بنظرات مخيفة أخذ الأب يرمق " مروة " الخائفة أمامه .. دفعتها أمها لتجلس بجوار أبيها مباشرة وهي تردد عبارات السلام محاولة إطلاق الحمام الأبيض ليرفرف فوق الجلسة العائلية المليئة بالتوتر .. لكن الحمام أخذته الفرة * فلم يبق حمام ولا يمام ليرفرف علي الجلسة التي أخذ البوم ينعق فوقها سعيدا !
أظهر الأب قليل من التفهم وكثير من العناد والتشبث
بالرأي .. كان تغيير ابنته لمسار دراستها بالنسبة إليه نوعا من انعدام التربية
إنكار الجميل !
إنها يريدها أن تكون طبيبة ليطلقوا عليه ( أبو الدكتورة
) متباهيا بشهادتها وبالسماعة وهي مدلاة كحبل مشنقة علي صدرها .. وكونها تفكر في
غير ذلك أو تقرر لنفسها عكس ما قرره هو لها لهو جريمة ترتكبها في حق أبيها الذي
يطعمها ويسقيها وينفق عليها .. لتكون مثلما يريد هو أن تكون وليس مثلما تريد هي !
حدثها برفق في البداية وأخذ يعدد محاسن العلمي مكررا
جملة :
" شوفي بقي لما تبقي دكتورة قد الدنيا .. ويقولولك
يا دكتورة " مروة " ! "
ارتعشت " مروة " خوفا لأنها تبدي اعتراضا في
حضرة أبيها لأول مرة في حياتها وهتفت منتقية كلماتها بحذر :
" ما هو مش كل الناس ينفعوا دكاترة يا بابا .. في
ناس ربنا خلقهم عشان يكونوا حاجات تانية وأنا مش حابة العلمي بصراحة ! "
تكلمت برقة وصراحة وسردت مبرراتها وكانت مبررات ، والأب
يعرف ذلك ، قوية جدا ومقبولة .. إنها لم تجد نفسها قادرة علي مواصلة الدراسة في
القسم العلمي فبأي عقل يجبرها علي ذلك ؟!
لكن تفهم الأب شيء وإصراره علي تنفيذ أوامره شيء آخر ..
لأنه يري الأمر من منظور مختلف تماما :
" خدي دروس في كل المواد .. خدي عند أكبر مدرسين
وميهمكيش الفلوس .. من جنبه لألف أبوكي مستعد بس أنت تتكلي علي الله وترجعي علمي !
"
ماذا تقول لمثل هذا الرجل .. بالله ماذا تقول له ؟!
إنه لا يفهم أن هناك شيء اسمه ، قدرات ، رغبات ، ميسرات
خُلق لها كل فرد منا .. ما فائدة أن تدرس شيئا تكرهه ، أو لا تحبه علي الأقل ، ما
ضرورة أن تكون طبيبة أو خلافه .. ما الضرر في أن تكون هي مثلما تحب وتهوي .. مثلما
هيأها ربها وخلقها وعلي طبيعتها دون تكلف ولا تمثيل !
" بابا .. أنا بحب الأدبي .. ونفسي .. نفسي أطلع
كاتبة أو صحفية ! "
خبطت الأم علي صدرها معبرة عن الرعب الذي أصابها بينما
زم الأب شفتيه وفكر قليلا ثم هتف بغيظ :
" ما شاء الله عايزة تبقي جورنالجية ولا مندوبة
إعلانات يا ست البنات ؟! "
كان يتكلم بهدوء محبط مغتاظ في البداية ثم ما لبث أن
أنفجر مطلقا حممه في وجهها :
" كاتبة أيه وصحفية أيه يا بت المركوب ؟! أنت فاكرة
أن دي مهن عليها القيمة .. دول شحاتين وعايشين علي الكلمتين اللي بيكتبوهم في
الجرايد اللي محدش بيقراها والإعلانات اللي بيلموها من هنا ومن هنا زي الشحاتين ..
بقي أنا ربيتك وتعبت فيكي وصرفت عليكي دم قلبي عشان تطلعيلي صايعة تلفي علي
المكاتب والشركات علي آخر المتمة ! ما تتعدلي يا بت وتبصيلي وأنا بكلمك .. "
كانت " مروة " قد نكست رأسها بينما كان أبوها
يطلق وابلا من التأنيب العنيف عليها .. كانت عاجزة عن النظر إلي عينيه ، وعاجزة عن
مواجهته !
ارتعشت خوفا إذ كانت تلك أول مرة تري أباها منفعلا عصبيا
بهذه الطريقة .. تدخلت الأم فورا لتسكب ماء باردا علي النار المشتعلة فقالت وهي
تدير عينيها بين زوجها الغاضب وابنتها التي امتلأت عيناها بالدموع :
" خلاص خلاص يا أخويا .. هي معدتش تعصاك ولا تكسرلك
كلمة تاني .. بكرة هترجع العلمي يا أخويا وتعمل كل اللي أنت عايزة ! آمال .. دي
مروة دي البكرية وحبيبتك وطول عمرها طوع أيدك .. مش كده يا " مروة " ؟!
"
لاذت " مروة " بالصمت المفجع .. فلكزتها أمها
بمرفقها هينا لترد وكررت مؤكدة :
" مش كده يا مروة ! "
لم تعرف البنت بما تجيب .. كانت خائفة من أبيها بقدر ما
كانت تكن له حبا حقيقيا وتتمني لو أنها تستطيع أن تطيعه وألا تغضبه مهما حدث ..
لكن هل تستطيع البقاء في القسم العلمي ؟!
هل يمكنها مواصلة الدراسة فيه وأن تحرز من التفوق
المطلوب ما هو كاف لتحقيق طموحات الأب لا طموحاتها هي ؟!
بكت الآن وسالت الدموع من عينيها .. أحست بالضعف وتضعضعت
ثقتها بنفسها .. شهقت متألمة مختنقة ووقفت الدموع في حلقها كغصة سائلة لا تستطيع
ابتلاعها ولا تستطيع تركها .. من بين النشيج هتفت أخيرا مذعنة متألمة :
" حاضر يا بابا .. اللي تشوفه !"
أفرخ روع الأم وتشهدت مكررة الحمد والشكر لله .. بينما
ابتسم الأب سعيدا راضيا بنصره .. وأراد أن يكافأ ابنته علي طاعتها فمد يديه في
جيبه وأخرج لها رزمة من أوراق النقود الحمراء التي تلمع أحبار البنك المركزي
المصري عليها ودفعها إلي الفتاة الباكية وهو يقول مهدهدا إياها كرضيع باك :
" جدعة .. كنت عارف إنك مش هتزعلي بابا منك .. بكرة
روحي سوهاج مع ماما خليها تجبلك كام طقم حلوين وكمان هاتي موبايل جديد أحدث طراز !
