التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل الثامن

 

 

 مرت أيام منذ أن بدأت " نعمة " التفكير جديا في العودة لاستكمال دراستها .. كانت تعرف يقينا أن زوجها سيرفض ، هذا أمر مفروغ منه ومنتهي .. وحتى إن رضخ ونخ هو ، فإن العقربة أمه لا يمكن أن تدعه يوافق ويمنحها الحق في أن تكمل تعليمها .. لكنها قررت مقاومتهما معا .. حتى وإن كان المقابل أن تسمح له بالزواج عليها !

قد تبدو قاسية أو نفعية أو مجردة من المشاعر لتدفع رجلها إلي امرأة أخري لمجرد أن يتركها هو تكمل تعليمها الذي تركته أساسا من أجله .. لكنها حسبتها في رأسها جيدا علي مدار الأيام الماضية !
حسبتها بعقلها وليس بقلبها وحددت المنافع وقيمت الخسائر فوجدت أن هذا هو أفضل وضع يمكن أن تستقر عليه الأمور .. إنه سيتزوج عليها في كل الأحوال !
لن تنجب له الولد غالبا فقد صدقت نظرية أمه في أنها ليس في عنقودها سوي البنات .. وحتى لو كان بعنقودها اللعين هذا صبيان فهي لم تعد ترغب في المزيد من الإنجاب .. لقد ملت الأمر بمنتهي البساطة !
كرهت دور ( الماعون ) وتضجرت منه وبدأت تحس بالإهانة والإذلال كلما سمعت إحداهن تناولها بالكلمة الثقيلة :
" ربنا يعوض عليكي يا أختي ! "
لا .. لا مزيد من هذا بعد الآن .. فلقد رأت رفيقاتها صرن معلمات وموظفات وطبيبات بينما هي كل المطلوب والمنتظر منها أن تستمر في الحمل والولادة حتى يعوض عليها الله !
وماذا لو لم يحدث .. ماذا لو أنها لم تنجب له الولد عاجلا أو آجلا ؟!
سيتزوج عليها " عبد الرحيم "  حتما .. سيأتيها بضرة غصبا ولن تملك إلا الرضوخ والخضوع .. أليس من الأفضل إذن أن تتركه هي يتزوج برضاها مقابل أن تحصل علي مكسب لنفسها ؟!
أليس هذا حكم العقل وتدبيره .. وأليس حكم العقل وتدابيره دائما أكثر حكمة وحنكة من تدابير القلب الواله المحب الأعمى ؟!
لقد اتخذت قرارها إذن .. ستذهب إليه وتقول بمنتهي الهدوء :
" روح أتجوز يا أخويا ربنا يعوض عليك ويديك اللي تتمناه .. بس أنا هكمل تعليمي وأشوف حالي ! "
لن تصرخ ولن تبكي أمامه .. لن تنهار وتكشف شعرها وتمزق نفسها حزنا وسوادا عليه .. فليذهب !
إن كان لابد أن يذهب .. فليذهب تاركا لها فائدة صغيرة تعويضا عن كل ما ألم بها وكل ما عانته من أجله !
أربع بنات معلقات في رقبتها .. هذا كاف جدا .. أكثر من كاف بالنسبة لها أما هو فليذهب ويأتي بالولد من بطن أخري غير بطنها !
أهي قاسية .. أهي مجردة من المشاعر !
ربما لكن ( كتر القسوة يعلم الجفاء ) .. وقد تعلمت الجفاء منه ومن أمه وليس له عليها لوم ولا عتاب !
لكن الزوج في الحقيقة لم يكن منتظرا مشورة الزوجة ولا موافقتها فهو قد خطب لنفسه بالفعل .. وجد العروس المناسبة ، وقد كانت أمامه طوال الوقت ، لكنه لم يكن يراها أو يفكر بها .. إنها أخت المعلم " بدوي " علي سن ورمح !
 إن لديه آختا أرملة أمية لا تقرأ ولا تكتب وقد مات عنها زوجها ، الذي كان تاجرا بالسوق هو الآخر .. وترك لها ولدين صغيرين أخذهما أهل أبيهما المتوفى ، وبقيت أمهما أيم في انتظار زوج جديد بعد أن رفض أخوها الثري إعالة ولدي رجل غريب ، أو الإبقاء عليهما في بيته وسط بناته .. إنها أمامه منذ سنوات فكيف لم يفكر بها من قبل ؟!
ومن ناحية أخري فهو مطمئن لها لأنها أنجبت ولدين ومعني هذا أن لها في إنجاب الذكور ، وأنها غالبا ، إن شاء الله ستأتي له بالولد ولن تتحفه بالمزيد من البنات والولايا اللائي يبقون معلقين في رقبته طوال العمر !
و" نعمة " .. ما الذي ستقوله " نعمة ؟!
فلتقل ما تقول ولتفعل ما تقدر عليه فهو لن يرضخ ولن يحن ولن يتراجع تلك المرة .. عاد إلي البيت حاملا لها القنبلة منزوعة الفتيل ليرميها في وجهها بينما هي تعد له لغما ينفجر في وجهه !
لكن الجميل أن كلا منهما لديه ما يساوم عليه تلك المرة وعنده ما يتفاوض بشأنه .. سيطلب هو أن تسمح له بالزواج ثانية ولا تسحب البنات علي بيت أبيها مطالبة بالطلاق وتنكد عليه وتسود عيشه .. وهي ستتنازل وتقبل أن تدعه يهنأ بالعروس الجديد ويحظي بالولد الذي يريده مقابل أن يسمح لها بالعودة إلي استكمال تعليمها !
إنه الحب والزواج حين يصل إلي مرحلة ( شيلني وأشيلك وسيب وأنا أسيب ) .. وهي أكثر المراحل وساخة في الحياة حقا !
كانت الزوجة الشابة تنظف المطبخ ، بعد أن أطعمت البنات ووضعتهن في أسرتهن وأرضعت الصغيرة وأنامتها علي سريرها وسرير زوجها في غرفتهما المشتركة ، بينما في رأسها تدور معركة حامية مهولة .. لقد انتوت أن تحادثه في الأمر الليلة ليتصادف هذا بالضبط مع قراره المماثل بالتحدث إليها في شأن أخت الحاج " بدوي " بالصدفة المقدرة تماما !
أهذه صدفة أم شيء آخر ؟!
ليس مهما .. دخل عليها وهي راكعة بجوار البوتاجاز تجمع بعض النفايات التي خلفتها البنات ونثرنها في كل مكان وتسحبها بالمقشة لتضعها فوق الجاروف البلاستيكي الصغير تمهيدا لإلقائها في صفيحة القمامة الموضوعة بجوار باب المطبخ .. تنحنح ثم هتف مصطنعا الود :
" يمسيكي بالخير يا أم " شيماء " ! "
أحست به وهو يأتي من خلفها فلم تجزع لسماع صوته المفاجئ .. ردت عليه وهي لا تزال تواصل الكنس والتنظيف :
" يسعد مساك يا اخويا .. أحطلك تتعشي ! "
لا لم يكن يريد أن يأكل فقد جعلته الفرحة يشعر بالشبع :
" لا الله يخليكي .. واكل بره شوية فطير عند الحاج " بدوي " ! "
تعمد أن يحشر سيرة الحاج " بدوي " ، الذي لم يأكل عنده ولا أي شيء من هذا ، في وسط الحوار بينهما لكي يمهد لذكر سيرته وسيرة أخته فيما هو آت قريبا :
" طاب يا أخويا بالهنا والشفا ! "
أنهت ما كانت تقوم به .. فوقفت بعد أن وضعت الجاروف والمكنسة جانبا وقامت تعدل الإيشارب المنزلق علي رأسها وتنفض البقايا والغبار عن ذيل ثوبها :
" أعملك هبابة* شاي ولا حاجة سخنة تشربها ؟! "
رفض فورا قائلا :
" لا لا متتعبيش نفسك .. واكل وشارب  .. "
كاد يكمل لائما ليقول لها أنه ( واكل وشارب من كيعانه ) .. لكنه رأي أن اللطافة والخفة مطلوبة في هذا الموقف أكثر من الحدة واللوم والتنابذ :
" بس كنت عايزك في كلمتين يا أم العيال ! "
فورا أجابت :
" ده أنا اللي كنت عايزاك يا أخويا .. كلمتين كده بس أياكش ربنا يهديك ونتفاهموا كده ومنزعلوش بعض ! "
ضحك وسألها مستظرفا :
" طيب تعالي نقعدوا في الصالة نتحدتوا * ! "
فورا اقترحت الحل الأفضل والأكثر سلامة :
" لا تعالي نخشوا أوضتنا ونحكوا هناك .. عشان بس منزعجوش الحاج والحاجة ! "
لم تكن تخشي إزعاج أحدا لكنها كانت تحاذر أن تسمعها حماتها البومة فتعطل لها خطتها وتوقف المراكب السايرة كعادتها !
