-"
كل قطعة من هذه وراءها أسطورة .. جدتك كانت تؤمن بالأساطير، وتعتقد في صحة كل شيء
.. حتى الخرق التي باعها لها النصابين ، وأقنعوها أنها من بقايا رداء التعميد
الخاص بالملكة " فيكتوريا " أشترتها دون تفكير ، ودفعت فيها مبلغا كان
كافيا لإصابة جدك بنوبة قلبية حادة .. "
قطع
استرساله في الكلام وأخذ يضحك للحظة ، وهو يستخرج المزيد من تلك التحف من مقتنيات
الجدة المهجورة :
-"
وأين هي الآن ؟! "
نظر لي
بتساؤل وسألني بطريقة لم أدري منها إن كان هازلا أم جادا :
-"
ما هي .. الأموال التي دفعتها ؟! "
قلت له
فورا :
-"
لا لا طبعا .. أعني الخرق التي يقال أنها تعود لثوب عماد الملكة " فيكتوريا
" ؟! "
تعالي
ضحكه وقال هازئا :
-"
ماذا ؟! أتود الاحتفاظ بها .. لعلها تعطيك الحق في المطالبة بعرش بريطانيا ! أنت
تؤمن بالخرافات مثل جدتك تماما وهذه هي مشكلتك ! "
واصل
ضحكه لدقيقة قبل أن يعود إلي منظره الجاد ثانية ويقول برزانة :
-"
تحللت طبعا يا بني ! احتفظت بها جدتك حتى
وصلت إليها الفئران ، والتهمت معظمها .. ليتك كنت هناك لتري وجه جدتك حينما
اكتشفت الأمر .. أخرجت البقايا من وسط محفوظاتها القيمة وأخذ تنوح وتصرخ :
"
الفئران أكلت الملكة " فيكتوريا " .. الفئران أكلت جلالة الملكة !
"
عاد
يضحك وهو يقول :
-"
يا إلهي كم كان منظرها مسليا ومثيرا للضحك .. أما جدك المغتاظ فقد رد عليها بصرامة
قائلا :
لعل جلالة الملكة تهنأ في الداخل بنقودي التي أنفقتها
في اقتناء ثوبها المتحلل ! "
-"
ها ها .. "
شاركته
الضحك لئلا أبدو جلفا ..
-"
لكن أغرب شيء احتفظت به جدتك هو هذه الشمعة .. "
قال وهو
يسحب شمعة طويلة رفيعة من كيس خيشي مربوط بعناية ومختوم بالشمع ، ولا أدري ما
الهدف من ذلك :
-"
شمعة عجيبة ! "
عرض على
الشمعة فأخذت أتأملها بدقة ، لم تبدو لي شمعة عادية بالمرة .. طويلة رفيعة لها شكل
مجدول كشكل الحبل ، وفتيلها الأبيض الناصع قصير للغاية لدرجة أنه لا يكاد يلحظ .. ابتلعت ريقي وسألته :
-"
كم دفعت الجدة مقابلها ؟! "
أجاب
بجدية هذه المرة :
-"
ذلك هو وجه الغرابة في الأمر .. أنها الشيء الوحيد الذي حصلت عليه جدتك دون مقابل ..
لم يطلب مالكوها نقودا ، بل بدوا وكأنهم على استعداد لدفع المال للجدة لقاء
تخليصهم من تلك الشمعة الملعونة ! "
-"
ملعونة ؟! "
سألته ثم أردفت :
-"
إنها تبدو لي عادية تماما .. لكن ما أهميتها لتقتنيها الجدة وتحتفظ بها في كيس
مختوم بالشمع ؟! "
فكر قليلا
ثم أجاب مستجمعا شتات أفكار بدت كأنها غير مرتبة وبحاجة لتنظيم :
-"
هذه الشمعة كانت ملكا لإحدى عجائز أسرة " بلاكوود " منذ نحو ستون عاما
.. قيل أنها شمعة مقدسة ، وبعضهم أدعي أنها كانت تشتعل في احتفالات منظمة فرسان
الهيكل منذ نحو سبعة قرون .. "
-"
يا إلهي .. لا تبدو بكل هذا القدم ! "
-"
فعلا .. عندك حق ! على أية حال فالجدة نفسها لم تكن تصدق تلك الإدعاءات .. لكن ليس
هذا هو صلب الموضوع ! "
-"
إذن .. ماذا ؟! أحك دون التهام الجمل ! "
ضحك ابن
خالتي حينما وجهت إليه هذا الاتهام ، الذي لم يكن مجانبا للصواب .. فهو يهوي أن يحكي
لك أشياء مثيرة ، لكنه يحرص على أن يقطع أنفاسك وهو يفعل .. ويحكي لك ندفة من
القصة ثم يتركك تشتعل على موقد خامد ، ثم يحكي لك ندفة أخري وهكذا :
-"
حسنا جدا أيها الشغوف .. لقد قيل أنها شمعة مقدسة وخلافه .. لكن تلك لم تكن
المشكلة ، إن هناك حكاية غير محببة بشأن تلك الشمعة .. لكن قبلا ألا تلاحظ شيئا
غريبا ؟! "
-"
أين ؟! "
سألته
محاولا أن أقطع عليه الطريق لعدم إكمال قصة الشمعة التي بدت لي مثيرة نوعا :
-"
في الشمعة .. ألا تري فيها شيئا غريبا ؟! "
دققت
النظر إليها .. فعلا كان شكلها غير عادي ، لكنني لم أفهم إلي أي شيء يرمي ابن
خالتي العزيز بالتحديد :
-"
الفتيل ! "
أجاب
وهو يشير بوضوح إلي فتيل الشمعة :
-"
ألا تلاحظ أنه كامل تماما ؟! "
حقا كان
فتيلها مكتملا تماما والأكثر أنه لا علامات ذوبان على رأسها العلوي :
-"
هذه الشمعة لم تستخدم من قبل أبدا ! "
ابتسم
بغموض وأضاف :
-"
أوافقك ! كنت سأفعل لو لم أكن قد رأيت جدك وهو يشعلها بنفسه .. في ليلة وفاته !
