التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل الرابع

 

 


مضي شهران علي مولد البنت الثالثة .. شبت الطفلة الجميلة بسرعة وكبرت وأينعت كزهرة وتفتح جمالها الوردي أكثر فأكثر كلما نضجت .. لحقت الثالثة بأختيها وصرن ثلاثتهن كحبات لؤلؤ صغيرة ينتظمهن عقد منثور تفرقت حباته في سائر أنحاء البيت .. علي وعد بأن تلتئم ، ويجتمع شملهن حول لعبة صغيرة أو حول فيلم كرتون لا تفهمه سوي " شيماء " الكبيرة وتشرح لأختيها الصغيرتين ماذا يحدث فيه بالضبط قدر ما تفهمه بعقلها الصغير .. أو حول طشت الغسيل يعبثن بالماء والرغوة العالية ويجربن تقطيع أرغفة الخبز ، مثلما يرين أمهن تفعل يوم الخبيز ، بالرغوة المرتفعة ويفشلن في كل مرة في حمايتها من التساقط من بين أصابعهن ليخرج رغيف الصابون في النهاية مقطعا ممزقا إلي أشلاء .. فارت البنات وكبرن أما " نعمة " ، الأم ، فقد أخذت تذبل وتبهت وصارت كقطعة لحم مقددة باردة !
لم ينفذ " عبد الرحيم "  تهديده ولم يأتي لها بضرة لتنجب له الولد .. ليس لأنه تراجع أو نكص علي عاقبيه ، لا سمح الله ، بل لأنه لم يجد من ترضي به أصلا وتقبل أن تكون زوجة ثانية له !
ولم يكن هذا مستغربا .. فماذا يكون هو ؟!
مجرد رجل أرزقي يتعيش علي قليل من البضائع والفواكه التي يبيعها في دكانه الصغير ، ولا مال ولا وظيفة له ، وفوق هذا وذاك معلق برقبته خمس نساء .. أم وزوجة وثلاثة بنات ؟!
فمن هي المجنونة التي يمكن أن ترضي به أو تقبل أن تشاطر خمس نساء البيت واللقمة وربما الفرشة !
ومن ناحية أخري فقد تشدد جنابه في مطالبه .. كان يمكنه أن يحصل علي زوجة ثانية لو أنه تنازل ، وقبل أن يتزوج بمطلقة أو أرملة شابة فقيرة .. لكنه  ،وظنا منه أنه " شهريار " زمانه الذي ما إن يعلن رغبته في الزواج مجددا حتى تتساقط الصبايا الحسان تحت قدميه راجيات العفو سائلات النعمة ، أصر علي الحصول علي زوجة عذراء لم يسبق لها الزواج لأنه ببساطة يؤمن أن المطلقة أو الأرملة ليست إلا .. فضلة رجل آخر !
نفاية يمكن أن يكون لها مكان في أي داهية من العالم إلا في بيته وفي فراشه !
أمر مثير للضحك بقدر ما هو مثير للشفقة علي العقول التي أجدبت وضحلت كصحراء بلا حياة .. من جانبها كانت أم " عبد الرحيم "  ، التي ذعرت بسبب مرور الأشهر المتوالية دون أن يدخل ولدها بعروس جديدة ، راحت تحاول جاهدة العثور له علي العروس البيضاء التي لم يسبق لها الزواج ولم يبني بها  إنس ولا جان من قبل !
لكنها لم تجد إلا عانس في عامها السادس والثلاثين .. جميلة نعم .. لكنها في عمر لخصته الأم بدقتها الخربة :
" إن جابت ولدة مش هتجيب التانية ! "
بمعني أنها في عمر يصعب جدا أن تحمل وتلد فيه ، فإن حملت مرة فمن شبه المستحيل أن تفعلها ثانية .. فماذا إذن لو أنها أنجبت بنتا رابعة له في المرة الأولي هل يبحث له عن زوجة ثالثة تأتيه بالولد ؟!
