التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السيد " جوته " من ستاوفين !

 


 
  
لعلعت الصرخات المستغيثة في سماء ( ستاوفين ) المكفهرة المظلمة .. كانت الصيحات والاستغاثات قادمة كلها من منزل السيد " يوهان جورج فاوست " ، من كوخه الفقير المنعزل الذي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو المرور بجواره ، في جانب من فناء ضيق معتم ممتلئ عن آخره بأكوام من روث الحيوانات والحشائش الجافة ، التي حرقتها أشعة شمس النهار ، وبقيت مكانها دون أن يستفيد منها أحد ، أو يفكر في إزالتها وتنظيف الفناء منها ،  وتجمعات القمامة المتعفنة ، التي تدل دلالة واضحة على مستوي الاهتمام بالصحة والنظافة لدي من يملكون هذا الفناء ، والكوخ القذر القائم في ناحية منه .. لم تكن رائحة العفونة والسقم بغريبة على ذلك المنزل الملعون ولا على قاطنه ، وبدورها لم تكن رائحة كتلك غريبة على المدينة التي تنضح أجواءها بالفقر والضنك ، الحاجة والعوز يهيمنان على كل شيء هنا .. إنهم فقراء جائعين وأطفالهم يعانون المرض والهزال ، يموتون في أعمار مبكرة ومن يهلكون من مواليدهم ، نتيجة الفاقة والمرض والجوع والبرد وانعدام وسائل التدفئة ، أكثر ممن يقدر لهم البقاء .. أطرافهم كسيحة ووجوههم شاحبة ، والسنوات المنصرمة لا تزيدهم إلا شقاء على شقاء .. ومع ذلك فلم تكن كل تلك الأمور هي الخطر الأعظم الذي يهددهم ، لقد تعودوا على الفاقة والجوع ودفن مواليدهم قبل أن يمنحوهم أسماء ، تجعل منهم بشرا معترف بأنهم مروا ، يوما ما ، فوق سطح الأرض ، تعودوا كل ذلك واعتبروه قضاء قدريا إلهيا مفروضا عليهم ، الرب يريد لهم ذلك ، وهم يتقبلون ما يقوله رجال الكنيسة وأحبارها .. إن ثمة جنة ، لا أول ولا آخر للخيرات التي تحويها ، تنتظرهم بعد الموت .. كل ذلك لم يعد يقض مضاجعهم ، التي لا يقر لهم قرار فوقها من فرط خشونتها وجفافها ، يتقبلون كل ذلك .. أما ما لا يمكنهم أبدا تقبله أن يأوي رجل ملعون متشيطن إلي قريتهم !
كان الكوخ المنزوي ، بعيدا عن قلب المدينة وسككها الترابية المتعرجة وطرقاتها القذرة المليئة بروث الحيوانات وفضلات قطعان الخنازير  ، والفناء الملحق معه يشكلان مصدرا للرعب والهلع بالنسبة لسكان (ستاوفين) أكثر من أي لعنة أو أسطورة أو خرافة مرعبة .. في داخل الفناء كان الكوخ الصغير ، بمثابة المنزل ، الذي يسكنه رجل لم يهبط البلدة إلا منذ سنوات يسهل عدها على أصابع اليد الواحدة .. إنه محتال ودجال جواب ، يدعي القدرة على شفاء الأمراض وطرد الشياطين ، وصنع تعاويذ الخير ، وتطهير البيوت من الكيانات القديمة الشريرة الساكنة فيها ..  جاء من ( ورتمبرج  ) ، هكذا قال على الأقل ، ومارس مهنته بضعة شهور دون أن يشك فيه أحد من سكان البلدة ، حتى بدأت رائحة كريهة تنتشر حوله .. رائحة شريرة مزعجة !
لقد بدأت أشياء تُقال وتتناثر حول الرجل .. إن سحره لا يخيب وتعاويذه لا تفشل ، لكن قدراته بدت أكبر مما ينبغي .. إن كوخه يضيء ليلا بضوء غامض ، ينير وحده وسط المدينة الصغيرة المظلمة المعتمة ، فمن أين يحصل على ذلك الضوء اللامع .. الضوء الشيطاني ؟!
