التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل التاسع

 

 

عندما كان شهر إبريل يزحف مبتعدا تاركا ( مايو ) يفرش عباءته الحارة الجافة علي الأرض التي تضم فتاة صغيرة تدعي " مروة " بين جنباتها بدأت الرياح المحملة بالتراب والزوابع تضرب في كل مكان حولها .. كان هذا آخر شهر قبل الامتحان .. امتحانات المرحلة الأولي من الثانوية العامة المخيفة .. آخر شهر وآخر فرصة وآخر مهلة لتجمع أشتات نفسها وتعيد رص الطوب وتسوية الجدران في بيت عقلها الخرب المتهاوي !
كانت " مروة " قد قضت شهرين في الجحيم منذ أن أفاقت علي صفعة ( مارس ) الباردة فوق وجهها .. صفعها الشهر الثالث علي صفحة وجهها مذكرا إياها بأنها شارفت علي دخول عرين الأسد بقدميها .. رحل الثالث ليأتي الرابع ويناولها بالصفعة الثانية .. ثم أتي ( مايو ) طروبا راقصا لينهال فوق رأسها بعصاه الغليظة !
أدركت الآن أي ورطة علقت فيها وأية أيام سوداء تنتظرها .. باءت كل محاولاتها لجمع شتات نفسها وروحها بالخسران المبين والجهد الضائع المسبب للإعياء !
أصيب الطلاب والمدرسون بما يشبه الحمى حين داهمتهم هبة ( مايو ) التي بدت للجميع وكأنها مفاجأة ، وكأنهم لم يكونوا يعرفون أن ثمة شهر يحمل اسم ( مايو ) ينذرهم باقترابهم رافعا خمسة ، درأ للحسد في وجوههم .. إن قدوم ( مايو ) لا يعني سوي شيئا واحدا .. أن الامتحانات صارت علي الأبواب !
أخذت مجموعات الدروس الخصوصية تتزايد عليها الضغوط .. وكثف المدرسون حصص المراجعة وسارعوا بإنهاء الأجزاء التي لم تنتهي بعد من المنهج ، وبدأ الطلاب يكونون مجموعات مغلقة للاستذكار والمراجعة .. وأخذت البنات ينتظمن في ثنائيات أو ثلاثيات ويعكفن علي الاستذكار بجد واجتهاد ورغبة مرهقة جنونية في التحصيل والحصول علي أعلي الدرجات .. وفي بدايات شهر ( مايو ) أيضا بدأت " مروة " تعاني من أعراض غريبة !
كانت قد ألتزمت تماما بالوعد الذي بذلته ل" ماريان " المخلصة ، التي لم تألوا جهدا في متابعة البنت وموالاتها بالنصح والإرشاد ، وطمأنتها لوقوفها بجوارها .. فأخذت تتصل بها مرتين يوميا بشكل منتظم ، صباحا ومساء ، بعد أن أنقطع الطلاب عن الذهاب إلي المدرسة وخلت الفصول الدراسية من الطلبة والمدرسون جميعا .. كان مكالمات " ماريان " الهاتفية ولطفها الزائد تتنزل كلها بردا وسلاما علي قلب " مروة " .. لكن تلك الدقائق القليلة التي تقضيها البنت في رحاب من تفهمها وتقدر ما تمر به كانت تنتهي فور أن تضع السماعة تلتفت لتجد أمها أو أبيها واقفين بقربها بابتسامة واسعة وبنظرة صريحة في العيون تقول :
" يلا بقي يا ست الدكتورة .. خلينا نفرح ! "
حين ذاك كانت أعراض المغص تداهم البنت علي الفور .. لم يكن مغصا عاديا بل كانت تقلصات موجعة تهاجم معدتها وعانت أول نوباتها في ثاني ليلة من شهر مايو ذو السحنة الجافة .. كانت تذاكر دروسها حتى منتصف الليل .. بدأت باللغة العربية ووجدت نفسها في حالة مزاجية طيبة ، إلا أنها وبمجرد أن وجدت نفسها وجها لوجه أمام الرياضيات المعقدة الثقيلة حتى شعرت بحرقان وألم في فم معدتها .. لم تكن قد عانت شيئا مماثلا من قبل فلم تفهم ماذا يكون بالضبط .. نامت أخيرا تلبية لرجاء أمها لكنها ، بعد ساعة واحدة ، كانت تهب من مرقدها صارخة مولولة !
جزت علي أسنانها ووجدت نفسها غارقة في العرق الذي نبت علي جبهتها وسال علي خديها .. خبرت " مروة " المغص وانتفاض الأحشاء من قبل لكن ليس بهذه الطريقة القمعية المفاجئة .. نهضت بصعوبة من فراشها ونزلت علي السلم وهي تئن .. ذهبت إلي المطبخ وأشعلت البوتاجاز ووضعت ( كنكة ) متوسطة الحجم ملأتها حتى ثلثها بالماء .. انتظرت لحظة ثم ألقت في الماء بقبضة صغيرة من الحلبة الحصا والنعناع المجفف .. كانت تعتقد أنه مغص مرافق لعذرها النسائي الشهري وتعتقد أن مغلي الحلبة والنعناع كفيل بالقضاء عليه وتسكين آلام أحشائها القوية .. داخت واستندت إلي الحائط ، وفشلت في الاستمرار في الوقوف علي قدميها ، اللتين بدأتا في الارتعاش بسبب قوة الألم والبرودة التي تسري في أعطافها .. فألقت بنفسها علي كرسي خشبي صغير تستخدمه أمها عند تنظيف الطيور ونزع الريش عنها ، أو غسيل المواعين وهي جالسة أحيانا .. أغمضت عينيها مستسلمة لنوبة الألم الجارفة وشعرت بشبه غيبوبة لم تفق منها إلا علي صوت فوران سائل وانطفاء شعلة البوتاجاز بعد أن فارت الحلبة وطفت خارج الكنكة وأطفأت النار المشتعلة تحتها .. قامت " مروة " مرة أخري بصعوبة وبدأت تصب السائل الأصفر الرائق في كوب يحوي ملعقة سكر ، مستخدمة مصفاة لحجر بذور الحلبة وثفل النعناع عن السقوط في الكوب .. حملت كوبها الساخن ، بعد أن أطفأت النار بعناية ، وخرجت إلي الصالة الواسعة المظلمة .. ألقت بنفسها علي كنبة بلدي مغطاة بفرش من القماش الكتاني السميك ووضعت الكوب علي منضدة قصيرة بجوارها ثم ذهبت في شبه غيبوبة .. مضت تحلم وتعرق وتتألم برهة .. ثم أفاقت لتحاول شرب الحلبة التي تعلق عليها أملا في التخلص من مغصها وآلامها .. ورغم أن نفسها كانت صادفة تماما وكانت تشعر بصخرة صغيرة تتحرك سائبة في بلعومها ورغبة قوية في القيء لكنها تحاملت علي نفسها وشربت الحلبة الساخنة بالنعناع .. أنهت الكوب ووضعته جانبا فقط لتبدأ في التقيؤ علي الفور !
تحركت الصخرة وسدت حلقها للحظة ثم شعرت بشيء كتيار بارد يندفع منتزعا حشوة كانت معلقة في معدتها وأندفع القيء من فمها قبل أن تتدارك الأمر وتسرع إلي الحمام ،تاركة خلفها بقعا وخطوطا من اللونين الأخضر والبني تلطخان أرضية الصالة وأماكن متناثرة من السجادة السمكية المفروشة هناك .. أكملت " مروة " إفراغ معدتها وشعرت  بدوار قوي جدا وأحست بأنها ستسقط من فرط الوهن والضعف والدوخة .. تحاملت علي نفسها وخرجت إلي الصالة !
كان القيء ، فيما يبدو ، مفيدا لها وقد بدأت تحس بأنها أحسن حالا قليلا .. خفت درجة الألم وبدأت معدتها تتوقف عن التقلص والانتفاض .. ألقت بنفسها مرة أخري علي الكنبة في نفس اللحظة التي كانت أمها تقترب منها !
استيقظت الأم شاعرة بأن شيئا ألم بابنتها وقد صدقها قلبها .. فزعت لمنظر القيء علي السجادة والأرضية وأفزعها أكثر منظر ابنتها بعينيها الغائمتين وشعرها المبتل المنكوش ووجها المصفر وصدرها الذي يعلو ويهبط .. نظرت إلي يدي ابنتها اللتين تعتصران معدتها وأسفل بطنها وهتفت وهي تخبط علي صدرها متفجعة :
" مالك يا أمي كفا الله الشر ؟! "
بصعوبة خرج الصوت من " مروة " قائلة وهي لا تستطيع التحكم في أنفاسها المتلاحقة :
" بطني يا ماما .. بطني بتوجعني قوي ومعدتي هتموتني ! "
قالت الأم فورا وكأنها تملك العصا السحرية التي ستزيل آلام ابنتها بمجرد لمسها :
" اسم الله يا عين أمك ! هروح أغليلك شوية حلبة ونعناع وهتبقي زي الفل إن شاء الله ! "
استوقفتها " مروة " بيدها بصعوبة وقالت محاولة أن تخرج كلماتها واضحة ومفهومة :
" عملت دلوقتي .. عملت وشربت وبقيت أحسن ! "
لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى أندفع القيء من فمها كإعصار جارف مرة أخري !
جرت إلي الحمام وجرت خلفها أمها التي أخذت تردد بخوف :
" كفا الله الشر .. كفا الله الشر يا أمي ! "
تقيأت " مروة " مرة أخري بعنف أكثر من المرة الأولي .. وساهم خلو معدتها تقريبا هذه المرة في جعل القيء أعنف وأكثر ألما وأحست بأن جذور روحها الطويلة ، لو كان هناك جذور للروح ، تُنتزع بوحشية من داخل أمعائها .. وكأن سيخ محمي يدخل جوفها ويخرج بعد أن يكوي أمعائها من أولها وحتى آخرها .. قضت الأم والابنة بقية ساعات الليل في كرب مقيم !