"
أخذت الأم تلهج مرددة الدعاء إلي الله بأن يحفظه لهم
ويمد في عمره .. بينما " مروة " تواصل بكائها في صمت !
...
كان من الصعب جدا أن تعود طالبة إلي قسم طلبت بنفسها
الانتقال منه منذ أيام قليلة .. كان التحويل ثم التحويل العكسي أمرا غير متكرر كثيرا وإدارة المدرسة الثانوية
التي تدرس بها " مروة " لا تجيد التعامل مع تلك الحالات بسبب
البيروقراطية الزائدة والتعنت الإداري الغبي .. لكن نفوذ والد الفتاة وأمواله
ومعرفته ببعض المسئولين الكبار في الإدارة التعليمية التي تتبعها المدرسة ، يسر
الأمور كثيرا وسلك كافة السكك المغلقة المسدودة بالحجارة .. عادت " مروة
" تجلس في نفس فصلها الأول وتتلقي نفس الدروس العلمية التي تعجز عن استيعابها
.. فاتتها بضع دروس خلال الأيام القليلة التي قضتها في القسم العلمي ، لكن الأب
طمأنها أنه أتفق مع مدرسيها الخصوصيين علي أن يخصصوا لها حصصا فردية مكثفة بأجر
مضاعف ليتاح لها استكمال ما فاتها واللحاق بالأجزاء التي يجري تدريسها حاليا من
المناهج .. كان واضحا أن الأب مستعد لدفع أية مبالغ أو تكبد أي نفقات مهما كانت
لمجرد أن تحقق ابنته حلمه في أن تصبح طبيبة !
لكن " مروة " أخطأت في حق نفسها حين تنازلت عن
حقها في اختيار الدراسة التي تريد أن تسير في مجراها .. فما لبثت أن اكتشفت خطأها
مبكرا جدا .. فبمجرد أن عادت للدراسة في فصول القسم العلمي حتى بدأت بوادر
الاكتئاب عليها !
كانت تجتهد
كعادتها ، تصحو مبكرا وتعد حقيبتها ، تذهب إلي المدرسة وتنصت إلي المدرسين وهم
يشرحون دروس الفيزياء والكيمياء والرياضيات ، أو علي الأقل من كان يفعل منهم ذلك ،
تنصت محاولة الفهم لكنها كانت تعجز عن ذلك دائما .. ليس لأنها غبية بل لأنه ما إن
يبدأ أحد المدرسون في الشرح حتى تداهمها أحلام يقظة جهنمية تمسك بتلابيبها .. وتغرق فيها شيئا فشيئا عاجزة تماما عن شحذ
حواسها لمتابعة المدرس الذي تخرج الكلمات من فمه في شكل سحب رعدية غامضة ملفوفة بضباب أسود .. تغرق " مروة
" تدريجيا في حلم يقظة يبدو ملونا زاهيا ، تداهمها فكرة قصة أو تهاجمها أفكار
شعرية وتري الكلمات تنثال أمامها مداعبة إياها باسمة لها ، يعمق المحيط الذي تعوم
فيه تدريجيا ويسحبها التيار حتى الأعماق .. لكنها ما إن تصل لقاع المحيط حتى تصطدم
قدمها بصخرة ناتئة هناك وتسمع صوتا يناديها باسمها .. تفتح عينيها لتجد نفسها في
الواقع تجلس جافة تماما علي مقعدها المعتاد بالفصل وتري الضوء حولها أشد وضوحا
ووطأة وتسمع ، للمرة الثانية ، اسمها مصحوبا بدعوة حازمة لطيفة من فم مدرس يعرف
والدها جيدا :
" مروة .. ما تخليكي معانا يا بنتي .. ركزي !
"
لكن في أي شيء تركز " مروة " ؟!
إنها لا تري في العالم حولها سوي مجموعتين من الألوان ..
مجموعة يغلب عليها اللون الأزرق المائي الهادئ حيث تسيطر عليها أحلامها .. ومجموعة
غارقة في ألوان صاخبة متداخلة يغلب عليها الأحمر بقسوته وصراحته تلفها حينما تكون
في الفصل تسمع دروسا لا تكاد تفهم منها شيئا ، أو في البيت حيث يحيط بها من يصرون
علي مناداتها ب( الدكتورة مروة ) !
أخيرا وبعد أن تكدست الأحلام والرؤى فوق رأسها وأثقلته
خطرت لها الفكرة التي كان يجب أن تخطر علي بالها منذ البداية .. لماذا لا تسجل كل
هذه الأفكار والكلمات وتحتفظ بها وتحافظ عليها من الضياع والتلاشي والنسيان !
كانت معتادة علي شخبطة أفكارها هنا وهناك ، علي قطعة ورق
أو غلاف كراسة أو حاشية سفلية بيضاء في كتاب ، لكن الفكرة التي نضجت بداخل رأسها
المفعم بالأماني الآن هي أن تفعل ذلك بشكل منتظم متواتر .. حملتها الفكرة علي
أجنحتها بقية اليوم وجعلتها تحلق في عالم تنهمر فيه القصص والأشعار كما تنهمر
السماء مدرارا علي أرض عطشي طال بها الري المتقطع الذي هو أشد وطأة من ألف عام من
العطش الكامل .. بمجرد أن أنتهي اليوم الدراسي طارت خارجة تاركة صديقتها ورفيقتها
في الفصل " بسنت " متظاهرة بأن تيار البنات قد دفعها خارجا قبلها
لتنتظرها علي الباب وجرت إلي مكتبة تقع بالقرب من المدرسة وابتاعت كشكولا 100 ورقة
ودسته خلسة في حقيبتها !
لم يكن من المستهجن أبدا أن تشتري طالبة تدرس في الصف
الثاني الثانوي وتأخذ دروسا خصوصية في كل المواد تقريبا ، كشكولا جديدا كل يوم ..
لكن " مروة " فعلت ذلك سرا لأن " بسنت " كانت من النوع الحشري
و ( ميتبلش في بقها فولة ) كما أنها لحوحة حد السماجة .. وإذا رأت " مروة
" وهي تبتاع الدفتر الجديد فلابد أن تسألها وهي تبتسم عن أسنانها المشوهة
التي زادها التقويم الذي تستخدمه تشويها وقبحا وتسألها :
" عايزة الكشكول ده عشان أنهي درس فيهم ! "
سترد عليها " مروة " حتما مغيرة مجري الموضوع
:
" عايزاة عشان المدرسة ! "
لكنها ستعود حتما لتسألها وقد ألتمعت عيناها بنظرة قط
فضولي لا يوقفه عن تدخله إلا قضم رقبته :
" بس محدش من المدرسين طلب كشاكيل تاني .. وأنت
معاكي كشاكيل كتير .. وليه جايباه 100 ورقة .. ده كبير وممكن يقعد نصه فاضي ..