شوهد الرجل أيضا في مواقف مريبة ، وضُبط وهو يؤدي صلوات لطرد الأرواح بلغة غريبة ، حقيقة أنه أستكمل صلاته باللاتينية ، وحرر الروح المسكينة المقيدة من أغلال الشيطان ، الذي كان يوثقها ، لكنه ، ما إن أختفي راجعا إلي بيته ، حتى بدأ الناس يتناقلون حادثة الليلة الغامضة !
بأي لغة كان الرجل يصلي .. وماذا كان يقول فيها ؟!
لقد أقسم مرتل الكنيسة الرابع ، الذي كان حاضرا أثناء طقس طرد الروح الشريرة ، أن الدكتور " فاوستوس "  لم يكن يستخدم اللغة اللاتينية ، وأنه لم يكن يستنجد بالرب .. فبمن كان يستنجد إذن ؟!
لقد كانت الروح الشريرة تضحك وهي تغادر الجسد المسكون المتوجع .. لم يسمع أحد بروح شريرة طريدة تضحك من قبل !
بأي لغة كان يؤدي صلواته  ، وماذا كان يردد فيها ولما كانت روح الشيطان تضحك وهي تغادر مبتعدة ؟!
لقد فشل كل رجال الكنيسة في إخراج روح  النجاسة تلك من الأم التي لها سبعة أطفال ، لكن الجواب المجهول المشعوذ هو وحده الذي نجح في ذلك .. لماذا هو بالذات وكيف ؟!
ليست اللاتينية .. فما هي هذه اللغة ؟!
وأين تعلمها ، ومن علمها له ، وهو ليس إلا مشعوذا فقيرا يجد رزقه في القيام ببعض الأعمال التافهة ، وتناول أجره البسيط عليها ، ليس ابنا لأحد النبلاء فكيف تلقي تعليمه وأين ؟!
من أين حصل على الوسائل وكيف يمكنه طرد الأرواح الشريرة وهو لم يحصل على تعليم كنسي من أي نوع ؟!
طافت الأسئلة وتلاعبت بعقول الناس البسطاء .. بدأ الدهماء يشكون ، وحين يشك الدهماء فإنهم يعتبرون كل أمر يجري دليل على صحة شكوكهم ، وليس العكس ..
حتى جاءت تلك الليلة التي شوهد فيها " فاوستوس " يتحدث إلي نفسه في فناء بيته المظلم الخاوي ، لم يكن يهذي كما يهذي المجانين بعبارات لا رابط بينها ، وبطريقة سريعة وعشوائية ومتداخلة ، لا .. فلقد كان الرجل يتبادل حديثا جديا مع أحد يبادله الحوار ، ويرد على أسئلته ، ويجيب على عباراته بعبارات مثلها .. كان يلقي الجملة ، ثم يصمت وقتا مناسبا لكي يحضر محدثه جوابا ويلقيه عليه .. لكن من يكون محدثه والفناء العفن لا يضم شخصا آخر سواه ؟!
في الصباح جيء بمرتل الكنيسة ليبدي رأيه في تلك الحادثة التي شغلت البلدة وأطالت ليلها ، الذي لم ينم فيه أحد ، وقد كان رأي المرتل رتيبا ومتوقعا :
-" إنه مشعوذ وعابد للشيطان ! "
أرتجف الجهلاء من حوله ، إلا أن أقلهم جهلا سأله منتظرا ارتباكا وعجزا عن الإجابة :
-" فكيف يطرد الأرواح الشريرة وهو خادم لسيدها ؟! ( المقصود الشيطان ) 
بلا مشقة أجاب مرتل الكنيسة المتعالم :
-" ببعلز بول يطرد الشياطين ، بسيد الشياطين يطرد الشياطين .. إنهم يمثلون علينا ويستدرجوننا لنصدق ذلك الساحر ! "
عُرفت العلة وُعرف العلاج ، سيتركونه وحده ، يتجنبونه ويبتعدون عنه ، لن يقدموا على عمل ضده ، فلا زال أغلبهم يخشي بأسه ، وبعضهم يحمل له معروفا صنعه فيهم ، وفي أطفالهم الذين لا تترك الشياطين أجسادهم العليلة المريضة .. لكنهم سيقصونه ، هو وأرواحه الشيطانية وسيده ، في كوخه المنعزل .. لن يطلبوا خدماته ، ولن يقبلوها إن عرضها هو !