طبعا رفضت الأم الفكرة وتعكرت خلقتها ، أكثر مما هي عكرة .. كانوا يجلسون لتناول العشاء والبنات يلعبن في كل شيء وبكل شيء و" نعمة " تجلس " واضعة يدها علي خدها تأكل بصمت ولا تبذل أي جهد لإثناء بناتها عن التخريب .. أما " عبد الرحيم "  فلم يكد يشبع ويحمد ربه علي اللقمة الهنية حتى سحبته أمه ، التي تجلس بانتظاره مترقبة كالصقر ، إلي غرفتها لتصفي المسائل المعلقة معه .. كانت قد عثرت في الحقيقة علي عروس مناسبة له لكنها مطلقة ومعها طفلة في الثالثة من عمرها !
كان الزوج غير مستعد إطلاقا لسماع مثل هذه الاقتراحات بقبول زوجة من صنف سبق استخدامه من قبل .. الأم لم تكن تفهم الأمر علي جليته .. فقد كانت تعتقد أن ولدها باختصار مدلل يريد عروسا أخري كعروسة الأولي يكون هو رجلها الأول والأخير !
الحقيقة أن " عبد الرحيم "  كان يعتقد أن الزواج بامرأة كانت ذات بعل من قبل ينتقص من رجولته ويهينها !
فهو ككثير من رجال الشرق ، ليس كلهم بالطبع ، يعتقد أن المرأة التي تزوجت قبله أو عرفت رجلا لا تستحق نعمة أن يضمها إلي جناحه فقد كان يجب أن تنتظره هو .. هو وليس أحدا آخر قبله ولا بعده !
أما الأم ، الحماة ، التي لم يكن يعنيها سوي أن تزوج ولدها ثانية من أجل الولد والسند والعزوة والذكور ، فلم تكن تهتم بحرف من كل هذا الهراء .. وما المشكلة في أن يتزوج مطلقة ذات بعل سابق ولديها طفلة واحدة لا غير ؟!
" هو أنا هربي بنات الغير كمان ؟! "
مصمصت الأم بشفتيها وقالت مؤكدة مطمئنة :
" البت هتفضل مع ستها * ومش هتيجي عندك هنا ولا هتشوفها .. اتفقت مع أم العروسة علي كده ! "
ضحك ساخرا مستهينا وهتف :
" عروسة ؟! "
فاض الكيل بالأم فقالت له مهددة :
" وهو أنت عامل نفسك مين يا واد ؟! واد مين أنت في البلد.. ما تتواطي شوية خليك تجيب الواد وتفرح بيه ولا عايز تفضل طول العمر يقولولك يا أبو شيماء ؟! "
أجفل " عبد الرحيم "  من الفكرة وقال وقد بدأ يخضع قليلا :
" طاب ما هي خلفتها بنات أهي كمان .. وممكن تروح ترزيني * بكام بت تاني غير اللي عندي ! "
فرحة قالت الجدة :
" لا لا متخافش .. هما كلهم كده يبكروا بالبنات وبعد كده يبجيبوا الولاد فوق بعض ما شاء الله .. دا أمها جابتها وجابت فوق راسها ست رجالة ما شاء الله ! "
طرب قلبه لذكر الرجال والأولاد الذكور وهتف متسائلا :
" طاب ودي هترضي بعيشتنا وهترضي تقعد مع " نعمة " والبنات ؟! "
" ما ترضاش ليه ما هما عارفين كل حاجة وأمها قالت لي كده .. وبعدين دول ما صدقوا ! "
" ليه يعني .. مش لاقيين لها اللقمة ؟! "
" لا لا بس أنت عارف .. حريم الخوات * ودي تشد مع دي ودي تغير من دي ودي واحدة مطلقة والناس ممكن تمسك سيرتها لو طلعت ولا دخلت .. فقالوا يجوزوها ويستروها أحسن من قلنا وقالوا ! "
في تلك المرحلة كان " عبد الرحيم "  ، العريس ، قد بدأ يتخيل شكل العروس الجديدة فسأل أمه ملتذا :
" وهي شكلها أيه يا أمايا ؟! "
حركت الأم ذراعيها لتشخلل بالأساور المصنوعة من الذهب الصيني التي تملأ بها ذراعيها وقالت بخبث :
" حلوة يا واد وبيضا وزي القمر .. وكمان خالتها قالتلي أن شعرها واصل لنصها ! "
وهنا داهمت العريس حيرة مؤلمة :
" طاب لما هي كده آمال جوزها سابها ليه بقي .. لا تكون معيوبة ولا فاجر* ولا حاجة ! "
" لا لا استغفر الله .. دي ست الناس كلهم ! النصيب يا ولدي .. عيشهم مع بعضهم خلص لحد كده وإن شاء الله تكون من نصيبك ويجعلها قدم السعد عليك وعلينا وتجيب لك بدل الواد عشرة ! "
أنتهي الجدال أخيرا وأستسلم " عبد الرحيم "  .. وبقي الجزء الأصعب في تلك الليلة الطويلة .. إخبار " نعمة " بما عزم عليه وإقناعها بالرضوخ !