وبعدين ده ورقة أبيض ولماع وحلو وخسارة في المدرسة دي .. بقولك جبتيه بكام ؟ طيب
هتكتبي فيه أيه ؟ طيب هاتي فرخ منه عشان أوريه لبابا يجيبلي ورق نضيف زيه من
الكويت عشان دايما بيجيب لنا ورق أصفر معفن .. طاب هو نوعه اسمه أيه ؟ طيب ..
"
" بس ! "
لابد أن تصرخ " مروة " في وجهها حتى تصمت
وتخرس نهائيا !
ولأنها في غني عن هذا كله .. فقد فعلت الفتاة الصواب
وابتاعته سرا وكأنها تبتاع شريط برشام ترامادول !
...
في تلك الليلة شعرت " مروة " بالسعادة تطوقها
وتلفها بين ذراعيها .. كان لديها واجب فيزياء ثقيل متراكم يجب أن تؤديه الليلة
لتعرضه علي الأستاذ غدا .. لكن من قال إن الأستاذ سيهتم بالحصة أو بالواجب غدا !
إنهم لا يهتمون سوي بحصصهم ودروسهم الخصوصية .. فالطلبة
يدفعون في المنازل لكنهم لا يدفعون في المدارس !
الطالب في المدرسة هو عالة وكم مهمل أتت به الحكومة من
بيت أبيه ووضعته علي مقعد متهالك ، وكدست من كليهما ، الطلبة والمقاعد ، كم هائل
وحشرتهم حشرا في كل فصل .. والمدرس يتعامل معهم كما يتعامل الكمسري مع ركاب مكدسين
في أتوبيس ، لا يهتم سوي بقطع التذاكر لهم حتى ينزل كل منهم في محطته وينزاح ويغور
بعيدا عنه .. لكن الطالب في المنزل ، في الدرس الخصوصي ، هو زبون .. زبون يأتيك
ليضع ساقا علي ساق ويدفع لك ويشتري خدماتك التعليمية .. ولأنه زبون فهو دائما ،
هنا وليس هناك ، علي حق .. فالزبون ، كما تشير مسلمات الثقافة المجتمعية ، دائما
علي حق !
لكن " مروة " لم تكن راكب أتوبيس ولا زبونا
تلك الليلة .. كانت ملكة تجلس علي عرش مملكة لا رعايا فيها سوي الكلمات .. وماذا
يعني واجب الفيزياء الثقيل أمام هذا الجمال الذي أخذ ينسل منها علي الورق !
كانت تلك أول مرة تكتب فيها قصة تمسك بفكرتها .. ليست
شخبطة ولا قطعة صغيرة ولا ندفه مقصوصة من أي شيء .. بل روح وحياة وعمل كامل يولد
حيا ، يصرخ ويتنفس ويبكي ويرفص بقدميه ، علي الورق !
إنها قصة عن فتاة تحلم ، مثلما تحلم هي ، لكنها بعكسها
تحقق حلمها وتناله بعد جهد وكفاح .. لماذا يكون للحلم علي الورق تلك السهولة
واليسر .. لماذا يستطيع أبطال القصص تحقيق أحلامهم ، مهما كانت عسيرة ، علي الورق
بوسائل تبدو ناجحة تماما في الخيال لكننا إذا جربناها في الواقع فشلت فشلا ذريعا
؟!
ألأن عالم الخيال لا توجد حكومة ولا أبوين متسلطين فيه
.. أم لأنه عالم غير موجود كليا ؟!
سؤال غامض سألته البنت لنفسها وهي تظل عاكفة علي أوراقها
ليال كثيرة بعد ذلك .. نسيت الفيزياء والكيمياء وتجاهلت دروس الرياضيات الصعبة
وبقي معها حل ذلك اللغز الصغير .. لماذا عجزت عن تحقيق حلمها الصغير ؟!
ما عيب أن يتركونها تكون مثلما تريد هي أن تكون .. شاعرة
أو كاتبة تنمو بداخل رحمها البكر الآن فهل تجهضها أم تكتم أنفاسها في مهدها ؟!
لكن المدرسة لا تعرف شيئا من هذا ولا الأبوين .. لذلك
فعندما أشتكي بعض المدرسون لوالدها من قلة تركيزها في الفصل ، أو في الدرس الخصوصي
، وانعدام رغبتها في التحصيل .. أتي بها أبوها عنده وعنفها بقسوة مذكرا إياها
بأنعمه عليها !
الثياب التي يشتريها ، والفلوس التي يدفعها من دم قلبه
للدروس ، والأجهزة الحديثة التي يضعها في يديها ، والبحبوحة التي تعيش فيها دونا
عن معظم بنات البلد .. كل هذه ديون مستحقة عليها تسديدها !
نكست رأسها ولم تجب .. فقد تعلمت أن المراوغة هنا ، وليس
الكذب ، هو حل معظم المشاكل وعلاجها !
فبأي شيء يفيد مكاشفتها لأبيها بما يعتمل في نفسها ؟!
لن يفهمها أبدا ولن يحاول حتى أن يفعل .. لكن الامتحانات
لا تنتظر تفهما ولا تفاهما ولا تقف عند باب مملكة الخيال مستأذنة بخفر وحياء ..
الامتحانات هي امرأة لعوب مكشوفة الوجه مطلية السحنة بمختلف الألوان وبمتنافرها
ومبدأها الأساسي :
" والله إن كان عاجبك ! "
...
شعرت " مروة " بالفزع حينما نظرت إلي التقويم
المعلق فوق حائطهم ذات يوم لتجد نفسها في قبضة شهر مارس الممل الطويل .. الشهر
الذي يقلل الفاصل بينها وبين امتحانات آخر العام لثلاثة أشهر وحسب !
ثلاثة أشهر وهي لم تكد تبدأ بعد ولم تمسك بخيوط أي مادة من
المواد الثقيلة الملقاة علي كاهلها ..كان من العجيب حقا أنها لم تتنبه لمضي الأيام
السريع هكذا لكنه لم يكن عجيبا تماما .. فقد كانت تسير داخل رأسها مثلها مثل الذي
يمشي داخل حذائه معتقدا أنه قطع الطريق وأنهاه بينما هو يقف علي الرصيف متأملا
حركة السيارات من حوله .. لن تتوقف السيارات عن المروق من أجل خاطر عينيه وعليه هو
أن يجد طريقا لينسل من بينها .. كانت الأيام تلعب مع البنت ذات اللعبة !
تتركها تمشي كيفما أحبت في خيالها معتقدة أنها كادت تصل
بينما هي تمر من فوقها ومن حولها تاركة إياها تقف محلك سر لا تشعر بشيء يجري حولها
.. لكنها عندما فتحت عيناها علي التاريخ المارسي المقيت أدركت أي ورطة كبيرة
تنتظرها !
