التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل الخامس

 

 

 

لم تكد " أسماء " تبلغ شهرها الثالث من العمر حتى كانت أمها قد فكرت في الحمل من جديد !
لم تحتاج " نعمة " المنهكة إلي ممارسة أية ضغوط عليها لتبحث ملهوفة عن حمل جديد عقب مولد فتاتها الرابعة بشهور قليلة ، بل ربما بأسابيع .. كانت العلاقة بينها وبين زوجها قد تحسنت كثيرا ، لم تعد كما كانت بالطبع قبل طرح مشروع زواجه الثاني ، لكن الرجل كان قد ركن إلي الهدوء وربما الاستسلام وصارت علاقته بزوجته وبناته أحسن كثيرا .. صحيح أن الحماة العقربة لم توقف زنها علي أذني ولدها ، ولا محاولاتها الحامية الدءوبة لتزويجه من امرأة أخري ، إلا أن صد ابنها لها وتجاهله لمحاولاتها للإيقاع به في مصاهرة جديدة حدت من قوتها وجعلت جبروتها يأخذ شكلا ملتويا ثعبانيا تجيده المرأة القوية التي تجد قوتها لم تعد تجدي نفعا .. كان مولد " أسماء " إذن القشة التي جعلت " نعمة " تشعر بالرعب حقا .. فحتي اللحظة لم تكن قد فكرت في الموضوع بوجهة النظر البسيطة الواضحة .. إن " عبد الرحيم "  قد يتزوج عليها فعلا وعذره معه ، لن يلومه أحد ، وقد تصحو ذات يوم علي ضرب دفوف لتجد امرأة غيرها ترتدي ثوب زفاف وتتأبط ذراع زوجها داخلة إلي عشها لتفرض نفسها عليها كضرة وعلي بناتها الصغيرات كزوجة أب .. فما الذي قد تفعله هي ساعتها ؟!
أصابها الرعب لمجرد التخيل وقررت أن تتصرف علي مسئوليتها ودون حاجة لدفع أو زق من زوجها أو حماتها .. فلم تكد تتم أربعين يوما علي ولادتها حتى هرعت إلي طبيبها تطالبه بأن يعطيها شيئا ليجعلها تحمل من جديد وبسرعة !
بهت الطبيب من طلبها وعلت وجهه نظرة هم ثقيلة فهو مطلع علي مشكلتها منذ البداية :
" وليه يا بنتي كده .. أنت عايزة تنتحري ولا أيه ؟! مش لما تتمي حتى مدة الرضاعة وتكبري بنتك .. دي لسه مية* حرام عليكي ! "
دمعت عينا " نعمة " وقالت بصوتها المنهك المعذب :
" والنبي يا دكتور .. شالله يخليك .. بيتي هيتخرب وجوزي هيبجبلي ضرة تبهدلني وتبهدل عيالي ! "
قالت الجملة الأخيرة وقد أحمرت عيناها وتبللت بالدموع فعلا وصارت علي وشك ذرف الدموع والبكاء بحرقة في أية لحظة :
" يا ماما أفهمي .. أنت جبتي أربع ولدات ورا بعض وده غلط علي صحتك .. ده أنت مبتكمليش رضاعة عيل وبتجيبي التاني فوق راسه .. حرام عليكي كده ، حرام عليكي نفسك ، وحرام عليكي بناتك اللي بتولديهم دول .. دول مش بني آدمين .. مش لازم ياخدوا مدة الرضاعة اللي حددها ربنا وتدوهم فرصة يكبروا ويشبعوا من صدرك قبل ما تولدي عليهم .. ليه كده بس ؟! ده العالم أتطور وأنتوا لسه قاعدين في البت والواد .. ما خلاص يا بنتي الناس بطلت الكلام ده من زمان ! "
كان الطبيب يتحدث بصدق وبأمانة كرجل متعلم مثقف وكأب فاهم ومدرك لما يقوله .. لكنه لم يكن يعلم أن تلك المرأة الباكية المنهارة لا تملك خيارا ..  فإما أن تأتي بالولد وإما أن تذهب في داهية ولا بواكي لها أو عليها !
تقاطرت الدموع من عيني " نعمة " وأخذت تبكي بالفعل .. صعب منظرها علي الطبيب وأحس بالشفقة عليها .. ناولها منديلا ورقيا معطرا من علبة أنيقة أمامه وهتف مشفقا مهدئا :
" لا حول ولا قوة إلا بالله .. طيب أستني علي الأقل سنة تكوني كده شديتي حيللك ويكون رحمك أرتاح شوية وبعدين يبقي ربنا يفرجها ! "
أفحمت الأم في البكاء وصار وجهها كثمرة طماطم من عظم ما بها من كرب :
" والنبي يا دكتور .. شالله يعمر بيتك .. والله جوزي وحماتي ما هيصبروا علي ولا هيسكتوا .. هتروح أمه تجوزه ويتخرب بيتي وعيالي يتشردوا ! "
هنا فقد الطبيب أعصابه فقد شعر أن ما يحدث أمامه شيء بالغ القبح والقسوة لدرجة أنه لا يمكن ، ولا يجب ، السكوت عليه قال لها هائجا مغتاظا :
" ما عنه ما صبر ولا أتهبب .. أنت متعرفيش إن الراجل هو اللي بيحدد نوع الجنين ولا أيه ؟! أنت مش دخلتي مدارس وأتعلمتي يا بنتي ؟! أنت ملكيش ذنب .. ملكيش يد في حاجة .. ده كله من الراجل ، الراجل هو اللي بيجي منه ولد وهو اللي بيجي منه بنت .. أنت ملكيش ذنب في حاجة .. فهميه كده ولا هاتيهولي وأنا أشرحله وأفهمه ! "
سكتت " نعمة " وكفت عن البكاء .. اتسعت عيناها المحمرتان المليئتان بالدموع وسألت طبيبها غير مصدقة :
" إزاي يعني يا دكتور ؟! "
فكر الطبيب قليلا وأخذ يبحث عن أفضل طريقة يشرح بها الأمر للسيدة نصف المتعلمة أمامه ثم قال أخيرا وقد وقع علي مثال مناسب  :
" بصي يا ست الكل .. الست والراجل جواهم حاجة اسمها كروموسومات .. دي اللي بتحدد العيل هيطلع ولد ولا بنت .. أعتبريها زي الكور الملونة .. عارفة الكور الملونة الصغيرة دي بتاعت العيال ! "
هزت " نعمة " رأسها وتنامي اهتمامها وتعاظم انتباهها.. فقد شعرت أنها عادت إلي مقعدها في المدرسة الثانوية وتنصت إلي درس شيق في العلوم التي كانت تحبها بشدة :
" بصي أعتبري أن الراجل والست عندهم كور ملونة صغيرة جوه جسمهم .. جوزك اللي هو الحاج " عبد الرحيم "  وأي راجل تاني عنده كور بيضا وكور سوداء .. أنت بقي وبقية الستات عندكم كور سودا بس .. ماشي فاهماني ؟! "
هزت " نعمة " رأسها إيجابا بسرعة ولهفة :
" لما تبقي حامل منه لو خدتي منه كور سوداء زي اللي عندك هتجيبي بنت ولا خدتي كور بيضا هتجيبي ولد .. يعني أنت مبتحدديش حاجة هو اللي بيحدد .. هو اللي خلفته بنات مش أنت ! "
اتسعت عينا " نعمة " تماما وبدأت الدموع تجف منهما :
" من صح يا دكتور ؟! "
ابتسم الطبيب فقد رأي في أعماق عينيها الدامعة نظرة الطالبة الذكية الشغوفة بالعلم والتحصيل .. وأعتصر قلبه الألم من أجلها ومن أجل معاناتها بسبب شيء لا يد لها فيه :
" من صح والله العظيم ! بصي أنت مش روحتي المدرسة الثانوية ؟! لو دورتي علي كتاب الأحياء بتاع تانية ثانوي وقريتي عن حاجة اسمها الكرموسومات هتعرفي إني مش بقولك غير الحق وغير الحاجات اللي أثبتها العلم .. سيبك أنت من كلام النسوان والرجالة الجهلة اللي ميعرفوش السما من العما .. روحي بيتك وخدي بناتك في حضنك .. ولما تفطمي البت الصغيرة وترتاحي خالص أبقي أحبلي تاني .. بس متنسيش أنت ملكيش ذنب في حاجة ! "
خرجت " نعمة " من عند الطبيب وهي تشعر أن الدنيا قد تغيرت من حولها .. هل يمكن أن يكون هذا حقيقيا ؟!
هل يمكن أن تكون التهمة الملصقة بها .. تهمة الست الفقرية اللي مبتجبش غير البنات كذبا وبهتانا وافتراء ؟!
هل يمكن أن يكون زوجها ، زوجها وليس هي السبب في خلفة البنات .. هل يمكن أن تكون بريئة ؟!
بريئة يا ربي ومظلومة ومضطهدة لأجل شيء لا يد لها فيه .. شيء لا تملك فيه تصرفا في الحقيقة !
ما أحلي العلم وما أجمل الدق علي أبوابه .. دقي علي باب العلم أيتها المرأة فقد تجدين خلفه خيرا كثيرا .. ودقي علي باب الله فهو مفتوح للناس دائما ولا يغلق دون عبد أبدا !
...
في البيت كانت الحماة تنتظر كصقر متحفز فقد أتاها اليوم خبر عروس جديدة مناسبة لولدها تماما .. والأجمل في الموضوع أنها وكما طلب ابنها تماما .. بيضاء من غير سوء !
فتاة حاصلة علي دبلوم صنايع تعمل في مدرسة خاصة .. بلغت من العمر تسع وعشرون عاما وتبحث عن عريس .. ومستعدة أن تتزوج حتى بخروف العيد نفسه ليس رغبة في الزواج فحسب بل هربا من أخوتها وزوجاتهم الذي أحالوا نهارها إلي ليل .. كانت " ثومة " فتاة عانس لطيفة محبوبة في وسط زملائها ترك لها أبوها ميراثا صغيرا عبارة عن نصيبها الشرعي في بيت أبيها الكبير الذي يطل علي ناصيتين ..
بيت كبير مبني بناء حديث ( بالمسلح ) كما تثرثر النسوة ذوات العيون المدورة وهن يستعرضن واجهتي البيت الهائلتين في الرايحة والجاية .. كان صاحب البيت وبانيه رحمه الله له من الأبناء ثلاثة صبية ومن البنات اثنتان .. تزوج اثنين من أبنائه الذكور في حياة عينه وكذلك تزوجت احدي الفتاتين .. وبعد وفاته بسنة تزوج الولد الثالث وهكذا لم يبق في البيت أحد غير متزوج سوي ابنته " ثومة " .. كان ترتيبها هو الثاني وسط الخمسة أبناء والأول في البنات .. بلغت الخامسة والعشرين دون أن يتقدم لها عريس ، فوافق أخوتها أخيرا علي أن تعمل مدرسة اقتصاد منزلي في مدرسة خاصة كان يملكها رجل ثري علي علاقة معرفة وقرابة بعيدة بهم .. لم يكن أولاد الحاج " عطا " يريدون أن يتركوا أختهم تعمل قبل ذلك لكن  زوجاتهم أقنعوهم بتركها تفعل من أجل :
" خليها تجيب مصاريف أيدها وتحل عن كتافكم شوية ! "
كان هذا هو السبب الأساسي في رغبة الفتاة المشارفة علي الثلاثينيات في الخروج للعمل ..  بالإضافة إلي أنها ترغب في تسلية نفسها وعمل شيء مفيد بدلا من قعودها في البيت طوال الليل والنهار تشاهد التلفاز وتنغمس في مناكفات سخيفة مع زوجات أخوتها ذوات العقول الفارغة .. أعترض الأخ الأكبر كده وكده ، لكنه كان راضيا تماما في أعماقه ، أما " ثومة " نفسها فقد أصبحت خلال أيام قليلة في منتهي السعادة .. مارست العمل وخرجت من سجن البيت .. وهناك ، في المدرسة ، اختلطت بالمدرسات الأخريات والمدرسون ، تعاملت مع الطلاب ، تسلمت حجرة التدبير المنزلي وأصبحت مسئولة عن البوتاجاز والثلاجة ودواليب الخزين الصغيرة ، والمهمات الغذائية التي تتسلمها بشكل دوري لتعمل عليها وتعلم الفتيات الصغيرات كيفية صنع الكفتة والبسبوسة وتجفيف التين والبلح وحفظ البامية والجزر .. أدركت أن العالم المحيط بها أكبر كثيرا مما كانت تتخيل ، وأنه ليس مصنوع من جدران أربعة فقط ، بل إن فيه مئات وألوف الجدران ، خبت حدة حسرتها علي نفسها تدريجيا وأدركت أن هناك أشياء تصلح لأن يعيش الإنسان من أجلها عدا الزواج والإنجاب وتربية الأطفال .. هذه الأشياء الأخرى موجودة وحتى وإن كانت لا تغني تماما عن تكوين أسرة وفرحة أن تكون عروسا وأما ، فإنها كافية تماما لتكون سلوى وشفاء لجرح وربما بلسما ملطفا لمرارة حياة الوحدة التي تنتظرها غالبا .. لم تكن " ثومة " إذن ممن دخلوا سوق العمل ليكسبوا ويربحوا بل ممن دخلوه ليشفوا جراحهم ويخففوا آلامهم !