"
نظرت
إليه مستفهما فأجاب مضفيا لهجة مثيرة على كلماته :
-"
يقال أن تلك الشمعة غريبة .. إليك الحدوتة كاملة .. أنهم يقولون أنها لا تنطفئ
أبدا .. إذا ما أشعلها أحدهم لا تنطفئ ثانية أبدا .. إلا بعد أن تقبض روحه !
"
أرتجف
ضوء المصباح عند تلك النقطة ، وشعرت بلمسة خوف وبرد خفيفة فارتجفت بدوري وأنا أقول
:
-"
أي حكاية غبية هذه ؟! لمجرد أنه لا تبدو عليها علامات إشعال ولا ذوبان .. ربما
كانت لم تستخدم ببساطة ! "
كانت
إجابتي تحمل تشكيكا واضحا في قصته التي رواها بشأن الجد الراحل قدست السماء روحه ،
لكنه لم يغضب مطلقا :
-"
هاك عرضك الصغير .. لما لا تجرب بنفسك ؟! "
-"
أجرب ماذا ؟! "
سألته
بريق جاف ، فرد ببساطة وكأنه يعرض على تجريب نوع جديد من الشراب :
-"
لما لا تجرب الاحتفاظ بالشمعة ؟! لنقل لليلة واحدة فقط ! "
-"
ولما أفعل ؟! "
ضحك
وقال محطما آخر مقدرة لدي على المقاومة :
-"
أنت تحب المغامرات ، كما أنك كما يقولون تتمتع بالشجاعة والإقدام .. جرب إن كنت
تريد ! "
غرقت في
التفكير للحظة فرمقني بنظرة معسولة وهتف برفق ولهجة مستدرجة :
-"
لن يرغمك أحد على شيء .. وتلك مجرد تجربة صغيرة .. وأنت تؤمن بالأساطير كما أعتقد
! "
بعصبية
أجبته :
-"
من قال لك أنني أؤمن بالأساطير والخرافات ؟! إنني متحرر ومتمدين تماما ! "
باستهانة
ابتسم وقال منهيا المناقشة :
-"
إذن لما لا تثبت ذلك بشكل عملي .. ما دمت لا تؤمن بشيء فلن يضيرك ، جرب .. ربما
وقعت على سر مخيف يصلح للبيع بملايين الدولارات .. أو على الأقل مغامرة شائقة
تحكيها لأطفالك فيما بعد ! "
انهارت
مقاومتي تماما فوجدت نفسي أنزلق لقبول العرض المغري المخيف :
-"
حسنا .. سآخذها .. لكن لليلة واحدة فقط ، ثم سنعيدها إلي مكانها وسط مقتنيات الجدة
.. لا أتصور أن يعتقد أحد أنني سرقتها ! "
في
الحقيقة إنني كنت خائفا مذعورا ، ولم يكن عزمي على الاحتفاظ بها لمجرد ليلة واحدة
وإصراري على ذلك راجعين إلي مخاوفي بشأن الاتهام بالسرقة ، فهذا لن يحدث في
الحقيقة .. لكن الأسطورة أقوي مني .. الخوف أقوي مني .. آه يا جدتي أي تركة ثقيلة
تركت لنا وراءك ؟!
...
حملتها
وعدت إلي البيت .. الشمعة أقصد !
كانت
الليلة ممطرة ، والبرودة الخفيفة تسري في الجو .. عدت سائرا على قدمي ، فلم يكن هناك
حاجة إلي استقلال عربة أو استخدام الأتوبيس ، فالبيت قريب على أية حال .. لم يكن
هناك أحد بانتظاري .. زوجتي ذهبت إلي بيت والديها لفترة بسيطة ، وأخذت معها
الطفلين .. هكذا تبدأ قصص الرعب كلها لكن لا تأمل كثيرا .. فالحقيقة أن زوجتي
ستعود الليلة بعد بضع ساعات .. هل أفشلت لك مخططك ؟!
لا تفرح
كثيرا أيها المتأمل في كارثة تحل بي الليلة .. لا ، هذه الشمعة لن تفعل فعلها معي
ولا مع غيري .. إنها ببساطة خرافة لطيفة تٌحكي للأطفال ولا شيء بعد ذلك !
كنت قد
تعشيت برفقة أبناء الخالات في بيت الجدة ، قبل أن ينسلوا واحدا وراء الآخر مغادرين
.. لم أكن بحاجة إلي طعام إذن ، ولم يكن هناك من يقدمه لي بالبيت أصلا ، لكنني
أحسست بالظمأ وبرغبتي في تناول شراب .. صببت لنفسي مشروبا كبيرا ، وأخذت الشمعة
ووضعتها على منضدة خفيضة بجواري ، وأنا أشاهد التلفاز .. فاتني مشاهدة برنامجي
المفضل الليلة بسبب تأخري في العودة إلي البيت ، لكن لا بأس .. أخذت أتنقل بين
القنوات العديدة المختلفة .. لا شيء مثير للاهتمام !