إنها ببساطة لم تكد تمسك بخيط أي مادة من المواد الثقيلة
المكدسة فوق رأسها .. لقد قضت شهورا تحلم وأفاقت من الحلم لتجد الدنيا واقفة تضحك
عليها وتقول لها هازئة :
" صباح الخير .. نوم العوافي يا حبيبتي ! "
ذعرت وشعرت بالرعب .. كانت تغمض عينيها اتقاء لشر هذا
اليوم ، اليوم الذي تجلس فيه في لجنة امتحان الثانوية العامة ، لتوضع أمامها ورقة
مليئة بالأسئلة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء .. ورقة تعرف جيدا أنها لن
تستطيع أن تجد إجابة لكل ما تلقيه عليها من أسئلة بوقاحة وسماجة وقلة أدب !
هرعت إلي غرفتها لتجد كومة كتبها وكراساتها وكتبها
الخارجية تقبع فوق المكتب .. كعيني تنين تستنيمها حتى تنفخ في وجهها النار !
أحست بلسع النار وحرارتها علي بشرتها فعلا فرفعت يديها
غريزيا تحمي وجهها .. ما الذي سيفعله أبيها بها إن رسبت ؟!
لن يتفهم أبدا أبدا كونها لا تحب المواد التي تدرسها ،
ولا كون عقلها عاجز عن متابعة واستيعاب تلك المواد .. فالبطن المليئة والجيب
المتدفيء بالنقود يجب أن يجيد ، في عرفه وعرف الناس ، هنا كل شيء .. يجب أن تعرف (
الكوفت ) نفسه وإلا فالنقود التي تنفق عليها خسارة فيها !
جلست علي مقعدها تتطلع لكوم الهم الذي ينتظرها .. أية
نتيجة تجدي من محاربة طواحين الهواء ؟!
لكنها يجب أن تحاول علي الأقل .. تحاول وإلا فلتنتظر
نتيجة سيئة في المدرسة ونتيجة أكثر سوأ في البيت !
...
ومن قال أنها لم تحاول ؟!
بدأت يومها الجديد بالجد محاولة علي الأقل أن تنقذ ما
يمكنها إنقاذه .. يمكنها أن تفسر لأبيها حصولها علي درجات أقل مما يتوقع ويطلب ،
وهناك مائة عذر مقبولة تساق في مثل هذه الحالات ، صعوبة الامتحانات ، أو الإجهاد
العقلي ، التوتر ، الحر ، والحر عذر مناسب جدا ، وعدم وجود مياه باردة أو تهوية في
اللجان ، أو حتى عين الحسود التي أصابتها وجعلتها تصاب بالنحس المسوجر ولا تتمكن
من التفوق مثلما تريد .. أعذار كثيرة جاهزة للتدني والحصول علي درجات ضعيفة .. لكن
أي عذر مقنع لرسوبها وسقوطها النهائي ؟!
إنها تعرف جيدا حقيقة الأمر .. لم تدخل معلومة واحدة من
كومة المواد العلمية في رأسها !
لم تدخل لتخرج فرأسها هواء .. كيف تستطيع أن تأكل لقمة
تعافها نفسها ؟!
هذا ما كانت عنه تحيد وتتجنب التفكير فيه .. قضت شهورا
تخطط حياة آخرين علي الورق بينما حياتها تضيع من بين أصابعها .. شعرت بالذعر حينما
تخيلت ما الذي يمكن أن يصنعه أبيها في حالة رسوبها !
ملأ الماء المثلج جوفها وتكدست قطع الثلج في معدتها ..
لن يرضي الرجل بهذا ولن يتقبله مهما حدث !
سيرميها بالبلادة والغباء والاستغراق في أحلام اليقظة
ولن يقبل لها عذرا ولا فيها شفاعة .. إنها تعرفه حينما يكون راغبا في شيء !
وهو يرغب في أن تتخرج كطبيبة .. ومعني هذا أنها إما أن
تفعل وإما أن تتلقي وعدها ولا تشكو متألمة !
جالت عيناها بين أكداس الكتب والمذكرات .. شعرت بأنها
تجول بين صخور حادة تبرز منها حواف مسننة ستخرق لحمها إن لمستها !
للمرة الثانية شعرت بقبضة ثلجية تعصر أمعائها ثم تلويها
.. أي جريرة ارتكبت لتعاقب عليها بهذا الشكل ؟!
فتحت كتابها الأول .. كان كتاب الفيزياء ، فقد اختارت
مجموعة الفيزياء والميكانيكا في الفصل الدراسي الأول بينما أجلت الأحياء والكيمياء
للفصل الثاني ، لكن ليس ثمة فرق بين هذا وذاك .. فإن لم تمت بالسيف فستموت بغيره
والسم والسيف وغيرها متوفرة بغزارة والحمد لله في نظام الثانوية العامة المصرية !
فتحت كتاب الفيزياء لتجد أمامها عجبا .. موضوعات ومسائل
ونظريات وقوانين رياضية شديدة التعقيد ، أشياء وكأنما تراها للمرة الأولي أو كأنها
لم تسمع عنها من قبل .. أهي الخيبة الفيزيائية وحدها ؟!
لا وربها فقد بليت بخيبة كاملة وجهل تام بمحتوي بقية
المواد من المدفعية العلمية الثقيلة .. متى يمكنها جمع هذه الأشتات وصنع مزيج من
هذه الأخلاط الكريهة صالح للوضع داخل رأسها الخاوية ؟!
غمرها اليأس والحزن والكآبة وهاجمتها البرودة في أمعائها للمرة الثانية .. وشعرت ،
للمرة الأولي ، بغثيان هائل ومعدتها تكاد تندفع إلي الخارج حاملة قرف الدنيا كلها
واشمئزازها ومكروهاتها .. اندفعت إلي الحمام لتفرغ معدتها فشعرت بمغص يلوي أحشائها
.. أفرغت معدتها ثم أمعائها وظلت نصف ساعة في الحمام تتبادل إفراغ هذه وتلك حتى
دارت الدنيا من حولها وشعرت بأن البيت سينهد فوق رأسها !
شعرت الأم بما يجري لابنتها فسارعت تدق الباب الحمام ،
الذي اختفت خلفه منذ وقت طويل ، بإلحاح وتهتف بقلق :
" مالك يا بت يا " مروة " ؟! "
تمالكت " مروة " أنفاسها وردت بصوت خائر ضعيف
:
" سلامتك يا ماما .. بس عندي شوية مغص ! "
" سلامتك يا أمي .. أغليلك شوية ياسون * بالنعناع
؟! "
وكأنما الينسون بالنعناع فيه شفاء لكل آلامها تعلقت
البنت بهذا الاقتراح والأمل التافه تعلق الغريق بهشيم قشة وقالت فورا :
" أيوه والنبي يا ماما ! "
هرعت الأم لتنفذ طلب ابنتها .. بينما داهمت نوبة غثيان
وحرقان جديدة أحشاء " مروة " فسقط رأسها فوق الحوض التي تلطخت جدرانه
بقيئها المائي السائب !