لم يعارضها في شيء .. فهو مثل قطعة الزبد الليلة وما إن تقرب السكين منه حتى سينشطر نصفين تحت يدها .. كل هذا من أجل عيون العروسة الجديدة .. وهي من جانبها كانت مستعدة لأي تنازل وتحمل أي ألم مقابل أن تنفذ ما تريد وتحصل علي مبتغاها !
...
دخلا الغرفة معا .. كانت البنت الصغيرة ملفوفة في كبرتاية وغارقة في النوم بهدوء .. مال الأب عليها وقبل جبينها .. فعل ذلك بعفوية ودون تخطيط لكن تلك الفعلة الصغيرة صعبت الأمر عليه فجأة ولا يدري لما أحس بذلك  .. جلسا متقابلين علي الفراش وفتح هو الكلام .. بدأ هو المساومة فكان يجب عليه أن ينهيها كذلك أيضا :
" بقولك يا أم " شيماء " .. عايزين يا خيتي كده نقولوا كلمتين بس الله يكرمك بلاش زعيق وصويت وردح ! "
مقدمة تحذيرية لا بأس بها لكن " نعمة " لم تكن بحاجة إليها :
" لا متخافشي لا هنصوتوا ولا هنردحوا .. لقيت عروسة يا ولد الناس وعايز تتجوز ؟! "
داهمته مباشرة فترنح .. لم يتوقع منها تلك البساطة وهذه الصراحة .. قال محاذرا وقد بدأ يشعر بالقلق :
" مخبيشي عليك .. أيوه ! "
ردت فورا وهي تعيد ربط الإيشارب :
" علي بركة الله ! "
فتح عينيه لينظر إليها مبهورا مذهولا :
" أيه .. يعني أنت مش زعلانة ؟! "
كان يستدر غضبها الآن ليشعر برجولته وحاجة زوجته له لكنه أخطأ الفهم .. فهي كانت تتألم لكن لديها ما تساوم عليه وما تطلبه في المقابل ! "
" لا يا خيي هزعل ليه .. أنت راجل ملو هدومك وعايز الواد اللي يسند ضهرك وأنا ربنا ما أردش يديني الواد .. هنحبسوك ولا نمنعوك من حقك ليه .. ربنا محللك أربعة يا ولد الناس .. وأنت مش أول راجل يجيب مرة تانية علي مرته .. أنا لا هزعق ولا هردح ولا هغضب .. "
صمتت للحظة ليبتلع كلماتها المرة ويهضمها قبل أن تطعمه بقية ثمرة المر التي تذوقتها قبله :
" بس يا واد الناس المثل بيقول الضرة مضرة وأنا يا أخويا هسكت وأستحمل وأحط شبشب في حنكي ومش هنكد عليك .. بس أنت كمان كده تعملي اللي أنا عايزاه ! "
بدأ يتوتر ويتشوش تفكيره .. فماذا يمكن أن تريد زوجته منه ؟!
أتريد بيتا مستقلا لها ولبناتها ؟!
أتريد أن يأخذ لزوجته الجديدة شقة بعيدا عنها ؟!
إنه لا يقدر علي شيء من ذلك .. فليس معه مالا يشتري به بيتا ولا يمكنه دفع إيجارات الشقق المرتفعة ولا تحمل فتح بيتين !
" عينيا ليكي يا أم " شيماء " ! "
قالت فورا عارضة طلبها :
" عايزة أكمل تعليمي يا خيي ! "
بهت .. بهت حقا فلم يكن يتوقع ذلك .. توقع كل شيء وأي شيء لكن ذلك المطلب بالذات كان غريبا جدا بالنسبة له !
" تعليم أيه يا أم البنات .. مش خلصنا إحنا من المدارس وقرفها من زمان .. عندك أربع بنتة معلقين في رقبتك .. أنت شبشوبة * هتروحي وتيجي بالمريلة يا مرة ؟! "
كان يقرعها ويلومها لكنها كانت تبتسم ساخرة .. فهو يردد الكلمات التي بالضبط توقعت أن يقولها !
نفس الحجج الفارغة ونفس الأسلوب المعتاد في تكسير المجاديف وتسفيه الأحلام !
" يا ولد الناس .. أنا لا هلبس مرايل ولا هروح وهجي .. أنا هقدم علي منازل وهذاكر في البيت وهروح علي الامتحان ! "
حك مؤخرة رأسه وشعر بشيء يدق غاضبا في عقله :
" يا ولية أعقلي .. أعقلي يا بت الناس وشوفي صالحك وصالح بناتك .. أبقي علمي عيالنا وخليهم يطلعوا زي ما كنتي عايزة تطلعي أنتي ! "
ابتسمت له ثانية :
" ما هو شوف يا ولد الحلال .. أنت عايز تتجوز وأنا هسيبك ومش هعملك مشاكل .. وأنا عايزة أتعلم .. هتوقفلي في حاجتي هوقفلك في حاجتك .. لا أنت هتكسب ولا أنا هكسب .. خلينا حبايب وخلي كل واحد من تلاه وبلاش نعندوا مع بعض .. ملوش لزوم يا ولد أبويا ! "
فهم قصدها الآن .. إنها بالفعل تستطيع أن تخلق له مشاكل لا حصر لها .. يمكنها أن تحزب العائلة ضده وتقسم الناس نصفين .. يمكنها أن تصدع رأسه وتطفش العروس من البيت بمجرد أن تدخله .. إنه يعرف لؤم وكهن الحريم جيدا ، ويعرف ما الذي تستطيع امرأة أن تصنعه بضرتها !
أدار الأمر في رأسه بسرعة وهو ينظر بغيظ لوجهها الهادئ .. يري التصميم والإصرار في وجهها .. يري المشاكل التي قد تخلقها له و( الوش ) الذي ستصدع به رأسه .. فعلام كل هذا ؟!
إنها لن تستطيع أن تواصل أو تواظب .. لديها أربع بنات وفوق رأسها البيت بمشاغله ومتاعبه وهمومه وفوق كل ذلك أمه !
ستعاند شهر أو شهرين .. ستصل بعنادها حتى الامتحانات .. ثم ماذا ؟!
سترسب حتما وبلا أدني مناقشة .. إن الطلاب المنتظمون الذي يأخذون كومة دروس خصوصية في الثانوي يرسبون فما بالنا بامرأة تذاكر في المنزل محاطة بأطفال ومشاكل لا حصر لها !
شعر بالإهانة لكون زوجته ، حبيبته وامرأته ، تساومه عليه هو .. تساومه أن تقبل فقدانه مقابل أن يسمح لها بإكمال تعليمها .. لكن ألم يأتيها هو مساوما منذ البداية ؟!
" طيب يا خيتي .. نشوفوا .. بس نتمموا موضوع الجوازة  ده الأول ! "
" لا لا بقولك أيه .. إحنا كل واحد من تلاه أنت تروح اسم الله تخطب وتتجوز .. وأنا من بكره هروح أشوف موضوع التقديم ده .. آمال أيه يا أخويا ده له مواعيد وممكن ملحقش السنة لا قدر الله ! "
شعر بالإهانة ثانية .. ثم بألم غاص في قلبه .. إذن فهذه هي نهاية قصته مع " نعمة " التي أحبها طوال عمره ؟!
أربع بنات وضرة وتعليم وحياة تعاش بالطول أو بالعرض .. لأنه لا محيص عن أن تعاش وليس لأي سبب آخر !