ولذلك بقيت هنا بينما أخذ معظم من حولها يرحلون ..  أخذ معظم المدرسون بتلك المدرسة التي تدفع رواتب أقل كثيرا مما تدفعه مدارس خاصة أخري ، وحتى أقل من رواتب المدارس الحكومية ذاتها ، يتسربون بحثا عن فرصة أفضل .. تسربت المعلمات النساء واحدة وراء الأخرى منسحبات لاهثات خلف العقود المميزة في التربية والتعليم ولحق بهن غير قليل من المدرسون .. في حين بقيت " ثومة " وحدها تقريبا موجودة وسط هيئة تدريس تتغير وجوهها ويعاد تشكيلها من جديد كل عام تقريبا .. وذلك لأنها كانت تبغي الراحة والسلوى لا الربح والراتب !
لكن نسوة أخوتها لم يتركنها في حالها .. كان مدار الخلاف هو البيت الذي يقطنونه جميعا .. فالأب مات دون أن يوصي بوصية أو يورث شيئا مقسوما لأحد ، تاركا أمر تقسيم الميراث ، الذي لا يتعدي البيت ذو المساحة الكبيرة والبناء الممتاز ، ليكون تقسيما شرعيا بين أبنائه الخمسة .. لكن نساء الأخوة كانوا يرون رأيا آخر !
زوجة الأخ الكبير الحرباء هي التي بدأت المشكلة ذات صباح .. كان صبيحة يوم جمعة وكلهم مجتمعون حول مائدة الإفطار التي يزينها طبق كبير من الفول بالسمن البلدي وطرشي وبصل أخضر وخبز ساخن شري لتوه من المخبز .. كانت المرأة الأريبة تسر في نفسها شيئا وتجهز المسرح للقيام بنمرتها التي تستحق عليها كل تشجيع وتصفيق لموهبتها العظيمة .. بينما كانوا مشغولين في المضغ وحش البصل هتفت " هناء " زوجة الأخ الأكبر :
" إلا متعرفوش اللي حصل عند بيت أبو الهدر إمبارح ؟! "
لا طبعا لم يكونوا يعرفون ما حصل عند الإخوة المذكورين مساهم الله بالخير أمس .. هذا إن كان هناك شيء قد حدث عندهم بالفعل ! "
" أيه يا أم " أحمد " ؟! "
هتفت زوجة أخ أخري لتدفعها إلي الكلام  ، فردت بعد وقت طويل بعد أن مضغت لقمة بالراحة وعلي مهل حتى كادت تزهق أنفاسهم من فرط الفضول :
" أصلي شوفت واحد أفندي بشنطة طالع من عندهم إمبارح ! "
قصفت بقية عبارتها وركزت في المضغ .. فاستحثتها النسوة المتشوقات لدس أنوفهن في أي شيء خاصة لو كان لا يعنيهن :
" ها وبعدين ؟! "
" سألت واحدة من حريمهم قالتلي دا اسم الله واحد محامي ! "
" يا سلام ! "
سخنت المحادثة وبدأ الرجال يشاركون في الحوار الذي كان نسائيا خالصا حتى اللحظة :
" ليه هما معاهم قضية ولا أيه ؟! "
ابتلعت اللقمة التي كانت تلوكها علي مهل وشربت جرعة ماء ثم قالت :
" لا .. ده محامي كان جاي عشان يعمل العقود .. "
قطعت عبارتها ثم نظرت حولها لتستقر عينيها في النهاية علي " ثومة " التي تطعم ابنة أخيها " نهي " وترمقها بنظرة خاصة لتفهم منها أن الكلام أصلا موجه لها هي بالتحديد :
" أصل بناتهم طلعوا أصلا والله وبنات ناس من صح .. أتنازلوا لأخواتهم الرجالة عن ورثهم ! "
هنا خيم الصمت علي رؤوس الجميع .. اتجهت الأنظار كلها بطريقة ميكانيكية ناحية " ثومة " التي لم تكن تدرك أنها هي مدار الحديث وعقدته .. رفعت الفتاة رأسها بعد أن التقطت أذناها الجملة الأخيرة ونظرت إلي " هناء " المتظاهرة بالانشغال في الأكل .. كانت " ثومة " الآن مختلفة عن نفس تلك الفتاة من عام أو عامين مضوا .. كانت قد تغيرت ، نزلت الشارع وعملت وكسبت نقودا ، تعاملت مع الرجال ومع النساء ، ورأت كيف تدور الحياة وكيف يحيا الناس من حولها ، أدركت أشياء لم تكن تدركها من قبل وعرفت أشياء لم تكن تتخيل حتى وجودها في الكون منذ سنين قليلة .. أصبحت مسئولة ، وعليها واجبات ومسئوليات ، حتى وإن كانت بسيطة ومحدودة ، إلا أنها كانت قد تمرست في الدنيا ولم يعد كهن الحريم يرعبها ولا يلجم لسانها .. فورا ردت الضربة لزوجة أخيها المتحفزة كالأسد :
" لا وأنت الصادقة يا خيتي دول باعولهم .. البنات باعوا لأخواتهم وقبضوا فلوسهم جنيه ينطح جنيه .. بيع يا أم " أحمد " مش تنازل ! "
صمتت " هناء " ووقفت لقمة الفول في جانب فمها كأنها ألقمت حجرا لكنها لم تغلب علي أمرها ولم تتراجع .. ليس من الجولة الأولي علي الأقل :
" وأنت اسم الله عرفتي منين يا " ثومة " .. تكونيش كنت قاعدة معاهم وهما بيبيعوا ويشتروا ! "
كانت زوجة الأخ تسخر من أخت زوجها لكنها كانت غافلة لا تعرف معلومة مهمة جدا :
" لا يا خيتي .. بس الظاهر أنك متعرفيش أن واحدة من بناتهم شغالة معايا في المدرسة وهي اللي حكت لي ! "
أحمر وجه " هناء " لكنها أجابت فورا بلهجة تكذيب واضحة :
" مين في بناتهم ؟! "
بسرعة البرق نطحتها " ثومة " في أمعائها بالاسم المؤكد :
" بتهم صابرين اللي واخدة معهد كمبيوتر .. ما أنت عارفاها .. ولا مش واخدة بالك يا أم " أحمد " ! "
أحمر وجه " هناء " غيظا وحدفت الطوبة فورا فوق رأس " ثومة " لتجرحها عقابا لها علي إحراجها وإظهارها جاهلة غافلة أمام بقية نساء البيت الذي تعتبر نفسها كبيرة عليه :
" يمكن يا خيتي محدش عارف ! بس أصلهم كل بناتهم متجوزين يا مخطوبين وعندهم عيال وعليهم مسئوليات .. الدور والباقي علي البنات اللي قاعدة في قرابيز أخواتها زي العمل الرضي* "
أغمق لون " ثومة " وغضب أحد الأخوة لها فصرخ في زوجة أخيه :
" ما تتهدي يا ولية .. أطفحي وأنت ساكتة ! "
أعتبر زوج " هناء " صياح أخيه في وجه زوجته إهانة له خاصة أن ذلك حدث في وجوده فقال لأخيه بغضب :
" الله وأنت مالك أنت يا حاج .. دول نسوان بياخدوا ويدوا مع بعضيهم متتحشرش أنت وسطيهم ! "
صمت الأخوان فورا تجنبا لاتساع المشكلة الصغيرة وسكتت " هناء " مرغمة وما لبثت بعد أن أكلت لقمة أخري ، حتى لا تظهر أن سلفتها قد أحرقت دمها ومنعتها من استكمال إفطارها ، أن نهضت مدعية :
" هروح أعملكم الشاي ! "
أنتهي الأمر الصغير وسكنت العاصفة مؤقتا .. لكن إلي حين فقط فالحرب إذا قامت بين النساء لا تنتهي إلا بإراقة الدم !
...
انتهت المحاورة الصغيرة بلا نتائج لكن زوجة الأخ الباحثة عن مصيبة تخلصها من أخت زوجها الباقية معها في البيت أخذت تفكر في وسيلة تزيح بها " ثومة " عن البيت بأية طريقة .. فبدأت تبحث لها عن عريس !
كانت فكرة " ثومة " نفسها عن العريس مختلفة تمام الاختلاف عن فكرة زوجة أخيها .. فالفتاة تريد زوجا حقيقيا مناسبا لها سنا وتعليما وفكرا ، وأن يكون أعزب أو علي الأقل أرمل أو مطلق بلا أولاد في رقبته .. بينما كانت " هناء " وبقية نساء الأخوات يؤمنون بأن فتاة دلفت الثلاثين بقدمها مثل " ثومة " لا يجب أن تطلب أو تشترط أصلا .. ولو جاءوها بكلب معلق بسلسلة في رقبته وقالوا لها :
" هذا عريس ! "
فعليها أن تحمد الله وتشكره وتزغرد فرحا وتتحزم وترقص !
ليس لمن هن مثلها قرار ولا حق اختيار .. لذلك بدأن في محاولة إزاحتها والتخلص منها وليس تزويجها !
قالت " هناء " لبقية سلايفها بعد أن اجتمعت بهن سرا أمام الفرن فوق السطح :
" أهو نجوزها ونخلص منها ! "
ردت عليها احدي النسوة :
" طيب وهي هترضي برضه تتنازل عن نصيبها في البيت لأخواتها ! "
قطبت " هناء " وأجابت بغيظ :
" وما تتنازلش ليه .. لما تتجوز ونلاقي حد يرضي بها أخواتها هيساعدوها في جهازها وكده تبقي خدت حقها ناشف وملهاش حاجة تاني .. هي وأختها لازم يتنازلوا .. آمال أية هي سايبة ولا سايبة ! "
كانت النسوة مهتمات بموضوع تنازل " ثومة " وأختها " ميرفت " عن أنصبتهن في بيت الوالد حتى يضمن أن يؤول البيت بأكمله إلي رجالهن وبالتالي يتم تقسيمه علي ثلاثة أنصبة بدلا من أربعة .. ولم تجد إحداهن أي غضاضة أو حرمانية في طريقة التفكير تلك .. فالحقيقة أن أغلبية الناس حولهن يفكرون بنفس الطريقة .. والبعض هنا يعتبر البنت التي تطالب بنصيبها في ميراث أبيها ( قليلة الأدب متربتش ! )..
كانت " ثومة " إذن محاصرة في الركن هي وأختها .. لكن الأخت كان لها زوج يدافع عنها ، كان لها ظهر وسند وضل رجل يحميها ، أما هي فليس لها سوي أمها تقف لها وتحميها .. لكن ماذا بعد وفاة الأم ؟!