أخرجت
قداحتي وأشعلت سيجارة ، وأخذت أدخنها ببطء واستمتاع ، وفي نفس الوقت كنت لا أزال
أتنقل بين القنوات .. كانت الشمعة ملقاة على النضد بجواري لكنني لم أفكر في
إشعالها !
سأقضي وقتي
أمام التلفاز حتى يداهمني النوم ، أو تعود زوجتي والأطفال معها على حين غرة ، محيلين
ليلتي الوحيدة المظلمة إلي أنس وسرور .. على شاشة التلفاز المضيئة توقفت عند قناة
تعرض مسلسلا لا أعرف عنه شيئا .. لكن لفت نظري أن الفتاة التي كانت تمثل به تشبه
زوجتي إلي حد بعيد .. كففت عن تبديل القنوات ، وأخذت أشاهد تلك الفتاة الشقراء
النحيلة وهي تؤدي مشهدا دراميا باردا بطريقة مثيرة للشفقة .. بدا أنها جديدة في
حرفة التمثيل ، ولم تملك كل أدواتها بعد .. لكن من قال أن موهبتها هي التي لفتت
نظري إليها .. يكفيها أنها تشبه زوجتي إلي حد كبير وهذا كل شيء !
فجأة انهمر
الظلام فوق رأسي .. أنقطع التيار الكهربي في مباغتة غير متوقعة إطلاقا !
أجفلت للحظة
لوقع المفاجأة لا غير ، ثم تمالكت أعصابي .. لن أنهار كطفل صغير لمجرد أنني وجدت
نفسي بمفردي في منزل مظلم بالكامل .. لم نكن معتادين على انقطاع التيار الكهربي
هنا كثيرا ، ولقد مرت سنوات منذ آخر مرة وجدت نفسي في وضع مماثل .. حاولت أن أتصرف
بعقلانية ، كما يليق برجل متزوج وأب لطفلين وزوج لامرأة رائعة بكل معاني الكلمة ..
تحسست النضد بجواري حتى عثرت على القداحة وأشعلتها .. ثم قمت واقفا وتحركت في
البيت ، على الضوء الصغير المتراقص ، بحثا عن كشاف كهربي أضيئه ريثما يعود التيار
الكهربي .. كان لدينا كومة من تلك الكشافات في كل مكان .. كشافات اشتريتها أنا ، أو
أهديت إلي أنا وزوجتي ، أو ابتاعتها " إيما " بنفسها في بعض جولاتها التسوقية
العادية .. عثرت على أحدها وكان أخضر اللون به عدد كبير من اللمبات الصغيرة موزعة على
وجهيه الأمامي والخلفي .. ضغطت زره فأضاء على الفور .. حمدا لله أنه كان مشحونا
مسبقا وإلا لوجدت نفسي في ورطة سوداء !
حملت الكشاف المضاء إلي حيث كنت أجلس سابقا بجوار النضد ،
وجلست هناك منتظرا اتصالا من زوجتي تبلغني أنها وصلت المدينة ، لآخذ السيارة وأذهب
لإحضارها هي والأطفال .. لم تكن قد تأخرت عن موعدها لذلك فلم يراودني القلق بعد ..
مضت لحظات قضيتها وأنا أعبث في قداحتي ، وألهو بإشعال
سيجارة جديدة وإطفائها ، دون أن أخذ منها نفسا واحدا .. مضت ربع ساعة ليست بالسيئة
تماما .. فوجئت بعدها بانطفاء الكشاف !
شيء مذهل خاصة وشدة ضوئه كانت تشي بأنه شحنه يكفي لعدة
ساعات .. لكن لا بأس .. أية ليلة مظلمة لا تحدث فيها مفاجآت !
هببت من جلستي المسترخية ، وأمسكت الكشاف وأخذت أضغط كل
أزراره محاولا إعادة الحياة إليه .. ولكن دون جدوى .. فقد بدا أنه لفظ آخر أنفاسه
وتوقفت رئتاه عن العمل !
حملت القداحة ، وروحت أبحث عن واحد آخر أستضيء بنوره حتى
تعود الكهرباء للمنزل ..
بحثت في المطبخ ، وسط الأرفف وفي الأدراج المتعددة ، حيث
تحتفظ زوجتي عادة بأشياء مثل الكشافات الكهربية ، والشموع لكنني لم أجد واحدا آخر
أبدا .. غريب هذا !
إن لدينا نصف دستة من تلك الكشافات اللعينة ، وأنا لست
أبلها لا يجيد الحساب إلي هذه الدرجة .. واحد فقط يا " إيما " ؟!
إذن أين ذهب الأحمر الكبير والبرتقالي المزين برسم
لناطحات سحاب مضاءة بالكامل إضاءة مبهرة ؟!
لا شيء منها .. حسنا .. استسلمت وبدأت أبحث عن الشموع ..
وعثرت هذه المرة على دستة كاملة مغلقة منها .. حمدا لله على ذلك !
فركت يدي سعيدا كطفل عثر على قطعة حلوي بحجم مكتبة
الكونجرس وعدت لمقعدي .. أزلت التغليف اللاصق ، وسحبت شمعة ملونة متوسطة السمك من
داخل العلبة .. قربت منها القداحة المشتعلة .. هووووووووش .. التقطت اللهب وأضاءت
كحلم سعيد .. ولكن في اللحظة التالية .. هووووش .. انطفأت بمفردها !