أحني رأسه مسلما مستسلما فقد أحسنت تقديم بضاعتها وأحسنت التقدير :
" طيب يا بت الناس .. بس تنبهي علي ناسك ملهمش دعوة بينا .. ولا حدش فيهم يجي يقول لي كلمة .. أديني بنبهك وبعرفك أهوه عشان منعملش مشاكل ملهاش لازمة ! "
طمأنته فورا :
" لا ملكش دعوة أنت .. ناسي أنا هعرف أتصرف معاهم ! "
نهض من فوق الفراش أخيرا .. كان معضعضا ويشعر أنه فقد شيئا هاما ، شيئا لا يعرفه ، علي طرف هذا الفراش الذي شهد عرسه السعيد منذ بضع سنوات .. لم تناده " نعمة " ولم تحاول أن تستبقيه فهي قد أدركت مثلما أدرك أن ما سيفعله الآن هو الحل الأمثل .. مشي بضع خطوات حتى وصل إلي باب الغرفة ثم استدار لينظر إليها ويقول بهدوء :
" أنا هروح أنام في المندرة .. عشان تاخدي راحتك أنت والبت ! "
حجة فارغة لكنها تركته يذهب .. ألقي عليها نظرة أخيرة أحست منها أنه أكتسب عمرا فوق عمره الحقيقي في لحظة وأنه شاب أمام عينيها دون أن تلحظ ذلك ..
رماها بنظرة خافتة ثم ذهب لحال سبيله !
...
في الصباح كان البيت كله قد تغير .. لم يكن هناك شيء قد فُقد و تحرك من مكانه ولم يتبدل شيء في نظام البيت ، ولم يزد عليه أحد أو ينقص منه .. لكنه مع ذلك كان قد تغير تغيرا كاملا !
انفصمت فيه عري قديمة وأعيد توثيق عري وصلات جديدة غيرها .. صحا " عبد الرحيم "  مبكرا جدا ، هو لم ينم في الحقيقة ، فوجد أمه تجلس في الصالة تشرب الشاي باللبن وترمق الكون حولها بنظرة بومة خرجت ليلا لتصطاد الفئران فلم تجد شيئا وباتت ليلتها جائعة .. في الحقيقة فقد كان لدي الحماة سبب وجيه للتكدر والسخط علي ما حولها .. فقد فتحت عينيها صباحا علي زغاريد تنطلق من بيت جيرانهم الذين وضعت زوجة ابنهم تؤمين منذ قليل .. زوج من الأولاد بينما ولدها البكري محروم حتى من ولد واحد يقيم أوده !
كانت تمصمص الشراب الدافئ وتبتلعه وكأنه مرا في حلقها .. فلم تكد تري ولدها حتى قررت فورا أن تنكد عليه علي غيار الريق ليرعوي ويسمع كلامها :
" صباح الخير يا أمايا ! "
" يصبحك بالخير يا ولدي يا زينة الراجل .. أسكت مش صاحبك واد " مدبولي " الحلاق جاله وادين يا واكل اللي جابوك ! "
هكذا تلطمه علي وجهه دون رحمة لكنها كان مستعدا لها هذه المرة :
" أنا هتجوز يا أمايا .. كلمت " نعمة " إمبارح وربنا هداها ولقيت بت الحلال اللي تنفعني ! "
وضعت الأم الكوب الذي تلطخت جدرانه بدهن اللبن الدسم من يدها وأطلقت زغرودة مجلجلة :
" من صح يا واد ولا يتضحك علي أمك ؟! "
بلا أي انفعال ،لا حزن ولا غضب ولا فرح ، رد عليها مؤكدا :
" لا متخافيش .. إن شاء الله هكلم أخوها النهاردة وربنا يسهل ويتمم بخير عن قريب إن شاء الله ! "
أضاء وجهها بالفرح وهمت بإطلاق زغرودة ثانية لكنه قال مسكتا إياها :
" خلاص يا أما خلاص خلاص .. أنت ما صدقتي علي الصبح ! "
كادت ترد عليه مؤنبة لأنه يريد وأد فرحتها لكن دخول " نعمة " حاملة " حسناء " الصغيرة الباكية أوقف تلك المناقشة سريعا :
" صباح الخير ! "
قالت " نعمة " بوجه محايد أغمق لونه واكتسب سمرة غريبة في ساعات قليلة .. رد " عبد الرحيم "  فورا وهو يهرع ليأخذ البنت من بين يديها :
" صباح النور .. مالها البت كفا الله الشر ! مالك يا حنونة يا حلوة .. مالك يا بطة ! "
كان يدلل الطفلة التي لم تتوقف عن الصراخ بينما تقف زوجته تنظر إليه وكأنها لا تراه أصلا .. أما الحماة فلم يعجبها شفشف الحنية الذي أندلق من ولدها فجأة وخشيت أن يعطل هذا مشاريعه في الزواج فهتفت مستهزئة وهي ترفع ساقها المتورمة لتضعها علي الكنبة بجوارها :
" مالها يا ضنايا ما هي زي العفريت أهي .. هما الملكمين البنات دولا بيجرالهم حاجة .. يلا عن قريب تجيب الواد وتحطه علي حجرك يا أمي .. بلا بنات بلا هم ! "
كانت تستعدي " نعمة " وتحاول جر شكلها لكن الأخيرة كانت في شغل شاغل عنها .. قالت لزوجها متجنبة النظر في وجهه :
" أنا هروح النهاردة زي ما أتفقنا إمبارح .. أختي هتعدي عليا كمان شوية ونروحوا سوا ! "
شعر بغصة ولف يديه حول البنت بقوة أكثر مما ينبغي :
" علي طول كده .. مش لسه بدري ! "
" بدري من عمرك يا سيد الرجالة .. لازم ألحق قبل ما يقفلوا باب التقديم ! "
انتبهت الحماة للحوار الذي لا تفهم منه حرفا فتساءلت محاذرة :
" هو أيه ده اللي هتلحقيه وتقدمي عليه يا مرت ولدي ؟! "
لم تهتم بها " نعمة " بل مدت يديها تأخذ طفلتها ، التي هدأت قليلا ، من بين يدي أبيها وقالت لحماتها دون أن تنظر إليها أصلا :
" خلي ولدك يحكيلك .. أنا رايحة ألبس وألبس حسناء ! "
...
لم يماتع الحاج " بدوي " في إعطاء أخته لرجل متزوج ولديه امرأة أخري علي زمته وأربع بنات في رقبته .. أساسا فإن العروس وأهلها لا يتوقعون إن يأتيها خاطب إلا من هذه العينة .. رجل متزوج أو مطلق أو أرمل أو مسن فلن يرغب فيها الشباب ولن تصلح هي لأحدهم !
ولأن المرأة الأرملة مثلها كمثل المطلقة في هذا المجتمع تعتبر فضلة ونفاية رجل آخر ، فإن إقبال رجل علي الزواج منها يعتبر تفضلا وتكرما منه عليها .. ولذلك قبلت شقيقة الحاج " بدوي " أن تتزوج ب" عبد الرحيم "  ، الذي لم يرها ولم تره من قبل .. وما إن زُفت إليه بشري الموافقة المبدئية حتى بدأ أبو البنات في التحضير للزواج ..
كان هناك شقة صغيرة مغلقة في أعلي البيت محجوزة لأخيه الأصغر " عمر " الذي يبقيها مغلقة لحين تجهيز نفسه والاستعداد للزواج .. طبعا لم يكن من الوارد أن تبقي الزوجتين معا في نفس المكان وإلا تمخض عن ذلك حريقة يومية في البيت ، خاصة مع وجود البنات اللائي لن يتقبلن وجود هذه الدخيلة  بينهن ، وقد يضايقنها أو يتعبنها بأي شكل ، وما أكثر حيل الصغار وألاعيبهم الخفية .. أنثني " عبد الرحيم "  إلي أخيه يحاول إقناعه بإعطائه غرفة واحدة في شقته المقفلة ليتزوج فيها من أخت " بدوي " .. طبعا رفض الأخ في البداية وتخانق وأفتعل مشكلة واصلة إلي رب السماء .. لكنه ما لبث أن تراجع وبدأ يتساهل ويبدي استعداده للموافقة نظير شرط .. شرط صغير لكنه لن ينفذ الآن بل سيأتي موعد التنفيذ حين يصبح " عمر " علي وش زواج .. فسيأخذ " عبد الرحيم "  غرفة في شقته لكن هذا الوضع سيكون مؤقتا وليس دائما ، وعليه أن يعد غرفة أخري لزوجته الثانية بأسفل البيت .. أو أن يساعد أخيه ماديا لاستئجار شقة أخري خارج البيت حين يعن له الزواج !