ماذا سيحدث لها بعد وفاة الأم ؟!
لم تكن الفتاة العانس تفكر في ذلك كثيرا .. بينما كانت زوجات أخوتها لا يتوقفن عن التفكير فيه والتدبير والتخطيط لإزاحتها بعيدا عن البيت !
جاء العريس الأول علي يدي " هناء " .. ذات يوم خميس وبينما كانوا مجتمعين أمام التليفزيون ، الأبناء الثلاثة وزوجاتهم وأولادهم ، أما الأم والأخت فقد تخلفتا وجلستا في غرفة الأم تتبادلن حديثا خاصا ، فتحت زوجة الكبير الموضوع .. حدثت زوجها وأخوته عن رجل من معارفها يبحث عن عروسة .. كان عريسا ولكنه لم يكن عريسا عاديا فقد كان متزوجا بالفعل من امرأتين أخريين !
واحدة طلقها بثلاثة بنات وولد منذ سنوات مضت.. والأخرى علي ذمته وله منها اثنان ، ولد وبنت ، كما أن عمره لم يكن يقل عن خمسين عاما بالراحة !
" آمال عايز يتجوز ليه بقي .. ما هو متجوز وعنده الواد والبت ؟! "
كان الأخ " السيد " الأوسط هو الذي يسأل لكن " هناء " انبرت فورا مدافعة عن العريس الذي نحل وبرها حتى عثرت عليه أخيرا :
" جري أيه يا أبو " علاء " .. لا عيب يا أخويا ولا حرام .. ده راجل مقتدر وربنا حلله بدل الواحدة أربعة ! "
ضحك " السيد " لكلام زوجة أخيه التي كان يعرف أنها من أكثر معارضي فكرة أحقية الرجل في الزواج علي امرأته وقال لها مغيظا :
" طاب والله عال إنك عارفة كده .. أهو " أبو أحمد " يروق نفسه ويشوفله عروسة صغيرة كده تهنيه وتسود بياض شعره ! "
ضحك الباقون بينما أسود وجه " هناء " وقالت وهي تضرب علي بطنها وتحرك رقبتها بحركة غريبة وكأن عنقها معلق في خيط :
" وهو ليه يعمل كده يا أخويا ؟! ناقصة حاجة .. متهني أهوه ومليت له السرير ولاد يقفوا في كتفه لما يكبروا ! "
نظر إليها " السيد " فاحصا ثم قال لها جادا :
" طيب ما هو المتعوس اللي أنت جايباه لأختي ده عنده ولاد يا أختي .. رايح يطلق دي ويتجوز دي ليه بقي ؟! "
صمتت " هناء " باحثة عن إجابة مناسبة ثم قالت باضطراب :
" أهو حقه بقي وإحنا ملناش نحاسبه ! "
هتف الأخ مغتاظا بحق :
" يبقي عينه فارغة وبتاع نسوان يا أم العريف .. ده غير أنه عجوز وتلاقيه مقشف كمان .. هنرمي أختنا إحنا مش لاقيين لها اللقمة ولا بنشحت عليها .. فضيها سيرة يا " هناء " وبطلي شغل الحريم ده ! "
تدخلت زوجة " السيد " وقالت بصوت منخفض :
" هي برضه مغلطتش يا أخويا .. دي بتدور علي مصلحة أختك وعايز تسترها ! "
ألتفت " السيد " الذي كان أقوي الأخوة شخصية ونهر زوجته قائلا :
" بس يا مهبلة * أنت .. مصلحة أيه في جوازة منيلة زي دي .. الناس تقول علينا أيه .. ولاد الحاج " عطا " مش طايقين أختهم فرموها أي رمية ! "
صمتت النسوة جميعا ولم ينطق أحد من الرجال بحرف .. أخيرا قالت " هناء " مترددة خوفا من " السيد " الذي ينظر إليها متحفزا :
" وإحنا داوشين دماغنا ليه .. ما نشوف رأي صاحبة الشأن ! "
لم يعترض " السيد " لعلمه بأن أخته سترفض دون شك .. فهز رأسه بصمت معلنا تأييده لهذا الرأي .. رفعت " هناء " عقيرتها وصاحت منادية :
" يا ثومة .. يا ثومة .. تعالي يا أختي عاوزينك في كلمتين يا بت أبويا ! "
...
خرجت " ثومة " من الغرفة وخلفها أمها .. لم تكن الأم تتركها وحدها كثيرا هذه الأيام .. وكانت تحب دائما أن تكون معها لتحميها وتدافع عنها وقت اللزوم فقد كانت تدرك بفطرتها أنه ليس هناك أضعف من فتاة وحيدة أمام الأخوة الذكور وزوجاتهم الخبيثات اللئيمات ..
جلست الأم والابنة بجوار الأخ الأوسط الذي أفسح لهما مكانا بجواره .. كانت الأم تشعر أن هناك شيئا كبيرا يريدون محادثة ابنتها فيه ، بينما " ثومة " نفسها كانت تشعر بلا مبالاة كاملة ولا تفكر سوي في البسبوسة بالقشطة التي ستعدها للبنات غدا في المدرسة ..
بدأت " هناء " الكلام بسوق الجمل والعبارات الرتيبة المملة المعروفة ( أنت كبرتي دلوقتي )  ( عايزين نفرح بيك ونشوف عيالك ) ( والبت ملهاش إلا بيت جوزها ) والكلمتين الحامضتين المحفوظتين ضمن قواعد الفلكلور !
استمعت " ثومة " للكلام بصمت بينما الأم أرتفع حاجباها دهشة وأخذت تتبادل النظر سرا مع ابنها " السيد " .. أخيرا عرضت زوجة الأخ الموقف وشرحت لحماتها وابنتها أن هناك عريس يريد الزواج من " ثومة " :
" وده شافها فين ويعرفها منين يا بتي ؟! "
سألتها الحماة فردت " هناء " علي الفور :
" لا ده ميعرفهاش يا أمي .. بس هو كان بيدور علي عروسة وولاد الحلال دلوه علي اسم النبي حارسها وصاينها ! "
ضحك " السيد " وقال ساخرا :
" كمان ؟! ده داخل يدور علي واحدة واقعة ترضي به وخلاص بقي ! "
غضبت " هناء " لتدخل شقيق زوجها الذي ينذر بفشل خطتها المحكمة وقالت بغيظ وحقد :
" ليه يا خيي .. ده راجل ملو هدومه وموظف قد الدنيا غيرش بس هو اللي ملوش حظ في النسوان العدلة .. ويمكن ربنا يعوض عليه بست البنات بتاعتنا وهي اللي تعمرله ! "
" تعمرله أكتر من كده .. ده عنده خمس عيال الله يخرب بيته ولا هو عايز يعمل فريق كورة ويدخل بيهم الدوري ؟! "
ضحكت " ثومة " لكلام أخيها فهزت " هناء " رأسها بحركة بدا أنها لا إرادية عندها وقالت مؤنبة :
" الراجل ميعبهوش حاجة يا سلفي .. وبعدين ده راجل محترم وعنده بيتين يرمح فيهم الخيل يبقي يتجوز تلاتة يتجوز عشرة هو حر ! "
ردت عليها " ثومة " أخيرا بعد أن تركتها تتقيأ كل ما لديها :
" حر علي نفسه يا حبيبتي .. أنا أيه اللي يغصبني علي كده ؟! "
ردت زوجة الأخ الأصغر " سحر " بتلميح سخيف :
" أهو مش أحسن من قعدتك يا أختي .. وبعدين يعني هو جالك اللي أحسن منه وحد وقفلك ؟! "
هنا تكلمت الأم بغضب وقالت لزوجة ابنها الحشرية :
" متتدخليش بين الأخوات يا ست " سحر " .. أنا بنتي مش بايرة ولا وقيعة عشان تاخد واحد قد أبوها وفي ديله حرمتين وخمس عيال .. هي جوازة وخلاص ولا أيه .. دي بت الحاج " عطا " يا بت " جابر " ! "
كانت الحماة تعير زوجة ابنها بأصلها الوضيع ، فلم يكن والد " سحر " سوي بائع لبن فقير معدم ولم يكن مستواه الاجتماعي يليق بتاتا بمستوي زوجها وأبيه .. سكتت " سحر " علي الفور وغص حلقها فقد كان ذكر أصلها والتلميح به يجرحها بعمق لكن " هناء " ردت عنها فورا :
" والله يا حاجة الناس كلهم ولاد تسعة .. والراجل ميبعبهوش حاجة طول ما جيبه عمران ! "
نهرها " السيد " فورا غاضبا وقد أحتد وعلا صوته :
" إحنا بقي ولاد سبعة يا بت " متولي " الحرامي ولمي نفسك علي المسا .. وروحي قولي للوقيع اللي جايبهولنا ده معندناش بنات هنجوزها ! "
وقف زوج " هناء " غاضبا وصرخ في أخيه لذكره كنية حميه المقيتة التي ذاعت وأشتهر بها " الحرامي " :
" ما تلم نفسك يا " سيد " .. ما تنساش أنها مرت أخوك وأم عياله ! "
قطعت الأم الخناقة التي على وشك أن تبدأ بصوتها الحنون المنخفض دائما قائلة :
" خلاص يا عيال أخزوا الشيطان .. "
ثم وجهت كلامها إلي " هناء " مطبطبة ولائمة في نفس الوقت :
" معلش يا بتي حقك عليا بس متنسيش إن بتي مش رمية ولا وقيعة .. دي بت محترمة ومتعلمة ومدرسة قد الدنيا .. وإحنا مش بايعينها يا أختي ولا مستغنيين عنها .. لما يبقي يجي العريس الزين اللي يناسبها محدش هيقول لا ! "
نهضت " هناء " من مكانها متوجهة نحو غرفتها .. لكن غريزتها النكدية منعتها من المغادرة إلا قبل أن تلقي عبارة أخري من كلامها الذي يحرق الدم .. مصمصت " هناء " بشفتيها ولوتهما وقالت وهي تسحب ولديها ليسيرا معها :
" لما بقي .. ربنا يحيينا ويحييكي يا حجة ! "
...
الرجل الخمسيني أبو الزوجتين والخمسة أبناء حمله الغراب وطار به .. لكن غيره أتي بدلا منه !
وكان أدهي وأمر .. فقد كان شاب ثلاثيني لا يكبر " ثومة " سوي بثلاثة أو أربعة أعوام فقط .. وكان ، بالإضافة إلي ذلك ، قريب لأمها من بعيد لكنه للأسف كان مليء بالعيوب والبلايا التي لا يصدقها عقل !