...
تناولوا العشاء صامتين وهناك غيمة غير منظورة تخيم فوق الرؤوس .. جلس " عبد الرحيم "  وأمه متجاورين يتبادلان النظرات المتآمرة المتواطئة ويتحدثان حديثا صامتا بالعيون وبالنظرات المختلسة .. أما " نعمة " فقد جلست صامتة تطعم البنات ولا تكاد تأكل شيئا وترقب ، وهي تتظاهر بأنها لا تفعل ، المجادلة الصامتة بين زوجها وحماتها وتتسقط من نظراتهما ما يريدان الإفصاح عنه .. البنات كن في حالة مرح وصخب فأخذت " شيماء " و" مروة " تتبادلان قذف بعضهن بفتات الخبز وقطع الطرشي الصغيرة .. بينما " أسماء" الصغيرة تضحك ، وهي فوق حجر أمها ، وتحاول الزحف بعيدا لتصل إلي أختيها وتشارك في تلك اللعبة المحببة .. لولا يدي أمها اللتين تحوطانها لتمنعاها من الزحف والحبو لأنها كفيلة بقلب الصينية كلها وأطباق الطعام بأصابعها الرفيعة الشقية التي لا تكف عن العبث .. وكانت تلك أول مرة تجتهد البنات في اللعب والعبث دون أن تنهرهن الجدة أو يشخط فيهن الأب .. فالجدة من ناحيتها راغبة في ألا تفسد الليلة بإغضاب " نعمة " ، التي لا تتحمل الهواء في بناتها ، حتى تذعن لزوجها عندما يخبرهما بما عزموا عليه .. كانت الحماة تخشي من أن يتصلب دماغ زوجة ابنها وتعاند رافضة أن تشاركها ضرة في زوجها ، ولم يكن رضاها نفسه أو عدم رضاها يعني " أم عبد الرحيم " في شيء ، لكنها تعرف أن ولدها لا زال يحب زوجته ولا زالت غالية عليه .. ولعله في النهاية يخاف من موقفها ويخشي أن تنكد عليه عيشه فيتراجع عن موضوع الزيجة الثانية كلها جلبا للسلامة .. أما الأب فقد كان يشعر بالذنب نحو زوجته ونحو بناته الصغيرات .. كم كان يتمني لو أن " نعمة " أعطته الولد بدلا من كل هذا المشوار الطويل الصعب الذي يتحتم عليه أن يمشيه الآن ليحصل علي لقب أبو فلان !
ولكن هل هذا بيدها .. ولا بيده هو أيضا ؟!
تلك مسألة يصعب عليهم أجمعين فهمها أو التسليم بها !
كانت " نعمة " تحس بما هو آت .. صحيح أنها وبعد مولد ابنتها الثالثة كانت واثقة من أن ثمة شيء سيحدث ، شيء سيحزنها ويؤلمها ، خاصة عقب حديث حماتها المتشدد معها صبيحة يوم الولادة .. إلا أنها كانت تعتقد وتتمني أن يتراجع زوجها عن رأيه .. يدرك خطأه ويتراجع عنه بل ويأتيها معتذرا طالبا العفو والمسامحة لأنه فكر في أن يتزوج بغيرها وعليها .. لكن وعندما أخذت الشهور تمر ، وبدأت تحس ، حتى وإن لم يخبرها أحد ، بمحاولات زوجها وحماتها التي تتم سرا ومن تحت لتحت ، للعثور علي عروس له ، بدأت مشاعرها تتغير نحوه تغيرا مثيرا للدهشة .. ألم يعتبرها ماعونا يحمل ويلد ؟!
فلتعتبره هي أيضا محفظة يعمل ويأتيها بالنقود لتأكل وتطعم بناتها !