وافق " عبد الرحيم "  ووافق الأخ ووافقت الأم .. وأطلقت الزغاريد رغم أنها لم تكن قد رأت العروس من قبل ولا تكاد تتذكر حتى اسمها ، الذي أخبرها به ولدها ذات مرة ونسيته .. أما " نعمة " فلم يأخذ أحد رأيها في شيء ولم يهتم برضاها أو عدم رضاها !
من ناحيتها أخذت الأم الشابة بناتها تحت جناحيها وقررت أن تأخذ لها جانبا من المنزل وتضم أطفالها إليها ولا تبالي بشيء مما يحدث حولها ولا بأحد ممن يعيشون معها حتى بزوجها نفسه .. لقد حدث بينهما الشرخ النهائي وصارا غرباء عن بعضهما تماما .. صحيح أنها لا زالت زوجته ،  كما أنه محسوب عليها رجل وزوج، لكن كل هذا لم يعد سوي حبر علي ورق .. سيلقي بنفسه بين ذراعي امرأة أخري ، وعلي كثب منها ، لا يفصلها عنهما سوي بابين وبضع درجات سلم ، سيفعل هذا من أجل الولد كما يقول .. لكنها تعرف الآن أن الرجل حينما يقرر أن يتزوج بامرأة غير زوجته فلا تهم المبررات التي يصنع من أجلها ذلك .. الزواج بأخرى قرار يتخذه الرجل بمعزل عن أية مبررات أو حواجز أو أسباب .. فلا موانع العالم تستطيع أن تمنع رجلا من الزواج بامرأة أخري غير زوجته إذا أراد ذلك .. ولا مغريات العالم تستطيع دفعه إلي ذلك ما دام لا يريد ذلك !
إنه شيء يسري في دم بعض الرجال كجرثومة الحمى .. شيء منعزل تماما عن عوامل الجمال والحب والأولاد وحتى حسن العشرة وحلاوة القرب .. إنه شيء وجودي غامض كظواهر الطبيعة .. قدر مخطط سلفا والرجل هنا ليس إلا منفذ أعمي .. أم أنه أكثر من كونه منفذ وحسب ؟!
لم يعد هذا يعنيها في شيء .. فلا شيء عاد يهمها الآن .. إنها خسرته وانتهت لكن الحقيقة إن خسارة رجل لا ينظر إلي زوجته إلا كوعاء لا تحسب خسارة أبدا !
العروس الجديدة هي الخاسرة وليست هي .. فستكون مهددة أكثر منها .. وستكون علي شفا الحفرة وعلي حافة الجرف أكثر منها !
أزاحته بعيدا عنها وليشمل بخطره من يشمل فما من شيء باق لها الآن سوي نفسها .. ونفسها مقسومة علي اثنين .. ذاتها هي الحرة وبناتها .. جزءان لا ثالث لهما ولا يقبلان التثليث ولا مزيد من التجزئة .. الثلث كسر ضعيف محلول الوسط أما النصف فهو الكسر الأقرب والأكثر قوة والأكثر قابلية للالتحام بسهولة !
اثنان فقط يا " عبد الرحيم "  ولا ثالث سيدخل بينهما .. أنا وبناتي ومن بعدنا فليأتي الطوفان بقوته وليكتسح من يكتسح !
هل تظن أنها تبالي بك وقد سمعت زغاريد أمك تتردد ، وهم ينقلون عفش العروس وحاجياتها إلي الداخل ، وأنت واقف تشرف علي ذلك وتسمع .. تسمع بأذنيك وتنصت ولا تمنع ولا تشفق يا رجل ؟!
تقدمت " نعمة " بأوراقها وشهادة إتمام التعليم الأساسي ، المرحلة الإعدادية ، طالبة قبولها للالتحاق بالمدرسة الثانوية .. لم تكن أمها راضية عن شيء مما يحدث .. دهشت المرأة لوقوف ابنتها صامتة ساكتة ، بل لعلها تكون راضية ، أمام زوجها وهو يتزوج عليها ويأتيها بمنافسة إلي عتبة بابها .. كان بإمكان والد " نعمة " وأخوتها التصدي ل" عبد الرحيم "  ، وخلق مشاكل لا حصر لها له .. لكن أيديهم غُلت أمام صمت ابنتهم وقبولها الضمني المثير للدهشة .. وكذلك لم تكن أم " نعمة " راضية بتفكير ابنتها في العودة إلي الدراسة والمدرسة والتعليم والامتحانات .. أي دراسة وهي يجب أن تركز قواها ، منذ اللحظة ، علي أن تنجب الولد .. لتسترد زوجها من ضرتها وتغيظ المنافسة وتهري كبدها !
لكن " نعمة " لم تكن راغبة في شيء من هذا .. لقد سئمت من الإنجاب عامة ولا رغبة لديها في أن تزرع المزيد من البذور في رحمها لتطرح لها أطفالا باتت تضيق بهم أشد الضيق ، وتشعر في الوقت ذاته أنها جنت عليهن .. كان يجب أن تفعل ذلك منذ البداية .. اخطأ عندما رضخت لهم ، وأجرمت في حق نفسها حين استسلمت كنعجة تساق إلي الذبح .. لا مزيد من هذا الآن فهي قد وضعت قدمها علي أول الطريق الذي كان يجب أن تسير فيه منذ البدء !
لكن للأسف فإن عودتها إلي المدرسة الثانوية لم تكن سهلة هينة كما كانت تتمني وتحلم .. قامت في وجهها المصاعب والعقبات وحدثت تعقيدات لا نهاية لها !
الروتين الجامد لم يرحمها والبيروقراطية العفنة أخرجت لها لسانها مزدرية مغيظة .. فقد تركت المدرسة منذ بضع سنوات وليس من حقها العودة إلي الدراسة ثانية .. ساعدتها " سناء " بكل ما تملك وكل ما تستطيع .. أخذت تجري هنا وهناك لتحصل علي توصية من هذا المسئول ، أو توقع ورقة من هذه الموظفة الحمقاء الكريهة .. كانت " نعمة " تجري في طريق بينما زوجها يجري في طريقه الخاص هو الآخر .. لكن ، وبعكس طريقه الذي كان مستويا ممهدا مفروشا بالرمال ، كان طريقها هي طويلا مرهقا ملتويا مليئا بالحفر والزلط والدبش !
ورغم أن الطريقين كان متوازيان إلا أنها كانا متباعدين ويستحيل أن يلتقيا .. لكن الالتقاء حدث رغما عن كليهما ذات صباح كئيب يسبق عقد قران " عبد الرحيم "  علي " ثريا " ، شقيقة الحاج " بدوي " ، حينما اكتشفت " نعمة " مفاجأة غير سارة بالمرة .. اكتشفت أنها حامل للمرة الخامسة !
...
ورغم أنها لم تكن تستخدم وسائل لمنع الحمل بشكل منتظم إلا أنها لم تتوقع أبدا أو تتصور أن يحدث هذا .. الغريب أن التباعد والتجافي الذي حدث بينها وبين زوجها في الآونة الأخيرة جعلها تستبعد تماما فرضية حدوث حمل جديد .. كانت " نعمة " تفكر بعواطفها ، وتعتقد أن الأطفال يأتون بالحب ومن الحب بين زوجين متفاهمين .. لكنها لم تكن تعرف أن الطبيعة لا شأن لها بالحب .. وأن الكيمياء هي مجرد زجاجات شفافة وسوائل وليست لها علاقة بالمحبة الصادقة ولا بالود الصافي أبدا !
