تطايرت
الرمال في كل صوب والريح تصفر خلفها معلنة أنها السيدة هنا ولا أحد سواها .. رحلت
الظباء القليلة وتوارت ثعابين الرمال واختفت العقارب الجامحة من الجوار .. فقط
الموت والرمال والرجلين السائرين خلف بعضهما !
كان
أحدهما يرتدي ثيابا عصرية ، سروال قماشي ناعم ، غطته الأتربة وأحالت الرمال لونه
الأصلي البني إلي لون آخر لا سبيل إلي التيقن من ماهيته الحقيقية ، وسترة تحتها
قميص به أكثر من بقعة واضحة وأكثر من خرق حاول صاحبه إخفائه عن طريق ضربات الإبرة
غير المتقنة بخيط واهن لم يستطع الصمود أمام عنفوان الصحراء وقوتها فتمزق تاركا
الثقوب المخيطة مفتوقة ونصف مفتوحة وبين شقوقها خيوط منسلة تثير الشفقة والشعور
بالآسي .. كان صاحب السروال والرتوق والفتوق يسير في المؤخرة .. يقطر رجلا يبدو
جهما ضخم الجثة يحدوه ويسير أمامه .. كان منظر الرجل الأول مختلفا تماما .. جثة
ضخمة تحتويها عباءة منقوشة الأطراف صنعت
من مادة سميكة ، وعلي رأسه عمامة ملفوفة بعناية بطريقة غير مألوفة ، فجعلت منتصف
العمامة تلتف حول الرأس بينما تتدلي منها أهداب وفضول كبيرة تغطي مؤخر العنق
وتنسدل علي الكتفين .. وجهه كان أسمر نحاسيا به شقوق طولية علي الخدين وحفر قديمة
نصف مردومة ، وفي قدميه خفين صنعا من مادة لدنة طرية لكنها في منتهي القوة ، ومن
ثقل جسده كانت خطواته تدب دبا علي الرمال الناعمة ، بينما كانت خطوات الرجل الآتي
من خلفه لا تسمع بتاتا من هول العاصفة .. أصر الأول على أن يتحركا في العاصفة !
خوفه
الأول اهتياج الرمال ودواماتها التي يمكن أن تسحبهما بعيدا عن الطريق الذي يقصدانه
أو تردمهما أو تعيق حركتهما بأية طريقة ، لكن الآخر ابتسم ساخرا !
إنه ابن
الصحراء !
نبت في
جوفها وولد من رحمها ودرج بين دروبها الوعرة الشائكة التي تشبه المتاهة .. هنا ولد
وهنا قضي حياته وحيدا .. فبعد أن غادر أبواه الحياة لم يفكر في أن يذهب إلي
المدينة الكبيرة ليعيش هناك ، أو يأتي منها بزوجة ، أو يترك نسلا خلفه .. فليست
تلك ، كلها ، مهامه في الحياة .. الحياة الرغدة والزواج والتناسل ليسوا مهامه ..
فمهمته معروفة ومحددة منذ لحظة أن وضعت بذرته في الرحم .. إنه حارس التابوت ولا
عمل له سواه !
في تلك
المنقطة المنقطعة عن العالم والمعزولة عن البر والبحر .. ذلك الخلاء المتسع الرهيب
.. الصحراء الخاوية الصامتة التي تحني هامتها لقدرها راضية بحظها في الحياة ، أن
تكون رحما عقيما جافا لا يحتوي البذرة ولا ينميها ولا يشتهي تذوقها ، أن تكون أرضا
خاوية جافة مرعبة ومثيرة للتفكير وداعية إلي الفلسفة وإعادة تفسير الكون تفسيرا
جديدا كل مرة .. علي الأطراف ، وفي القلب ، وفي داخل الشيء ، وفي خارجه في نفس
اللحظة بقيت الصحراء صامتة ساكنة أمينة علي السر !
السر
الذي أودع في جوفها منذ ألوف السنين والأمانة التي تُركت هنا لتُصان وتُحفظ وليس
ليشهر بها ويفُتضح أمرها .. سر التابوت ومخفي مجده ولوعة العالم نقبا وتفتيشا
وبحثا محموما عنه .. كنز لا يستفيد منه حارسه ولا يعود إلي أحد .. إنه هنا آمن
تماما ويجب أن يبقي كذلك مصونا محفوظا والألواح راقدة فيه تنتظر أمرا إلهيا ليكشف
عن أمرها ويعلن خروجها إلي العالم !