أليست تلك مبادلة عادلة .. أليس هو العدل المطلق ؟!
...
جلست علي السرير وربعت قدميها .. كانت ترتدي إيشارب ذو لون أزرق مخطط بخطوط بيضاء رفيعة ويتدلي رأسها بين كتفيها فبدت كهيئة الثكالي الحزانى بالضبط .. نامت الفتيات الثلاثة بعد لأي وهجعت هي محاولة النوم لكنها كانت تعرف أنه سيأتي الآن .. سيأتي ليغسلها ويشطفها ويزيل أقذاره ويلقيها عليها .. سيخبرها بأنه سيتزوج عليها !
تري .. كيف ستستقبل الخبر ؟!
كيف سيكون وقعه عليها حين تسمعه بأذنيها ؟!
لا زال الأمر في مرحلة التهديد والتلويح والوعيد والوعد بالتنفيذ .. لكن ماذا حين يبدأ التنفيذ فعلا ؟!
كيف ستتلقى خبر زواجه بامرأة أخري ؟!
ارتعدت للحظة حين سمعت صوت باب الغرفة وهو يُفتح .. تماسكت عندما رأت وجهه يطل عليها قائلا بلهجة ودودة :
" مساء الخير يا نعمة ! "
رفعت رأسها المجلل بتاج الحزن الأزرق وهمست ساخرة بمرارة :
" مساء الخير يا أبو البنات ! "
قصدت أن تذكره بأنه أبو البنات .. وبأن الثلاث بنات لسن بناتها لوحدها ولم تأتي بهم إلي الدنيا بمفردها .. فليتذكر هذا ليكون خيرا له !
" ممكن أدخل .. عندي كلمتين كده كنت عايز نتحدتو* فيهم مع بعض ! "
ابتسمت ابتسامة باهتة وردت بخمود :
" أوضتك ومطرحك .. خير ؟! "
" لا .. خير إن شاء الله .. إن شاء الله خير ! "
جلس بجانبها علي السرير .. كانت تجلس في الوسط والمخدة الطويلة ، التي جاءت مع الفرش المنجد أثناء التجهيز لفرحها ، تسند أسفل ظهرها .. أما هو فقد أختار أن يجلس علي طرف السرير .. ابتسم ابتسامة بلا معني وقال بود :
" البنات ناموا ! "
لم تجبه فهو رآهن نائمات حولها بالفعل وليس بحاجة إلي السؤال :
" نوم العوافي ! بقولك يا " نعمة " .. كان في كلمتين كده يا بت الحلال عايزين نقولوهم بس من غير زعيق ولا صراخ الله يسترك ! "
همست متألمة وصوتها لا يكاد يُسمع :
" خير .. أمك لقيت لك عروسة ولا أيه ؟! "
سرت لمسة برد تحت جلده .. إذن فهي تعرف !
بالطبع تعرف يا أذكي رجال زمانك وهل نسيت صبيحة يوم مولد " أسماء" المشئومة ؟!
" طيب يعني أنت عارفة كل حاجة أهوه .. كده سهلتيها علي وعلي روحك ! "
ردت عليه بغلظة وقد شعرت بأن قسوة هائلة تندفع داخل صدرها تجاهه :
" طبعا عارفة يا أبو البنات آمال يعني فاكراني نايمة علي وداني .. أمك لفت البلد بيت بيت تدور لك علي عروسة وتلسن* علي ! "
فاجأته بقية عبارتها فسألها مستفسرا باهتمام حقيقي :
" تلسن عليكي .. تقول أيه يعني ؟! "
دمعت عيناها .. كانت قد وصلت آخر حدود قدرتها علي التظاهر بالقوة والبأس فأجابت بمرارة مبللة بالدموع:
" بتلف ع البيوت تقول للحريم إني نحس وش شوم عليك وأن قدمي ناشف .. وبتقولهم إنك عايز تخلص مني وتاخد البنات ، بس بعد ما ربنا يرزقك باللي تأمانها علي بناتك وتجيبلك الواد ! "
هل قالت أمه ذلك فعلا ؟!
" هي قالت كده من صح ؟! "
سالت دمعة صغيرة من زاوية عينها فسارعت بمسحها بظهر يدها وكبت بقية الدموع التي توشك أن تسيل .. لن تعطيه الفرصة ليراها ضعيفة أو خائرة !