أخذت الفتاة تتقيأ مرارا وتكرارا .. والأم استدعت كل خبرتها الشعبية ووسائلها المحفوظة في محاولة التغلب علي ما أصاب ابنتها .. فأعطتها حبوبا للمغص .. لم تجدي نفعا لأنها لفظتها من جوفها بعد ابتلاعها بدقيقة واحدة .. ثم صنعت لها نعناعا منفردا مخففا .. وأعطتها  ملعقة من دواء تقلصات تستخدمه الأم علي فترات متباعدة .. كل تلك الأشياء لم يصمد منها واحد في معدة الفتاة التي كادت تنفلق وتتمزق وتخرج من فمها !
أخيرا قرب الفجر بدأت البنت تهدأ قليلا بعد أن امتلأت الصالة حولها بالبقع الخضراء البنية ، وكادت تفقد الوعي من الدوار والدوخة الناجمان عن الألم وعن شدة الغثيان وعنف القيء .. مضت نصف ساعة هادئة ثم صحا الأب علي صراخ ابنته !
كانت " مروة " تدفن رأسها في الوسادة تعضها بقوة وتمسك بطنها وتصرخ .. سمعها الأب فأستيقظ مفزوعا معتقدا أن هناك مصيبة تحدث في البيت .. صراخ ابنته روعه فهرع محاولا الاطمئنان عليها ولما رأي الحال بعينيه أتصل بطبيب باطني يعرفه جيدا في المركز المجاور فلم يرد عليه إذ كان الرجل نائما والدنيا ظلام لا زال لم يتبدد بعد :
" نوديها المستشفي ! "
قالت الأم وهي تضرب علي صدرها فنهرها الأب بقوة قائلا :
" مستشفي أيه وزفت أيه .. هما دول بيسعفوا حد ولا بيرحموا حد .. أنا هروح أشوفلها حاجة في الصيدلية ! "
ولكن أي صيدلية مفتوحة في مثل تلك الساعة ؟!
أستقل الأب سيارته ، ولحسن الحظ أن لديه سيارة ، وهرع إلي أقرب مكان يمكن أن يعثر فيه علي صيدلية مفتوحة في مثل هذا الوقت .. لف عدة شوارع كانت أغلبها صامتة ساكنة حتى عثر أخيرا علي ثعبان منير يعلو صيدلية يبدو أنها تقدم خدماتها أربعا وعشرين ساعة علي مدار اليوم .. أوقف السيارة بالقرب ودخل مسرعا حيث وجد في استقباله صيدلانيا شابا نحيلا تبدو عليه سيماء الجد والذكاء .. متسرعا ملهوفا طرح عليه الأعراض التي تعانيها ابنته ووصف له حالتها بدقة فقال الصيدلاني بفطنة :
" دي عندها تقلصات في معدتها وغالبا عندها ارتفاع في نسبة الحموضة كمان .. هدي لحضرتك حاجة تهدي الألم وتنيمها بس يا ريت تحاولوا تكشفوا لها عند طبيب باطني في أسرع وقت ! "
أخذ الأب الحبوب الصغيرة التي منحها له الصيدلاني وهرع خارجا ناسيا حتى أن يدفع ثمن الدواء من فرط اللخمة التي يعانيها .. ناداه الصيدلاني بلطف ورقة فعاد إليه بسرعة ونقده ثمن الدواء :
" متأخذنيش يا ولدي دماغي مقلوبة والله من ساعة ما شوفت البت بتتلوي وتصرخ ! "
ابتسم له الشاب متفهما وقال بكرم :
" لا ولا يهمك يا حاج .. ربنا يشفيها ويعافيها ! "
" اللهم آمين ! "
ردد الأب وهو يسرع نحو سيارته حاملا الدواء لابنته متصببا عرقا بسبب شدة جزعه وخوفه عليها !
...
في الصباح كانت " مروة "  التي نامت ساعتين تحت تأثير الدواء الذي صرفه لها الصيدلاني ، تخرج مستندة علي كتفي أمها وأخيها خلف الأب الذي يقودهم جميعا إلي السيارة .. كان قد حجز لها عند طبيب باطني ممتاز يرن اسمه كالطبل وأخذها عنده .. ظلت الفتاة تعاني الآلام المبرحة التي عادت أقوي مما كانت طوال الطريق ، وحتى وصلوا إلي العيادة الكائنة في عمارة حديثة البناء فاخرة الطراز .. وفي العيادة ، وفي غرفة الانتظار ، تقيأت " مروة " مرتين وكادت تفقد الوعي .. قبل أن يرأف المرضي ، الذين يسبقونها في أولوية الحجز بحالها ، ويسمحوا لها بالدخول قبلهم في غير دورها .. كان تشخيص الطبيب حاسما .. تقلصات وحموضة وسأل البنت عما إذا كانت تعاني قلقا مزمنا يؤثر عليها ؟!
فهمت الأم الأمر علي الفور وأجابت عن ابنتها التي لا تكاد تحس بشيء مما يدور حولها :
" أصلها عندها ثانوية عامة يا دكتور وقلقانة عشان اسم الله أبوها عايزها تجيب مجموع وتخش الطب ! "
ابتسم الطبيب متفهما وقال للأم ناصحا :
" مش مهم يا حاجة تخش طب ولا متخشش .. المهم أنكم متضغطوش عليها زيادة عن اللزوم .. كل ميسر لما خلق له ومش كل الناس لازم تطلع دكاترة يعني ! "
لم تتفهم الأم هذا الكلام ولم تستوعبه .. وليتها فعلت !
...
عادوا بها حيث عكفت الأم علي إطعامها فولا نابتا ، لأن الطبيب طلب أن يعطوها أطعمة خفيفة ، فأكلت " مروة " لقمة واحدة وتركت البقية .. لم تكن لديها شهية للأكل مطلقا !
أخذت الدواء وأحضروا لها امرأة تجيد ضرب الحقن لتعطيها الحقن التي قررها لها الطبيب .. ثم تركوها لتنام !
نامت بضع ساعات تحت تأثير التعب والإرهاق ولم تفارقها خلالها الأحلام المزعجة والكوابيس .. لكنها صحت في حال أفضل !
وخلال الأيام التالية كانت تلتزم بما وصفه لها الطبيب من علاج وأدوية ونظام أكل .. وبدأت تعود للاستذكار !
لكن الغريب أنها لم تكن تفتح كتب الفيزياء أو الرياضيات أو الكيمياء حتى تداهمها آلام معدتها ، وإن كان بشكل أخف كثيرا ، فورا .. استمرت تتظاهر باستذكار تلك المواد رغم أن عقلها الكاره وآلام معدتها جعلا صدرها ضيقا حرجا أمام أية فرصة لتحصيل تلك المواد التي لا تحبها .. ولم تستطع أن تجبر نفسها علي ذلك !
زارتها " ماريان " في الأسبوع نفسه ، حينما سمعت أن البنت قد مرضت وأخذوها إلي الطبيب .. أخذتها " مروة " إلي غرفتها حيث حكت لها حقيقة ما يحدث معها وشكت لها خوفها الشديد من أبيها والكوابيس التي لا تلبث تداهمها كلما وضعت رأسها علي الوسادة !
قدمت لها أستاذتها روشتة علاج ونصحتها ببساطة أن تحاول تحصيل ما تقدر عليه من تلك المواد لتحقق درجة النجاح علي الأقل ولا تهتم بما يريده أبوها أو ما تريده أمها .. نفس النصيحة القديمة لكن " مروة " تدرك الآن أن أباها لن يتسامح معها أبدا إن هي فشلت في تحقيق حلمه له !
تركتها " ماريان " وهي في حيرة من أمرها لا تدري كيف ، ولا بأي وسيلة تساعدها .. وبدأت الأيام تكر كرا جنونيا والمواعيد تطبق علي حنجرة البنت إطباقا رهيبا .. تراقصت أشباح الامتحانات أمام عينيها ورقصت عفاريت مسربلة بأوراق امتحانات مشطوب عليها باللون الأحمر في مخيلتها ، كلما صحت أو نامت .. فبدأت تنجرف نحو دفاعات غريبة عن نفسها !
لم تكن " مروة " ممن اعتدن علي قرض أظافرهن لكنها ضبطت نفسها متلبسة ، أكثر من مرة أثناء الاستذكار ، تقرض أظافرها بقوة حتى أدمت بعض أطراف أصابعها نتيجة تقشير ونزع الجزء السفلي من الظفر بدون وعي منها .. زاد الأمر معها جدا بعد أن شاءت الصدفة السيئة لها أن تسمع حوارا قصيرا مبتورا بين أبيها وأمها وعمتها ملأ قلبها رعبا !
كانت تمر بالقرب من غرفة الجلوس بأسفل حيث يجلس أبيها مع أمها وعمتها " محاسن " التي لديها ولد يدرس في كلية دراسات إنسانية بجامعة الأزهر .. كانت أم " مروة " هي المتحدثة :
" ومالوا يعني يا أخويا .. ما هي كلية برضه واسمه علام عالي ! "
كان ابن " محاسن " هو المشار إليه في تلك العبارة لكن رد والد " مروة " كان مخيفا بحق :
" يا عمي بلا علام عالي بلا بتاع .. بصي هو مفيش تعليم يشرف صح غير الطب والهندسة والصيدلة غير كده كله هتش* وكلام فاضي ! "
ويبدو أن العمة غضبت لاتهام ولدها الخفي بالخيبة والفشل في الالتحاق بإحدى كليات التعليم الذي يشرف فقالت بلهجة معسولة :
" ويعني اسم النبي حارسها بتك ضامنها تخش طب .. طيب دي حتى شكلها يعني ملهاش في الحاجات دي ومكانتش عايزة تدخل علمي أساسا يا حبة عيني ! "
صدقت العمة .. لكن الأب أجاب بقسوة :
" ومتخشش ليه إن شاء الله ؟! دي تخش غصبن عنها وعن اللي خلفوها .. طاب خليها هي بس كده تخيب ومتجبش المية في المية .. ده أنا بديها دروس بدفع فيها دم قلبي .. ده أنا كنت أحش رقبتها وأطلعها من المدارس خالص وأخليها تقعد في البيت تحلب الجاموسة .. قال متخشش قال ! "
كانت نبرة الأب ، رغم لطفه في محادثة أخته ، عنيفة للغاية .. فما بالنا لو أن هذا حدث فعلا ؟!