ذعرت حقا والسبب ليس انطفاء الشمعة ذاته ، بل لسعة
الهواء الباردة التي اصطدمت بمؤخرة عنقي وبعثت البرد في أوصالي ، وجعلتني أتساءل
من أين تسللت كتلة الهواء البارد هذه وجميع منافذ الغرفة أمامي وخلفي مغلقة ..
لا عليك يا صديقي .. مجرد صدفة سيئة !
لكن يبدو أنها ليست مجرد صدفة سيئة واحدة ، بل هي مجموعة
كاملة من سوء الحظ ومساوئ الصدف الليلة .. وإلا فبم تفسر تكرار نفس الأمر مع نفس
الشمعة عدة مرات .. ثم مع بقية شموع العلبة التي رفضت أي منها البقاء مشتعلة لأكثر
من ثانية واحدة !
دائما وبنفس الطريقة ، تنطفئ الشمعة قبل أن أجد وقتا
كافيا لأستضيء بنورها .. هنا دق هاتفي المحمول فجأة فبعث الرعشة في أوصالي ..
أضاءت الشاشة الصغيرة فبددت الظلام حولي لدقائق قليلة :
-" مرحبا .. "
كانت زوجتي وقد أجبتها بلهفة منتظرا أن تقول لي :
-" عزيزي .. مرحبا حبيبي .. هل أنت بخير ؟! "
لا ليس هذا ما تمنيت أن تقوله بل الجملة التالية مباشرة
:
-" سأعود خلال ساعتين ! "
-" ساعتين .. لماذا ؟! كان يجب أن تكوني هنا خلال
نصف ساعة على الأكثر ! "
-" آوه حبيبي ! أعرف أنك اشتقت لي وللأولاد ، لكن
ثمة مشكلة صغيرة هنا .. لقد تعطلت العربة ! "
-" ماذا ؟! "
-" تعطلت بنا على طريق ناء ، ونحن ننتظر في
الكافتيريا الصغيرة ريثما ينتهون من تصليحها .. يبدو أن الأمر سيستغرق بعض الوقت !
"
بتوتر اقترحت عليها :
-" خذي سيارة أجرة وتعالي فورا .. اتركيها الآن !
"
-" ليس بوسعي أن أفعل ذلك .. لن يستغرق الأمر وقتا
طويلا .. لقد بدءوا في فحصها بالفعل .. خلال ساعتين وربما أقل سنكون معك .. أحبك
.. إلي اللقاء ! "
-" إيما .. إيما .. انتظري ! "
لكنها لم تنتظر ، أنهت المكالمة تاركة إياي أتلظي من
الغيظ والقلق .. ساعتين أخريين .. وكيف يمكنني أن أنتظر أو أتحمل !
ليكن .. لما بت طفلا هكذا ؟!
اللعنة ، رجل مثلي يبلغ حجمه حجم ثور كبير تتوتر أعصابه
لمجرد وجود شمعة سخيفة بالقرب منه .. أي جنون ؟!
ضحكت من نفسي .. ضحكت من نفسي طويلا .. ثم قررت دون
هوادة !
سأتحدى مخاوفي وسأثبت لك يا ابن الخالة ، كثير الكلام ، إنني
لا أخاف الأساطير ، ولا أؤمن بها .. بدون تردد هذه المرة أشعلت القداحة .. تناولت
الشمعة المجدولة الغريبة المنظر ، قربت خيط اللهب من فتيلها القصير .. التقطت
اللهب كظمآن يلتقط سلسالا عذبا من الماء ينساب على رأسه .. واشتعلت !
...
مرت دقائق .. لم يحدث شيء !
ها أنا ذا حي وسليم ، ولا زالت أعضائي كاملة ورأسي موجود
فوق عنقي لم يطير بضربة فأس أو يشطره سيف بتار من سيوف فرسان الهيكل .. ياللحماقة
.. ياللحماقة !
أخذت أضحك قليلا .. ثم بدأت أفكر في تسلية نفسي في
الساعتين المتبقيتين على رجوع أسرتي ، أو حتى يتعطف علي التيار الكهربي ويعود ..
فتحت هاتفي ، وأخذت أشاهد بعض ملفات الفيديو التي أحتفظ بها هناك ، والتي تخص
أسرتي .. بعضها لقطات حية تجمعني ب" إيما " في حفل زواجنا ، أو في شهر
العسل الذي قضيناه على الشاطئ في الباهاما .. صورا فوتوغرافية لأطفالي وهم يرتجفون
فوق شراشف بيضاء عقب ولادتهم بدقائق قليلة ..
شاهدت
الكثير من تلك الفيديوهات المحببة ، التي تحمل أغلي ذكريات ولحظات حياتي .. ثم
شعرت بالخدر في ساقي وذراعي ، فوضعت أغنية محببة لي على مشغل الأغاني في الهاتف
ووضعته على النضد بجواري ، وأغلقت عيناي لاحظي بشيء من الاسترخاء ..
مرت
دقائق وأنا أستمع لكلمات أوسكار وايلد مغناة بذلك الصوت المليء الرخيم الدافئ :
سر بخفة.. فهي قريبة
تحت الثلوج
تحدث بلباقة.. فهي تسمع
نمو أزهار الأقحوان ..
اندمجت تماما مع الكلمات ، وأخذت
أدندن معها وأنا شبه ناعس من فرط الاسترخاء .. لكنني ، وبعد دقائق ، بدأت أتنبه
لشيء غريب .. كلمات غريبة متداخلة وسط كلمات الأغنية .. فتحت عيناي وأنصت بكل جوارحي .. كنت ناعسا
نعم لكن ليس لدرجة أن أحلم أو أتوهم أشياء غير حقيقية !
