفسها بأريحية وكرم شديدين
..
في الدور الأعلى
انطلقت صرخات " لورينزو " الصغير ،الذي داهمته الكوابيس المفزعة مثل كل ليلة
، لكن أمه لم تهتم به تاركة أمره لمربيته ، كانت " فيرا " قد وصلت مرحلة
من الصخب الجنوني والثمالة .. حتى أنها أصلا لم تعد تستطيع أن تعرف أن ابنها ذاك هو
الذي يصرخ !
تمت
اقرأ المزيد عن حياة القاتلة المتسلسلة " فيرا رينزي " هنا
تعليقات
إرسال تعليق