ماذا هو صانع لو جاءته ابنته بشهادة درجات لا تحقق حلمه ولا تلبي طموحه ؟!
شعرت " مروة " بغمزة ألم قوية تسري في معدتها .. وطفا الحجر الصغير عائما في بلعومها حتى كاد يسد مجاريها التنفسية .. شعرت بالألم والاختناق .. ثم تقلصت أمعائها وتوترت أحشائها فذهبت إلي الحمام تدافع إسهالا مفاجئا ورغبة حادة في القيء !
...
بدأت الآن أصعب أيام في حياة الفتاة الصغيرة .. فالامتحانات لم تعد تدق الأبواب .. بل دفعت الأبواب ذاتها وفتحتها وصارت تطل برأسها منها .. لم يتبقي سوي عشرة أيام علي بدء امتحانات الثانوية العامة !
بدأت حالة هستيرية تسيطر علي البيت .. ورغم أن الأب قد أضطر للذهاب إلي القاهرة من أجل متابعة أعماله هناك إلا أنه كان ينق عبر الهاتف عدة مرات في اليوم .. يتابعها ويشعرها أنه يقف فوق رأسها كما البومة الناعقة .. لم يكن الأب قاسيا وبالطبع كان يريد مصلحة ابنته وسعادتها لكنه لم يدري في أي جحيم يلقيها بتصرفاته التي فاقت كل حد في الضغط والقسوة !
لم تكن " مروة " تشعر أنها كائن حي في تلك الأيام بل مجرد آلة بلا روح .. كانت تصحو مبكرا جدا لتستذكر دروسها ، تصلي الفجر وتقرأ أوراد الصباح وتدعو الله بحرقة أن ينجحها وينجيها .. وكأنها غريق بحاجة إلي يد تنتشله كانت تحس وتشعر .. الأم جندت البيت كله لصالح ابنتها طالبة الثانوية العامة وصار محرما علي الأخوة الصغار اللعب في البيت ، أو تشغيل التليفزيون أو المشاجرة بأصوات مرتفعة أو حتى إحداث صوت مرتفع بأقدامهم وهم يدبون نازلين أو صاعدين علي السلم .. هذه الإجراءات التي كان من المفترض أن تطمئن البنت وتدفعها إلي التركيز في الاستذكار والتحصيل كانت ، بالعكس ، هي التي زادت من الطين بلة .. فقد جعلتها تشعر أنها في معسكر وليست في بيت !
معسكر أقيم خصيصا لكي تذاكر فيه وتحصل علي المجموع الذي يؤهلها لكلية الطب .. وكانت أمها هي الحارس الأمين الطيب .. أما أبوها فلم يكن إلا السجان وآمر المعتقل !
وماذا سيعتبر أبوها فشلها في الحصول علي المجموع المطلوب .. تمرد طبعا وجحود ونكران للجميل وسيعاملها مثلما يتعامل مأموري السجون مع المتمردين من المساجين الذين تحت أمرتهم !
عادت تقضم أظافرها بشراهة .. ثم بدأت ، بطريقة لا شعورية ، تؤذي نفسها .. ضبطت نفسها أكثر من مرة تخز لحم يديها بسن القلم بقسوة .. الأعجب هو ما حدث في أحدي حصص الفيزياء حيث لحظها المدرس ، بينما هو منهمك في الشرح وهي تتظاهر بالإنصات والمتابعة ، تمسك ما يشبه عود أسنان صغير وتنخس به شفتها السفلي الجافة  نخسا متواصلا .. كانت خلة أسنان تحتفظ بها في حقيبتها وقد هشمتها بين يديها دون وعي ثم أخذت عودا رفيعا من حطامها وأخذت تؤذي به شفتها دون أن تدري أو تحس .. الغريبة أنها عندما تحسست شفتيها وجدت نقط دم صغيرة للغاية رغم أنها لم تكن تشعر بألم نهائيا !
...
عكفت علي اعتصار خلايا مخها الآن .. كانت تجلس لتذاكر بالساعات الطويلة .. ومع ذلك فما أقل ما كانت تستطيع أن تحصله في النهاية !
فما عدا مواد اللغة العربية والإنجليزية ومجموعة المواد غير ذات الطابع العلمي كان عقلها شبه موصد أمام تلقي أي دفق من المعلومات مهما بلغت قوتها .. حاولت كثيرا ، وبذلت جهودا جبارة ، كانت تجلس أمام الكتاب وتركز في الصفحة وتعتصر جبينها بيديها وتغلق عينيها بقوة ، ثم تفتحهما مبحلقة باحثة عن خيط ، عن طرف خيط ، يربط تلك المعلومات ببعضها .. عن كلمة سر أو تعويذة ترددها فإذ بطلاسم الفيزياء والكيمياء والرياضيات تنفك وتنفتح مفسرة كل شيء ، موضحة كل شيء .. لكن ما من سبيل لتحقيق ذلك !
ازداد عقلها انغلاقا وانغلاقا كلما داهمها الوقت أكثر وأكثر .. ثم بدأ نعاس ثقيل يجثم عليها كلما فتحت كتاب احدي تلك المواد لا تستيقظ منه إلا علي ألم مبرح يلوي معدتها !
ثم بدأت تعاف الطعام وتكرهه .. كانت قد قللت من طعامها إلي حد كبير بعد إصابتها بالتقلصات المفاجئة ، أما في تلك الأيام فلم تعد تأكل شيئا تقريبا .. ليس دلالا ولا ممانعة واستدرارا للعطف والشفقة .. بل لأنها فعلا لم تعد تشتهي الطعام مطلقا حتى الأطعمة التي كانت تحبها سابقا لم تعد تستطيع أن تقربها أو تفتح شهيتها !
في آخر حصة كيمياء أعطتها قريبتها وزميلتها " بسنت " باكو شيكولاته من النوع المفضل لها قائلة بضحك وسخرية بريئان تماما :
" خدي خدي أسندي قلبك .. شكلهم بياكلوا أكلك يا حزينة ! "
كانت الفتاة تمزح بالطبع وتقبلت منها " مروة " كليهما ، قطعة الشيكولاتة والمزاح .. لكن الشيكولاتة بقيت بورقتها مغلفة في حقيبتها حتى ذابت بسبب حرارة الجو النسبية وسالت داخل الورقة المصقولة والتصقت في ركن الحقيبة حتى نُسي أمرها تماما .. كانت الأم أول من لاحظ أن ابنتها لا تأكل فعليا أي شيء !
لاحظت ذلك علي الغداء ذات يوم .. حين كانوا يتناولون طبيخ بطاطس ومكرونة وحماما محشوا بالفريك .. قسمت الأم المنابات وأعطت للطالبة المجتهدة حمامة سمينة حُشي جوفها بالفريك حتى كادت تنشق حصولتها * من كثرة الحشو .. بقيت الحمامة فوق طبق المكرونة صحيحة كما هي بينما " مروة " تتظاهر بأنها تأكل وهي لا تفعل في الواقع !
لاحظت الأم ذلك فسألت " مروة " عما بها :
" مالك يا بتي .. مش عاجبك الأكل أجبلك حتة مخلل تفتح نفسك ! "
نفت " مروة " بوهن :
" لا يا ماما .. تسلم أيديكي الأكل أهوه زي الفل ! "
" آمال مالك بس يا أمي مش بتاكلي ليه .. خسيتي وعدمتي ووشك صفر يا ماما ! "
كانت الأم تعدد ما ألم بابنتها من تغيير شكلي ظاهر للغاية .. لكنها أرجعت كل ذلك في النهاية إلي الخوف والجزع من الامتحانات .. لكنها لم تتوقع أن شيء أكبر من هذا يمكن أن يحدث .. لم تتخيل أصلا إمكان وقوع شيء أكبر وأخطر من كل هذه الأعراض البسيطة !
...
وجاء يوم السبت الأسود الثامن من شهر يونيو ، حيث كان اليوم الذي يحوي الليلة المخيفة ، ليلة الامتحان .. ولم تكن مخيفة حقا فمواد اليوم الأول لم تكن سوي اللغة العربية والتربية الدينية ، وهما مادتين محببتين كقطعة الشيكولاتة ل" مروة " .. ذهبت إلي الامتحان واثقة من نفسها وأدت أداء طيبا للغاية ، أداء جدير بطمأنة فؤاد البنت المروع الخائف .. عادت من الامتحان لتنام نوما عميقا استمر عدة ساعات .. صحت بعدها بحالة جيدة وهمت بالخروج من الغرفة لتغسل وجهها وتأكل وتبدأ في استذكار مادة اللغة الإنجليزية ، التي ستؤدي امتحانها بعد يومين فقط ، لكنها لم تكن جزعة ولا مرعوبة كذلك .. كانت علي ثقة من أنها ستؤدي جيدا في تلك المادة الهينة علي قلبها .. وبالفعل أخذت حماما منعشا وأزالت عن نفسها وخم النوم وثقله ثم خرجت من الحمام لتسمع صوت أبيها يرن بأسفل :
" حمدا لله علي السلامة يا أبو " عمر " .. نورت بيتك يا أخويا ! "
كان هذا هو صوت الأم مرحبا مهللا .. الغريب أن " مروة " لم تكد تسمع صوت أبيها حتى تمشي الألم في معدتها بطريقة مفاجئة !