...
خرجت من الحمام بصعوبة ووجها مصفر وباهت وعيناها غائمتان
.. كاد قلبها ينخلع من عنف القيء وشعرت بشيء يتمزق ويعلو ويهبط داخل صدرها ..
قلبها لا يريد أن يستقر مكانه ويدق كالهاون في أذنيها .. لكنها لابد أن تقاوم كل
هذا !
كانت الأم قد جهزت المزيج السحري الذي سيخفف آلام ابنتها
وسارعت بتقديمه لها ساخنا :
" أشربيه وهو سخن يا أمي عشان يخفف معدتك ! "
شكرتها " مروة " بهزة رأس وهي تكاد لا تنطق
فرمقتها الأم بنظرة قلق طويلة :
" أنت قلقانة يا بتي من الامتحانات .. متخافيش إن
شاء الله مجبورة الخاطر ! "
تعلقت " مروة " بذلك الدعاء المنطلق من قلب
يحبها بصدق وهتفت مستجدية المزيد من هذا الدعاء الذي يطمئن القلوب :
" أيوه والنبي يا ماما .. أدعيلي دايما .. أدعيلي
في كل صلاة ! "
قبلتها الأم على
رأسها وهي تدفع الصينية التي عليها الكوب الحاوي للمشروب الأصفر الخفيف ناحية طرف
المكتب لتكون أقرب ليد ابنتها وقالت لها مؤكدة ومطمئنة :
" داعية لك يا أمي في كل وقت وكل صلاة .. اللهي
ربنا يكتبلك النجاح وتطلعي دكتورة قد الدنيا ونتفاخروا بيكي قدام الناس كلهم !
"
تجهمت " مروة " حينما وصل قطار الدعاء إلي تلك
المحطة المهجورة .. لابد من أن تكون طبيبة إذن ؟!
فليكن ..
ستحاول أن تحقق لها أمنيتهم .. لكن ماذا لو أنها فشلت أو
عجزت أو تغلبت مقاومتها السلبية علي عقلها الواعي الراضخ تماما لعنفوان الأب
وتطلعاته الوظيفية .. ما الذي سيبقي لها لتعيش من أجله إن وقفت أمام أبيها لا
يسترها عن عيونه الحارقة شهادة الطب ؟!
...
عكفت علي كتبها منذ اللحظة .. كانت تبذل جهدا هائلا
لتقاوم خيالاتها المندفعة داخل رأسها كتيار كهربي عالي التردد .. فتحت كتبها
وانتقت أسهلها علي رأسها المنفجر يأسا .. لم تكن هناك مشكلة في اللغة العربية أو
الإنجليزية أو التربية الوطنية أو الفرنسية .. تفهم كل حرف والقليل الذي يستعصى
علي فهمها يأتي خانعا بقليل من الاستذكار الجيد .. لكن كومة المواد العلمية بقيت
كصخرة هائلة تسد عليها الطريق .. وحوش الفيزياء المتشكلة في هيئة معادلات ورموز
وقوانين رياضية داست علي رقبتها حتى كادت تزهق روحها .. الكيمياء نفثت في وجهها سموما كاوية وأحماضا
حارقة .. صعقتها الرياضيات وجثمت فوقها الميكانيكا ككابوس لتلفظ أنفاسها تحتها ..
متى يمكنها التصالح مع كل هذه الأشباح !
وفي لحظة مريرة وجدت نفسها تضعف .. وجدت نفسها تلوذ من
حمي هذه الوحوش الضارية الباردة بدفء كراستها السرية وتتغطي بخيالها من زمهرير
الواقع الذي يصيبها بالقشعريرة .. أمسكت بكراستها وكتبت قصيدة صغيرة .. بضع كلمات
لكنها كانت تشرح بأوضح المعاني وأكثرها اختصارا حالتها .. رثت نفسها بقصيدة ميمية
ولم تراعي وزنا ولا قافية .. قصيدة مهزوزة غير مستوية الحدين وميزانها مختل لكنها
كشفت عن موهبة شعرية ستؤتي ثمارها إن لاقت رعاية وحدبا .. لكن من أين ستحصل علي
الرعاية والحدب اللازمين !
فجأة قطع خط سير خيالاتها صوت طنين .. هاتفها الذي أبقته
صامتا يطن هزازه مطالبا بحقه في الإنصات إليه .. كانت احدي مدرساتها بالمدرسة هي
التي تطلبها من الطرف الآخر من القرية ..
مس " ماريان " مدرسة الاقتصاد المنزلي ..
امرأة أربعينية لطيفة متزوجة وبلا أولاد ، لذلك كانت تعتبر كافة تلميذاتها في
المدرسة هن بناتها .. كلهن تقريبا كان لديهن رقم هاتفها المحمول ، وأغلبهن يداومن
علي الاتصال بها بصورة منتظمة .. كانت " مروة " تحب الإنصات إليها
وسماعها وهي تتحدث .. ولأنها مدرسة مادة لا توجد فيها درجات مؤهلة لرفع أو خفض
مجموع ، ولا أطماع في دروس خصوصية ولا في استحلاب جيوب الطلاب ، فقد كانت البنات
يثقن بها وبحكمها علي الأشياء .. تلك امرأة لا تجامل ، وليس من مصلحتها مجاملة
إحداهن أو التلاعب بها رغم أنها كانت لطيفة مع الجميع .. طلابا وطالبات .. حتى
الأولاد الذين لا تتعامل معهم تقريبا بحكم كونها تدرس للبنات وحسب ، كانوا يثقون
بها ويحكون لها أحيانا مشاكلهم مفضلين ذلك علي اللجوء إلي الأخصائي النفسي .. الذي
هو في تلك المدرسة ، كما في كثير غيرها ، مجرد رمز وبركة حاصلة دون فائدة لوجوده !