كم
يساوي ذلك السر .. ملايين وملايين وملايين !
خطأ إن
الأمر لا يحسب هكذا .. خطأ فالأمر هين إن خضع للحساب والوزن والقياس والتثمين !
خطأ
فالأشياء الوضيعة وحدها هي التي يمكن تثمينها أما الجواهر الحقيقية فتبقي محفوظة
في علبها ولا تباع ولا تشتري ، وأما الكنوز الحقيقية فتبقي مدفونة في باطن الأرض
بعيدا عن أيدي البشر الملوثة التي تدنسها وتبخس قيمتها وتحقر ثمنها !
ولذلك
بقي هو هنا .. لكنه أشتهي أخيرا أن يبوح بالسر لمن يظن أنه سيقدره !
إنه
تابوت العهد الذي يجد الجميع في البحث عنه .. لكنهم لن يجدوه .. ببساطة لأنه لا
يوجد سوي تابوت عهد واحد .. والتابوت هنا .. ومن يحرس التابوت لا ينوي أن يبوح
بالسر ولا أن يساوم علي غنيمته الزمنية ، التي أختصه القدر بها ، بأي ثمن ولا بأي
مال مما يعدون .. معادلة واضحة طرفاها محكمين ونتيجتها متوقعة مؤكدة .. لا سبيل
إلي الوصول إلي التابوت .. فهو هنا مقطوع وبحراسة رجل مقطوع ومكرس لحفظه !
لكن
أحدا ما يجب أن يعلم بالسر .. أحد ما يجب أن يؤتمن علي السر ويستأمن علي التابوت الثمين
!
بحث
طويلا حتى وجده ويتمني لو أن اختياره كان صائبا في محله .. لقد أختار أحسن البشر
مما صادفهم .. لكن ماذا يعرف هو عن البشر ؟!
إنه لا
يعرف شيئا عنهم .. في الحقيقة إنه لا يعلم عنهم شيئا البتة !
فقط هي
حكايات الأم الميتة وتحذيرات الأب الهالك !
تقدما الآن
حتى توسطا دربا ضيقا تحف به مرتفعات صخرية مثيرة للدهشة بامتدادها واستقامتها
وتقاربها .. شبه صفين متوازيين من الأوتاد تقاربا حتى لم يتركا بينهما إلا طريقا
ضيقا متعرجا يصاب من يعبر فيه بالاختناق وضيق التنفس وضيقات العالم كلها بمجرد أن
يجد نفسه محاصرا داخله .. كان الدرب الصحراوي الذي يمران فيه ضيقا لدرجة إنه كان
من المتعذر عليهما أن يسيرا معا متجاورين ، فانفصلا وتقدم المرشد العالم ببواطن
الأمور هنا وأسرارها وتراجع المستهدي به خطوات إلي الخلف .. مضي خلفه يردفه ويتأمل
الموقف الرهيب الذي هو فيه الآن .. إنه يمضي خلف رجل لا يكاد يعرفه ، لا يعرف حتى
اسمه ، كل ما يعلمه عنه أنه شاهد الأرض الجافة الميتة تنشق عنه بينما هو يموت ظمأ
وحرا بعد أن أنفصل ، عن طريق الخطأ والصدفة السيئة ، عن البعثة الاستكشافية الأثرية
التي كان برفقتها .. جاءوا ليمسحوا الصحراء الأثيوبية الميتة القديمة الهاجعة ،
ويعلموا مجسا أثريا هنا لعلهم يعثرون علي لقي أثرية مدهشة تعوضهم بقيمتها المادية
والتاريخية عن كل من عانوه من ويلات وما واجهوه من متاعب .. لكنه ضاع وضل وحيدا
ووجد نفسه وسط بقعة شاسعة مخيفة تفترشها الرمال والصمت والموت ولا أثر لأي شيء حي
علي امتداد النظر من كل الاتجاهات .. إنه أصلا لم يعد يري أية اتجاهات .. لا اتجاهات
في الصحراء في حقيقة الأمر ، فالصحراء كلها تبدو كما لو كانت دربا واحدا متصلا ،
ضيقا حينا متسعا في أحيان أخري ، ويفضي إلي محيط صامت ساكن تعمره الرمال وترفرف
عليه البومات النحاسية ويظلله الموت بجناحيه .. لا شمال ولا جنوب ، لا شرق ولا غرب
في الصحراء ، هنا تلغي الاتجاهات وتموت البوصلة من حرارة الظمأ ومن الذعر ..