عرفت الخبر فنزل عليها نزول الصاعقة .. " عبد الرحيم "  ، الذي قررت هي إخفاء الأمر عنه ، لكن أمها سارعت بتبليغه ، أصابته صاعقة وتشوش فكره حينما أحس بالأمر .. الطفل الخامس آت بالضبط في الوقت غير المناسب !
فرحت أم " نعمة " واعتقدت أن هذا ينهي الأمر لصالح ابنتها .. لكنها لم تكن تعرف أن ابنتها لم تعد تعتبر عودة " عبد الرحيم "  لها انتصارا ولا ضربة قاضية لصالحها .. لقد دفعته بعيدا لتسترد نفسها وطموحها وأحلامها .. لكن دفعتها المرتدة الخائبة عادت عليها لتصطدم بوجهها .. حماتها وحدها هي التي لم تتأثر بالأمر في قليل أو كثير !
قالت لولدها وهي تزغده في صدره وتنهره بلهجة حازمة :
" مالك يا واد .. ما هتجيب بت زي كل مرة .. يعني أنت ضمنت إن فيها واد ؟! "
كانت الحماة تخشي من ضياع الزيجة وطيران العروس من يد ابنها .. خافت من أن يرده الحمل الجديد إلي عقله ويعيد التفكير بالأمر .. لكنها نسيت أنه قرأ فاتحة ووضع يده في يد أخو " ثريا " ، الذي يرتبط معه بمصالح متعددة ، وأن أي تراجع الآن ، ولو لمجرد خطوة واحدة ، يعتبر إهانة له وتقليلا من رجولته وحطا من قيمة الكلمة التي بذلها .. والتي خرجت من لسانه فعلا ولم يعد ابتلاعها واردا أصلا !
إنه لم يفكر في التراجع عن الزيجة الجديدة .. أبدا .. لكن عقله بدأ يتشتت ويهيم هنا وهناك .. ستلد " نعمة " له من جديد ، ولدا أو بنتا ، لا يهم هذا الآن ، لكنها ستلد في البيت وزوجته الجديدة فيه .. ولادتها لطفل جديد ، هو ابنه وابنها في نفس الوقت ، ذكره بأنها لا تزال زوجته .. لا تزال في عصمته ولا يمكنه التنصل من مسئولياته نحوها ولا نحو بناته ولا نحو العروس الجديدة !
أهو قادر علي الوفاء بكل تلك المسئوليات .. سبع نساء معلقات في رقبته فهل هو قدر المسئولية وهل هو ( قد الشيلة ) .. هل سيستطيع أن يشيل أم سيكب علي وجهه ويفتضح أمره أمام الناس !
شعر بنبي يزعق في رأسه .. لحظة إفاقة ، وربما ندم ، صغيرة سريعة .. لكنها سرعان ما تبددت .. فهو قد قرأ فاتحة وأعطي كلمة .. وفاتحته وكلمته أغلي عنده من كل ما بالعالم من نساء وبنات وزوجات وحبيبات !
انزوت " نعمة " علي نفسها حزينة مكلومة في صدرها .. شعرت بأن الطفل القادم جاء خصيصا ليحطم أمالها ويقتل أحلامها فكرهته .. كانت تلك أول مرة تشعر بكراهية ناحية جزء منها يسكن أحشائها وكم استهجنت هذا الإحساس وتعجبت منه .. لكنها كانت الحقيقة !
آمنت بأنه ( عيل فقري ) .. سواء أكان فقري أم فقرية فهو طفل لعين جاء في الوقت الخطأ ليجعل كل الأوضاع تعود إلي مرحلة الخطأ مرة أخري .. سرعان ما داهمها المرض ولزمت الفراش عقب معرفتها بأمر الحمل بيومين اثنين .. هرعت إليها أمها تحمل عنها عبء البنات لكنها أعلنت لها رغبتها في أن تبقي في بيت أبيها فترة حتى تشفي وتسترد صحتها .. ظنت والدة " عبد الرحيم "  أن زوجة ابنها تتمارض وتتماوت لكي تهرب من البيت ولا تشهد بعينيها دخول العروس فيه لتكبس علي أنفاسها فقالت لولدها غير مبالية بشيء :
" يلا المركب اللي تودي .. ده أنا هكسر وراها قلة ! "
غضب " عبد الرحيم "  لكلمات أمها ونهرها بعنف قائلا لها لائما مؤنبا :
" ليه بقي هي كانت عملتك أيه يعني .. وبعدين متنسيش أن دي مرتي وأم بناتي ولا عمريش أستغني عنها ! "
رفعت المرأة الأريبة حاجبيها وعقدتهما في منتصف جبينها .. ولمعت نظرة سخرية في عينيها الواسعتين اللتين ملأتهما بطن من الكحل الذي ساح حتى كاد يغطي أنفها :
" طاب علي مهلك يا دوهل .. علي مهلك يا أخويا علي نفسك .. خليك وراها لما تبليك بدستة بنات يقعدوا في رقبتك ولا يتخلعوش منها أبدا ! "
ثم غضبت وتعصبت وأخذت تعنفه بقسوة وبصوت مرتفع غير مبالية بوصول صوتها إلي أذان " نعمة " وأمها اللتين كانت مشغولتين بجمع بعض حاجياتها وحاجيات البنات ليذهبوا إلي بيت الجد كما أرادت الزوجة :
" مالك يا واد ما تصلب طولك وتشد حيلك كده وبلاش نحنحة وسهوكة يا حيلة أمك .. حنيت يا حنين .. مشبعتش من خلفة البنات يا أبو البنات .. ملت لك السرير بنته وكسرت رقبتك قدام الرجال .. إن شاء الله أعدمها وأعدم بناتها يا رب في ساعة واحدة خليني أرتاح ! "
شعر " عبد الرحيم "  بالحزن الشديد لكلمات أمه التي نكأت جرحه .. لكنه لم يجد في نفسه القوة اللازمة للرد عليها .. فقد كان يعتقد أنها لا تقول إلا الحق ولا تتفوه إلا بما يريد سماعه ليرتاح ويريح ضميره المعذب .. تنفس بغضب للحظة ثم هب تاركا لها المكان .. لائذا بالفرار إلي أقرب مهرب بعيدا عن البيت المشحون بالحزن والغضب والألم !
...
بقيت " نعمة " في بيت أبيها بضع أيام .. تنفست الصعداء وأخذت بناتها تحت جناحها .. كانت تتظاهر بالهدوء النفسي والاطمئنان لكن عاصفة كانت تضرب تحت جمجمتها المغلقة .. فهي تري بعيني خيالها العروس الجديدة تدلف ، في ثوب الزفاف الأبيض ، إلي داخل بيتها .. لتأكل خبزها وتأخذ رجلها وتحل محلها .. كانت تظن أن الأمر سيكون سهلا عليها لكن في الحقيقة ما أصعبه !
ليس فقدان الشخص بالموت بأصعب من فقدانه بالحياة .. بل لعل الأخيرة أوجع وأكثر إيلاما !
لو مات " عبد الرحيم "  لأستعوضت الله فيه وبكته حتى عميت عيناها وظلت ذكراه حية في قلبها وعقلها .. لكنه لا يزال حيا .. حيا يرزق وعلي بعد خطوات منها لكنها تشعر أنه ميت !
مات بالنسبة لها .. مات في اللحظة التي رضي فيها بأن يضم امرأة غيرها بين ذراعيه ويكون رجلا لها مقسوما بالنصف بينهما .. مات وشبع موتا مع أنه لا زال حيا يشبع حياة وخيانة !
لم تكن تعرف أن البشر يتألمون بهذا الشكل .. الذي أوجعها أكثر أنها اختارت برضاها أن تدفن " نعمة " القديمة من أجل " نعمة " الجديدة ، التي تعود لتحاول تحقيق حلمها علي مقاعد الدراسة والأمل .. لكن للأسف فهي لم تقطف عنب الشام ولا بلح اليمن .. فقدت زوجها ولم تكسب حلمها فخسرت الاثنين معا وخسرت نفسها معهما !
أتسمع زغاريد آتية من ناحية بيت زوجها ؟!