ردت عليه بقسوة واتهام لا يقبل دفاعا ولا محاماة :
" طبعا قالت .. آمال يعني بتبلي عليها ؟! وطبعا الكلام ده مش جايباه من راسها ! "
نظر إليها " عبد الرحيم "  للحظة متحيرا غير فاهم لما تعنيه .. ثم أدرك أخيرا أنها تلقي باللائمة عليه وتتهمه بالإيعاز إلي أمه بترديد هذا الكلام :
" آمال يعني جايباه من راس مين يا بت الناس ؟! متمشيش ورا كلام النسوان الخباصة .. لا أنا ولا أمي ممكن نطلع الكلام ده من حنكنا ولا نفكر فيه ! "
أغلقت القضية الآن ولا سبيل أمامها لتصديق أي من إدعاءاته :
" وحتى لو قلت أنت ولا هي .. متفرقش ! "
قطب وسألها بحذر :
" متفرقش إزاي يعني ؟! "
استدارت لتواجهه :
" يعني أنت فاكر إني هقعد لك علي ضرة ؟! والله يوم ما تجيبها ما أقعد لك فيه لا أنا ولا بناتي ! "
نعم .. هذا ما كان يخشاه وما كان عنه يحيد .. لقد تحققت مخاوفه !
" ليه بس كده يا بت الناس .. خلينا نتراضي مع بعضينا ونحل منعقدش .. وأهو الواد الللي هيجي إن شاء الله هيبقي أخو بناتك وسندهم لما أموت أنا واسمه لهم أخ راجل في ضهرهم ! "
" راجل في ضهرك أنت وضهر مرتك الجديدة ! ده أنا سبت تعليمي عشانك ! "
بدأت أخيرا تنزح من فيض مرارتها وتلقي في وجهه .. ماذا كان يظنها ؟!
بهيمة .. تقبل أن تساق إلي الذبح وهي صامتة كتيس مشلول ؟!
" ما لوش لازمة الكلام ده ! "
صرخت فيه :
" لا  له .. آمال فاكرني هقولك أتجوز وأرقص في فرحك وأزغرتلك ! والله لو حاولت تخليني بالعافية ما أخليك تشوف ساعة عدلة ولأطربق الدنيا علي نافوخك ! "
غضب الآن ونقحت عليه ذكورته :
 " بصي أنا عايز الحكاية تيجي بالرضي ما بينا ومن غير مشاكل .. لكن لو هتعندي يا بت الناس أخبطي دماغك في الحيطة ! "
" مش هخبط يا ولد عبد النعيم .. وهتشوف مين اللي هيخبط دماغه في الحيطة أنا ولا أنت ! "
صعبت عليها نفسها الآن وانحسرت موجة الشجاعة الهائلة التي ظللتها للحظات .. انهارت باكية وأخذت تنتحب .. وفي مشهد مأساوي حقا أخذت تبحث عن منديل تجفف بها دموعها فلم لما تجد شيء بقرب يدها خلعت الإيشارب التي تلبسه علي رأسها لتنشف به عيناها .. أستدر منظرها شفقة زوجها .. وهو واقف لدي الباب يرقب المرأة الغالية الباكية المنهارة تذكر فجأة ما حري به إلا ينساه أبدا .. تذكر أنه يحبها !
يحبها منذ أن رآها في مريلة المدرسة وهي في الصف الثالث الإعدادي .. قال لأمه حينها :
" مين البت الحلوة دي ؟! "
لم يكن يعرفها جيدا رغم أنهما أولاد خال وعمة .. فقد ذهب عامين برفقة أبيه عمل فيهما في السعودية عاملا في البناء وتركها صبية صغيرة أقرب لكونها طفلة .. لكنه عاد ليجد في لقاءه امرأة صغيرة حسناء ذات قد متناسق وملامح جميلة اهتز لها قلبه وجوانحه !
تذكر نفسه وهو يقلد ( بتوع التليفزيون ) فيسهر واضعا بقربه المسجل الصغير وهو يسمع عليه أغاني " عبد الحليم الحافظ " الرومانسية .. ويستنشق عبير كلماته وهو يتذكر ملامح " نعمة " الجميلة .. لكم أحبها في تلك الأيام ولكم تمناها لنفسه !