فالموت هنا يستوطن ، هنا بيته ، ومسكن البرودة ، ومهبط الخوف ومستقر الأمن ، هنا
كل شيء ونقيضه .. كل شيء وعكسه .. وتحت وهج الشمس تري الظلام منتشرا وفي الليل تري
النور الغامض الذي لا تعرف من أين يأتي !
يوما ما
ستبتلع الصحراء الأرض .. ستسفها سفا ، كما يسف الطفل السكر المطحون ، وتبتلعها
وتخفيها في أحشائها .. التيه الأعظم كتيه بني إسرائيل في بضعة كيلومترات !
لكن
الصحراء كانت هناك .. دوما كانت الصحراء هناك ولهذا ستبقي هي هنا إلي النهاية ..
حتى تشاهد ما تبقي من آثام البشر وتشهد عليها !
ولهذا
خلق الله لها عينان متوهجتان تقدحان الشرر وترميان التهديد !
خوف
عظيم أعتري الرجل المتحضر وهو يسير خلف تلك الكتلة اللحمية الصغيرة الملفوفة في
ثياب خشنة والتي تمضي أمامه بثقة وخفة .. إلي أي جنس ينتمي الرجل ؟!
لم يكن
أسود كشعوب أثيوبيا القديمة والحديثة ، وثيابه ليست كثياب الزنوج ، أرديته تشبه
أردية بدو الصحراء العرب لكنه لم يكن عربيا ، وهذا واضح من ملامحه .. ليس أبيضا
ولا أسمرا ، لا بياض ولا سمرة ولا سواد فيه ، مكسو بلون صحراوي غريب .. لون وهيئة
جعلاه يبدو كما لو كان قد نبت من رمال الصحراء ورضع من ثدي ظمأها وتربي علي
مرتفعاتها الشاهقة الموحشة !
لا جنس
مميز له ولا شبيه له بين كل الشعوب التي رآها بعينيه ، أو رآها غيره وكتب عنها ..
فكر العالم المقطوع الصلة بالعالم من حوله ، عدا الرجل غير محدد الانتماء الذي
يتقدمه ويسير أمامه الآن ، إنه يشبه رجال الغجر أو الغز ربما ، هل هو من التتار ،
من الطاجيك ، كردي ؟!
إنه
يشبه الجميع ولا يشبههم في نفس الوقت !
حيرة
وضباب لكنه آتي من أجل التابوت الذي وعده بأن يريه إياه وليس من أجل أن يقيسه
ويحدد الأرومة التي ينتمي إليها .. أعطاه ماء وخبزا جافا مصنوع من نوع من الحبوب
لم يذق له طعم من قبل ، حاد صلب لكن به حلاوة غريبة تحت القشرة الصلبة وقلب لين
لدن طري مغذي بشكل عجيب .. قضمتين فقط وأحس أن كل جوعه ، الذي أستمر لأيام قد
تلاشي وتبدد .. أي مصدر يحصل منه علي حبوب يطحنها ويصنع منها خبزا كهذا .. مثير
للدهشة لكنه لا ينوي أن يرهقه بأسئلة تافهة خشية أن يضايقه ويكتسب عداوته فيقبض
يده بالسر عنه ، ولا يريه علي ما وعده بأن يريه إياه ويحجم عن إطلاعه علي السر
الذي يحبس الأنفاس شوقا ولهفة !