أيترأى لها هذا حلما أم أنه حقيقة واقعة .. لا تثريب عليه ولا علي أهله فقد رضيت بهذا ونالت جزاءها ورضي هو وسينال جزاءه قريبا وربما مؤلما أكثر مما يتوقع أو يتمني !
أتسمع زغاريد ؟!
لا .. بل يخيل إليها كما خيل للناس المفتونين أن حبل وعصي سحرة موسي تسعي من السحر !
حية تسعي في صدرها .. فتمد يدها لتخنقها !
تعثر حلمها وصعب عليها العودة إلي الدراسة الثانوية .. وقف الروتين كحائط صلد قاسي أمامها وتعلقت بدابرها الأيام معيقة إياها عن الحركة !
أي حياة هذه يحياها المرء وأي سعادة مفترض أن يتظاهر بها .. تبقي طوال عمرك مطية ، دمية ، يحركونها كيفما شاءوا ويمتطونها متى شاءوا ولابد من أن تتظاهر بالبهجة والسرور وإلا اتهموك بالجنون .. وربما التمرد والجحود والكفر بالنعمة !
نظرت " نعمة " إلي بناتها ، اللائي جلسن حولها ، صامتات هادئات لأول مرة في حياتهن وكأنهن يشعرن بالآلام التي تعصف بأمهن .. خشين تكديرها وجئن ليقلن لها بألسنتهن الناطقة وبألسن من لم تنطق منهن بعد :
" إحنا جنبك أهوه يا ماما ! "
الابنة التي تأتي لتكون ليس جزءا من أمها بل تعويضا لها وإكمالا لوجودها .. ليس الولد هو الذي يمنح الأم كمالا بل البنت .. فالبنت ليست جزءا من أمها مثل أخيها .. إنها أمها نفسها !
صورة مصغرة منها ، بوجه جديد وملامح مختلفة وربما عقل كامل مناقض ، لكنها لا زالت هي .. لا زالت نسخة مصغرة من الأم مثلما تكون صورة الوثيقة هي الوثيقة نفسها لكنها مطبوعة علي ورقة جديدة وبحبر جديد .. لذلك تخرج البنت من بطن أمها أما صغيرة .. يمكنها أن تكون أما لدمية ميتة أو لأخيها الأصغر منها ، يمكنها أن تحنو علي من هو أكبر منها ، لأنها ولدت أما .. ليس استعداد طبيعي بل لأنها تشربت الأمومة وهي داخل رحم أمها .. إنها ابنة الرحم وصاحبته ومالكته .. إنها الرحم نفسه والرحمة وهبة الرحمن وميزان الرحمة في الأرض !
كانت " نعمة " أما وكانت بحاجة إلي أم .. أمها موجودة لكنها لن تفهمها أبدا .. لكنها ، وإذ تنظر حولها حائرة ، وجدت أن هناك أربع أمهات صغيرات خرجن من بطنها هي .. كانت بحاجة لواحدة فوجدت بدلا من الواحدة أربعة .. أربع أمهات يفهمنها ويشعرن بها .. يلتففن حولها ويشاركنها حزنها الصامت .. ضمتهن إليها .. ضمتهن تمنحهن الأمان وتطلب منهن أن يمنحنها الأمان !
ثملت بالأمومة المتدفقة فوقها من بناتها وشعرت بالطمأنينة .. نامت أخيرا قريرة العين وقد أدركت إن لديها ، مهما حدث ومهما كانت حجم خسائرها ، لديها ما تقاتل من أجله وعندها ما يستحق العيش لأجله !
ستعيش إذن .. ستعيش مع " عبد الرحيم "  أو بدونه .. ستعيش إذا نجحت في العودة إلي التعليم وإذا فشلت .. ستعيش في كل الأحوال !
تحرك الجنين في رحمها في تلك اللحظة وركلها .. ركلها بقسوة وعنجهية .. إنه يركل مطالبا بحقه في الاعتراف به .. شعرت بضربته في جدار بطنها فأحست ، يقينا ، إنه ليس أما خامسة لها .. إنه ولد آت أخيرا بعد أن ملت انتظاره ولم يعد لمجيئه أو عدم مجيئه أي معني أو طعم !
...
مرت شهور ووجدت الأم الشابة نفسها علي أعتاب أمومة جديدة .. كانت زوجة " عبد الرحيم "  الجديدة تقبع في زنزانتها الانفرادية بالطابق العلوي لا تحادث أحدا ولا يحادثها أحد .. دخلت البيت وهي تتأبط ذراع " عبد الرحيم "  وتنتظر أن تفرض سطوتها عليه .. فعلت ذلك في الأيام الأول ونجحت في جعله لا يكاد يفارق جحرهما ليلا ولا نهارا .. مضت أيام عسل رشف فيها الزوج من العسل الملوث بالسم .. أدرك أن زوجته الجديدة ليست سهلة أبدا !
أخت الحاج " بدوي " لا تكاد تفرق عن أخيها " بدوي " في شيء .. لا ينقصها سوي شارب وكرش ممتد أمامها وجوزة مدلاة من فمها لتصير معلما وتكرع المعسل مثل الرجال .. كانت حسنة الوجه في الحقيقة رقيقة الملامح ، بيضاء ، بأنف صغير وفم معتدل ، تسر الناظرين .. لكنها علي المستوي الحسي كانت جامدة بلهاء .. لا تحس ولا تشعر ولا تتألم ولا تحب ولا تكره .. كانت موءودة أخري جاءت لتكمل بيت الموءودات وتجبر نقصهن ، أو لتنقص جبرهن في الحقيقة .. أخذوا منها عيالها وانتزعوهم من حضنها انتزاعا ، ولأنها أرملة ، ولأنه لا رجل لها يحميها أو يسد عنها ، ولأنها بلا علم ولا عمل ولا دخل ولا راتب فقد قيل لها بمنتهي القسوة :
" العيال لأهل أبيهم .. ولينكسر قلبك ولتذهب أمومتك إلي الجحيم ! "
أنكسر قلبها فعلا لكنها أرادت أن تسوق الجميع إلي الجحيم الذي رموها فيه .. وفي بيت أخيها بقيت كلبوءة مجروحة تتحين الفرصة للانتفاض والانتقام لنفسها .. لكنها عجزت عن أن تفعل ذلك في مواجهة أخيها الذي يرعب السوق كله بسطوته وجبروته وبرأسه الغليظة وأتباعه وعصاه وكفيه اللذين يشبهان كفى الدب .. لذلك فما إن خرجت من تحت جناحه ودخلت تحت جناح رجل ، محسوب عليها رجل ومحسوب عليها زوج وحامي حمي ، حتى بدأت تسفر عن جرحها العميق وتغرف صديدا وترمي في وجوه الجميع .. وبمنتهي البساطة طلبت من " عبد الرحيم "  ، عقب دخلتهما بأيام قليلة ، أن يطلق " نعمة " !
أشارت إلي بطنها إشارة موحية وقالت له مستهجنة :
" وتخليها ليه يا أخويا علي ذمتك .. لازماك في أيه تاني .. الواد أنا اللي هيبجبهولك إن شاء الله عن قريب .. والبنات أهم يفضلوا معانا هنا ! "
كانت في الحقيقة تخطط لانتزاع البنات من أمهن .. إنها لا تريد البنات بل تريد أن تفعل بضرتها كما فُعل بها من قبل !