أجفلت للحظة لتفيق علي صوت أبيها وهو يناديها بمرح :
" يا بت يا " مروة " ! "
أخذت تنزل السلم علي الفور وهي في حالة خوف ، لا تعرف سببه ، وكادت تزل قدمها وتسقط مرتين فوق الدرجات لكنها لحقت نفسها في آخر لحظة .. وجدت نفسها وجها لوجه أمام أباها أخيرا !
كان يبدو عليه التعب والإرهاق لكنه أحد بصره ورمقها بعينان كعيني الصقر وهتف متظاهرا بالمرح :
" أزيك يا دكتورة .. وحشتي بابا يا بت ! "
أخذها بين ذراعيه وقبلها .. كانت قبلته دافئة ، وربما ساخنة ، نتيجة سخونة جسده لكنها أحست بها باردة كالثلج علي خدها لدرجة جعلتها ترتعش وكأنها موضوعة في حوض مليء بالثلج .. حيته وسألها عن الامتحانات فأجابته مطمئنة .. مرة أخري أكد علي مسألة المجموع وكلية الطب وخلافه فصعدت الصخرة الصغيرة من أعماق أمعائها وأخذت تطفو متراقصة في بلعومها .. وكادت تدفعها للتقيؤ لولا أنها حبست نفسها وتماسكت أمام أبيها !
فرت من أمامه بعدها معتذرة بالمذاكرة والمادة التي تنتظر مراجعتها .. وبمجرد أن دخلت الغرفة بدأت تمشط شعرها المبتل .. لاحظت فورا شيئا غريبا فقد بدأت خصلات غزيرة من شعرها تنسحب وتخرج متساقطة بين يديها .. وخلال ثوان كان المشط الذي تستخدمه لترجل به شعرها قد امتلأ بكومة من الشعر الأسود اللامع المتساقط !
ألقت " مروة " المشط من بين يديها وضفرت شعرها بإهمال ثم جلست إلي مكتبها الصغير .. لم تكن قد أكلت شيئا فسمعت أمها تناديها من الطابق السفلي لتأتي وتتناول الطعام مع أبيها وأخوتها .. شعرت بشبع مفاجئ وامتلاء غريب لكنها لم تكن تستطع أن ترفض الأكل في حضور أبيها !
نزلت فورا والتفوا حول المائدة التي أعدتها الأم .. جلست " مروة " قبالة أبيها بجوار أختها الصغيرة وبدءوا يأكلون .. كان هناك مليون موضوع وموضوع يمكن أن يتحدثوا فيها لكن الأب ، الذي تولي توجيه دفة الحديث ، أنصب اهتمامه وتركيزه علي موضوع واحد فقط لا غير :
" ها يا " مرمر " وعاملة أيه كده في الامتحانات .. أياكش تكوني بتحلي مية في المية ! "
بصوت ضعيف خائر القوي أجابت البنت متلعثمة :
" الحمد لله .. الحمد لله يا بابا ! "
رفع سبابته ، منذرا ربما أو مشجعا ، وهتف مصرا علي كل حرف يقوله :
" أنا خلاص عملت حسابي علي طب إن شاء الله .. وبإذن الله احتمال أخدك تكملي في مصر جامعة سوهاج دي تعبانة ! "
غصت " مروة " باللقمة الصغيرة التي وضعتها في فيها تحايلا وتصنعا وشرقت فناولتها أختها كوب ماء فورا :
" مالك يا بت كفا الله الشر ؟! "
سألتها أمها فاتسعت عينا الأب وقال وهو يرمقها بنظرة حادة :
" لا لا شدي حيلك آمال .. وخدي بالك أنا قولت مية في المية يعني مية في المية .. اعملي حسابك علي كده ! "
سارعت الأم لتلطيف الجو الذي سخن فجأة وقالت وهي تبتسم بمداهنة :
" يا أخويا قول إن شاء الله .. أهم حاجة نفرح بنجاحها ! "
كانت الأم تحاول ، بعد أن بدأ قلبها يحس بما تعانيه ابنتها ، أن تخفض شروط الأب وتضع حدا للتنازل والتفاهم لكن الأب الصلد كان رافضا لأي تنازل :
" لا لا نجاح أيه .. النجاح ملوش قيمة من غير المجموع العالي .. دي ثانوية عامية مش دبلون ! "
الآن لم تعد " مروة " تستطيع أن تأكل شيئا بالمرة .. قامت من مكانها ببطء فاستوقفتها أمها قائلة بقلق :
" أيه ده .. يا بت أنت لحقتي أنت لسه كلتي حاجة أصلا ! "
أبدي الأب قلقا مماثلا علي شهية ابنته المفقودة .. لكنها اعتذرت بالاستذكار وأنسلت هاربة !
جرت إلي غرفتها وأغلقت الباب علي نفسها .. جلست إلي مكتبها وهي تلهث وكأنها كانت تجري في سباق الخيل .. وأحست بشيء ثقيل يكتم أنفاسها ويفتر عزمها وبشيء آخر كحبل واهن يتمزق داخلها !
وضعت يديها علي رأسها .. انتحبت للحظة ثم تمالكت نفسها أخيرا وقررت أن تحاول التركيز والاستذكار .. لكنها عندما رفعت يديها وجدت المزيد من الشعر المتساقط في كفيها وبين فرجات أصابعها !
...
تتابعت أيام الامتحانات التي وقعت بحضور الأب .. كانت " مروة " واثقة من نفسها جدا في مادة اللغة الإنجليزية .. استذكرت المادة جيدا ، وراجعتها جيدا ، وبإضافة المراجعة النهائية الممتازة التي قام بها مدرسهم في الدرس الخصوصي أصبحت تشعر أنها متأهبة تماما للحصول علي أعلي الدرجات و( تقفيل ) الورقة الإمتحانية بامتياز ..
صبيحة يوم امتحان اللغة الإنجليزية استيقظت أفضل حالا .. كان جميع من بالبيت نائمون فلا تزال الساعة الثالثة فجرا ، والكون من حولها هادئ ساكن تماما .. صحت لتراجع المادة كاملة ، كما تفعل عادة ، في يوم الامتحان ، وتسترجع كافة تفاصيلها .. كانت " مروة " في الحقيقة تعتمد علي مجموعة المواد الأدبية والعامة في منع نفسها من الرسوب !
خامرها أمل ، وربما وهم ، أنها إذا تمكنت من تسجيل أعلي الدرجات في اللغتين العربية والإنجليزية وبقية المواد البعيدة عن الفيزياء والكيمياء وعفاريت العلمي ربما يمكنها النجاح ، ولو بمجموع بسيط ، مجموع يضمن ألا أن ترسب وتسقط لكنه لن يضمن لها ، بطبيعة الحال ، أن تحقق لأبيها حلمه .. كما أنه لن يعفيها من عقابه !
حاولت البنت نفض رأسها وإبعاد كل تلك الأفكار المثبطة للهمم عن رأسها .. لكن الكوابيس ما لبثت أن بدأت تنفرد بها في ليل وحدتها المرهقة الطويل !
كانت تغفو علي كتابها لتري أباها يضربها بقسوة .. لم يحدث من قبل أن مد الأب يده عليها ، باستثناء مرات قليلة جدا تعد علي أصابع اليدين ، أقربها وأكثرها قسوة المرة الأخيرة التي حدثت بينما هي في الصف الثالث الإعدادي حين ذهبت إلي سوهاج مع عمتها دون علمه أو رضاه .. لكن الكوابيس المتلاحقة ، التي بدأت " مروة " تخلط بينها وبين الوقائع التي مرت بها في حياتها ، جعلتها تعتقد ويترسب وهم سام غريب في أعماقها ، أن أباها ضربها بقسوة مرات عديدة .. وأنه جاهز تماما لتكرار هذا الأمر عند أي بادرة عصيان أو تمرد منها !
لذلك ، وفي صبيحة يوم امتحان اللغة الإنجليزية ، وبينما كانت تهيأ نفسها للذهاب والخروج ، وفوجئت بأبيها أمام وجهها باسما ببيجامة بيضاء بسيطة خارجا من الحمام ، بدأت ترتعد فور أن وقعت عيناها عليه .. ناداها بلطف وسألها إن كانت تريد نقودا أو أي شيء فردت عليه متلعثمة متجنبة النظر في عينيه اللتين بدأت تخافهما وتخاف النظر مباشرة فيهما ولا تدري السبب في ذلك !
الغريب أنها مرت بتحول كامل وبدأت تشعر بأنها نسيت كافة ما استذكرته وحفظته من دروس اللغة الإنجليزية .. بل أحست بما هو أعجب حينما كانت تتناول كتبها وكراساتها تمهيدا للخروج من البيت وأنشأت تراجع مع نفسها أبسط القواعد والأساسيات الخاصة بلغتها الأجنبية الأولي .. وحاولت عبثا تذكر حروف الأبجدية الإنجليزية ، التي تحفظها عن ظهر قلب ، فإذ بعقلها يتصلب عند حرف الكيو وتعجز تماما عن تذكر الحرف التالي له وهل هو آر أم إس !
موقف تافه غريب لكن الصداع القوي ما لبث أن هاجمها .. شعرت بزغللة مفاجئة وإنحياد بصري غريب واندلع ألم في مقدمة رأسها وأمسكت جبهتها بيدها مترنحة !
أكلت لقمة واحدة نزولا علي إلحاف أمها وإصرار أبيها ثم غادرت البيت محملة بدعواتهما القلبية المخلصة لها .. وبكثير من الخوف والجزع والإحساس بالفشل المسبق المؤكد !