كانت " ماريان " تعرف مشكلة " مروة
" جيدا .. تعرف أنها تكره القسم العلمي ودخلته مكرهة كارهة ، رغبة في إرضاء
أبيها والأسرة .. كثيرا ما جلست بجوارها تحادثها همسا بينما بقية بنات الفصل يدرن
هنا وهناك ، يستعرضن غرزهن الناجحة علي بعضهن ، أو يخرجن البيض والخضر المجمدة من
ثلاجة غرفة التدبير المنزل استعدادا لإعداد وجبة من الوجبات البلاستيكية التي تحفل
بها مقررات الاقتصاد المنزلي .. كانت " مروة " تكره الخياطة ولا صبر لها
علي الوقوف بالساعات لإعداد طعام ، كانت تفضل أن تجلس منزوية في ركن من أركان
الحجرة وتبحث عن شيء تسند عليه يديها .. ثم تضع دفترها السري أمامها بداخل حضن
كتاب ليحفظه ويحفظ ما تكتبه من أعين المتلصصات ، وما أكثرهن ، وتشرع في كتابة
خواطرها وأفكارها .. ضبطتها الأستاذة متلبسة بالانشغال الذهني وعدم التركيز
والهيام في بحر الأفكار بينما بقية البنات من حولها يجرين لتحضير عجينة السمبوسة
.. لم تكن " مروة " مهتمة فيما يبدو بالسمبوسة الموقرة بل كانت عيناها
تمسكان بالورق وتملآن فراغه بعالم بهيج من الكلمات .. لحظتها " ماريان "
فنهضت ببطء وذهبت لتقف وراء كتفها .. شاهدت البنت منحنية علي أوراقها منبتة الصلة
بالعالم من حولها فعرفت فيها شاعرة تحبوا !
فوجئت بمدرستها من خلفها فنهضت متعثرة خجلة وتنحنحت لتجد
صوتها الضائع وقالت معتذرة :
" آسفة يا أبلة .. بس كنت بكتب حاجة جات علي بالي !
"
ابتسمت لها الأستاذة بود وسألتها مترفقة بها :
" أنت بتكتبي أيه .. شعر ؟! "
لم يكن شعرا بالضبط بل سطورا من الخواطر البعيدة ..
ابتسمت لها ثانية وسألتها مستأذنة :
" ممكن أقراه .. تسمحيلي ؟! "
بحركة غير إرادية تناولت " مروة " الدفتر
وقدمته لأستاذتها التي تناولته منها برفق كما تتناول وليدا خرج لتوه من أحشاء أمه
.. وقعت عيناها علي الكلمات فوجدت بها محاولة متعثرة لكنها جسورة لخلق شيء ما ..
أي شيء أعظم من محاولة الخلق حتى لو تمخضت عن فشل كامل ؟!
كانت " ماريان " قارئة مثقفة .. ولها في أشعار
" نزار قباني " و" أمل دنقل " و" صلاح جاهين "
صولات وجولات :
" حلو قوي الكلام ده .. بس لو كنتي تقري شعر أكتر
هتمسكي مصطلحات ومفردات كتير وهتلاقي عندك محصول لغوي هيساعدك قوي ! "
كادت " مروة " تنطق بشيء ما لكنها بترت
محاولتها لإخراجه من جوفها .. كانت لا تزال تنتظر عقابا !
" هو حضرتك زعلانة مني ؟! "
سألت الأبلة " ماريان " فهزت الأخرى رأسها
المجلل بشعر كثيف مصبوغة بعض خصلاته بلون أصفر ذهبي لامع وغامق مجيبة بغير حاجة
إلي الكلام القليل الذي جاء منها بعد ذلك :
" أزعل منك ليه يا حبيبتي ؟! "
فكرت للحظة ثم قالت ضاحكة :
" آه عشان مش مركزة معانا يعني .. لا متخافيش أنا
عارفة أن الوحي ده ملوش ميعاد وبينزل في أي حتة وأي وقت ؟! "
أنفتح مجال الكلام بين المدرسة وتلميذتها بعد ذلك ..
وأمتد حبل الوداد طويلا مرتخيا يمكن شده بعشم دون فرصة لانقطاعه وتمزقه .. وجدت
" مروة " في المرأة العقيم صدرا حنونا وسعها ووسع حلمها ربما أكثر مما
وسعها صدر أمها التي أرضعت منه خمسة أطفال !
فالأمومة تأتي من العقل أحيانا وليس من الرحم .. وقد
وجدت " مروة " في عقل أستاذتها فيض عارم من الأمومة الهادئة العاقلة
التي لديها دائما استعداد لتنصت وتفهم .. وتقدر !
ما كان أحوجها لأم مثل " ماريان " .. وما كان
أحق الأخيرة ببنت مثلها لتحسن رعاية حلمها وتصونها وتصونه !
وفي ذلك اليوم جاءت مكالمة " ماريان " لها
كهدية من السماء .. حدثتها برفق وبمجرد أن سمعت صوتها حتى أدركت أن ثمة شيء خاطئ
يحدث معها .. فالبنت ليست علي ما يرام وليست في حالة مزاجية معقولة ناهيك عن أن
تكون سعيدة هادئة البال !
دار حديث طويل بينهما هذا اليوم .. حديث من النوع الذي
يبدأ بكلمات علي غرار :
" مفيش حاجة ! "
" أنا كويسة ! "
" تعبانة شوية ! "
" عندي صداع ! "
" الحمد لله .. كل حاجة تمام ! "
لكنك تدرك أن محدثك كاذب .. وأنه يعتوره هم كبير يكمن في
أحشائه ولا يريد ، أو لا يستطيع ، أن يفصح عن همه أو يبوح به !
طلبت " ماريان " من " مروة " أن
تزورها في منزلها .. ولم تكن تلك المرة الأولي التي تفعل فيها ذلك !
كثير من الفتيات في الحقيقة كن يزرن " ماريان
" في منزلها أحيانا كثيرة .. وكانت ترحب بهن بود وتغمرهن بالكرم والحفاوة ..
ومما كان يشجع الفتيات علي تلك الزيارات هو قرب منزل أستاذتهن من المدرسة ، وخلو
منزلها من الرجال أو الشباب الذين يمكن أن يشكل وجودهم مانعا للبنات للتردد علي
البيت ، أو حافزا ينشط خجلهن وخوفهن من كلام الناس .. كانت الأستاذة تعيش بمفردها
مع زوجها الذي كان لديه شركة صغيرة يقضي بها جل يومه ولا يعود إلا في طراوة المساء
مما يعني أنها ، أي " ماريان " الزوجة ، تقضي طيلة نهارها ، بعد عودتها
من عملها بالمدرسة ، وحدها .. وكان تردد البنات عليها يخفف من آلام الوحدة التي
تشعر بها ويرضي حبها للناس وللتواجد بينهم .. ذهبت " مروة " ثلاث أو
أربع مرات برفقة زميلات أخريات ، أو بمفردها إلي بيت مدرستها المقربة .. كانت تفعل
ذلك في الخفاء ، ولم يكن لكون " ماريان " مسيحية دور في حرص البنت علي
أخفاء زياراتها لها عن أمها .. بل لمجرد كون الأب لا يحب أن تذهب ابنته البالغة
العروس ، في نظره ، إلي أي بيت ما لم يكن قد دخله بنفسه من قبل ويعرف من فيه معرفة
شخصية وثيقة .. حتى أقاربهم الأبعدون كان يمنعها من زيارتهم وتشدد في ذلك أكثر بعد
التحاقها بالثانوية العامة ، لأنه يري ببساطة أن عليها أن تبقي في البيت وتذاكر ..