أغمقت ملامح العريس السعيد وقال لها محاولا عدم إغضابها :
" يا بت الناس دي مرتي ومستغناش عنها .. والكلام ده قولناه قبل كده وشهد عليه الناس وشهد عليه أخوكي الحاج بدوي .. " نعمة " وبناتها ملزومين مني طول ما أنا حي ! "
لوت شفتيها مزدرية :
" يا سلام .. شوف شوف الحنية .. ولما هي غالية عليك قوي كده جبتني عليها ليه يا ولد الحلال ؟! "
كانت تعرف بالضبط لما جاء بها علي  نعمة " لكنها كانت ( تستعبط ) بمنتهي البساطة فقد سرها أن تعتقد أن تزوجها إعجابا بها ومحبة لها وليس لتكون ( معونا ) آخر بعد أن فشل المعون الأول في أداء مهمته .. أراد أن يخرسها تماما ويلقمها حجرا تسكت بعده ولا تتفوه بكلمة أخري فقال لها :
" أديكي قولتيها .. يعني أنت اللي جيتي عليها مش هي اللي جات عليكي .. لزومها بقي أيه غيرة النسوان دي يا بت الناس ! "
أغضبت تلك التهمة العروس الجديدة النكدية فردت بقسوة وقد لمعت نظرة مخيفة في عينيها جعلت " عبد الرحيم "  يشعر بالرعب :
" غيرة أيه دي يا عمر ؟! اسم الله .. هلا هلاله هغير منها ليه بقي ؟! أحسن مني هي .. ولا تكونش أحسن مني ؟! "
شعر الزوج برغبة حارة في كتم أنفاسها لكنه تذكر الولد ( الفقري ) الذي أتعبه خلفه حتى من قبل أن يأتي فقال محاولا تهدئة عروسه :
" لا برضه يا ست البنات ؟! هو أنت فيه زيك .. جمال وأصل ومال ونسب عالي .. تروح فيكي أيه هي ؟! "
أي والله !
كان " عبد الرحيم "  قد أدرك أخيرا أنه صار زوج اثنين .. ولكي يستطيع أن يكمل حياته ، دون أن يصيبه الفالج أو يموت بأزمة قلبية مفاجئة ، فإنه وجب عليه تعلم شيئين مهمين جدا بالنسبة له : النفاق والتلون من ناحية والبرود التام من ناحية أخري !
سكتت " ثريا " علي مضض .. لم تنس الموضوع أو تتناساه أو تلغيه من ذاكرتها لكنها فقط كانت تتحضر لجولة أخري .. بعد أسبوعين من الزواج السعيد عادت الزوجة الأولي وبناتها إلي البيت !
...
كانت " نعمة " في شهرها الرابع من الحمل وكان حجم بطنها صغيرا جدا لدرجة يصعب معها تصديق كونها حاملا من الأساس .. إنها شاكرة لتلك المنة فهي لا تريد أن تتذكر ذلك أصلا !
كان وجود الزوجة الجديدة هواء بالنسبة لها فقد قررت ، درأ للمشاكل التي لا تريدها ولا تشتهيها ، أن تعتبرها كأن لم تكن .. ليس تجاهلا فحسب بل تعاملت وكأنها لا تراها فعلا .. وكأن علي عينيها نظارة سميكة تسمح لها برؤية كل الكائنات والأشياء التي خلقها الله بما فيها هوائم الأرض ودوابها .. ما عدا تلك المخلوقة المسماة " ثريا " !
من ناحيتها كان هذا التجاهل نارا تكوي الزوجة الجديدة .. إنها تشتهي مشاكل وخلافات وخصامات ومعارك مشتعلة في البيت ليلا ونهارا .. والقديمة اللعينة تحرمها من تلك المتعة وتفوت عليها تحقيق تلك الرغبة .. في أول أيام عودتها إلي المنزل افتعلت " ثريا " مشكلة من لا شيء .. اختلقت معركة من الهواء ، كانت في الشقة السفلية تجلس بجوار حماتها تتبادلان حديثا هامسا متآمرا عندما خرجت " نعمة " من غرفتها حاملة الصغيرة " حسناء " التي بقيت طوال اليوم ، علي غير عادتها هادئة ساكنة كعصفور مريض محبوس في قفص .. ورغم ذلك فبمجرد أن وقعت عينا البنت علي ضرة أمها حتى انفتحت في البكاء فورا .. كان صوت البنت بطبيعتها عاليا مرتفعا فلوت الجدة شفتيها وقالت :
" سبحان الله الحس عالي والجسد بالي ! "
كانت الجدة تستهزئ بالطفلة كنوع من الاستهزاء الضمني بأمها ، التي ربطت رأسها بمنديل أسود وصل حتى غطي الحاجبين فبدت كالحزانى المقيمات علي عزاء .. التقطت " ثريا " ، التي لا دخل  ولا ناقة لها ولا جمل في الأمر كما يفترض ، وقالت وهي ترمق ضرتها بنظرة واضحة المعني :
" يا أختي .. بنات فقرية .. يقوقوا * في البيوت زي البوم .. كتر خير ربنا اللي بيطعم البنات دي والحريم اللي بيولدوها ! "
كانت العبارات مختارة بعناية بحيث تثير حفيظة " نعمة " وتدفعها إلي الاشتباك في خناقة ضارية كانت " ثريا " واثقة أنها هي التي ستخرج منتصرة منها .. لكن الزوجة الأولي فوتت علي كليهما ، ضرتها وحماتها ، الفرصة .. بمنتهي البساطة تظاهرت بأنها لم تسمع شيئا وأخذت ابنتها إلي الحمام لتشطفها .. ثم عادت بها فورا إلي غرفتها وأغلقت الباب .. دون أن تلقي ولو نظرة عابرة علي المرأتين اللتين كادتا تنفلقان لنصفين من شدة الغيظ في تلك اللحظة !
باءت محاولة جر الشكل الأولي بالفشل .. كانت الزوجة الثانية تمني نفسها بمزيد من الجولات والفرص السانحة .. لكن إصرار " نعمة " علي تجاهلها صعب الأمر عليها وجعلها تبقي رغبتها المحرقة دفينة حبيسة صدرها .. حتى كادت هي في النهاية التي تصاب بالفالج الذي أرادت أن تصيب به ضرتها وعدوتها !
تكررت المحاولات من الضرة الجديدة .. كانت في البداية ترغب في إحداث مشاكل كنوع من الرغبة الطبيعية عندها في الإمساك بخناق المرأة الأخرى التي تقاسمها زوجها .. المرأة الأخرى التي بني بها " عبد الرحيم "  قبل أن يبني ب" ثريا " نفسها .. وشاركته كل شيء وحملت منه أربع أجزاء من لحمه ودمه في رحمها .. المرأة التي عاش معها لحظات سعادة ولحظات شقاء ، وتقاسما اللقمة والفراش والضحكة والحزن .. ورغم أن " ثريا " كانت هي الدخيلة المستعمرة التي هبطت ببراشوت علي رأس ( أم البنات ) إلا أنها كانت أكثر عدائية ورغبة في الخلاف والخصام ممن نزلت فوق رأسها ، وممن قبلت أن تشاركها في زوجها وحبيبها وأبو بناتها .. لم يكن شعور الزوجة الجديدة مبررا خاصة وهي تري حجم الجفاء الذي ترسب وتكوم كتلا من الحجارة بين زوجها وبين إمراته الأولي !
لم يتبادل " عبد الرحيم "  و" نعمة " جملة كاملة معا بعد عودتها إلي البيت عقب زواجه .. كان يحتكان ببعضهما بالطبع بحكم وجودهما ، ووجود البنات ، تحت سقف واحد بينهما .. لكنه كان احتكاكا كاحتكاك قطعتين معدنيتين أسرف في تشحيمهما بالزيت ولم يعد هناك إمكانية لأن يحتك السطحين ببعضهما احتكاكا ملموسا حقيقيا .. إنهما يمران من جوار بعضهما فقط !
يمر من جانبها وتمر من جانبه .. يعبر كل منهما من فوق رأس الآخر لكن ثمة ساتر من قماش رقيق يفصلهما عن بعضهما فيري كل منهما الآخر ولا يراه في نفس الوقت .. أصبحت " نعمة " بالنسبة له المرأة التي خسرها ، وأصبح لها الرجل الذي تزوجت واحدا شبيها به منذ سنوات .. ليس هو علي وجه اليقين بل آخر يشبهه إلي حد بعيد .. مجرد شبه كما يتشابه تواءمان لكن هل هذا يجعل منهما شخصا واحدا !
أحيانا كان يداهمها شعور غريب لا تعرف كيف تصفه .. تتساءل ، بينها وبين نفسها ، هل هذا الرجل الذي يجلس بالخارج بجوار أمه هو نفسه الذي تزوجته وأزاح الطرحة عن وجهها في ليلة جلوتهما منذ سنوات !