جلست في اللجنة كما تجلس كل يوم .. لكن الأشياء كانت أكثر غيمة وأقل وضوحا أمامها .. وأثناء توزيع أوراق الإجابة عليهم دهمها ألم شق رأسها نصفين فكادت تصرخ مستجيرة مستغيثة لكنها لحقت نفسها وأطبقت فمها في اللحظة الأخيرة !
أخيرا وجدت أوراق الأسئلة أمامها .. في يوم آخر وفي ظروف أخري ، كانت ستجده امتحانا متوسطا لذيذا يمكنها حله كاملا في أقل من نصف الوقت المحدد للإجابة .. لكنها الآن تري عجبا يحدث معها وبها !
تحدق في ورقة الأسئلة فتري صفوفا تتلو صفوف من الأسئلة المصاغة بمهارة وبقليل من الدهاء .. أسئلة من صلب المنهج وصميمه ولا عيب فيها إلا أن " مروة " تشعر أنها لا تعرف شيئا مما تقرؤه ولا تملك إجابة سؤال واحد منها !
كان السؤال الأول حوارا بين طالب ومعلم .. كان سهلا في فحواه ومسالكه ليست عسرة إلي هذه الدرجة لكن خيال " مروة " الهائم رعبا غير صيغة الحوار أمامها لتجد أنها تحادث أبيها :
" وليه مجبتيش درجات كويسة ترفع مجموعك يا خايبة يا فاشلة ؟! "
" بكاء "
" ما تنوحيش يا بت وردي عليا ردت المية في زورك ! "
" أنا آسفة والله يا بابا .. بس أصلي معرفتش أحل كويس في الفيزياء والكيمياء ! "
الأب زعيق غاضب : " ومعرفتيش ليه يا فاشلة .. أحسن منك العيال اللي جابت مية لمية .. أحسن منك " بسنت " ؟! ليه يا " مروة " .. دا أنا صرفت عليكي دم قلبي ومحرمتكيش من حاجة أبدا ؟! "
" بكاء "
" بس يا بت لحسن أقوم أكسر رقبتك .. والله لتعيدي السنة وتجيبي المجموع اللي أنا عايزة وإلا هطلعك من التعليم وأقعدك زي الجهلة في البيت تخدمي أمك وأخواتك ! "
" لا يا بابا .. لا والنبي .. أنا مش بحب العلمي .. أنا هروح أدبي وهذاكر وهنجح وهجيب مجموع عالي وهدخل أحسن كلية وأطلع حاجة حلوة وأشرفك والله .. "
لم يعطها الأب الفرصة لإكمال دفاعها عن نفسها نهض ساخطا بعد أن شخط فيها بقوة .. مد يده وصفعها بقوة علي وجهها فتراجعت إلي الخلف لتجد نفسها تهوي في فراغ أسود عميق بلا قرار ولا نهاية له !
أفاقت علي يد توضع علي كتفها .. كانت إحدي المراقبين في اللجنة وقد لاحظت أن الفتاة لا تكتب ولا تجيب عن شيء في الامتحان رغم أنه بدأ منذ نحو ربع ساعة :
" مالك يا ماما تعبانة ؟! "
سألتها مشفقة فردت " مروة " التي شعرت بالعالم باردا متموجا بألوان متداخلة بعد أن رُدت إليه قسرا من رحلتها التي كانت تهيم فيها تحت عظام جمجمتها الساخنة :
" لا لا أنا كويسة ! "
" آمال مش بتحلي ليه ؟! "
سألت المراقبة بأمومة واضحة فقالت " مروة " سائقة حجة تقليدية أكل عليها الزمان وشرب ونام أيضا :
" لا بس أصلي .. بركز في الامتحان وبقرا السؤال كويس ! "
ربتت المراقبة علي كتفها برفق وحنان ثم انصرفت عنها لترعي بقية الأولاد المشدودين عصبيا والذين كانوا كلهم ، تقريبا ، في حاجة إلي يد حانية اللحظة لترعاهم وتخفف رعبهم وقلقهم !
بقيت البنت وحدها وجها لوجه أمام ورقة الامتحان .. ومرة أخري باغتتها ذكري حرف الكيو فارتجفت !
أخيرا حاولت جمع شتات نفسها وبدأت تكتب وتجيب علي بعض الأسئلة .. بكثير من الجهد تمالكت نفسها وأجابت علي الحوار ثم انتقلت إلي السؤال الذي يليه .. لكن ورقة الأسئلة مع ذلك امتلأت بأفكار غامضة ومقصوصات من أشعار تبدو كندف من نسيج ألم غير كامل .. ألم شتته الألم وجعله غير قادر حتى علي أن يضم نفسه ويتشكل في صورة واضحة ملموسة لها معني ويمكن التفاوض معها !
...
مرت أيام عصيبة وبدأت " مروة " تخوض معركتها الضارية مع أعدائها وأصدقائها اللدودين ، المواد العلمية الثقيلة .. كانت معركتها معهم صامتة وتخلو من قعقعة السلاح وأصوات الضربات المتبادلة لكن مع ذلك فما أكثر الجثث التي كانت تتخلف في ساحة المعركة بعد نهاية كل يوم طويل لها مع إحداها .. علي أرضية غرفتها تناثرت أوراق الدروس وقصاصات من أوراق ممزقة أفرغت فيها البنت مخاوفها علي هيئة مسائل وعمليات كيميائية غير كاملة .. محاولات حل عقيمة باءت أغلبها بالفشل الذريع ، فقد كانت تجد نفسها عاجزة بصفة مطلقة عن حل أي مسألة أو إنهاء أية معادلة ، ما لم تضع الكتاب المدرسي أو مذكرة الأستاذ الخارجية أمامها وتنقل منها طريقة الحل نقل مسطرة .. أبي عقلها الكاره أن يحفظ شيئا من قوانين الفيزياء الجامدة أو معادلات الكيمياء السائلة السامة التي كانت تنفث دخانا قاتما بوجهها .. وجدت نفسها محصورة بين الرمضاء والنار ولم تعرف أيهما أقل حرا وأكثر رحمة .. وجدت نفسها محاصرة في الركن فهرع خيالها لإنقاذها !
كان خيالها هو معين الحماية الوحيد لها في تلكم الأيام الصعبة فلاذت بحماه تاركة له أمر ابتداع ما شاء من وسائل دفاعية لصد الهجوم العلمي الثقيل عنها وإحاطتها بطبقة عازلة تقيها شر العالم المعادي المحيط بها من كل ناحية .. بدأت " مروة " تعاني من نوبات أحلام يقظة عميقة مستغرقة بقوة لا تستفيق منها إلا بصعوبة بالغة .. ثم بدأت صورة ما ترتسم في خيالها !
كانت صورة باهتة ملتفة بعباءة اللاوعي السوداء ولا يكاد يظهر منها إلا عينان صغيرتان مشفقتان .. كانت " مروة " أخري تولد في داخلها وتلتصق بأحشائها وكأنها تؤمها الملتصق الذي لم يولد معها ، بل ولد فيها وفي داخل جسمها ملتصقا بأعضائها محشورا في داخلها .. بدأت الفتاة تنشطر إلي نصفين !
نصف هامد مستسلم يحلم ويغرق نفسه في أوهام وتطلعات وأماني مختلفة الأشكال والأحجام .. ونصف واعي عيناه مفتوحتان يصرخ فيها أن استيقظي ليس هذا وقت الحلم ولا وقت التوهم !
لكن العقل الواعي العاجز كان أقل قوة ، للأسف ، من الآخر المسربل بالظلام ، الذي برع أيما براعة في اختراع الدفاعات وصد العدوان عنها بكل فن مرغوب ومتاح .. هاجمتها الأبيات والقصائد وأخذت الأفكار تتري علي رأسها ، والقصص تسحبها بعيدا وسط عالم ملون أكثر بهجة من عالمها القابع خارج باب غرفتها .. أكثر بهجة وأقل خطرا وقسوة !
قاومت " مروة " لفترة قصيرة .. ثم زلت قدمها وبدأت تنسحب غارقة سابحة في عالمها الخيالي الجميل .. وبدأت تفقد قدرتها علي التركيز كليا تقريبا !
بدأت المعركة إذن والعقل الواعي يبحث عن قائدته ليجدها تغط في نوم عميق .. وأخذت نتيجة المعركة تسفر عن نفسها مسبقا !
خطط وخطط توضع ولا يتم تنفيذها .. أخذت " مروة " تلوذ بحمي الساعات المتبقية وتسول لنفسها أنه بإمكانها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه .. أخذت تسهر لوقت متأخر تستذكر دروسها ، تتخيل نفسها تفعل في الحقيقة .. وتأخذ في حساب عدد الأيام والساعات التي تفصلها عن موعد لجنة الامتحان ثم تقسم عدد صفحات الكتاب أو عدد موضوعاته عليها .. أخذت تُمني نفسها بطريقة مثيرة للسخرية والشفقة .. فهذا كتاب الفيزياء عدد صفحاته مائة ونيف وباق يوم ونصف علي الامتحان إذن فلو استذكرت عشر صفحات كل ساعة ، فبوسعها إنهاء الكتاب كله خلال الوقت المتبقي بل ويتبقي لديها ثلاث أو أربع ساعات فائضة يمكنها استثمارها في المراجعة .. تضع الخطة كهذي ثم تنقلب علي ظهرها وتنام !
لا تنام حقا بل تغلق عينيها وتبحر في محيطها الخيالي متخيلة أن الساعة ستقف لها وأن الدنيا تنظر لها بحنان وتستوقف الزمن لأجل خاطرها .. اشتدت عليها نوبات التخيل وهاجمتها الأحلام بقوة وجذبتها بينما كان عقلها الواعي يخبط علي رأسها وينقرها نقرا مصرا مستمرا ويجذبها من يدها الأخرى .. تنازعها الطرفان فتمزقت بينهما وأصبحت كرجل أوقفوه بين امرأتين يعشقهما وطُلب منه أن يختار إحداهما .. إنه في أغلب الأحوال لن يعجز عن الاختيار فحسب بل سيتمزق نصفين وتتفرق أشلاؤه بين الطرفين !