وجدا
نفسيهما على كثب من بقايا مبني لم تتضح هويته من الوهلة الأولي .. بدا ككتلة من الجدران الصخرية المتداخلة .. مداخل
معقودة بصخور حمراء وتيجان أعمدة علي شكل زهور متفتحة ، وبداخلها أروقة مشمسة
مفتوحة علي وجه الشمس تتلقي منها الضياء والحرارة ، وبداخل أحد الأروقة مصطبة
حجرية ضخمة للغاية بها حفرة غائرة مهولة تنحدر لأسفل فيما بدا لعيني الزائر كأنه
آلاف الأمتار مفضية إلي قعر بئر لا آخر له .. وبالسلال تدلي شيء ضخم مستوي فوق سطح
صخري لمعت الِشمس المتوهجة علي حوافه وأظهرت بوضوح أنه ملبس بصفائح من معدن لامع
براق يتلقي خيوط الشمس ويعكسها علي شكل سحب متوهجة تغشاها الصفرة السعيدة .. صفرة
بريق الذهب ولمعانه !
كانت
الأبنية كلها مدعمة وملبسة بالذهب وبريق المعدن الثمين يغشي أنظار السماء من فوقها
.. وهج من فوقها ومن تحتها تلمع الرمال مصدرة أنينا ساخنا ، لا تعرف ما إذا تعرق
من حرارة الشمس أم أن أنين الثقل الذي يرزح علي قلبها منذ أزمان لا يستطاع حصرها
.. منذ متى وتلك المباني الغريبة موجودة هنا ؟!
مرق
السؤال في ذهن الزائر فقال من أصطحبه وآتي به إلي هنا :
" منذ
الأزل .. جاء " سليمان "إلي هنا ومعه المرأة الحكيمة عابدة الشمس ..
عرفته سيدة سبأ سر سبأ وبجنده وبجندها أقيم ذلك الصرح ليكون مدفنا لهما وموئلا
للتابوت ! "
جف حلق
الزائر بغتة وتوقفت أنفاسه .. شارف صدره علي الانهيار ولكنه تماسك وجر الهواء
الصافي جرا إلي داخل رئتيه وقال مبهورا :
"
أيرقدان هنا ؟! " سليمان " وملكة سبأ ؟! "
هز
الآخر رأسه دون أن يدير رأسه وهتف ولا زال يرنو إلي نقوش الصرح بإكبار واحترام :
"
إنه قبرهما وآخر مساكنهما .. وبيتهما وبيت التابوت المقدس .. إنهما جداي الأكبرين
! "
شهق
الزائر دهشة وعجبا ، كان وقع المفاجأة عليه شديدا للغاية لدرجة أن بصره زاغ وأحس
برعشة تعتري أطرافه وبرودة تزحف علي قلبه .. هنا تحت قدميه يقبع الملك العظيم ،
والملكة العظيمة ومعهما التابوت .. وهذا الرجل الذي يقف هناك أنحدر من نسلهما !
أهذا
حلم يصدق ؟!
فقد كل
سيطرة له على نفسه وشهق ثانية بصوت جعل من يتقدمه يستدير وينظر إليه نظرة صامتة
طويلة .. مضت لحظة صمت تعلقت فيها أنظار كلا منهما بالأخر وساد صمت قطعته الزوابع
الرملية بصوتها النائح الغريب الذي يرعش الأوصال .. الموت هنا وبذرة الحياة نبتت
من هنا وأرض الخوف ومحضن الأمن الأول !
هنا بدأ
كل شيء وهنا ، أيضا ، يوشك أن ينتهي .. أشار الرجل إلي الصرح خلفه وهتف :
"
هل تراه الآن ؟! "
تساءل
الزائر متحيرا :
"
أري ماذا ؟! "
ابتسم
له مضيفه وقد أدرك أنه لم يفهم بعد :
"
هل تري التابوت ؟! تابوت عهد " موسي " وألواحه ؟! "
طرفت
عين الزائر فجأة وشعر بالذعر .. أدرك أن ثمة خطأ كبير ، وربما خديعة ، في الأمر
وتراجع إلي الخلف ليلقي نظرة بانورامية بشكل أوسع علي الصرح .. رأي جدرانا وأروقة
مسقوفة ومداخل معقودة متداخلة ومتشابكة .. الآن فقط يدرك أنها تتخذ شكل تابوت
مستوي علي قاعدته !
إنه
أحمق .. إنه الحمق ذاته .. لذلك لم يجد أحد التابوت حتى الآن لأنه ليس ثمة تابوت
.. المعبد هو التابوت والتابوت هو الصرح وبقايا " سليمان " وزوجته هما
الألواح !
لن يجد
أحد التابوت .. ليس بعد الآن .. فهو قد وجده فعلا !