هل هو نفسه الذي أنجبت منه أربع بنات .. هل كان هو نفسه ؟!
آخر يشبهه إلي حد بعيد ربما .. لكن هو نفسه مستحيل !
تباعدا حتى صارا كأنهما غريبان .. لكن حتى تلك الغربة النفسية لم تعفها من الألم !
كان هناك ألم غريب يداهمها كلما رأته .. نعم أقسمت علي تجاهله ، ونعم أصرت علي أن تتصرف وكأنها لا تراه ، وكأنه لا وجود له مطلقا .. لكن الألم الذي كانت تشعر كلما وقعت عيناها عليه كان مختلفا تماما عن أي شيء أحست به من قبل في حياتها .. كانت تحس أمام وجهه برغبة حارة في البكاء !
لم تكن تعرف لماذا .. لكن حزنا ووجعا غريبا كان يداهمها ويمسك بتلابيبها .. إحساس شبيه بما يحسه أي إنسان في حضور صديق عزيز ، كان عزيزا جدا يوما ما ، لكنه لفظه وتخلي عنه في أحلك لحظة في حياته .. يمكن جدا لهذا الإنسان أن يتجاهل وجود هذا الصديق ويعامله كأنه لم يكن بالنسبة له .. لكن ثمة ألم يحز قلبه دائما في حضوره ، ألم يرافقه سؤال دائم يتمني أن يطرحه علي معذبه لا ليعرف إجابته بل لكي يلقيه عليه ويستريح :
" لماذا فعلت ذلك ؟! لماذا تخليت عني بينما كنت في حاجة إليك ؟! "
سؤال لا يحتاج إلي جواب .. وإنما يحتاج لكي يُلقي فقط كدمعة حبيسة في العين والصدر لا يشفيان إلا بطرحها وتركها تسيل !
لكنها لن تبكي أمامه ولن تسأله عن شيء .. ومع ذلك فما أكثر ما بكت علي وسادتها وحدها !
كانت البنات الأربع ينمن برفقتها الآن في نفس غرفة زواجها القديمة وعلي نفس الفراش .. كانت تضعهن بجوارها وتدثرهن بالأغطية وتتدثر بهن وتضع رأسها علي الوسادة .. حين ذاك فقط كانت تتذكر زوجها وتبكيه !
الحقيقة أنها كانت تبكي نفسها أكثر مما كانت تبكيه هو .. لكن وجوده علي بعد أقدام فوقها لم يكن يقلل من حزنها بل كان يزيده حدة وضراوة !
ليته مات .. ليتها دفنته وتلقت فيه العزاء كان الأمر سيكون أهون عليها عندئذ فقضاء الله لا يُشتكي منه .. قضاء الله أرحم وأكثر عدلا بينما قضاء الناس لا رحمة ولا عدل فيه !
مضت أيامها الآن بحلوها ومرها .. ارتدعت " ثريا " بعد أن ملت محاولاتها المضنية وتعبت منها .. انثنت وتركت " نعمة " في حالها وبدأت تهتم بالموضوع الأهم .. الحمل والولد !
مرت شهور علي دخولها إلي البيت ولم تحل ثمرة في رحمها بعد .. كان " عبد الرحيم "  ذاهلا ضائعا ملتاعا حتى أنه كاد ينسي الشيء الذي جعله يتزوج من ثانية أصلا ويخسر حبيبته وزوجته .. أما الحماة فقد كانت تترقب كالصقر وتنتظر خبر حمل " ثريا " علي أحر من الجمر .. وبالرغم من أن زوجة ابنها الأولي كانت حاملا بدورها لكن أم " عبد الرحيم "  كانت لديها عقيدة تؤمن بها ، ولا شيء في العالم يقدر علي زحزحتها عن الاعتقاد بها .. ف " نعمة " لا تحمل ولا تضع سوي البنات !
أنتهي الأمر بالنسبة لها ، لكن من قال أنها تملك مفاتيح الكون ومن قال أنها مطلعة علي علم الله وغيبه .. ومن قال أن " نعمة " تبالي أصلا بنوع الجنين الذي تحمله في أحشائها !
لقد رفضت طلبات أمها المتكررة بالذهاب إلي الطبيب لمتابعة الحمل والكشف بالسونار لمعرفة نوع الجنين .. كانت الأم ، والدة " نعمة " ، تأمل في أن تكون ابنتها حاملا بولد هذه المرة .. كان لدي المرأة العجوز حلم أو أمل أو وهم في أن إتيان ابنتها بالولد قد يحسم الأمر لصالحها ويجعل " عبد الرحيم "  يعود لها صاغرا .. وربما ، بإذن الله ، ينهي زواجه الثاني ويطلق تلك المرأة الدخيلة لتعود ابنتها لتتربع علي قلبه وفي بيته مرة أخري .. كانت هذه كل أحلام الأم وطموحاتها لكنها لم تدرك أن " نعمة " لا تريد ولا تحلم بشيء من هذا !
إنها لا تريد أن تعرف نوع الجنين الذي تحمله ولا تشعر بأي شغف لذلك لأنها أصلا لا تريده .. ولدا كان أم بنتا .. لا تريده ولا تريد " عبد الرحيم "  نفسه .. فلم يعد هناك رجل يدعي " عبد الرحيم "  لتريده !
لقد مات زوجها ليلة أن تزوج بامرأة غيرها وطعنها في قلبها .. مات ودفن وأهيل عليه التراب وما بقي الآن ليس إلا رجلا غريبا يشبهه .. يحمل نفس اسمه ونفس ملامحه ويأتي نفس حركاته وسكناته لكنه ليس هو .. ليس هو ولن يكون !
إذن كيف تحلم بأن تسترد رجلا غير زوجها الذي أنتهي فعليا بالنسبة لها .. إنها تعتبر هذا خيانة لنفسها وللصورة القديمة التي لا زالت تحتفظ بها !
لذلك رفضت كل محاولات تقربه لها .. رفضت أن يقربها أو يكون معها أو أن يجمعهما مكان واحد بمفردهما .. فهو لم يعد زوجها .. إنه رجل غريب لا تسمح لنفسها بمجرد التفكير في أن تمنحه حق تجاوز حدوده معها !
لذلك ما إن حن إليها ذات ليلة وآتي إلي غرفتها ، حتى كانت تطرده بعد دقائق قليلة .. لم تفعل ذلك بعقلها الواعي بل فعلته بلحمها ودمها .. فعلته بالضبط مثلما كانت ستفعله لو أن رجلا غريبا تسلل إلي غرفتها عارضا عليها نفسه !
كان الزوج يمر بأسوأ لحظات حياته في تلك الأشهر الثقيلة الصعبة .. داهمه الندم وألقاه أرضا ثم دهسه بقدم غليظة ليسحقه بلا رحمة .. لم يجد في " ثريا " ، الزوجة الجديدة ، مودة ولا سكنا ولا رحمة .. بل وجد قطة شرسة تخمشه بأظافرها مذكرة إياه كل لحظة بحقوقها .. حقوقها حقوقها ولا كلمة عن حقوقه هو ولا حقوق زوجته الأولي وبناته الصغيرات !
أرادت أن تهيمن علي البيت وفشلت .. أرادت أن تهيمن علي " نعمة " وبناتها وتذلها وتذلهن وفشلت !
أرادت أن تعطيه الولد .. وفشلت في ذلك أيضا !
الغريب أنها كانت سريعة الحمل جدا في زيجتها السابقة التي انتهت بالترمل .. جاءت بالولدين في ثلاث سنوات فما الذي حدث لها هذه المرة ؟!
فكرت الزوجة الجديدة وأتعبت نفسها ودارت علي الأطباء .. وقيل للزوج أدفع لتحصل علي الولد .. أدفع لتحصل علي السند .. فدفع ودفع ودفع بينما كان بطن " نعمة " يكبر ويكبر .. وأيامها تتقارب والدوامة تبتلعه في خضمها أكثر وأكثر كل يوم !
جزية الأطباء والعلاج ومرض القلب ووجعه وألم الفقد والهجران والموت بالحياة .. أهذا جو يعيش فيه أي إنسان عادي دون أن يصاب بالجنون أو يلحق به الموت ؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...