لم تحسن " مروة " إدارة المعركة بين نصفي عقلها .. داهمتها العربة مسرعة فبدلا من أن تنتحي عن الطريق وتجري حيث الأمن وقفت بوجهها فداستها ومزقتها !
مرت عليها بقية أيام الامتحان وهي لا تدري إن كانت مستيقظة أم نائمة .. حية أو ميتة !
كانت تفعل كل ما يفعله الآخرون وبالضبط مثلما يفعلونه .. تنام وتغرق بالأحلام ، تداهمها الكوابيس وتحلم بالرسوب والفشل والإخفاق ، تصحو لتجاهد مع كتبها ومذكراتها ، وتجري لتلحق بمواعيد حصصها مع " بسنت " ، تأكل وتشرب ، تتحدث ، تبتسم أحيانا ، بل وتتظاهر بالضحك .. لكن من كانت تفعل كل هذا ليست هي بالتأكيد !
إنه وهم التلبس .. حين يتقاسم اثنين جسدك ويشطران روحك وعقلك بينهما وأنت عاجز عن تحديد أي في الاثنين هو أنت .. هو أنت بالضبط وليس آخر تماما !
كانت الأم تشعر بما تعانيه ابنتها وتشاركها في هذا الشعور القريب الأستاذة " ماريان " ، التي بذلت جهدها لمحاولة ردع الفتاة عن الاستغراق في الحلم والتخيل .. حاولت إقناعها بأن تعيش الواقع ، وتلحق نفسها لتنجو ولو بدرجات منخفضة ، تحقق لها النجاح والإفلات من براثن الرسوب والفشل .. لكن كل تلك الجهود المخلصة كانت تبخر وتتلاشي لحظة أن تقف البنت أمام أبيها الصارم وتري في عينيه ما تري .. تمضي هاربة من أمامه ولا يتبقي في رأسها سوي سؤال مثير للفزع والرهبة : ما الذي سيفعله هذا الرجل بي إن فشلت ؟!
ليس سؤالا استنكاريا بل كان عندها سؤال تقريري يشبه الحقيقة التقريرية التي لا مراء فيها التي يطرحها عليك السؤال الأبدي : ماذا ستفعل حينما تجد ملاك الموت واقفا فوق رأسك يقبض روحك !
حتى وإن كنت تشك في حقيقة وجود ملاك الموت فإنك أبدا لن يتسنى لك أن تنكر الحقيقة الأبدية الدامغة : إن روحك ستقبض وأنك ستموت يوما ما طال بك الزمان أم قصر !
مرت أيام الامتحان إذن ، وما من أحد كان بقادر علي منعها من أن تمر .. وجاء يوليو بعنفوان حرارته وشقي الناس أمام قسوته .. لكن الفتاة المنتظرة علي صفيح النار تتقلي عليه كالسمكة المشوية كانت في غيبوبة غير مدركة لما يدور حولها أو ما ينتظرها بعد أسابيع .. أسابيع قليلة !
...
إرهاصات النتيجة بدأت حينما كانوا كلهم في الإسكندرية يقضون بضع أيام من الفسحة والتنزه بمعية الأب الذي أستأجر لهم شقة قريبة من البحر كما جرت عادته .. وأصطحب الأسرة كلها ليمرحوا ويصطافوا علي شاطئ المدينة الجميلة .. كان الجميع بحاجة إلي تلك الأيام الخالية من الهموم والمتاعب وضغوط البيت ومتطلباته التي لا تنتهي وبخاصة " مروة " .. التي عانت حالة من المرض الخفي والإعياء الدائم منذ أن خطت خارجة من آخر لجنة امتحان لها .. وبالقرب من حضن البحر الأزرق المفتوح لاقاها شيطان الشعر بحفاوة ورحب بها وفتح لها بابا لتصعد فيه وتري وتسمع .. بدأت الفتاة تكتب أشعارا تذوب حلاوة ، وتدب بقدمين خفيفتين في عالم مبهر تراصت فيه العبارات والألوان والصور الشعرية كما تتراص النماذج الجميلة في محل لعرض فساتين الأفراح .. كلها بجوار بعضها ، كلها أجمل من بعضها ، وكلها تلمح وتغري وتنشط العرض والطلب .. بالقرب من البحر بدأ الشعر يغزو عقلها بجيوش جرارة فخضعت له فورا وصارت تقضي ساعاتها الحرة علي الشاطيء ، بعيدا عن أبويها وأخوتها اللاهين العابثين ، في خط رؤاها وإلباس أفكارها ثوب قشيب من جميل الكلمات .. وكذلك بدأت كتابة قصص كثيرة مختلفة الموضوع لكنها كلها أتحدت في الهدف .. إعادة صياغة العالم وتشكيل الجو المحيط بها .. ففي خيالها ، وفي عالمها الخاص الذي تملك حرية بنائه كما تملك حرية هدمه وبيع أنقاضه صبرا أو بشيك مؤجل الدفع أو مجانا ، كان هناك أب آخر .. كانت هناك فتاة أخري ، لها أب آخر ، الغريب أن خيال " مروة " ثبت الأم والأخوة ، بينما قام ببساطة بتغيير الأب .. لم تكن البنت تكره أباها لكنها كانت تتمني لو كان رجلا آخر .. رجل يفهمها ويقدرها ويطلقها حرة بدلا من أن يكتفها ويقيدها من قدمها بحبل أحلامه هو .. كانت تريده أبا آخر لكنه هو ، فكم كانت ملامحه محببة إليها ، كم كانت تحبه ولذلك كانت تريده أبا أفضل وأكثر تسامحا وتفاهما .. تمزقت لحظتها بين الأب الموجود فعلا ، والمحبوب دون نقاش ، والأب المتخيل الذي كانت تنتظره وتتمناه .. لكن كلا الصورتين لم تكونا تتنازعانها بقدر ما كانت تتمني لو تستطيع الجمع بينهما .. إنها تريدهما كليهما .. مندمجان في جسم واحد ، في شخصية واحدة ، في بدن واحد يحنو عليها ولا يقسو ولا يفرض رأيا .. ولا يكسر لها حلما لمجرد أنه ليس حلمه هو ولا يريده !
لكن الأب فيما يبدو كان مصرا علي كسر حلم ابنته دون حلم ولا رحمة .. ضبطها مرة جالسة في الشرفة تتنسم نسائم البحر وتكتب علي أوراقها أحلامها وتربطها بوشائج من كلمات وأشعار وقصص وخيال .. أختطف الأوراق من بين يديها وألقي عليها نظرة عابرة .. نظرة سريعة لكنها لم تنطق بغير الاستهزاء والاستخفاف !
قرأ أجزاء من هنا وأجزاء من هناك .. ثم بمنتهي الهدوء وجه إليها طعنة نجلاء في صورة جملة خالية من الروابط خالية من أفعال الأمر لكنها كانت كاوية كحمض مركز :
" مش أحسن نسيبنا من الكلام الفاضي ده ونخلينا في مستقبلنا أحسن .. كل ده كلام فارغ يا ماما وميوكلش عيش ! "
أأصبحت المسألة أكل عيش الآن ؟!
وهل أكل العيش لا يتأتي إلا بالوسائل التي يتخيلها الأب ولا يعرف غيرها ؟!
أي عيش هذا الذي لا يؤكل إلا ببدن متهرئ من اللامبالاة وبعقل خاوي من الحلم والطموح والأمل ؟!
أكل سم هذا وعيش سوائم لا عيش آدميين !
لكن شيء من هذا لن يفهمه الأب .. وإن فهمه لن يقدره ولن يستطيع !
لم تجادله " مروة " بل تركته يلومها برقة ويسوق إليها حجج ، بدت لها أوهي من بيت العنكبوت ، ليصرفها عما وجدها عليه ، وكأنها وجدها عاكفة علي صنم لها تعبده لا علي حلم ترسمه ، ولا تسرف ، في إحسان بنيانه !
هربت من وجهه معتذرة بشيء كالذي يُعتذر بمثله غالبا .. أحست بالاختناق في حضرته فتركته وذهبت .. داهمها المغص بقية اليوم ، رغم أن التقلصات المؤلمة لم تكد تزرها مرة أو مرتين منذ أن انتقلت لتساكن البحر وتجاوره وتحادثه .. كان البحر يسمع لها ويبتلع كلماتها مع وعد بإعادة إخراجها في صورة لآليء وأصداف .. فهدأ اضطراب أحشائها وسكن القلق بأمعائها !
عادوا إلي مدينتهم الصغيرة مرة أخري وعلي كثب من إعلان نتيجة الثانوية العامة بقيت " مروة " علي كثب من الحريق ولا تملك لنفسها حماية سوي رفع يديها لتزود الحر عن وجهها .. وحينما أعلنوا أن النتيجة غدا هاجمتها مساء أقوي نوبة تقلصات مرت بها أبدا !
...
كان الأب متحفزا جدا لظهور النتيجة .. لم ينم ليلته وظل يحاول مع صديق له ، تعرف عليه مؤخرا ، ويشغل منصبا طيبا في مديرية التربية والتعليم بسوهاج ، علي الهاتف يحاول أن يستنطقه ويستنجزه وعده بأن يحضر له نتيجة ابنته قبل إعلان كل النتائج .. كان الأب يتلهف علي الفرح وعلي الدرجات العالية المرتفعة التي تشرفه وتحقق ما يصبو إليه هو !
وعده الموظف الكبير ومناه .. وغرورا باطلا أنتظر الأب علي أحر من الجمر .. وعند الساعة العاشرة مساء جاءه الاتصال وآتاه حق اليقين !
كانت درجات البنت في اللغة العربية والإنجليزية ومجموعة المواد الأدبية والعامة جيدة .. لكنها نجحت بصعوبة ، وعلي الحركرك تقريبا ، في الفيزياء والكيمياء !