" ده صايع وعايش عالة علي أخواته .. ده غير أنه فلاتي وبصباص وبتاع نسوان وعياره فالت ! "
واضح أن الأخ المذكور عاليه قد اجتمعت فيه كل الموبقات .. لكن زوجة الأخ الحريصة علي التخلص من أخت زوجها العانس التي تعتبرها ضرة لها في البيت صرخت فيها محتجة معترضة :
" والله ما حد عياره فالت غيرك أنت .. أنت يا بت مش عايزة تتجوزي وتتستري في سنتك ولا أيه ؟! "
كانت تلك أول مرة تتجرأ فيها " هناء " علي إهانة " ثومة " وتوجيه عبارات قاسية لها في حضور أمها القوية التي لم تسكت أبدا علي هذا الكلام الذي يقال لابنتها الغالية .. صرخت في وجه زوجة ابنها :
" أنت أتهوستي* يا بت " متولي " ولا أيه .. وأنت حاشرة مناخير أمك ليه ؟! مين دي اللي عيارها فالت يا تربية الشوارع .. ده أنا بنتي ستك وست اللي جابوكي كلهم ! "
أحمرت عينا " هناء " وتنمرت مستعدة لرد العدوان لكن دخول أحد الأخوة فجأة قطع المعركة قبل أن تبدأ .. صاح غير مبال بوجود أمه :
" مالك يا مرة منك ليها ! صوتكم جايب لآخر الشارع .. أنتوا بتردحوا ولا أيه ! "
صاحت " هناء " فورا :
" ما تيجي تشوف أختك اللي محدش قادر عليها .. "
قاطعها فورا بعنف :
" اكتمي يا بت ولمي نفسك .. وطي حسك يا شرشوحة هتلموا علينا الناس ! "
صرخت ثانية فكاد يضربها وهو يصيح بوجهها مجددا :
" قلت لك وطي حسك بدل ما أسفخك* قلم أعدلك يا مقلوبة .. مالك أنت بأختي يا بت أنت يا بت ؟! ما تسيبيها في حالها .. كانت قاعدة علي حجرك هي ؟! "
قالت محاولة التحدث بصوت منخفض رغما عنها :
" مش عاجبها حد يا أخويا .. كل ما نجيب لها راجل تطلع فيه القطط الفاطسة .. ما تشوف حكاية أختك دي يا دكر بدل ما أنت بتستقوي القلب عليا ! "
كانت جملة " هناء " الأخيرة تحمل تلميحا بذيئا كريه الرائحة أشتمته الأم علي الفور .. فشحب وجهها وقالت بغضب مكبوت في صدرها حذار أن ينفجر :
" يا واطية يا بت الواطية .. بتي دي أشرف واحدة في البلد دي كلها وديلها أطهر من ديلك وديل أمك ! "
لم يكن الأخ فقد فهم معني عبارة زوجة أخيه الأخيرة لكن رد أمه الغاضب جعله يدرك ما تقصده بالضبط .. أسود وجهه غيظا وفجأة خلع فردة شبشبه وانهال عليها ضربا وهو يسبها بأقذع الألفاظ .. تعالت صرخات " هناء " مصدعة أركان البيت وملأت الشارع بأسره بينما الحماة و" ثومة " تبذلان أقصي طاقتيهما من أجل إيقاف الأخ الأصغر عن مواصلة ضربها !
...
لم يمر الأمر علي خير .. فقد غضبت " هناء " لما جري لها علي يد سلفها الأصغر وغضب لها زوجها .. أشتبك مع أخيه في خناقة حامية أوشكت أن تكون دامية وتبادلا الصراخ ووصل الأمر إلي التدافع والاشتباك بالأيدي .. أعتبر " حسن " أن ما حدث لزوجته إهانة له ولكرامته الرجولية بينما لم ترضي " هناء " بشيء من هذا .. أرادت أن يرجع لها حقها وأخذت تردد وهي تنشج ، وتجمع ملابسها في نفس الوقت .. دون أن يكون هناك دمعة واحدة في عينيها الوقحتين :
" أنا عايزة حقي يا " حسن " وإن مكنتش أنت راجل وعارف تحمي مرتك يبقي بيت أبويا أولي بيا ! "
في الحقيقة أن " هناء " لم تكن تفكر في مغادرة البيت أصلا فلا بيت أب لها تذهب إليه لكنها أرادت فقط تسخين الأمر حتى يتطور إلي الدرجة التي تريدها .. إنها تريد دق إسفين بين الأخوة وليس أي شيء آخر !
كانت الأم تدرك ذلك جيدا وتعرف أن زوجة ابنها العقربة تؤلب من بالبيت كلهم علي بعضهم لتكسب هي في النهاية وتكوش علي البيت بأكمله كما تحلم منذ أن خطت بقدمها داخله .. حاولت الأم تهدئة الأمور وجعلت ابنها الأصغر يقبل رأس أخيه ، حتى إنها دفعته ، باللين والحنية والتزلف ، إلي الاعتذار لزوجة أخيه نفسها رغم أنه كان يأبي ذلك بشدة .. العجيب أن " هناء " لم ترضي بعد كل هذا !
استغلت الموقف لتنتقم من " ثومة " ، التي لا ذنب لها في شيء ، وأخذت تبرطم وهي تتظاهر بجمع حاجياتها المبعثرة هنا وهناك :
" آمال أيه ؟! تاخد أيه الناس من البنات الفواجر غير المشاكل وخراب البيوت ! "
نهرها زوجها الذي لا يريد توسيع المشكلة أكثر مما هي .. وقال لها متوسلا ومعنفا في ذات الوقت :
" ما خلاص يا أم أحمد ولمي لسانك شوية .. إحنا معندناش بنات فواجر يا حاجة .. البت عندنا تاخد بالجزمة وتمشي بالجزمة ! "
ضحكت ضحكة عصبية إفعوانية وقالت له مستخفة :
" لا ما هو باين يا سبع .. كمنها شغالة ترفض ده وتزعط * ده وانتوا قاعدين مقدرينش تقولوا حاص * "
غضب مجددا وقال لها بغيظ :
" وأنت مال أهلك بيها .. ما إن شاء الله عنها ما أتربربت ولا أتجوزت .. أنت مالك أنت ؟! شاغلة دماغك بجوازها ليه بس ؟! "
اقتربت منه أخيرا ومدت يدها تملس قب جلبابه البلدي الأبيض النظيف وبنظرة خبيثة في عينيها المتسعتين الخاليتين من الدموع :
" ما هي لما تتجوز وتغور يا سبع البرومية هيخلالنا الجو إحنا .. نبصم أمك علي نصيبها في البيت وتشتري من أخواتك والبيت كله يبقي لينا ولعيالنا بعدينا .. مش عايز تخلي حاجة للزمن لعيالك ولا أيه ؟! "
سكت " حسن " ناظرا إلي زوجته بدهشة وعمق .. إنها لأول مرة تطلعه علي ما يدور في رأسها وما تغلق عليه صدرها .. نظر إليها مفكرا طويلا ثم مد يده وأمسك يدها المعلقة فوق صدره وأزاحها بعيدا برفق :
" بقي كده يا بت " متولي " الحرامي .. هو ده اللي بتخططي وتدبري ليه .. وأنا أقول مالها بثومة مالها بثومة ! أتاريكي بقي .. تصدقي إنك رمة وواطية وبتاعة وقايع فعلا زي ما بتقول الحاجة عليكي ! "
تركها أخيرا تفعل ما تشاء .. استمرت دقائق تجمع ما بقي من ثياب لها ودست الذهب الخاص بها ، وهو أهم ما كانت تحرص عليه ، في صدرها خشية أن يفتش أحد حقيبتها وهي خارجة .. انتهت من ذلك ثم فجأة غيرت رأيها .. أعادت الملابس إلي الدولاب وخبأت صندوق الذهب الصغير في درج خاص أسفل الدولاب وأغلقت عليه بمفتاح وضعته في صدرها بحرص .. جلست علي الفراش وهي تنشق لكن دون بكاء ودموع وهي تفكر في كلمات أمها لها عندما خطبها الحاج " عطا " لولده الكبير :
" دول ناس قادرين ووراهم شي وشويات يا بتي .. يا تقدري عليهم يا أمي يا يقدروا عليكي ! "
مسحت وجهها الممتقع بيديها .. ثم قررت أن تقدر هي عليهم مهما حدث !
...
خلال أيام كان موضوع العريس العاطل قد محي تماما ولم يعد أحد يفتحه أو يتحدث فيه .. حتى " هناء " بدأت تعود تدريجيا سيرتها الأولي وأخذت تحادث حماتها وسلفتها " ثومة " بطريقة عادية ، بل وحتى سلفها الأصغر الذي ضربها بالشبشب .. لكن زوجة الأخ في الحقيقة لم تكن قد نسيت أو غفرت أي شيء أو تنازلت عن خططها للسيطرة علي البيت والاستحواذ عليه .. ولم تكد تمضي أسابيع حتى كانت قد شبكت في علاقة معرفة مع " أم عبد الرحيم " حماة " نعمة " .. كان البيتين متقاربين قليلا وهناك معرفة ليست بالوثيقة تربطهما .. كانت " هناء " تتمني أن تأخذ أم " عبد الرحيم "  " ثومة " لأحد أولادها غير المتزوجين .. لكن الفتاة كانت أكبر سنا منهم كلهم !
لم تكن " ثومة " جميلة لكنها كانت مقبولة الشكل ، صبوحة الوجه ، محببة بشكل ما لكل من يراها .. وفوق ذلك كانت موظفة لها دخل كما كانت بنتا لم يسبق لها الزواج .. أليست هذه هي المواصفات التي يطلبها " عبد الرحيم "  في زوجته الثانية ؟!
...
لكن " ثومة " كبيرة في الثلاثينيات من عمرها وقد لا تنجب مطلقا أو قد تنجب بنتا أو بنتين ثم تتوقف بحكم سنها ولا تأتي بالولد ، كما أنها موظفة كذلك وقد ترفض أن تشاطر امرأة أخري في زوجها وبيتها ، خاصة لو كان لتلك المرأة أربع بنات صغيرات .. ما الذي يجبرها علي القبول بوضع كهذا ؟!
الحقيقة أن أم " عبد الرحيم "  بدأ تفكيرها يتجه اتجاها عمليا في تلك الأيام الأخيرة .. إنها تقنع ولدها أنه فلتة زمانه ، وأن من خلقه لم يخلق مثله ، وأن بنات البلد كلها يتمنين إشارة من أصبعه الصغير ..  وأنه ليس عليه إلا أن يجلس علي البساط وينقي ست البنات .. لكنها بينها وبين نفسها كانت تعرف أن كل هذا محض كذب وهراء !
فولدها ليس ( نقضة ) * ولا فرصة لأي بنت عاقلة .. فهو رجل متزوج وفي عنقه خمس نساء ، زوجة وأربع بنات ..  كما أنه مجرد تاجر وبائع بسيط علي باب الله .. ومن تتزوجه وتقبل بأن تشارك زوجته وبناته فيه يجب إما أن تكون واقعة علي آخرها وليست أمامها فرصة زواج أخري ، أو قريبة لهم يمكن الضغط علي أهلها بالعشم وعلاقات القرابة لكي يرضوا بتزويجها لولدها الذي لا شيء فيه يغري البنات ولا النساء !
ليس هذا فحسب لكن هناك نقطة أخري في غاية الأهمية .. فإذا تزوج " عبد الرحيم "  من امرأة أخري وأنجبت له ولدا أو اثنين فسيصير في رقبته سبع أو ثمانية بطون علي الأقل فمن أين يطعمها ويشبعها ومن أين يكفيها ؟!
هنا فكرت الأم في الحل الأمثل .. أن تجمع بين الحسنيين .. تختار له الفتاة الواقعة التي تريد عريسا بأي طريقة .. وفي نفس الوقت تكون موظفة لتساعده في الإنفاق وتحمل عبء الأسرة الكبيرة التي لن تلبث أن تتضخم ويكثر عددها إن شاء الله وتزدان بالولد !
ولم يكن هناك من تنطبق عليها كافة تلك الشروط وتتوافر فيها كل هذه المميزات سوي " ثومة " بنت المرحوم الحاج " عطا " .. فهي ثلاثينية عانس بلا فرصة زواج مناسبة ، وموظفة تعمل وتقبض راتبا آخر الشهر بالإضافة إلي أنها موعودة بميراث طيب ستحصل عليه من بيت أبيها حين يتم بيعه وتقسيمه .. ولابد أن هذا سيحدث في يوم ما بكل تأكيد !
لكن هل ستقبل " ثومة " بالزواج من ابنها .. هل سترضي بتلك الشركة الأبدية مع " نعمة " وبناتها الصغار ؟!
سترضي طبعا :
" هي لاقيه ؟! "
قالت لولدها حينما كان يناقشها في ذلك العرض الغريب الذي عرضته عليه .. " ثومة " بنت الحاج " عطا " ؟!
إنه لم يفكر فيها أبدا وما كان يمكن أن يفعل .. إنها ليست عروسا تسر العين !