لا أن تضيع ساعة أو ساعتين في زيارات ومقابلات وأشياء تافهة !
تبعت الأم زوجها في ذلك الرأي فحرصت " مروة "
علي ألا تطلعها علي تلك الزيارات المتباعدة لبيت " ماريان " حتى لا
تتهمها بتكسير كلام أبيها وتضييع وقتها الثمين .. لكن " مروة " كانت
بحاجة إلي تلك الزيارة والآن بالتحديد !
غسلت وجهها وارتدت تاييرا بسيطا محتشما مناسبا لسنها
ولون بشرتها الخمرية الأقرب للسمرة .. نزلت لتخبر والدتها أنها ستذهب لزيارة احدي
صديقاتها لنصف ساعة فامتعضت الأم وقالت لها مستعطفة :
" مش أحسن تقعدي تذاكري لك كلمتين يا بتي بدل
النطنطة* هنا وهناك .. ده حتى الامتحانات قربت وعلي الأبواب ! "
نعم كانت " مروة " تعرف أن الامتحانات قد
اقتربت لكنها بحاجة إلي الخروج .. بحاجة إلي الذهاب لتبحث عمن يفهمها ويقدر
مشاعرها طالما أن من أنجبوها من أحشائهم لا يفهمونها ولا يريدون أن يفعلوا !
لم تحتاج لكثير من الاسترحام والتوسل لتحصل علي أذن بالخروج
.. لكن الأذن كان محددا بساعة واحدة نظرا لأن الوالد قادم اليوم من القاهرة ،
وستكون مشكلة إذا عاد فوجد ( الست الدكتورة ) خارج منزلا بدلا من عكوفها علي
الاستذكار والتحصيل لتحصل علي أعلي الدرجات !
كانت تلك الساعة كافية جدا .. فالحديث بين " مروة
" ومدرستها المتفهمة لا يمكن أن يطول عن ساعة .. لا لشيء إلا لأن التفاهم بين
الاثنين كان عميقا لدرجة أنهما لا تحتاجان لكثير من الكلام للتعبير عن كثير مما
يجب أن يقال فعلا !
...
ذهبت " مروة " .. واستقبلتها " ماريان
" بود وترحاب .. كانت المرأة ترتدي عباءة منزلية زرقاء أنيقة مزين صدرها
بحرير مخرم جميل وقليل من حبات الخرز واللؤلؤ وقد تركت شعرها الكثيف مرسلا خلف
ظهرها .. وقد بدت بوجهها وبملامحها الطبيعية الصافية دون مساحيق بالغة الجمال
والرقة .. كانت امرأة حسنة المنظر ، مهندمة تجيد اختيار ملابسها وانتقاء ما يناسب
كل وقت .. حسنة الطبع ولديها عقل متفتح شديد القابلية للتفهم والتفاهم وقدرة عالية
علي الإنصات .. البعض كانوا يقولون أن عدم إنجابها فتح قلبها للناس أجمعين بدلا من
أن يجعله مغلقا مقفلا علي أطفالها .. " مروة " كانت تصدق تلك المقولة ،
لأنها وجدت في " ماريان " عطفا وحنانا عليها وعلي زميلاتها لم تجده في
كثير من المدرسات اللائي أنعم الله عليهن بنعمة الأمومة .. جلست البنت وأستاذتها
في صالون أنيق حديث الطراز وقدمت لها مضيفتها شايا خفيفا وبسكويت قرفة لذيذ صنعته
بيديها .. شربت " مروة " قليلا من الشاي لكنها لم تمد يدها لتأكل شيئا
من البسكويت .. ضحكت " ماريان " وقالت لها :
" هما محرجين عليكي في البيت تاكلي من أكل النصارى
ولا أيه ؟! "
كانت " مروة " هائمة في بحر أفكارها المتلاطمة
لكنها أفاقت علي صوت مدرستها فشعرت بالرعب :
" لا لا والله .. "
لم تكمل جملتها واختطفت بسكويته دستها في فمها مرة واحدة
لثبت لمعلمتها أنه ليس صحيحا أن أحدا منعها من أن تأكل أو تشرب عندها .. و"
ماريان " كانت تعرف ذلك لكنها كانت تناغشها فقط للتكلم !
" عارفة يا بت .. ده أنا بناغشك بس عشان تفتحي بقك
وتحكي .. من ساعة ما قعدتي ربنا مفتحش عليكي بكملتين علي بعضهم ! "
أغمق وجه " مروة " بسرعة ثم أحمر وتلألأت
الدموع في عينيها منذرة بنوبة بكاء قادمة علي عجل .. رمقتها " ماريان "
بقلق واقتربت منها أكثر :
" مالك يا ماما .. فيكي أيه ؟! "
انخرطت " مروة " في البكاء فورا .. لم تكن
تريد أن تضعف وتبكي خاصة أمام معلمتها التي تحبها .. لكن الضغط كان أقوي من قدرتها
علي التحمل فانفجرت فورا :
" مش قادرة أذاكر .. مش فاهمة حاجة في المواد
العلمي .. أنا هسقط وبابا هيدبحني ! "
جذبتها " ماريان " لتضع رأسها علي صدرها وأخذت
تهدهدها كطفل صغير :
" ليه بس ليه ..
ده أنت شاطرة وذكية .. وأيه يدبحك دي ؟! هو أنت فرخة ولا أرنبة .. متخافيش
متخافيش لسه قدامك وقت تلمي المناهج .. ده العيال مش بتذاكر غير في آخر شهر يا
ماما وبينجحوا برضه ! "
لكن مشكلة " مروة " كانت أكبر من مجرد لم
المناهج والنجاح .. كانت مربوطة بسلسلة يقع في نهايتها حلان .. فإما أن تحصل علي
درجات تؤهلها لكلية الطب وإما أن تُلف السلسلة حول رقبتها !
بصوت مختنق بالبكاء فسرت لمدرستها :
" أصل بابا عايزني أجيب مجموع يدخلني طب .. وأنا مش
عايزة أدخل طب ولا كنت عايزة العلمي من أساسه ! "
رفعت " ماريان " رأس البنت إلي أعلي لترمق
وجهها الباكي برفق ثم سألتها بعطف :
" وليه دخلتيه يا بنتي طالما مش بتحبيه .. هو في حد
يدرس حاجة مبيحبهاش ! "
دخلت " مروة " في عنفوان نوبتها البكائية فلم
تكد " ماريان " تميز كلماتها وهي تقول شاهقة بين كل حرف وآخر :
" أنا دخلت علمي الأول بس غيرت لما لقيت نفسي مش
عارفة أفهم حاجة .. لكن بابا خلاني أرجع علمي تاني .. عملت كده عشان ميزعلش
وميزعلش ماما .. أصله صعب قوي يا أبلة ومش بيحب حد يكسر له كلمة .. بس أنا تعبانة
ومش عارفة أذاكر .. ولا هعرف أحل حاجة في الامتحان .. أنا هسقط وبابا هيموتني !