فهو إذ ذاك محمي من كل جانب..
تردد
الصوت فسمعته بوضوح .. من قال ذلك ؟!
المغنية
المتهافتة ؟!
لا ،
إنه صوت غليظ قاسي بارد يثير الذعر في العروق .. أنصت جيدا وقربت الهاتف من أذني
.. للحظة عادت المطربة تشدو بخلو بال :
سر بخفة .. فهي قريبة
تحت الثلوج..
تنفست
الصعداء .. كل شيء على ما يرام إذن ؟!
لكنها ،
وقبل أن تأمرني بأن أتحدث بلباقة لأنها تسمع نمو أزهار الأقحوان ، تلاشي صوتها
العذب وسمعت صوتا غليظا قاسيا يردد :
لا يهزه
الخوف من الإنس أو حتى الشياطين ..
أصبت بصدمة جعلت البرودة تسري في عروقي .. وجعلتني، ودون أن
أشعر بما أفعله ، أرمي الهاتف من يدي .. فسقط وأرتطم بالأرض ، وتحطمت شاشته وسمعت
بأذني صوت تهشم الزجاج الناعم ..
أجفلت ونهضت واقفا ، ألتفت إلي جواري .. كانت الشمعة
اللعينة لا تزال مضيئة .. قربت وجهي منها وتفحصتها بعمق .. جف حلقي وتسارعت أنفاسي
!
لم يذب مليمترا واحدا منها ، ولم تسقط منها نقطة .. والفتيل
.. لا زال مكتملا ناصع البياض رغم خيط اللهب الثابت الممسك به !
لا لا ، هذا يتجاوز كل حد ممكن .. بلا تردد نفخت فيها ..
أنكمش ضوئها وزوي ، وبدا في طريقه للتلاشي والخمود .. هووف .. انطفأت تماما !
حمدا لله .. هدأ قلبي قليلا وتوقف عن الركض .. لقد أطفأتها
أيها المتحمسون !
بغتة سمعت صوتا موشوشا .. ورأيت خيط لهب ضخم يندفع من رأس
الفتيلة ، تصاعد خيط اللهب سنتيمترات إلي
أعلى .. ثم هدأ وأنخرط في صورة خيط صغير من اللهب الثابت !
سقط قلبي بين قدمي ، وانهرت في مقعدي بجوار النضد الذي تقف الشمعة فوقه .. نظرت إليها
للحظة ، ثم خطرت لي فكرة عبقرية .. تركتها تتوهج مكانها ، وتناولت كوبي الذي به
بقايا الشراب .. كانت لا تزال هناك بقية صغيرة في الثمالة ، فألقيتها فوق الشمعة
.. خمد ضوئها للمرة الثانية ثم عاد يتوهج من جديد !
أصابني
إحباط قاتل لدقائق .. ثم أخذت أتساءل عن معني كل ذلك !
إذا
كانت هذه الشمعة اللعينة مصرة على أن تبقي مشتعلة فلتبقي كذلك ، حتى تذوب وينتهي
أمرها .. تركت مكاني واتجهت نحو باب المنزل .. فتحت الباب ووقفت بجواره مستروحا
نسمات الهواء ، فالجو خانق بسبب الظلمة داخل المنزل ، رغم برودة الجو .. لكنني
وبمجرد أن فتحت الباب حتى وجدت أحدهم يقف أمامه .. فتي صغير يرتدي زيا مميزا ..
عامل توصيل طلبات للمنازل !
كان
يحمل صفا من العلب الورقية العريضة ويقف أمام بابي متهيئا لدق الجرس ..
-"
عفوا أهذا المنزل رقم 66 ؟! "
-"
نعم ! "
-"
السيد .. هناك طلبية لك من مطعم .. ! "
نظرت
إليه بتوتر وعدم فهم للحظات :
-"
حسنا .. لكنني وكما أذكر لم أطلب أي شيء من مطعمكم ! "
ابتسم
الولد بصفاقة وقال منهيا أي محاولة مني للتملص :
-"
لقد تم عمل الطلبية باسمكم بالفعل ، وتم إملاء العنوان بشكل صحيح .. هل ترفض
تسلمها ؟! "
فكرت
قليلا ( لعل ( إيما ) هي التي قامت بهذا الأمر ) :
-"
حسنا .. سأتسلمها ! "
ناولني
فاتورة صغيرة فتفحصتها .. لم تكن باهظة الثمن ، فدفعت إليه مما كان لدي من مال في
جيوبي ، ونقدته بقشيشا سخيا إكراما لخاطر زوجتي ، التي أنتظر عودتها بلهفة في أية
لحظة سعيدة قادمة
.. سألته
وأنا أوقع له الفاتورة عما إذا كان قد تعذر عليه الوصول إلي العنوان بسبب الظلام ،
فضحك ضحكة صبيانية وهتف بدهشة :
-"
شيء غريب .. الحي كله غارق في الظلام .. لم أري شيء كهذا من قبل ! "
عدت
سريعا إلي الداخل ، وقد تذكرت شيئا مهما .. رأيت الشمعة السخيفة لا تزال تتوهج
فأصابني الغم ..
هرولت
ناحية هاتفي الملقي على الأرض ، وتناولته .. تفحصته وبدأت أجربه راجيا أن يعمل
بشكل طبيعي ، حتى يمكنني على الأقل الاتصال ب" إيما " والاطمئنان عليها
.. لم يستجب الهاتف لكل محاولاتي ، فغضبت من نفسي غضبا شديدا .. كيف سيكون بإمكان
زوجتي الاتصال بي الآن .. ماذا ستعتقد عندما تحاول الاتصال بي وتجد ذلك مستحيلا ..