قال لأمه ذلك فانفتحت فيه بغيظ معلنة عن رأيها بكل صراحة متجاهلة الاعتقادات الكاذبة التي تعتنقها كل الأمهات بشأن أبناءهن :
" ما تتنيل وتتهد وتبطل عنظزة * بقي .. علي أيه يا واد .. ده أنت راجل متجوز وفي رقبتك مرة وأربع مصايب .. فاكر نفسك نقضة ولا نقضة ولا عامل نفسك ولد .. ده أنت تحمد ربنا لو هي رضيت بيك .. بس هيا ترضي بك بس ! "
ذهل " عبد الرحيم "  من السيل الذي غمرته أمه به من كلام لم يسمع مثله من فمها أبدا من قبل .. كان يعتقد أنها تراه في عينيها الولد الذي لم تأتي الوالدات بمثله .. لكن ها هي ذي الحقيقة تظهر لعينيها كما ظهرت لعينيه من قبل .. إنه ليس عريسا يسر الخاطر وعليه أن يحمد الله إذا وجد من ترضي به وتقبل أن تتزوجه وتأخذه علي عيبه !
نخ أخيرا وخنخن وتساءل وقد بدأ يروض نفسه علي تقبل الفكرة :
" طيب وأنت كلمتي حد من ناسها .. في قبول يعني من يمتهم * ولا نروحوا ونتقدموا ونبهدلوا نفسنا علي الفاضي ؟! "
رفعت الأم حاجبيها الرفيعين وقالت مطمئنة :
" ودي تفوت علي أمك برضك .. روحت وشوفت ميتهم وإن شاء الله راضيين وموافقين ! "
كانت تلك معلومة جديدة غريبة علي " عبد الرحيم "  فسأل أمه بلهفة :
" كلمتي مين عندهم ؟! "
ردت فورا :
" مرت أخوها الكبير وهي قالت لجوزها وردت علي وقالتلي نتقدم علي البركة .. وإن شاء الله ربنا يقدم اللي فيه الخير ! "
 
وبينما كل هذا الكلام يدور بين الأم وابنها كانت " نعمة " تسمع كل حرف يقال وتعيه جيدا .. فقد كانت تقف أمام باب غرفة الحماة وتلصق أذنها به متسمعة لكل ما يدور بالداخل !
كانت " نعمة " قد تغيرت كثيرا بعد مولد طفلتها الرابعة !
فارقها الإحساس بالأمن والطمأنينة نهائيا .. وجدت نفسها كمن يضعونها فوق سطح ساخن فإذا صرخت لم يعجب أحدا وإن سكتت لم يعجب أيضا .. إنها الأم الموصومة رسميا بأنها ( أم البنات ) ويقال في حضورها وبلا خجل أن عنقودها ليس به سوي البنات .. وزوجها صار يُنظر إليه كبطل وضحية لبطنها التي لا تحمل ولا تضع إلا البنات .. كانت فكرة الزواج التي طرحت لأول مرة عقب ولادة البنت الثالثة " أسماء" ووئدت مؤقتا بعد تصالحها المشهود مع زوجها ، قد عادت تطفو علي السطح من جديد .. بتؤدة هذه المرة ودونما ضجيج .. لم تعد الحماة تواجهها مهددة بتزويج " عبد الرحيم "  مثلما فعلت سابقا .. تعلمت الحماة الأريبة الدرس ووعته جيدا !
إن أي خصام وتطاحن علني بينها وبين " نعمة " يهدد قلب ولدها العاشق الرخو الطري بالميل ناحية زوجته التي أخذها علي حب ، ووقوفه في صفها لتخرج هي ، الحماة ، خاسرة وتجد باب غرفة ابنها قد أغلق في وجهها ليرزق ابنها ، بعد بضع شهور ، ببنت خامسة وسادسة وهكذا .. إذن فمن الحكمة أن تفعل كل شيء في السر وتجعل الأمر محصور بينها وبين ولدها ..  تبحث له عن عروس سرا ، وتجس نبض أهلها في الخفاء ، وحين يتم المراد ويصبح كل شيء رسميا وعلي عينك يا تاجر يخبرون أم البنات بكل شيء .. حينها لا يستطع الولد التراجع ولا النكوص ولا يكون أمام زوجته إلا أن تضرب رأسها في أتخن حائط أمامها أو تشرب من البحر !
لكن أحاسيس المرأة القططية التي تشم الخطر وتستشعره وهو آت من بعيد جعلت " نعمة " تحس بكل ما يدور حولها .. شعرت أنها أصبحت عدوة وعذول في البيت وأن الجميع يناصبونها العداء دون سبب ويتمنون أن يؤذوها ويجرحوها قدر ما يستطيعون .. وجدت المرأة نفسها تتغير تغيرا غريبا في تلك الأيام !
كانت حتى اللحظة راضية خاضعة لتقاليد مجتمعها وفروضه الثقيلة وتعتبر نفسها أحسن حظا من غيرها .. لكن حين وجدت نفسها مهددة بضياع زوجها وتحطيم أسرتها وتسويد عيشها بضرة تأتي لتكايدها وتحيل حياتها وحياة بناتها الصغيرات ..  حينما وجدت نفسها يفرض عليها الشعور بالذنب والخجل من نفسها لمجرد أن رحمها لا تخرج منه سوي بنات في بنات ، حينها بدأت تتغير .. أنتابها إحساس دائم بالذعر والخوف والقلق .. أنقلب بدوره إلي ألم عميق يغزو لحمها ولا تعرف له سببا ولم يستطع طبيبها العثور علي سبب له .. ثم أنتهي الحال بها إلي أن أنقلب خوفها وألمها إلي سخط وبغض وحقد وكراهية !
سخط علي من أوردوها هذا المورد الشؤم وحكموا عليها أن تعيش أسيرة لما ينتجه رحمها ..
ألم تكن طالبة مجدة في المدرسة .. ألم تكن ذكية ومجتهدة .. أليس من الممكن لو أنهم تركوها تكمل تعليمها أن تكون الآن طبيبة ، تعرف الكرات البيضاء من الكرات السوداء وتعرف حاصل جمعهما وطرحهما .. أو مهندسة أو مدرسة أو موظفة ؟!
هل كانت ستشعر بكل هذا الفزع والقلق لو أنها متعلمة ومتزوجة بمتعلم وموظف ورزقها الله بالبنات ؟!
لا ريب أن حالها سيكون مختلفا .. لا ريب أنها لم تكن ستعاني كل هذا الجزع والألم الذي يقطع لحمها !
علي الأقل كانت ستملك دخلا خاصا تنفق منه علي نفسها وعلي بناتها لو تركها زوجها .. ولن تعاني الذل والمهانة من أجل أن تشحذ منه نقودا لتقيم أودها وأود بناتها لو أنه تركها وتزوج بأخرى لتنجب له الولد ..
تنامي السخط والغضب داخلها وتعاظم شعورها بالظلم والغدر .. حتى بدأت بوادر الانفجار !
وكانت أمها هي أول من انفجرت بوجهه .. قالت لها بالأمس وهي تجمع الفتات بعد أن أكلت البنات ونثرن بقايا الخبز في كل مكان :
" ما أهو أنا لو متعلمة وسبتوني أكمل زي بقية زمايلي واشتغلت وأتوظفت كان زماني بقبض مرتب أصرف منه علي بناتي بدل ما أفضل مذلولة له ولأمه طول العمر .. منكم لله حسبي الله ونعم الوكيل ! "
كانت تلك أول مرة تدعوا فيها " نعمة " علي أحد من أهلها في وجهه أو خلف ظهره فشعرت أمها بدهشة شديدة :
" أنت بتدعي وتتحسبني علينا يا بت .. يعني إحنا كنا نعرف أنك فقرية وخلفتك كلها بنات ! "
لم تطفر دموع من عيني " نعمة " فقد تعلمت ألا تبكي ولا تسمح لنفسها بأن تبدو ضعيفة أمام أحد حتى أمام أمها نفسها .. بل ردت عليها بقسوة وحقد :
" ما أنتوا مسبتنونيش في حالي .. لازم تطلعي وتتجوزي .. لازم تتنيلي وأديني أتربربت وأتنيلت وطلع حظي هباب .. كان علي بأيه ده كله .. ما كنتوا سبتوني أكمل علامي زي بقية خلق الله ! "
مصمصت الأم بشفتيها وقالت بلهجة غاضبة ولكن لطيفة غير مؤذية :
" كل حي بياخد نصيبه يا بتي ومين عارف يمكن ربنا يطعمك ويديكي الواد وتزيني بناتك بيه ! "
بإصرار أجابتها " نعمة " الناقمة :
" ولا واد ولا بت تاني .. خلاص أنا جسمي تعب وأتهديت ومفياش نفس أحبل ولا أولد تاني .. بلا هم .. لو عايز الواد يبقي يولده هو ولا يجيب اللي تولدهوله .. أنا خلاص كده جبت آخري قطيعة تقطع الولاد علي البنات علي الخلفة علي اللي عايزينها ! "
تعجبت الأم من تغير حال ابنتها وتغير حتى لهجتها وطريقتها المعهودة في الكلام .. فقالت لها راغبة في تطمينها وتهدئة مخاوفها :
" إن شاء الله بعدين كده بعد سنة ولا أتنين لما تكبري " أسماء " وتفطميها يبقي ربنا يديكي وتحليهم بالواد .. أنا حاسة إنك إن شاء الله إذا ربنا أراد هتجيبي الواد وتفرحي بيه وتفرحينا كلنا معاكي .. بس أنت متحرقيش في دمك عشان البت مترضعش لبن الحزن منك وتطلع عصبية وتتعبك ! "
لم ترد " نعمة " علي أمها .. لأن خاطرها كان منصرفا الآن لفكرة غريبة طرأت علي ذهنها .. فكرة فيها طوق نجاة ، وربما حياة أخري لها .. لكن هل تستطيع تنفيذها .. هل تملك الجرأة الكافية والعزيمة للإقدام عليها ؟!
تلاشي " عبد الرحيم "  وعروسه المنتظرة والحمل والولادة والولد وحتى بناتها من ذهنها للحظة .. والفكرة الجديدة السعيدة تتقدم لتحل محل كل ما سبق وتمحو ذكراهم مؤقتا .. آه لو أنها كانت تملك الجرأة الكافية ؟!
...
شعرت " ثومة " بشيء يدور حولها لكنها لم تستطيع أن تفهم ماذا يكون بالضبط .. وجدت محادثات مغلقة تحدث بعيدا عنها بين أخوتها وأمها ، أو بين أمها وزوجات أخوتها ، ولا يدعوها أحد للاشتراك فيها ، بل يبدون أنهم لا يريدون لها أن تسمعها ، لأنهم كانوا يبادرون بقص أحاديثهم وقطعها فور ظهورها أمامهم .. كانوا يغيرون مجري الحديث فورا ويطرقون موضوعا آخر لكنهم كانوا يفعلون ذلك بفجاجة وبطريقة غير محترفة تجعلها تدرك فورا أن الحديث المقطوع يخصها هي بالتحديد :
" هو فيه أيه ؟! "
كانت تسأل أمها كثيرا حينما تنفرد بها لكن الأم ترد عليها فورا بطيبتها المعهودة :
" ولا حاجة يا أمي .. سلامتك يا بتي ! "
لكن بعد بضع أسابيع بدأت الحقيقة تظهر للعيان تماما حتى دون أن تبذل جهدا في البحث والتنقيب عنها .. إنها يريدون تزويجها من " عبد الرحيم "  المتزوج فعلا وأبو الأربع بنات !
فتحت معها أمها الموضوع أولا .. أخذتها في غرفتها وسردت علي مسامعها محاضرة طويلة مملة امتلأت بالأكليشيهات المحفوظة حول البنت التي ليس لها سوي بيت زوجها ، والأخوة الذين لا أمان لهم ، وزوجات الأخوة اللائي يمكن أن يتحكمن فيها ويذللنها بعد وفاة أمها ..  وكيف أنها تتمني أن تفرح بها وتضع ولدها علي حجرها قبل أن تموت ، واختتمت الأم فورة الحكم المعلبة بالرجل الذي لا يعيبه شيء .. فأدركت الفتاة علي الفور أن ثمة عريس في الأفق .. عريس معيوب طبعا طالما أن الأم أكدت علي أن الرجل لا يعيبه شيء !