تراجع
أكثر مصابا بالذهول تذكر ذلك المشهد المحير من الفيلم الأمريكي عالم مجنون مجنون
.. علامة إكس الكبرى هي الشجرة والشجرة هي العلامة .. والتابوت هو الصرح والصرح هو
التابوت !
كاد
يغمي عليه من شدة وقع المفاجأة ومن دهشتها .. أسطورة تتحقق أمام عينيه .. طرأ سؤال
مقتحم ملح في رأسه فوجد نفسه يحدق بعينان متوسلتان في وجه مصطحبه الصامت الهادئ :
"
هل ستدعني أتفقد المكان .. هل ستسمح لي برؤية الألواح .. الملك وزوجته ؟! "
سأله
السؤال فتجهم وجه الآخر وطفت علامة محيرة فوق وجهه .. أراضي هم أم ساخط !
هل
تجاوز حده .. هل طلب شيئا ليس من حقه ؟!
هل
سيحرمه جنته ويرميه في الصحراء حتى يهلك ظمأ ويموت شوقا ويسفر الفناء عن وجهه
طائرا أسود يختطفه وهو محفوف بالشوق ممزق بالرغبة في المعرفة !
تمزق
قلبه للحظة وهو ينتظر جواب الآخر ، حكم الآخر واجب التنفيذ عليه .. جاءته الإجابة
أخيرا :
"
نعم .. ولماذا اصطحبتك إلي هنا ! "
سري عنه
وملأ الحبور أعطافه ، ورغم دقة الموقف وصعوبته شعر بالرغبة ف الرقص وإظهار مرحه
وفرحته لكن الآخر عاجله بسؤال وجب عليه أن يرد عليه ردا معينا وإلا فالحرمان من
الرؤية هنا ستكون مآله :
"
إن رأيت بقيت .. إن اخترت الرؤية فقد اخترت البقاء .. إن رأيت السر بقيت أبديا
لتحرسه ! "
تقلصت
أحشاؤه الآن وذابت أطراف فرحته .. أي صفقة تلك يجب عليه عقدها ؟!
الرؤية
تساوي البقاء .. وإن رأي يبقي ليُحرس ؟!
مرعب ..
اختيار مرعب والقرار له وحده !
لن
يجبره أحد علي قبول شيء لكن التمزق يقتله .. أحدي الحسنيين هي أم احدي السوءتين ؟!
عليه أن
يختار .. عليه وحده أن يختار !
تطلع
إلي الجدران الشاهقة المحيطة به وإلي الصحراء المترامية حوله .. عليه أن يختار
الآن .. الآن وليس بعد ساعة أو بعد يوم أو سنة أو قرن من الزمان !
لحظة
مرة مرت عليه .. أمر الاختيارات هي عندما تكون بين أمرين أحلي من بعضهما فالاختيار
بين الأمور السيئة سهل .. سهل جدا وهو اختياره صعب جدا !
هل يبقي
ليطلع علي الأسرار التي دوخت أمما وأجيالا وعلماء من أجل اكتشافها ..
أم يرحل
ناشدا الحياة الناعمة في البقاع التي تظللها الجدران وتحميها من وهج الشمس ؟!
يرحل أم
يبقي ؟!
إنه
يعلم إنه لم يستطيع أن يفعل أيهما كاملا .. فلو بقي فسيظل يندم علي أنه لم يرحل
وستغريه ذكريات المدينة الظليلة التي هجرها .. وإن رحل فسيبقي أبدا يراوحه الندم
علي أنه كان على قيد خطوة من بدن الأسطورة وأصل الحكاية ولم يلقي عليهما نظرة تشبع
فضوله !
لن
يكتمل له أيهما فليختار الأقل إثارة للندم إذن !
أخيرا
رفع رأسه والإجابة راسخة ظاهرة في حدقتيه المتسعتين الثابتتين الواثقتين .. رمقه
الآخر للحظة قصيرة ثم انفرجت شفتاه كاشفة عن أسنان نضيدة ناصعة جميلة .. أسنان
منتظمة تماما ترسم ابتسامة مشرقة لم يري الآخر في العالم في مثل جمالها وقوة
تعبيرها عن المعني المستتر خلفها !
تمت
تعليقات
إرسال تعليق