أية أفكار مخيفة ستدور في رأسها ؟!
نفخت
ضيقا وغيظا ، وقررت أن أسري عن نفسي بتناول قطعة صغيرة من الطعام .. تناولت احدي
العلب التي أحضرها عامل التوصيل للمنازل ، وفضضت تغليفها غير المتقن .. كانت هناك
بيتزا شهية المنظر والرائحة بالداخل .. النوع المفضل لدي يشي بأن من قام بعمل هذه
الطلبية هي زوجتي فعلا ولا أحد سواها !
تناولت
شريحة مغطاة بالفطر ، وأخذت ألوكها على مهل .. لم أكد أستمتع بطعم القضمة الأولي
لأنني سمعت صوت خطوات فوق رأسي تماما !
...
تركت
الطعام ، بعد لحظات من التردد ، ونهضت ببطء .. لن أتصرف بطريقة هستيرية ، وأترك
لصا يجول فوق رأسي .. خطوت ناحية السلم كنت خائفا مترددا ، لكنني لن أجبن .. الجبن
أقبح الرذائل .. ماذا سيحدث لو أتت " إيما " والأولاد الآن فوجدوا
حاجياتهم قد سُرقت ، لأن أباهم جلس بأسفل خائفا مرعوبا من مواجهة اللص المقتحم
الدخيل ؟!
أصابني
الغيظ وتذكرت أنني نسيت الشمعة .. كيف سأري طريقي بأعلى دونها ؟!
كارها انتزعتها
من مكانها ، وأمسكتها بيدي .. صعدت درجات السلم بتؤدة ، فلن أجازف بالقفز على
السلم في الظلام حتى أنزلق ، ويدق عنقي ويعتقد البعض أن شمعتهم السخيفة نجحت في
القضاء علي !
كان
الدور الأعلى غارقا في الظلمة تماما .. توجهت ناحية احدي النوافذ وتفحصت الشارع
عبرها .. حقا كل شيء غارق في لون أسود كثيف .. غريب !
أنصت
قليلا ، انتظرت أن يتردد صوت الخطوات
المتلصصة ، لأحدد من أي اتجاه أتت ..
لكنني لم أسمعها ثانية !
أنصت
للحظة وثانية وثالثة .. وفجأة سمعت صوت دق .. دق قريب مني للغاية .. ارتعشت الشمعة
في يدي وتقلقلت .. نظرت خلفي للحظة ، لم
أري شيئا غريبا .. تطايرت الستائر السميكة بفعل الهواء المندفع ، ورفرفت محدثة صوتا
مخيفا في الظلام .. ابتلعت ريقي وعدت أنظر حولي .. نظرت إلي ما أمامي .. وفجأة
رأيته واقفا هناك !
مخلوق
ضخم مصفح بالحديد ، دروع كثيرة ، ويرتدي رداء أبيض متسعا كاسيا ، عليه صليب كبير
وخوذة قديمة مخيفة .. نظرت إليه ثم أطلقت صرخة رعب في الظلام !
انزلقت
قدمي ، ووجدت نفسي أهوي .. تلقيت ضربة على ظهري ، ووقعت متدحرجا فوق السلم الطويل
.. سقطت من فوق السلم حتى ارتطمت بالأرض بقوة وغبت عن الوعي !
...
لا أعرف
كم مر على من الوقت وأنا ملقي هناك ، لكنني فتحت عيني في النهاية .. كنت راقدا على
الأرض .. ألم مدوي في رأسي وخيالات باهتة تبرق وتطفو وتتلاشي أمام ناظري ..
تسلل
الألم إلي عيني فأثقلهما .. أغلقتهما للحظات متفاديا حرقة الألم بهما ، ثم فتحتهما
من جديد .. لم يعد التيار الكهربي بعد ، ولا زال البيت غارقا في الظلام .. هنا
تذكرت تلك الرؤية المفزعة التي رأيتها قبل قليل .. ذلك الجسم الضخم المخيف !
كم بدا
لي الأمر مضحكا وأنا راقد منهك هنا الآن .. يبدو كفارس من فرسان الهيكل حقا !
لكن
ماذا يفعل السيد الفارس المبجل في منزلي في القرن الحادي والعشرين ؟!
ضحكت ، ثم
نهضت من مكاني بقليل من الصعوبة .. آلمني ظهري واحتجت مؤخرتي بغمزة ألم زاعقة ، لكنني
لم أبالي بهما .. هنا لمحت شيئا يفوق التصور !
الشمعة
الأسطورية اللعينة ساقطة على قيد ثلاث خطوات مني .. مقلوبة على جانبها لكنها لا
تزال مشتعلة !
وصل
صبري مداه ، فحملتها بين يدي بحذر ومضيت على ضوءها إلي المكان الوحيد الذي لا
يمكنها أن تبقي مضيئة فيه .. في المطبخ ألقيتها في الحوض ، وقررت أن أفتح عليها
الصنبور وأغمرها بالماء .. ولتريني كيف ستبقي مشتعلة بعد ذلك .. مددت يدي وأدرت
الصنبور ، لكنني سمعت صوت خرخرة غريبة دون أن تسقط منه قطرة ماء واحدة .. انقطعت
المياه أيضا ؟!
يا
للمصيبة .. لم أري شيء كهذا في حياتي !