وهنا أفصحت لها الأم عن أن الست " أم عبد الرحيم " جاءتها وحدثتها عن رغبة ابنها في الزواج من " اسم النبي حارسها وصاينها " .. طبعا كان من الواضح تماما من تكون " اسم النبي حارسها وصاينها " هذه .. لكن السؤال هو عن أي ابن لأم " عبد الرحيم "  تتحدث أمها ؟!
ردت الأم فورا :
" الواد الكبير .. " عبد الرحيم "  ! "
أرتفع حاجبا " ثومة " بدهشة حقيقية وهتفت غير مصدقة :
" جوز " نعمة " أبو البنات ؟! "
زمت الأم شفتها للحظة وأخذت تفكر باحثة عن أفضل كلام يمكن أن يقال يلطف الجو ويغري ابنتها بالموافقة علي هذه الزيجة التي لا تسر العين ولا الخاطر :
" يا بتي الراجل ربنا حلله أربع نسوان .. وهو مسكين وغلبان وطيب والله وملوش نصيب في العدل .. أتجوز وربنا ما رزقهوش بالواد اللي يفتح عينه * ويوقف في ضهره .. والراجل مغلطش لما قال يا جواز تاني ده حقه وشرع ربنا ولا عيب ولا حرام .. وإحنا ناس نعرف الأصول ومنقولش علي الحلال عيب ولا حرام ! "
غضبت " ثومة " وقالت لأمها ساخطة :
" مسكين وغلبان أيه ؟! هو جاي يشحت .. أنا أيه اللي يغصبني علي كده .. راجل متجوز وفي رقبته أربع بنات .. مالي أنا ربنا رزقه بالواد ولا ما رزقهوش .. كنت شغالة في الشئون الاجتماعية أنا ولا مطيباتية له وللي خلفوه .. ما يتحرق في داهية ! "
طبعا كان من الواضح أن البنت الثلاثينية لن تقبل بهذا العريس المعلق في رقبته أسرة كاملة بسهولة .. كانت الفتاة تحرن كما تحرن سمكة معلقة من طرف سنارة ولابد من معالجتها بحكمة وصبر قبل إقناعها بالرضوخ لهذا النصيب الزفت .. لذلك طلبت الأم أن تتولي هي فتح الموضوع مع ابنتها لأنها ستعالجها بالحكمة وستأخذها بالحكمة واللين حتى يهديها الله وتقبل بالأمر :
" طيب بالهداوة بس يا بتي .. الكلام أخد وعطا وإحنا مع بعضينا أهوه . محدش هيطير ويسيب التاني ولا حد هيغصبك علي حاجة يا ضنا أمك .. خلينا كده نحكي زي الأصحاب مع بعض وبالراحة ! "
لكن " ثومة " لم تكن مستعدة لسماع حرف واحد آخر بشأن الأخ " عبد الرحيم "  :
" ولا بالهداوة ولا بتاع .. أنا مش هتجوز الراجل ده يعني مش هتجوزه .. يعني أنت توقفي جنبي في حكاية الراجل قريب الست " هناء " وتقولي مش مستغنية عنها ومش بايعينها .. ودلوقتي جاية تجيبيلي اللي اسخم منه ؟! "
بالفعل كان هذا تناقضا صارخا في مواقف الأم يثير الحيرة .. لكن الأم كانت واضحة مع نفسها ..
( اللي ميرضاش بالخوخ يرضي بشرابه ، واللي منرضاش بيه النهاردة مش هنلاقيه بكره ! )
" يا بتي يا حبيبتي .. العمر بيجري يا أمي والأيام بتعدي .. وأنت معتديش صغيرة .. شوفي أختك اللي أصغر منك عندها كام عيل وقاعدة متسترة في حما راجل .. أنا لو مت هسيبك لمين .. هتتحامي في مين ؟! "
كان هذا هو خوف الأم الأكبر ، وهو الذي حملها علي التراجع عن مواقفها القديمة والتنازل عن مطالبها في عريس ابنتها المتبقية .. إنها تخشي أن تتعرض للذل والمهانة علي أيدي أخوتها وزوجاتهم بعد وفاتها هي ولا تجد نصيرا ولا حاميا يدافع عنها !
" هتحامي في نفسي يا أما .. وربنا يخليلي أخواتي مش قاسيين ولا عفشين  زي أخوات تانية .. وبعدين لو جالي الراجل الزين المناسب مش هقول لأ ! "
" يا بتي يا حبيبتي .. محدش بينفع حد الأيام السودة دي .. لا أخوكي ولا أختك هينفعوكي .. الواحدة بعد أبوها وأمها ملهاش غير جوزها وعيلها .. طاب هو كان جه الراجل المناسب وحد قال لأ .. ما هو علي أيدك كل اللي بيجي يا عجوز وعيان ، يا صايع ، يا متجوز .. يبقي نعمل أيه أحنا بقي ؟! "
نهضت " ثومة " التي سئمت هذه المناقشة العقيمة .. فاهتز الفراش الذي كانت تجلس بجوار أمها فوقه وسقطت فردة من قرطها الذي كان مفتوحا فتناولتها ووضعتها في أذنها .. راقبتها أمها بقلق وهي تفعل ذلك .. تكلمت الفتاة أخيرا بغيظ وقالت منهية الأمر :
" يبقي بلاش منه يا أم " حسن " .. قعدة الخزانة ولا جيزة الندامة .. أروح أتجوزلي واحد متجوز وعنده كوم لحم في رقبته وأتبلي لي بعيل ولا عيلين منه وفي الآخر تحلا القديمة في عينه ويرميني .. علي أيه ؟! ما أديني قاعدة في بيت أبويا كافية خيري شري .. ولا أنتوا عايزين تزقوني وتخلصوا مني ولا اللقمة اللي باكلها تقيلة عليكم ! "
أربد وجه الأم حين نطقت ابنتها بالكلمات الأخيرة .. شعرت بشيء يضربها في قلبها فقالت فورا مدافعة عن نفسها وعن أولادها ضد هذه التهمة الخطيرة :
" لا حول ولا قوة إلا بالله .. بقي إحنا يا بت مستتقليين اللقمة اللي بتاكليها .. عيب عليكي ده أنت أبوكي سايبالك فلوس مسبهاش لحد غير ليكي .. قال قرشها ينفعها لو مجالهاش ابن الحلال .. وأخواتك بيعزوكي ويحبوكي .. ليه بس كده يا أمي .. ده إحنا خايفين علي مصلحتك وعايزينك تتهني وتفرحي زي الشباب .. هو حد له حاجة عندك يا بت .. ده أنت قاعدة في ملك أبوكي يا بت مش قاعدة في ملك حد ! "
ردت عليها " ثومة " فورا بغيظ وبصوت أرتفع فجأة من فرط ما بها من كرب وألم :
" ما تقولي لنفسك يا حجة .. وده عريس برضه يتهنوا بيه .. ده عامل زي المحش * ميتباعش غير بعد السوق ما يتفض .. بلا هم بقي ! "
تركت " ثومة " حجرة أمها غير ملقية بالا لنداءات أمها المتكررة عليها .. تركتها وذهبت .. لكن في نفس اليوم عصرا ، ودون أن تكون أرملة الحاج " عطا " قد حسمت الأمر مع ابنتها ، أتت الدلعدي " أم عبد الرحيم" لتسمع الرد علي طلبها !
مع أنه كان من الخير لها ، في الحقيقة ، لو أنها لم تأتي مطلقا !
...
لم تقبل " ثومة " بفكرة الزواج من رجل متزوج بالفعل وله من البنات أربعة .. انتهت مناقشتها مع أمها مفتوحة دون حسم لكنها أبت أن تعطيها الفرصة لمزيد من الحوار والكلام .. لا يعني لا !
هكذا قالتها في وجه أمها وفي وجوههم جميعا حينما اجتمعوا عليها يحاولون إقناعها بالعدول عن رأيها وقبول هذه الزيجة .. فشلوا كلهم في الضغط عليها لشدة تمسكها برأيها من ناحية ولمؤازرة أخاها " السيد " الذي ساندها أمام بقية الأخوة وأمام الأم بقوة .. قال لهم غاضبا :
" جري أيه يا عم الحاج منك له .. هي بتنا وقيعة ولا بايرة ولا مش لاقين لها اللقمة ولا أيه ؟! "
رد عليه أخاه الأكبر بعنف ، فقد سئم هذه البنت العنيدة وأوشك أن يكرهها قائلا :
" ليه يا عم .. ده جواز علي سنة الله ورسوله .. إحنا هنرميها في الشارع ولا أيه ؟! "
أجابه " السيد " بحنق :
" لا يا أخويا هترموها لراجل متجوز وعنده عيال .. وعايز بهيمة تخلف له الواد .. فرضنا ما جابتلوش الزفت الواد هيرميها ويتجوز عليها التالتة ؟! وعلي أيه ده كله .. ده مقشف وجعان هو نقضة ولا لقطة قوي ؟! "
كان اعتراض " السيد " وجيها خاصة لأن " عبد الرحيم "  وأسرته يعتبرون فعلا أقل في المستوي المادي والاجتماعي من عائلة الحاج " عطا " لكن الأخ الأصغر تدخل قائلا :
" يا عم وهو جيه غيره وقولنا لأ .. ما أنت شايف أهوه بعنيك ! هو ده اللي موجود نمسك فيه ولا نتعنطز ونتمنظر لما البت تعنس وتبور وتبقي زي البضاعة اللي بتنش مش لاقيه حد يشتريها ! "
غضبت الأم لتشبيه ابنتها بالبضاعة البائرة .. بينما أغمضت " هناء " عينيها وفتحتهما بخبث وهتفت كحية تنفث سمها :
" والله عندك حق يا أبو أحمد .. البت من دول تعمل نفسها بت أبو علي وتمد رجليها * ولما يسيبوها تقول يا ريت اللي جرا ما كان .. ربنا يهديها علي نفسها ! "
زعق فيها " السيد " غاضبا :
" بس يا حرباية  يا سوسة محدش طلب رأيك يا بت .. متتدخليش بين الخوات ! "
كان " السيد " متحفزا دائما ضد زوجة أخيه الأكبر وعلي استعداد دائم للدخول فيها شمال في أية لحظة تتجرأ فيها علي حشر انفها في شئونه أو شئون أخته :
" جرا أيه يا " سيد " .. هو اللي يقول كلمة الحق في البيت ده يبقي جربة ؟! "
كانت " هناء " تعاتبه بلهجة أنثوية خبيثة من أجل استدرار رجولة زوجها ليتدخل دفاعا عنها .. لكن الأخير كان منصرفا تماما عن تلك الصغائر ومهتما بمشكلة " ثومة " وعقدتها التي لا تريد أن تنفك :
" ما تنخرسوا شوية خلينا نعرف نميل دماغ البت أم دماغ ناشفة دي .. تعالي يا ثومة ! "
كانت الفتاة قد عادت من المدرسة ودلفت إلي المنزل ورأوها وهي تمر هاربة إلي غرفتها .. لكنهم أمسكوا بها في نقطة محايدة وجروها جرا ليصدعوا رأسها ب" عبد الرحيم "  وأمه والذي منه :
" تعالي يا أختي تعالي .. تعالي هنا أقعدي جنبي ربنا يهديكي يا رب ! "
كان الأخ الكبير يتبع نظام الحنان والطبطبة مع أخته علها تلين وتسمع الكلام وتتزوج العريس ، الذي ليس هناك غيره ، حتى تنزاح بعيدا عنه وعن البيت .. فخوفه الأكبر أن تموت أمه وتترك له فتاة عانسا تقعد في قرابيزه كعقب الحزون * :
" تعالي يا ست البنات .. أقعدي هنا جار* أخوكي الكبير ! "
مرغمة جلست " ثومة " بجوار أخيها الأكبر الذي وضع علي وجهه قناعا من الحنان والرقة غريب عليه وعلي طبعه تماما .. جلست طاعة لرجاء أمها الحار .. لكنها كانت عازمة علي ألا تدع أحدا مهما يكن يستدرجها ويجر رجلها لتلك الزيجة المهببة التي تعلم أنها لن تجلب عليها سوي النقار والمشاكل الدائمة والتعاسة بقية عمرها !