أنهار مجموعها وتصدع وتقلص إلي مجموع متوسط لا يغني ولا يشبع من جوع .. وعلي فرض أنها نالت أعلي الدرجات في الصف الثالث الثانوي ، المرحلة الثانية من الثانوية العامة ، فإن هذا لن يغير من الأمر شيء .. أنهار الحلم وتبدد وتمخضت تبة الرمال عن مجرد كومة تراب وانفجرت الحقيقة في وجه الأب .. وأصابت شظاياها وجهه فجرحته ونزف كبريائه دما فأغلق الهاتف بقوة ثم هرع مناديا مروة !
كانت الفتاة تستحم حين جاءها صوت أبيها .. في الحقيقة لم تكن تغتسل مطلقا بل أغلقت علي نفسها باب الحمام وأطلقت سيول الماء من الدش وجلست بجوارها تبكي وتنتحب وتشعر بالمصيبة التي هي مقدمة عليها !
كان صوت الأب المجلل الصادح بالغضب الشديد كافيا جدا لتعرف فيم يريدها ، ولتهرع الأم من أسفل متسائلة عما يجري .. نادي الأب ثانية بحنق :
" " مروة " .. أنت يا زفتة الطين يا بنت ال... "
سبها لأول مرة في حياته ، غير واع إنه إنما يسب نفسه في الحقيقة ، فالابن لا يكون ( ابن ... ) إلا إذا أباه هو ( ال... ) نفسه !
خرجت " مروة " من الحمام متباطئة .. جرت نفسها جرا بثياب مبتلة وبعينين منتفختين وبشعر ثائر غير ممشط .. كانت المياه تتناثر حولها مغرقة أطراف ثوبها ووجهها ورقبتها بدون أن تغسل لها جسدا أو تبرد لها نارا .. خرجت بصعوبة ومشت كالمنومة ، كالمخدرة ، إلي حيث وقف أباها متحفزا غاضبا كأسد انتزعوا منه أنثاه .. كان الأب يجرب أقسي وأقوي موجة غضب مر بها أو عاناها في حياته !
بمجرد أن ظهرت ابنته بهذا المنظر المزري أمام عينيه حتى وضع يده عليها وأمسكها بقوة من ذراعيها وجذبها نحوه .. كان ممسكا بورقة كتب فيها درجاتها كما أملاها عليه معرفته الموظف الكبير .. لوح بالورقة أمام وجهها وصرخ فيها بقسوة :
" شوفي يا أختي .. شوفي خيبة أملك وفشلك ! "
وصلت الأم عندهما الآن ورأت منظر زوجها فأدركت فورا أن ثمة ليلة سوداء تنتظرهم جميعا الليلة .. صرخ الأب في " مروة " وهو يستدنيها منه :
" بقي مش حرام عليكي .. مش حرام تضيعي كل تعبنا وتعبك ودم قلبي اللي طفحته في الدروس .. مكملتيش تمانين في المية يا بت .. ليه كده ليه حرام عليكي حرام عليكي ! "
تصدرت الأم محاولة دفع البنت إلي الوراء لتقف هي بينها وبين الأب .. لكن الأب الغاضب دفعها بعيدا بقوة وغلظة وعاد يشد " مروة " ويصرخ فيها بوحشية :
" ليه كده يا بنت ال... ليه كده ؟ ناقصك أيه .. قوليلي .. دروس وبتاخدي دم علي قلبك في كل المواد .. أحسن أكل وأحسن لبس وأحسن عيشة .. زفت موبايل وفي أيدك أحسن عدة .. متتعبيش في البيت ولا حد بيخليكي تشيلي ورقة من الأرض .. فسح ولبس واللي زيك مش لاقيين اللي يجيبلهم حاجة وبينجحوا وبيدخلوا طب وهندسة وبيرفعوا روس أهاليهم في السما ! "
لم يكن هجوم الأب قد أنتهي بعد وكان يتهيأ لاستئنافه لكن الأم حاولت بتر تلك المجادلة التي لا طائل من وراءها ولن تورث إلا النكد والخراب :
" معلش يا أخويا .. معلش هي هتسمع كلامك وتنفذ كل أوامرك .. هتعمل كل اللي هتقولها عليه .. هتعيد السنة وتحسن مجموع وتدخل الكلية اللي أنت تقول عليها .. "
هنا صرخت " مروة " ، التي شعرت أنها بغلة تساق إلي الذبح ولا أحد يعطيها حتى حق الصراخ وقول لا ، أنسابت الدموع بلا حساب من عينيها وقالت بقوة :
" لا لا مش هعيد ولا هحسن .. أنا مش هعمل حاجة مش عاوزاها تاني .. أنا مبحبش العلمي وقولت لكم ميت مرة مش عايزة أدخل علمي .. حرام عليكم هو أنا معزة تتحكموا فيها زي ما أنتوا عايزين ؟! "
صرخت فيها الأم ونهرتها :
" بس يا بت ! "
أم الأب فقد أحمرت عيناه وصرخ بقسوة :
" ما أنت أصلك سباعة* ومش متربية .. لو كانت أمك عرفت تربيكي مكنتيش تردي علي أبوكي كده وتباقريه * كلمة بكلمة ! "
خبط الحاج في الحلل .. لكن الحلل كانت واقفة بلا حول ولا قوة محاولة فقط إنهاء ذلك الموقف وتجنب تسويد الأمر أكثر مما أسود بالفعل :
" خلاص يا أخويا .. خلاص هي هتسمع كلامك والنعمة ما هتعصي لك أمر أبدا ! "
بحرقة كررت " مروة " :
" لا لا لا .. سيبوني في حالي .. سيبوني في حالي بقي حرام عليكم .. حرام عليكم ! "
انسحبت فجأة هاربة إلي غرفتها فلحق بها أبيها وهو يصرخ :
" أستني يا بت .. أنا مش بكلمك يا بنت الجزمة ! والله إن ما جيتي هنا ووقفتي قدامي وكلمتيني زي ما بكلمك لكون كاسر رقبتك الليلة ! "
دلفت " مروة " إلي غرفتها لكنها لم تجد الفرصة لإغلاق بابها خلفها ، وكانت ترغب في قفل الباب في وجه أي مخلوق بشري مهما يكن ، فلم تكن بها حاجة إلي رؤية أي أحد في تلك اللحظة ولا رغبه لديها في ذلك .. لكن الأب الغاضب المجروح في كرامته لحق بها ودفع الباب ودخل عليها .. في البداية جذبها من شعرها الهائش وانهال عليه بصفعات مدوية قليلة حتى نجحت الأم في الحيلولة بينه وبينها وهي ترقع بأعلى صوت لديها وتستعطفه قائلة :
" هتموت البت .. هتموت في أيدك يا أخويا .. هتموت في أيدك ! "
لكنه لم يكن يسمع ولا يعي شيئا في تلك اللحظة .. إنه لم يعد يسمع سوي صوت شيطانه موسوسا في صدره ، الذي ضاق بالغضب والوسوسة فأنفجر غضبه بركانا من الحمم .. ترك الفتاة وأسرع إلي مكتبها .. كانت لديه فكرة واحدة راسخة في عقله الساخن بالغضب .. أنه ما من شيء أفسد عقل ابنته وضيع مستقبلها وبدد حلمه في أن يراها طبيبة يزدهي بها علي الآخرون إلا ( المدعوق ) الشعر والأدب !
ألقي بكومة كتبها الدراسية علي الأرض ، بينما " مروة " تختبئ صارخة خلف أمها التي تشاركها الانتحاب والذعر .. فتش بين أوراقها حثي عثر علي كراسة فتحها فوجد فيها أشعارا فمزقها بقسوة وألقاها أرضا وداسها بقدميه في غل يصيب المرء بالهلع .. ثم أخذ يفتح الأدراج ، درجا درجا ، ويفتش وسطها منتزعا الأوراق ، التي تبدو له مشبوهة ، من بينها ويمزقها بشراسة وقسوة ، وفي النهاية أخذ يمزق كل ما يجده أمامه من أوراق بريئة المظهر كانت أم مشبوهة .. كانت " مروة " تنظر غير مصدقة لما يحدث أمامها .. إنه حلم كامل شيدته ، ورقة فوق ورقة وسطرا يعلو سطرا ، لتراه ينهار ويتبدد ويُهدم بقسوة أمام عينيها !
كان الأب في سورة حالة عصبية يصعب أن يجرؤ فيها مخلوق علي الاقتراب منه أو الوقوف بوجهه .. لكنها اندفعت لا مبالية بأي عواقب يمكن أن تحيق بها محاولة منعه من هدم المزيد من بيتها الدافئ .. خباءها المريح الذي تهدهد فيه أحلامها وتلملم فيه بقاياها ، وتجمع أشتات نفسها الممزقة محال .. محال أن تتركهم يمزقونه أمامها دون أن تبذل جهدا للدفاع عنه !
اندفعت صوب أبيها وأخذت تحاول استنقاذ بعض الأوراق من بين يديه .. كانت دموعها تسيل غزيرة ولا تكاد تري ما حولها ، لكن حطام أحلامها وهو ينهار كان يصم آذانها بحيث أنها لم تكن بحاجة لرؤية أوراقها العزيزة ، الأوراق القليلة الوزن التي خطت عليها حياة كاملة تزن طنا ومن الأحلام طنين ، وهي تتمزق بيد غضوبة غبية جلفة لا تعرف رحمة ولا تفقه ودادا ولا جموح الروح وتطلعاتها اللانهائية .. صوت الأوراق وهي تتمزق بين يدي الأب كان يغنيها تماما عن رؤية أي شيء كما تغني سماع أصوات الإنفجارات المدوية عن رؤية ألسنة النار وهي تلتهم ضحايا الحريق .. لا شيء في الكون يمكن أن يبقي ثابتا في عقلها بعد تلك العقوبة القاسية التي نالتها !