لكن لا
عفوا ، لن تغلبيني أيتها الشمعة الملعونة .. سأحضر زجاجة ماء من الثلاجة ، وسأغرقك
بمائها .. هممت بتنفيذ فكرتي عندما سمعت صوتا غريبا .. صوت الخطوات المتلصصة
الواثقة ذاتها عادت مر ة أخري !
ألقيت
الشمعة في الحوض الجاف ، وأسرعت بالخروج من المطبخ .. هرعت ناحية غرفة المعيشة ، وأحضرت
مضرب التنس الذي يعود لزوجتي " إيما " .. أي كان شخص هذا الدخيل المتلصص
فإنني سأهشم رأسه بذلك المضرب أولا ،ثم سآخذه إلي الشرطة .. كانت الخطوات قادمة من
أعلى مرة أخري .. عدوت فوق السلم وأخذت الدرجات المرتفعة كلها في أربع وثبات طويلة
.. أصبحت في الطابق العلوي ، فساد الهدوء فجأة وتوقف كل شيء .. لا ريب أن المقتحم
قد أحس بي ، وتواري بعيدا أو يحاول الآن أن يلوذ بالفرار .. بيد ثابتتين وبقلب
مرتعش أخذت أتفقد الغرف المظلمة هنا ، لم يكن لدي مصدر ضوء لكنني فتحت ستائر
النوافذ لكي أستضيء بنور القمر الساطع الليلة .. فتحت غرفة الأطفال فلم أجد فيها
شيئا .. غرفة المكتبة أيضا كانت هادئة تماما .. لكنني عندما أزحت باب غرفة النوم ،
التي أستخدمها أنا زوجتي ، وفتحتها فوجئت بشيء في غاية الغرابة وإثارة الدهشة ..
زوجتي كانت واقفة هناك !
-"
إيما ؟! "
كانت
تغير ثيابها وظهرها لي ، وبدا أنها لم تسمعني في المرة الأولي فقد كنت أهمس بخوف
وبحلق جاف من فرط المفاجأة :
-"
إيما .. إيما متى عدت ؟! "
استمرت
تبدل ثيابها لكنها أجابت ، وهي لا تزال تنظر إلي الناحية الأخرى بعيدا عني :
-"
حبيبي .. مرحبا .. "
كان
صوتها غريبا متحشرجا ومكتوم بعض الشيء ، لكنه هو صوت " إيما " زوجتي
مهما تغير :
-"
متى عدت ؟! "
سألتها
وأنا لا أزال واقفا لدي الباب لا أجرؤ على الاقتراب منها :
-"
منذ كثير يا عزيزي .. عدت منذ سنوات ! "
أغرب
كلام سمعته في حياتي .. سقط الثوب الذي كانت ترتديه ، وعلى ضوء القمر رأيت أمامي جسدا بنيا خشنا تخرج منه أذرع قصيرة كأذرع الإخطبوط
، تنتهي بفتحات دائرية تختلج وتدور وتتشمم الهواء في نهم وجشع .. صرخت رعبا فالتفتت
إلي .. لم يكن وجه " إيما " قطعا .. بل كان وجه آخر تماما .. وجه جدتي
.. وجه جدتي لكنه متغضن مشوه بطريقة رهيبة !
صرخت
وأنا أبتعد عن الغرفة كلها .. تراجعت بظهري إلي الوراء ، وسقط المضرب من بين يدي
.. أصطدم ظهري بحائط من الصلب فطقطقت عظامي ألما واحتجاجا ..
ألتفت
خلفي بسرعة ، كان هو نفسه مرة أخري .. الفارس المدرع ذو الرداء الأبيض .. نظر إلي
للحظة فسقط قلبي بين قدمي ، أنقض على بسرعة البرق ، ولف يدين كالفولاذ حول رقبتي
.. ألصقني بالحائط دافعا إياي نحوه بقوة ، فأرتطم ظهري بالحائط وشعرت بأن عمودي
الفقري قد تحطم كله ، خنقني بقسوة ورفعني عن الأرض وهو مستمر في خنقي ، ومحاولة
كسر رقبتي التي ضجت من الألم بالفعل .. اختنقت وأنكتمت أنفاسي .. شعرت بآلام رهيبة
في صدري ، وبالحاجة إلي الهواء تمزقني ..
جاهدت لكي أصرخ ، وحاولت إبعاد يديه الفولاذيتين اللتين تطوقان عنقي ،
جاهدت لخلعهما من حول رقبتي لكنني فشلت .. لجأت لحيل العجزة ، فأخذت أضرب يديه ما
وسعني ، وأخمشهما وأحاول عضهما ، بل وأنشبت أظافري القصيرة الضعيفة فيهما .. لكن
كل ذلك دون جدوى !
مرت
لحظة تأكدت بعدها إنني ميت لا محالة .. لكن فجأة سمعت هذه الهمسة تتردد في أنحاء
المنزل :
-"
لا علينا .. لا علينا .. يا ربنا ! "
كنت على
حافة الاختناق ، لكنني شعرت أن أحد ما ، قوة ما ، تلقنني ما يجب أن أقوله .. بذلت
جهدا مضنيا مؤلما لأتمكن من فتح فمي ، ورددت بصعوبة بالغة بصوت متحشرج لا يكاد
يُسمع :
-"
لا علينا يا ربنا .. لا علينا يا ربنا ! "
رددت
بيأس وقنوط والدموع تتساقط من عيني الجاحظتين .. فأختفي الفارس على الفور !
سقطت
أرضا فأرتطم وجهي بالأرض الصلبة ، وتحطمت أنفي وشعرت بأن جمجمتي كلها قد تهشمت ..