إنه حتى لم يطق صبرا عندما أدخلوها المدرسة الثانوية .. لم يطق صبرا وظل يتوسل إلي أبيها مرة ، وإلي أبيه مرة ، وإلي جدتهما مرات ليحجزوها له علي الأقل ولا يعطونها لغيره !
كم مرة سهر وهو يتأمل ملامحها المنعكسة في مرآة خياله علي طلاء حوائط غرفته اللامع الجديد ؟!
كم مرة نام وحلم بها ؟!
كم مرة تمني أن يضمها إليه ويخفيها في حضنه ولا يترك رجلا ولا ولدا غيره تقع عيناه عليها ؟!
أكل هذا يمضي سدي وبلا ثمن .. كل هذا تداعي فوق رأسه الآن وهو يرقبها وهي تبكي وتجفف عينيها بإيشاربها الصغير .. ظل يرقبها دقائق حتى خارت قواه وفقد كل قدرة لديه علي المقاومة .. انهارت قسوته المصطنعة ووجد نفسه كما هو .. منذ متى كان قاسيا .. منذ متى وهو فظ بلا رحمة ؟!
لم يكن كذلك أبدا .. ويبدو أنه من المحال أن يكون !
هرع نحوها أخيرا .. أمسكها وأدراها نحوه وضغط رأسها في حضنه .. تعالي بكائها حنانا هذه المرة .. قبل رأسها العاري ثم أحتضنها بقوة وإصرار .. إنه لن يتركها أبدا .. نهض أخيرا ليغلق الباب .. ولأول مرة منذ أيام ، لم يعني أيهما بعدها، يبيتان معا في فراش واحد !
...
العروس المطلقة ذات الابنة أخذها الغراب وطار .. فقد قرر " عبد الرحيم "  صرف النظر عن الأمر !
لطمت أمه خديها وولولت واستعدت عليه الناس وصاحت في وجهه حتى بح صوتها :
" ضحكت عليك يا دلدول .. طوتك تحت باطها يا بتاع النسوان ؟! يا واد مش كنا اتفقنا وأدينا كلمة يا ولد المحروق ! "
لم تكن تسأله بل كانت تؤنبه مذكرة إياه بواجبه الرجولي نحو كلمته التي بذلها .. مع أنه في الحقيقة لم يبذل أية وعود ولم يعطي أية كلمات .. هي التي فعلت وليس هو !
وكان هذا رأي " عبد الرحيم "  ورأي ( المحروق ) ، أي أبوه الذي لم يكن يجد أي سبب لتسرع زوجته في محاولة تزويج ابنها للمرة الثانية .. فالرجل الطيب يؤمن بأن ( اللي له نصيب في حاجة هيشوفها )  !
وكم من مرة قال لزوجته الوالهة الحزينة علي ما رزق الله ابنها به من بنات :
" لو له نصيب في واد هيجيله ولو ملهوش نصيب والله لو جوزتيه نص نسوان البلد ما هو شايف ضفره ! "
 
ولكن رغم كل ما فعلته الأم وكل ما خرج من حنجرتها من ( ردح ) ودعاء علي " نعمة " وحتى علي البنات الصغيرات اللائي لا ذنب لهن في شيء ، فإن أمر الزواج قد ألغي .. إلي حين علي الأقل !
بعد شهور علمت " نعمة " أنها حامل للمرة الرابعة .. بدأ الزوج يأمل أخيرا ويتمني من الله أن يرزقه الولد .. أم الزوجة أخذت تلهج بالدعاء لابنتها ليلا ونهارا ليعطيها الولد ويراضيها ويمن عليها بما يقر عينها به !
أما الحماة فقد كان موقفها مختلفا تماما .. أصلا هي تؤمن بأن نعمة ليس في عنقودها سوي البنات وأنها لو حملت ألف مرة فلن تلد سوي البنات !
لم يعرف أحد من أين أتت والدة " عبد الرحيم "  بذلك اليقين الغريب .. اليقين الذي قُدر له أن يصيب مرة ويخطئ مرة !
فقد جاء الحمل الرابع ب" أسماء "  .. فهتفت الحماة وقد أشرق وجهها علي غير  العادة :
" الحمد لله ! ثبتت الرؤية .. قلنا كده قلتوا أطلعوا من البلد ! "

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...