...
حدثت مجادلة ومحادثة ساخنة ما لبثت أن انتهت بمشاجرة .. فعلوا كل ما يقدرون عليه .. الأم والولدين ، الأكبر والأصغر ، وزوجات الثلاثة أخوة لكنهم فشلوا فشلا ذريعا واضحا في إقناع " ثومة " أو إجبارها علي الرضوخ لرأيهم .. ساعدها تأييد أخيها الأوسط لها وشجعتها تجربة مريرة حدثت قريبا أمام عينيها علي أن تكون أصلب وأقوي عودا أمامهم .. لن تكرر تجربة زميلتها " إيمان " التي تعمل معها في نفس المدرسة أبدا ولن تسمح لهم أن يفعلوا بها كما فُعل ب" إيمان " المسكينة .. التي تزوجت رجلا متزوجا وله أطفال خوفا من العنوسة وسماعا لزن الأهل عليها ، وأنتهي الحال بها مطلقة بطفلين ومنهارة نفسيا وروحيا ومحطمة معنويا !
لن تكرر تلك التجربة .. وقفت أمامهم وحكت لهم عما حدث لزميلتها وأكدت أنها لن ترمي نفسها في النار التي ، ألقت غيرها نفسها  فيها ، من أجل سواد عيونهم .. بل إنها ذهبت إلي أبعد من ذلك وعرضت عليهم أن تتولي الإنفاق كاملا علي نفسها وألا تأكل لقمة واحدة من طعام البيت بل وهددتهم بتنفيذ ذلك إن هم واصلوا الضغط عليها ومحاولة سحرها بالزن المتواصل علي أذنيها !
حزنت أمها لذلك الكلام الذي كان يؤلمها بحق ، ونهرها أخواها لتفوهها بتلك العبارات التي تعتبر انتقاصا من رجولتهم وكرامتهم .. مصمصت النساء بشفاههن وتظاهرن بالخوف علي صالحها لكن رغبتهن في دفعها إلي أية زيجة ليتخلصن منها كانت واضحة جلية وفشلن هن في إخفاءه .. أخيرا انتهت الليلة بتسليم أخوتها لها وتركها لحال سبيلها داعين لها بالندم والحسرة قريبا !
تركتهم مجتمعين وذهبت لتغير ثيابها وتغسل وجهها من غبار المعركة الحامية التي خاضتها لتوها .. المعركة التي خرجت فيها منتصرة لحسن الحظ بعد أن تعلمت أنه لا سلاح في مواجهة الدنيا أو في خوض معاركها أمضي من سلاح الصمود والإصرار ..
ولم تكد الجلسة العائلية تنفض حتى كانت " أم عبد الرحيم " تدق الباب .. استقبلتها أم " ثومة " في الصالة السفلية وقدمت لها شايا بنعناع وأخذت تلف وتدور حول الموضوع مكررة علي أسماعها سلسلة من عبارات النصيب والحظ والمكتوب والأيام التي تغيرت ، وبنات هذه الأيام اللائي لم يعدن مثل بنات زمان .. سرعان ما فهمت المرأة أن طلبهم مرفوض فأحمر وجهها وسخن غضبا .. دفعت كوب الشاي بعيدا بحركة المقصود منها رد ضيافتهم لها وهتفت متعجبة :
" والله يا أختي إحنا كنا شاريين نسبكم وعايزين القرب منكم أكتر .. لكن طالما البنات بقي هي اللي كلامها ماشي يبقي ملوش عازة الكلام مع الرجالة ! "
كانت المرأة الماكرة تنتقص من قدر رجولة أبناء المرحوم وتقصد إظهارهم بمظهر الرجال الخانعين ، غير القادرين علي فرض إرادتهم علي أختهم وإجبارها علي الزواج من ابنها المحروس !
قطبت الحاجة حاجبيها وتكونت عقدة صغيرة في منتصف جبهتها وقالت مؤنبة بذوق :
" والله كل شي نصيب يا بت أبويا .. وأنتوا محدش أداكم كلمة ده كان سمك في ميه وملكمش نصيب فيه .. نعملوا أيه إحنا بقي وبصراحة ولدك ميعتبرش عريس أصلا .. ده صاحب مرة وعيال يا بت عمي وبتي بيضا ومسبقلهاش جواز ولا فرحت زي البنتة .. هنغصبوها أول ما تدخل تدخل علي مرة وعيال ؟! شوفيله واحدة من وئمه مش بت بنوت ! "
أبيض وجه " أم عبد الرحيم " وانفرجت أساريرها قائلة بسخرية دفينة :
" أهو بقي .. خليها قاعدة لما يجيلها الأبيض اللي زيها .. موت يا حمار لما يجيلك العليق ! "
ردت عليها أم العروس بغضب :
" ملوش عازة الكلام ده يا بت عمي .. أنت في بيتي ومش هينفع أرد عليكي .. خلينا حبايب أحسن زي ما كنا طول عمرنا ! "
نهضت " أم حمدي " دون أن ترد وتلفعت جيدا ببردتها * السوداء وغطت رأسها وخرجت وهي تردد غير مهتمة بما إذا كانت حرم المرحوم تسمعها أم لا :
" ولا حبايب بقي ولا حبايب الناس .. ما هي المحبة بانت أهي ! "
وهي خارجة كادت تصطدم ب" ثومة " التي كانت تشتري شيئا من الصيدلية القريبة .. فنظرت إليها باسمة متأملة وجهها غير الجميل وقالت بسخرية :
" أزيك يا عروسة أياكش تكوني بخير يا بت أختي ! "
لمحت " ثومة " نظرة السخرية مستقرة في أعماق عيني عدوتها فردت عليها فورا بلهجة مراوغة :
" إن شاء الله تسلمي يا مرت عمي .. ما أنت قاعدة شوية مونسانا .. دا أمي بتحبك وتحب قعدتك والله ! "
رفعت الأخرى حاجبها ومصمصت بشفتيها فواصلت " ثومة " فورا لتقطع عليها أية فرصة لفتح الموضوع ثانية :
" وأزي عيالك كده .. وأزي سي " عبد الرحيم "  ومرته وبناته ؟ والله ولا ليكي علي يمين يا مرت عمي " نعمة " دي زي أختي بالظبط ولا تستاهلش اللي بيجرا فيها ده أبدا ! "
نهرتها الأم بلطف لتسكتها :
" ثومة ! "
لكن " أم عبد الرحيم " أجابت فورا بغل :
" أيه بقي اللي بيجرا فيها يا بت الرجالة .. ده نصيب واحدة ملهاش في خلفة الولاد يبقي نجيب الأحسن منها .. ولا المسكين يقعد طول عمره كده من غير واد يقله يا أبايا* ؟! "
ضحكت " ثومة " وقالت لها مستهزئة :
" وهما البنات مش بيقولوله يا أبايا .. ربنا يرزقه من عنده يا مرت عمي ! "
نظرت إليها الحماة بغيظ شديد لكنها زمت شفتيها وذهبت غاضبة .. أنتهي الأمر عند هذا الحد !
وبدأت اللفة الجديدة بحثا عن عروس يرضي " عبد الرحيم "  الشملول بها .. أو ترضي هي به علي الأصح !
...
في مساء نفس اليوم كانت " نعمة " في غرفتها .. تركت البنات مع أمها بالخارج ودخلت غرفتها وأغلقت الباب علي نفسها .. اعتقدت الأم أن بنتها تريد أن تنال قسطا من الراحة ، فهي تعرف أن البنات ، خاصة الصغيرتين " أسماء" و " أسماء " ، لا يعطونها فرصة للراحة ليلا ونهارا .. لكن لو أقترب أي شخص من باب الغرفة المغلقة وألصق أذنه به لكانت ستلتقط علي الفور حديث هامس حذر يدور في الغرفة .. ولأدرك أن " نعمة " ليست نائمة بل هي مستيقظة تفعل شيئا لا تريد لأحد غيرها أن يسمعه أو يعرفه !
وفي الحقيقة أن " نعمة " كانت تفعل شيئا سريا حقا .. كانت تتحدث في الهاتف المحمول !
فقد أهداها أخيها الذي يعمل مدرسا بالكويت هاتفا نقالا حديث الطراز مزود بكاميرتين وكافة الأجهزة الإضافية .. لكن لم تكن الكاميرات ولا الإضافات هي المهمة .. بالطبع لم يكن وجود هاتف محمول مع زوجة الابن أمرا غريبا أو مستهجنا فالكل هنا يعرفون بأمر الهاتف ويسمعونها تتحدث فيها علنا  .. لكن " نعمة " لم تكن تريدهم أن يسمعوا هذه المحادثة بالذات !
علي الناحية الأخرى كانت زميلة قديمة ل" نعمة " .. زميلة أنهت تعليمها مثل سائر الناس ، فلم يجبرها أحد علي الخروج من المدرسة والزواج قبل أن يطير العريس اللقطة الذي لم يخُلق قبله ولا بعده أو تأخذه البومة وتطير ..
كانت الأم الشابة تحادث صديقة لها من أيام المدرسة الثانوية .. تحرجت الآن من كلية التربية وتعمل بالتدريس .. وكان موضوع الحديث هو نفس الفكرة التي شغلت بال الزوجة منذ أيام وجعلتها لا تنتبه لموضوع " ثومة " ومحاولات الخطبة المتكررة من زوجها وحماتها .. كانت " نعمة " تفكر في استكمال تعليمها سرا !