نهضت بصعوبة بالغة وتمالكت نفسي .. حاولت أن أستجمع قوتي لئلا أسقط ثانية ، وأصبح
فريسة سهلة لهذا المعتدي الذي لا أعرف ماذا يكون بالضبط .. قمت بصعوبة بالغة على
قدمي ، ودون لحظة تردد هرولت نازلا من فوق السلم .. سقطت مرتين بسبب تخلخل قدمي ، والآلام
التي أعانيها في جسدي كله .. لكنني نهضت ثانية مذكرا نفسي بأنني إذا استسلمت للحظة
الآن فسأقضي نحبي قتيلا في هذا المنزل .. الأسطورة على حق .. كل ما قالوه حق !
الشمعة
قاتلة .. الشمعة تقتل من يشعلها !
وصلت
الطابق السفلي بصعوبة بالغة .. الظلام الدامس لم يعد كذلك .. ثمة توهج مخيف يضيء
البيت كله .. نظرت بصعوبة فرأيت .. المطبخ يحترق !
نار
هائلة تزأر داخله ، وألسنتها البرتقالية المخيفة تملأ كل ركن .. سينفجر المنزل ..
يا إلهي كل شيء سينفجر ..
لا ملاذ
لي الآن إلا الشارع .. جريت بقدر ما سمحت لي به حالتي المضعضعة نحو باب الخروج ..
باب المنزل .. باب الفردوس .. فتحت الباب .. وألقيت نفسي خارجا ..
تعالي
الزئير من الداخل ، فنهضت سريعا على قدمي المخلخلتين .. جريت نحو وسط الشارع وأنا
أصرخ طالبا النجدة .. غشيت عيناي بسبب كشافات هائلة أعمت بصري .. خلال لحظة كان
جسم صلب حاد يرتطم بجسدي .. شعرت بأنني أرتطم وأتحطم .. سمعت صوت تهشم داخل جسدي
.. ترددت صرخة رجولية مرتاعة ، المزيد من التحطم .. إنني أرتفع لأعلى .. إنني أهوي
لأسفل بسرعة رهيبة .. إنني .. لم يتبقي مني شيء ليتكلم .. ولم تعد الضمائر تصلح
للاستخدام بعد ذلك !
...
بكت حتى
تورمت عيناها ..
كان الطفلين ملتصقين بها ، ومختفيين في حضنها ..
بين رجال الشرطة الذين يحيطون بها ، شرطية شابة تقدم لها مشروبا في كوب ورقي
وتحاول تهدئتها بلا جدوى ..
كانت
" إيما " في أشد حالاتها ذعرا وانهيارا .. أتت بها الشرطة في العاشرة
مساء لتري جثة زوجها وتتعرف عليها .. لكن علام تتعرف بالضبط !
كومة من
العظام والأشلاء .. حتى وجهه لم يخلو من إصابات بليغة جعلت من شبه المستحيل التعرف
عليه :
-"
كيف حدث ذلك ؟! "
-"
لا نعرف كافة التفاصيل بعد .. سائق السيارة لا زال يخضع للتحقيق .. "
بكت
" إيما " بحرقة ، وذهبت لتلقي نظرة أخري على زوجها ، تاركة الطفلين
بحوزة الشرطية الشابة ، راجية إياها ألا
تسمح لهما بالدنو ورؤية والداهما وهو في تلك الحالة الرهيبة .. ولم تكن الشرطية في
حاجة إلي رجاء أو إعلام بذلك ..
حادث
دهس عادي .. لكن ثمة أسئلة تخامر الجميع .. لماذا أندفع القتيل وسط الشارع بهذه
الطريقة الغريبة .. شهد السائق أن هناك علامات رعب وذعر رهيب كانت تبدو عليه ..
لم يكن
ثمة شيء مثير للرعب بالداخل .. المنزل هادئ ساكن لطيف !
لكن بضع
أشياء غريبة رغم ذلك لم يكن من السهل التغاضي عنها ..
هاتف
الضحية المهشم على الأرض ..
آثار الأقدام المزدوجة التي ملأت درجات السلم
وغطت أرض الطابق العلوي ..
وأخيرا
الشمعة الطويلة الغريبة الشكل المثبتة على النضد في الصالون بأسفل .. لما يوقد شخص
شمعة ويضعها بجواره إلا إذا :
-" هل كان التيار الكهربي مقطوعا بالأمس ؟!
"
سأل أحد
رجال التحقيق فأجابه شخص غير واضح الهوية تماما بثقة قائلا :
-"
كلا .. التيار يعمل بشكل طبيعي تماما طوال اليوم ! "
-"
إذن لم يكن النور مقطوعا ؟! "
-"
مطلقا ! "
-"
إذن فلم أوقد تلك الشمعة ووضعها بجواره ؟! "
-"
لا ندري بعد .. الغريب أنها لا تبدو أنها استخدمت بتاتا ! "
-"
ماذا تعني ؟! "
-"
أعني أنها مثبتة على النضد بالفعل .. لكنها لا زالت جديدة تماما .. فتيلها كامل
ولا علامات ذوبان عليها ! "
-"
همممم .. شيء غريب فعلا ! "
-"
ربما هذا لا شيء مطلقا .. وربما كان فعلا شيء غريب ! "
تعالي
بكاء الطفلين في تلك اللحظة ، وعادت أمهما
لتحتضنهما بقوة .. أخذ الثلاثة يبكون بصوت مرتفع وبأعصاب منهارة .. فاتجهت جميع
الوجوه والقلوب نحوهم !
تمت
تعليقات
إرسال تعليق