"
تركتها " ماريان " للحظات حتى تستنفد عصبيتها
ورغبتها الشديدة في سكب الدموع .. انتظرت حتى خفت وطأة الدموع ثم بدأت تحدثها حديث
العقل والحكمة بعد أن مسحت لها وجهها جيدا من الدموع :
" بصي يا " مروة " .. بصي يا بنتي أنا
هقولك حاجة .. مفيش حاجة اسمها أدرس حاجة مبحبهاش عشان أرضي حد .. أنا ابن أختي
" وجيه " كانوا عايزين يدخلوه علمي برضه عشان يطلع دكتور .. قالهم لأ
وصمم يدخل أدبي .. وجاب مجموع كويس ودخل آداب ، وهو دلوقتي باسم الصليب دكتور قد
الدنيا في آداب القاهرة وبيطلع كتب أدبية وثقافية كمان .. مش لازم حد يطلع أي حاجة
إلا لو كان حاببها وعايزها .. غير كده مينفعش ! مكانش لازم تسيبي أدبي ما دام مش
عايزة ترجعي علمي .. "
قاطعتها " مروة " التي كادت تعود للبكاء ثانية
:
" ما هو بابا .. "
لم تدعها " ماريان " تكمل بل قالت لها بلطف
وحزم :
" كنتي لازم تفهمي باب إنك مش قادرة علي علمي مش
حاباه .. لو قعدتي جنبه وكلمتيه زي أي بنوتة ما بتحكي مع أبوها كان هيفهمك صدقيني
وهيحس بيكي "
قاطعتها " مروة " وهي تمسح عينيها اللتين
بدأتا في تسريب مزيد من الدموع :
" طاب والعمل دلوقتي ؟! "
أدركت " ماريان " علي الفور إنها تتحدث عن
أشياء كان يجب أن تحدث منذ فترة .. منذ بضعة شهور لكن الآن أصبح الوضع نهائيا ويجب
البحث عن حل لا التحدث فيما كان يجب أن يحدث :
" تلحقي نفسك .. تلحقي نفسك يا " مروة "
.. حاولي تركزي وتذاكري بأي طريقة .. لازم كام معلومة تدخل دماغك عشان علي الأقل
لو ملحقتيش كلية علمية تعرفي تدخلي آداب ولا تربية ! "
لمعت عينا " مروة " بالدموع وسألت أخيرا وقد
انحسرت عنها موجة البكاء تقريبا :
" بس بابا عايزني أجيب مجموع طب ! "
بحزم ولكن بحنان قالت لها " ماريان " مؤكدة :
" هتقدري ؟! هتعرفي تجيبي الدرجات دي ؟! "
هزت " مروة " رأسها فورا نافية أي إمكانية
لتحقيق ذلك فاستطردت " ماريان " علي الفور :
" يبقي تلحقي نفسك وتنقذي ما يمكن إنقاذه .. أنسي
بابا عاوز أيه وافتكري أنت تقدري علي أيه .. لازم تذاكري يا " مروة " ..
لازم تركزي يا بنتي .. أعملي أي حاجة بتحبيها قبل ما تذاكري عشان تفتح نفسك علي
المذاكرة .. أنت بتحبي تعملي أيه أيه هواياتك يعني ؟! "
بخجل وكأنها متهمة آثمة أجابت الفتاة :
" بحب أكتب شعر وقصص وخواطر ! "
ابتسمت لها " ماريان " مشجعة وقالت برقة :
" عارفة يا حبيبتي .. وقريت حاجات من اللي أنت
كاتباها ورأيي إنك موهوبة قوي ويجي منك .. بس خدي بالك الشعر والكتابة بتخلي
الإنسان ميركزش في حاجة تانية قوي .. عشان كده أقعدي أكتبي وطلعي كل أفكارك قبل ما
تروحي تذاكري .. ولو حسيتي بملل وتعب وأنت بتذاكري المواد اللي مش بتحبيها وحسيتي
إنك مش قادرة خلاص فكري في مستقبلك لما تتخرجي .. فكري في نفسك لما تتخرجي من كلية
مناسبة وتنشري أشعارك وكتبك وتبقي كاتبة وشاعرة مشهورة .. حاول تخلي طموحك يدفعك
عشان تتقبلي اللي أنت مش قادرة تتقبليه ولا تحبيه .. وصلي لربنا أنه يهديكي ويرشدك
للطريق الصحيح ويديكي الصبر عشان تواظبي وتشيلي حملك بنفسك ! "
كان كلام الأستاذة يتنزل بردا وسلاما علي قلب "
مروة " .. التي لم تجد فرصة كافية للأسف للاستمتاع بتلك الجلسة الهادئة
المفعمة بالتفاهم والتراحم الإنساني المتبادل .. فقد دق هاتف البنت المحمول فجأة
ولمع اسم أمها علي الشاشة .. أجابت علي النداء فورا فسمعت صوت أمها يقول بقلق آمرا
دون تمهيد أو سلام :
" أنتي فين يا بت ؟! يلا تعالي بسرعة .. أبوكي أتصل
هو وصل جرجا دلوقتي وزمانه جاي علي البيت .. يلا قبل ما يجي ميلاقكيش يعملها مشكلة
! "
هرعت " مروة " تغلق حقيبة يدها الصغيرة بعد أن
أمسكت الهاتف بيدها .. وتجري هلوعة قبل أن يكبس والدها علي البيت ويسود عيشها لو
وجدها خارجا تتزاور بدلا من أن تجلس كالبطة الراقدة علي البيض لتذاكر وتذاكر
وتذاكر .. لم تدعها " ماريان " تذهب قبل أن تعدها بأن تبذل جهدها من أجل
التركيز في الاستذكار من أجل أن تنجح علي الأقل .. قبلتها الأستاذة علي خديها
وهمست لها مطمئنة داعية إياها بألا تدع الجزع يسيطر عليها أو تترك خيالاتها تهيمن
علي عقلها وتمنعها من التركيز في دروسها التي يجب أن تحصلها بأي طريقة !
ودعت " مروة " أستاذتها وهرعت عائدة إلي البيت
.. ومن حسن حظها أنها وصلت بفاصل ستون ثانية فقط عن أبيها الذي ظهر في البيت وهي
لا تزال تجري علي السلم لتستبدل ثيابها بملابس البيت العادية .. فلم يكن أحد يرغب
في إطلاعه علي أنها كانت خارج البيت في تلك الأيام التي يراها أيام قتال مع الكتب
.. وليس هناك وقت لأي شيء آخر !

تعليقات
إرسال تعليق