فشلت في إنقاذ حرف مما كتبت ولم تجد في نفسها القوة لتدفع الأب لكي يخلي سبيل أحلامها المخطوطة علي الورق .. أي جريرة ارتكبت لتعاقب بهذا الشكل ؟!
لا تملك هي ولا غيرها جوابا .. ولا حتى الأب الذي يأتي بنهم الآن علي ما ذرفته ابنته من سطور يعتبرها هي المسئولة عن فشلها وخيبة أمله المرة فيها !
بعد أن عجزت عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه وقفت كالبلهاء الميتة ترمق ما يجري حولها .. كان الأب ينبش أوراقها ويمزق أشعارها وقصصها وهو يصيح بالسباب والشتائم التي لم تتوقف عندها هي ، بل أمتد لسانه الطويل لينال أمها الواقفة مرعوبة مصعوقة متهمة إياها بالتهمة التقليدية الأولي في مجتمع كهذا .. إنها لم تعرف كيف تربي ابنتها !
وبعد أن أنتهي حريق الأب الذي أضرمه في البيت وفي ابنته خرج فائرا غاضبا وهو لا زال يصيح باللعنات والشتائم .. لكن الجديد أنه بدأ نوبة تهديد خطرة لا يعرف مدي ما ستحدثه من أثر في فتاته المسكينة العاجزة ولا إلي أي طريق مظلم ستودي بها :
" والله العظيم ما هي معتباها تاني ! والله ما هخليها تشوف وش الشارع .. هكسر رجلها ورقبتها وهجوزها لابن عمها " يونس " وأخليها تعيش بقية حياتها خدامة لمرت عمها وعياله .. مش أتبترت علي النعمة خلاص خليها تشرب بقي .. والله ما هتطول حاجة من كل اللي شافته مني بعد كده ! والله .. "
حلف الأب مائة يمين مغلظة وغير مغلظة بأنه سيفعل وسيفعل وأنه سيحرمها من كيت وكيت .. كان تهديداته الملتهبة تصل إلي أذني " مروة " لكن لم يكن لها  أدني أهمية بالنسبة لها !
فالفتاة وقد رأت حلمها يتمزق وينهار ويتفتت ويمُزق بيد غليظة أمامها لم يعد لأي شيء قيمة أو أهمية بالنسبة لها .. ما قيمة أن يهددون الأكمه بسمل عينيه وكيف يخاف القرد أن يسخطوه؟!
هربت من أمام أبيها إذن ، ليس خوفا من تجدد عدوانه عليها ، فهي واثقة من أنه لو كواها بالنار الآن فلن تحس لها حرا ولن تشعر لها بألم .. لقد فقدت الفتاة شعورها كله دفعة واحدة وأنقطع خيط أملها وحلمها انقطاعا عنيفا .. وبُترت صلتها بالواقع بترا كليا لا هوادة ولا رحمة فيه ؟!
لماذا لا يقدر أولئك القوم قيمة الحلم .. لماذا لا يتركون الإنسان يحلم ويعيش وفق ما يريده حتى وإن أخطأ أو كبا أو تعثر .. أليس من عثراتها تتعلم الجياد العدو ومن كبواتها تُلقن الفرسان أصول الرجولة والشموخ ؟!
لا مكان للحلم هنا ولا تسامح معه .. هنا مجتمع غليظ يكتم أنفاسك بيد ، ويقفل عينيك بيد ، بينما يلقي علي مسامعك العظات الجافة والحكم اليابسة .. منتظرا أن تسوغها وتبتلعها بلا شربة ماء ولا رشفة أمل !
فقدت بوصلتها تلك اللحظة وتحطمت صلتها بكل ما حولها .. لم يعد شيء يخيفها أو يعنيها فقد شهدت حلمها وكلماتها ، التي استنزفتها من دمها ومن أوردتها ، وهي تُسفح أمامها وتداس بالأحذية وتتفرق بين القبائل !
وهم  وهم وحلم لا سبيل للوصول إليه .. وغلظة وجفوة تثير الدهشة والسأم .. ما قيمة كل هذا ؟!
ما قيمة البقاء والتشبث بالبقاء وسط كل هذا ؟!
ما قيمة أن تحيي حياة الموت خير منها ولما تخاف موتا هو أكثر راحة وأمنا من الحياة ذاتها ؟!
شهقة يأس ودفقة قنوط تمشت في عروقها .. أنعدم الطعم في فمها وأحست بمرارة راسخة في حلقها وبصخرة تعوم في أحشائها .. انسكب الماء البارد بسماجته وثقله في أمعائها وتلقت من الكون حولها صمتا متآمرا شاهدا بعين عمياء متعامية عما يجري مما كان يجب ألا يجري ولا يٌُسمح له بأن يكون !
كان .. يكون ..  كينونة عدمية ثقيلة جافة مخيفة ، مفرطة القسوة ، مفرطة الخفة ، بدينة مترهلة ، فظة جلفة ، بلهاء لا تملك ذكاء إلا في التأمر والكيد ، خفيفة بلا وزن ولا قيمة لها في سوق الذهب ولا في سوق النخاسة .. متجذرة كوباء ، مفلطحة كألم ممتد منتشر ، منضمة علي نفسها كحية خطرة تتهيأ للغدر ، باطشة جبارة ، جسورة مقتحمة جبانة في الحقيقة لكنها تتظاهر بعكس ذلك .. قبيحة قميئة كريهة يحبها البشر ويتقاتلون عليها حتى الموت !
بينما الموت وحده يحمل نسمات الراحة ويحمل وعدا ، ولو كاذبا ، بتخفيف الألم والقضاء عليه ..
الموت ؟!
تري أي راحة في الحياة وأي سرور بها .. وأي شقاء في الموت وأي مدعاة للحزن فيه ؟!
اختلطت الأفكار في رأسها وتشوشت .. وبرغم ذلك كانت تشعر أن رأسها خاوية يصفر فيها الهواء .. خرابا بلقعا في رأسها وعمار ليس إلا أنقاض بناء مهدم يخيم عليه الخراب !
خراب يعمر رأسها وهواء يضربه وموت كحلم مزيف جميل تدور حوله كل أفكارها الآن !
ابن عمها " يونس " هل يعتقد أنها ستبقي ليعاقبها علي شيء كان من الحري أن يعاقب هو ، لا هي ، عليه ؟!
أيعتقد أنها ستسمح له بأن يذبحها ميتة بعد أن ذبحها حية وداس بحذائه علي رقبتها ؟!
كان الأبوان قد هبطا إلي الطابق السفلي من المنزل .. نجحت الأم في دفع الأب للنزول وترك البنت في حالها حتى يهدأ كليهما .. أستمر يطلق تهديداته الحارة مقسما بالطلاق ألف مرة علي أنه قادر علي فعلها وسيفعلها .. من جانبها راحت الأم تجيب عليه بخنوع أن أوامره ستسري علي رقاب الكل وأن أحدا لن يعترض علي أي قرار له وأنه سيد البيت المطاع مرهوب الكلمة ..عزيز الرجال الذي لم تنجب بطون النساء مثله !
مزحة وسخرية وأي سخرية .. مرة مرارة العلقم في حلق جائع تائه في الصحراء ليس أمامه إلا العلقم غذاء وشفاء !
في المندرة جلس الأب وجلست الأم ملاصقة له .. وأخذت تهدئه وتسوق له مليون ومليون مبرر ليهدأ ويقلل من حدة انفعاله :
" أهدا يا أخويا إحنا عايزينك .. ملناش غيرك يا أخويا .. والنبي ما تزعل نفسك .. كل كلامك هيمشي عليها وعلينا كلنا .. عايزها تعيد السنة هتعيد .. عايزها تترزع*  في البيت مش هنخليها تعتب الباب تاني .. آمال يا اخويا .. ده أنت راجلنا وكلمتك تمشي علي رقبة الكبير قبل الصغير ! "
ويبدو أن تلك الدفقة من النفاق الأنثوي قد زادت من حمية الأب .. الذي وجد مطالبا بأن يتقن الدور ، ويجود إنتاجه الذكوري مؤديا حرفته في فرض سلطته الجوفاء بمهارة .. فأندفع مرة أخري يزعق وينتر ويشخط ويسب معلنا إصراره علي إخراج البنت من المدرسة ومنعها من إتمام تعليمها تماما .. لكن في الحقيقة أن الأب لم يكن في داخله ينوي الإقدام علي ذلك فعلا !
كان يهدد فقط ليخيف " مروة " وأمها .. ولو أن البنت ركزت في كلام أبيها لأدركت أن ذكره لاسم عمها " يونس " تحديدا دليل علي أن تهديداته كلها فشنك .. فعمها " يونس " وأبيها يكرهان بعضهما كراهية البين والنية !
لو أنها ركزت .. لو أنها فكرت .. لو أنها انتبهت ؟!
ولو التي تفتح عمل الشيطان كثيرا ما تغلقه أيضا .. وتتممه !
وقد تممت لو عمل الشيطان وأكملته علي أحسن وجه .. وهكذا وبينما كانت حدة المعركة تهدأ تدريجيا في غرفة الجلوس ، سمع الأبوان فجأة صوت ارتطام مكتوم أمام باب البيت .. لم يدركا ما يحدث ولم يفهما شيئا حتى سمعا إحدي جاراتهم تصوت بأعلى حسها وتصرخ بأشد لجاجة :
" يا لهوي يا لهوي .. البت يا " محاسن " .. البت يا خيتي .. البت يا حزينة ! "
ذلك أن " مروة " كانت قد تسللت إلي السطوح .. وصعدت السلم الخشبي الموصل إلي أعلي السطح المخصص لإلقاء الكراكيب الغير مستعملة .. ورمت نفسها من أعلي الدور الرابع لبيت أبيها !

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...