" يعني أنا ينفع أنتسب في الثانوي وأذاكر منزلي وأروح علي الامتحانات ؟! "
صمتت الصديقة علي الناحية الأخرى ثم تساءلت بحذر :
" طيب هو جوزك هيرضي ؟! "
كانت تلك نقطة جوهرية لكن الزوجة كانت تتجاهلها عامدة فأجابت بغيظ :
" مش مهم جوزي دلوقتي .. المهم ينفع ولا مينفعش ؟! "
مسألة حياة أو موت بالنسبة ل" نعمة " التي أحست بأن أحدهم قد ألقي إليها طوق نجاة وهي تغرق عندما سمعت زميلتها القديمة تجيب مطمئنة :
" لا ينفع طبعا .. تقدمي منازل وتذاكري وتيجي علي الامتحانات ! "
تنفست أم البنات نفسا عميقا وشعرت ببرودة محببة تسري في صدرها :
" طيب والنبي يا " سناء " يا أختي شالله ربنا يباركلك ممكن تسأليلي في الموضوع ده وتشوفيلي الإجراءات ! "
كانت " سناء " خدومة وحسنة الخلق طوال عمرها .. فلم يكن من الوارد أن ترفض لصديقة قديمة طلبا خاصة لو كان طلبا صغيرا هينا كهذا :
" طبعا يا بت .. عيوني ليكي بكرة هسألك وأجبلك العقاد النافع ! "
شكرتها " نعمة " بحرارة وقالت بحذر :
" وأنا مستعدة لأي مصاريف .. لو محتاجين فلوس للتقديم والورق وخلافه أنا هبعت لك الفلوس المطلوبة مع أخويا الصغير " هشام " .. ما هو عندك في المدرسة ! "
نهرتها " سناء " بلطف مظهرة الشهامة الصعيدية التقليدية :
" عيب يا بت .. أنت بتتكلمي إزاي ! بكرة هقولك علي المفيد .. بس لازم يا " نعمة " تاخدي رأي جوزك ! "
صمتت " نعمة " مليا حين جاء ذكر زوجها الذي تعرف قطعا أنه لن يوافق علي شيء كهذا :
" هقوله طبعا بس بعد ما الموضوع يمشي ! "
بجدية قالت لها زميلتها القديمة موضحة :
" لا ما هو لازم تقوليله من الأول .. فرضنا رفض ومرضاش ؟! ممكن تقدمي وتلفي وتتعبي وبعدين يجي هو يقولك لأ هنعمل أيه ساعتها ؟! يبقي تعبنا طلع علي فاشوش ؟! لا لا اسمعي كلامي .. قوليله بس أنت الأول واتكلي علي الله ! "
مغيرة مجري الموضوع هتفت " نعمة " فورا :
" حاضر حاضر .. بس والنبي يا أختي ما تنسيني ولا تنسي موضوعي .. حاكم الحكاية دي مهمة قوي عندي يا " سناء " .. مسألة حياة أو موت ! "
ردت المدرسة ضاحكة :
" يا ساتر يا رب .. ليه يا بتي ده أنت متجوزة وعلي حجرك أربعة .. آمال لو كنتي عنستي زيي ؟! "
كانت " سناء " تمزح بالطبع ولا تقصد ما تقوله لكن " نعمة " ردت علي الفور متحسرة :
" يا أختي بلا هم .. بلا وكسة .. ده عايز يتجوز عليا ويجيبلي ضرة في قلب بيتي ! "
شعرت " سناء " بدهشة شديدة وهتفت غير مصدقة :
" نعم .. إزاي يعني ؟! ده طول عمر بيحبك وميت في العتبة يا بت .. ده حفي وراكي .. ليه بقي إن شاء الله أتجنن ولا دماغه ضربت ؟! "
بحزن مكبوت شرحت لها " نعمة " :
" عشان الواد يا أختي .. عايز الواد وأنا خلفتي كلها بنات عشان كده عايز يتجوز عليا ! "
علي الفور قالت " سناء " مشمئزة :
" أخييييييييييه .. هما لسه الناس دي زي ما هما .. بنات أيه وولاد أيه .. ما هو السبب في خلفة البنات والولاد .. أنت مش فاكره دروس الأحياء ولا أيه ؟! "
" لا يا أختي .. أنا بعد ما أتزفت أتجوزت وخلفت مبقتش فاكرة حتى اسمي .. لكن الدكتور اللي بولد عنده ربنا يباركله شرحلي الكلام ده وفهمهولي وأنا فهمته للمدعوق جوزي .. وعمل ودن من طين وودن من عجين ولا كأنه سمع حاجة .. وبرضه هو وأمه الحرباية ماشيين في موضوع الجوازة التانية دي ! "
سألتها " سناء " علي الفور :
" وأنت هتسكتي .. هتقبلي بحاجة زي دي يا بت ؟! أيه معندكيش كرامة  ولا ليكي رأي ؟! "
بلا مبالاة ردت عليها " نعمة :
" خليه يتزفت ويغور بعيد عني .. أهو يتشال حمله وحمل أمه من عليا شوية .. خليها تناقر في مرته التانية وتكفر ذنوبها .. أياكش هو بس يوافق علي موضوع العلام ده وأنا أبصم له بالعشرة وأقوله روح أتجوز يا أخويا ! "
ضحكت " سناء " فورا ضحكة مجلجلة رنت عبر الأثير وقالت مستهزئة :
" ده أنت باينك شايله منه ومعبيه .. بقولك يا " نعمة " .. "
لكن قبل أن تجد " سناء " الفرصة لتبوح لصديقتها القديمة بما تريد أن تقوله لها سمعت الزوجة الشابة صوتا يناديها بإلحاح من الخارج :
" يا " نعمة " .. يا " نعمة " .. تعالي بتك بتبكي ! "
كانت تلك الجدة ، والدة " نعمة " التي تجلس بالبنات بالخارج .. ومن خلف الباب تعالي بكاء مرتفع لطفلة صغيرة لا تعرف صبرا ولا هدوء .. سارعت " نعمة " بإنهاء المكالمة مع " سناء " علي وعد باستكمال حديثهم في أقرب فرصة .. وغادرت الغرفة وهي تردد بنفاد صبر :
" يقطع " نعمة " علي اللي خلفوا " نعمة " ! "
...
كان " عبد الرحيم "  يجلس سابحا في سحابة من الدخان الرمادي ذو الرائحة النفاذة .. لم يكن بالبيت بل في دكان أحد أصدقائه من تجار الفواكه والخضر .. كان الرجلان يشربان الجوزة ويثرثران حول البيع والشراء والكساد والغش والزبائن الثقلاء والشكك  وكل شيء يمكن لأمثالهما الثرثرة والتحدث بشأنه .. فجأة سأل المضيف الذي يجلس " عبد الرحيم "  في دكانه :
" وأنت يا أخويا معاك أيه دلوقتي ؟ "
كان الرجل يعلم مسبقا أن لرفيق مهنته أربع بنات لكنه نسي بحكم كثرة من يتعامل معهم من تجار وزملاء ، ولأن دماغه ليس دفترا ملزما بأن يسجل كل معلومة ويحفظها دون نسيان .. نفخ حمدي نفس كثيف من صدره وكأنه يفش غله وقال بحزن :
" معايا أربع بنات يا عم الحاج ! "
ضحك الرجل وصدره يقرقر وقال ساخرا :
" مش عارفين يا أخويا أيه حكاية الحريم اللي مابتجبش غير بنات اليومين دول ؟ أنا عندي المرة جابت منهم تلاتة قبل ما تجيلي المحروس " هاني " والواد " علي " .. عيقولك الناس بتخلف بنات من كتر وكل الفراخ اللي بيدوها حقن في المزارع والسمك كمان عيحقنوه في الغفاليق* دي اللي اسمها مزارع  .. أصل العلاجات دي بتخلي الحريم تجيب بنات ! "
كانت تلك المعلومة العلمية الفظيعة جديدة علي " عبد الرحيم "  الذي طرطق أذنيه وقال مصدقا مؤمنا :
" والنبي صح يا أخويا ؟! ده أنا هحرم الفروج * والسمك علي اللي عندي في البيت ! "
ضحك المضيف الذي كان يعمل فيما يبدو طبيبا في مستشفي العدس والبقوليات :
" أيوه يا راجل خليها تجيب لك الواد وتفرحك بيه .. يقطع البنات ويقطع خلفتهم .. دول هينحلوا وبرك في جهازهم .. ربنا يعينك عليهم ! "
فجأة تعالي صوت ضجة من مكان قريب .. صراخ وزعيق وموجات من السباب والسباب المتبادل والشتائم القاذعة وتبادل سب الدين والخوض في سيرة الأمهات والزوجات والبنات .. كان هناك تاجرين من تجار السوق مشتبكين في خناقة حامية فيما يبدو ، وقد أجتمع السوق كله عليهما ، نصف يحجز بين المتخاصمين ، ونصف يزيد النار اشتعالا ويسخن من أوار المعركة .. خرج " عبد الرحيم "  ورفيقه البدين فورا من دكان الأخير تاركين الجوزة تطلق الأدخنة في الهواء وذهبا ليلحقا المعركة قبل أن تنتهي وتفوتهما الفرجة المجانية والمشاريب !
كان هناك خناقة حامية بالفعل لكنها لم تكن بين تاجرين بل كانت بين تاجر طماطم وبين زبون شرس .. أشتري الزبون كمية كبيرة من الطماطم مرة واحدة من أجل إعداد طعام العشاء الخاص بفرح ابنه البكري .. أشتري قفصين لكنه عندما عاد إلي البيت وجد أغلب كمية الطماطم معطوبة وتالفة .. عاد للتاجر الذي باعه تلك البضاعة الفاسدة وأمسك بخناقه :
" بقي بتضحك علي وتدسلي * الطماطم المعفنة من تحت يا حاج " بدوي " .. عيب علي شيبتك يا راجل ده إحنا زباينك من زمان وخدنا الحاجة علي عمانا عشان فاكرينك هتصون العيش والملح ! "
غضب الحاج " بدوي " ، الذي كان من أكبر تجار الخضر بالمركز كله  وأعلاهم كعبا ، من ذلك الاتهام الخطير الذي يمكن أن يؤثر علي سمعته وسط زبائنه ويؤدي لدمار مبيعاته وتقليل رزقه الداخل .. وهتف واللعاب يتطاير من بين شدقيه المنتفخين :
" بقا أنا هبيعلكم طماطم معفصة  يا راجل يا ناقص .. تلاقيكم أنتوا بس من غشمكم رموتها في التوكتوك قوم أتهرست وأتعفصت منكم .. ما أنا عارفكم يا بيت اللبودي طول عمركم غشم ومستعفيين علي الفاضي ! "
حميت المعركة بعد تلك الاتهامات المتبادلة وحميت وتيرة النضال الثوري حتى كاد الرجلان يفتكان ببعضهما حقا .. تدخل التجار وبعض الزبائن من محبي تهدئة النفوس بينهما فزادت المعركة اشتعالا .. هدد الزبون بحمية وعصبية :
" أنت فاكرنا ساهلين ولا أيه .. ده أنا عندي سبع رجالة يقطعوك ويقطعوا اللي جابوك كلهم .. "
ألقي تهديده ثم بدأ ينفذ فعلا .. صرخ في غلام نحيل يقف خلفه أمرا :
" روح يا واد يا عبد العزيز نادي أخواتك .. قولهم يجيبوا الزقل * معاهم .. والله لدشدشه علي نافوخك في نهارك المربرب ده ! "
كان ذلك تهديدا خطيرا جدا يهدد بقلب المعركة الفردية بين زبون وتاجر إلي معركة حامية بين عائلتين .. وربما أنتهي الحال بثأر بائت بين الطرفين إن سقط في المعركة ضحايا من أي من الطرفين .. تدخل الجميع لإيقاف المعركة الآن قبل أن تتطور أكثر من ذلك وتتصاعد في عنفها .. حجز عدد كبير من الرجال بين الطرفين وباعدوا بينهما ثم بدأت محاولات التهدئة ولم الشمل وإنهاء الأمر بأقل خسائر ممكنة .. كان " عبد الرحيم "  من الذين تدخلوا لحجز الطرفين والمباعدة بينهما .. كان يسمع السباب والشتائم المتبادلة ، ويري القبضات ترتفع منذرة بالويل والثبور .. كان موجودا مع الموجودين ويحاول أن يقول كلمة طيبة يأخذ عليها ثوابا في حق هذا الطرف أو ذاك .. لكن ذهنه كان منصرفا إلي أمر آخر تماما .. إنه التهديد الذي تلقاه الحاج " بدوي " من غريمه !
لقد هدده بأولاده الذكور .. بالرجال الذين أنجبهم من صلبهم ليحموه ويمنعوه في يوم قمطرير كهذا .. تري ماذا سيكون مصيره لو أنه دخل في معركة مماثلة ، مع تاجر أو زبون ، الآن أو بعد سنوات ؟!
إلي من سيستند وبمن سيهدد الغريم ؟!
إنه عاري الظهر ومكشوف ولا ولد يسنده أو يحمي ظهره .. إنهم هنا يفتقدون لقوة القانون واحترامه وهيبته فيستبدلونها بهيبة العصا وبقوة الولد !
ملأه السخط الآن .. علي نفسه الخانعة الصابرة ، وعلي زوجته أم البنات ، وعلي من رفضنه من النسوة ، وعلي تلك الفتاة المتعجرفة التي لا تساوي مليما صدئا ابنة الحاج " عطا " .. إنه يريد الولد الآن !
يريده أكثر مما أراده طوال عمره .. سيكسر رأس " نعمة " إن اعترضت أو فكرت في ذلك .. وسيأتي بالزوجة الجديدة في غضون أسبوع .. إنها موجودة أمامه بالفعل فكيف لم يفكر فيها من قبل ؟!
مال علي مضيفه الذي عاد يعب من أنفاس الجوزة مستطيبا إياها وبدأ يحادثه في أمر مهم .. فتح له التاجر الآخر أذنيه وهز رأسه راضيا مغتبطا !

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...