وخلال أسبوع كان قرار الإقصاء والبتر القاسي قد وضع موضع التنفيذ وظهرت ثماره ، تُرك الدكتور" فاوستوس " وحده ، ولم يعد أحد يطلب منه عملا ، ولا يستدعيه لتقديم علاج أو لطرد شيطان ساكن في جسد قروي أهلكه الجوع .. وبذلك أنقطع مصدر رزقه أو كاد ، لم يعد يحصل على نقود ، وبدأت أحواله تسوء .. تسوء للغاية ،ومعها ساء مزاجه ،وضاقت روحه حتى بلغت حلقومه .. إنها القرية رقم خمسمائة التي يفتضح أمره فيها ،ويقصيه سكانها ويقضون على مصدر عيشه ،ساء مزاجه وتلبسه الغيظ والحنق .. فقرر أن يعاقب من كان سببا في تلك اللعنة التي تحمل بها على غير رغبة منه !
لكن المهلة المتاحة أمامه كانت موشكة على الانتهاء ، وجولاته بين السماء والأرض ، التي أختتمها بمنزل صغير وبإقامة غير مستقرة في مدينة صغيرة لا يعرفها ولا يهتم بها أحد ، كانت قد قاربت نهايتها الطبيعية ، وحينما دوت صرخاته المخيفة في تلك الليلة ،لم يجرؤ أحد أو يحاول مساعدته أو تقديم النجدة له .. أرقت صرخاته المستغيثة ليل ( ستاوفين ) المعتم حتى ما بعد ما منتصف الليل بساعة ، ثم صمتت فجأة ،سكت كل شيء وأستعاد هدوئه الخالد المظلم المقيم .. لكن أحدا لم تواتيه الجرأة ليذهب ويري ما هناك !
لماذا كان الدكتور " جورج فاوستوس " يصرخ طوال الليل المدلهم تقريبا ؟!
...
في الفجر اقتحموا البيت ليحصلوا على الإجابة .
 كان الهواء ساكنا والظلام لا يزال يخيم على الأرجاء ، في مقدمة الكوخ كان فناء قذر مليء بأكوام الروث والحشائش الجافة ، حسنا إنها مبتلة الآن ، لم يتساقط المطر ليلة الأمس ، فلابد أن الحشائش قد ابتلت من مصدر آخر غير السماء .. لقد اهتز المنزل كله مساء الأمس عندما بدأ الدجال الجواب يصرخ ،صرخات مرعبة ومدوية ، صرخات رجل يتعذب عذابا فوق احتمال البشر ، صرخات رجل صُفيت دمائه تماما لتبلل كمية هائلة من الحشائش الجافة في فناء بيته !
كانت الحشائش مبتلة ومخضبة بالدماء ، وعلى باب غرفة نوم الدجال الذي لم يعرف أحد حقيقته كاملة أبدا ، كانت جثته تنتظر .. جثته الكاملة المشوهة !
 كامل الأعضاء ، ميتا ملوثا ، ومبتلا بالدم .. لكنه كان يفتقد ثلاثة أشياء هامة يمتلكها كل جسد حي .. المخ والأسنان ومقلتا عينيه !
لم يولد " جورج فاوستوس " خاليا من تلك الأشياء ، كان يمتلكها حتما حتى مساء الأمس ،لكنها الآن لم تعد ملكه ، لم تعد متصلة بجسده .. لأن ثلاثتها كانت معلقة بخيوط غريبة سميكة  ، الغرفة مليئة وغارقة بالدماء ، بينما الأعضاء المنزوعة من جثة المشعوذ الخطير المخيف معلقة بخيوط غريبة .. وتتدلي من سقف الغرفة كثريات من موت ومصير مؤلم .. مصير مخيف لم يتخيل مدعي المعرفة يوما أن ينتهي إليه !
 
...
نهض من الدماء مترنحا صافي الذهن أبيض العقل !
لقد مرت نحو ثلاثمائة عام منذ أن سقط في بحيرة دمه ميتا ،ملطخا بعقوبة تطلعه إلي قدر أكبر من المتاح للبشر من المعرفة .. لقد نال عقابه بيدي من أعطاه المعرفة وفتح له الأفاق من قبل،إنه ليس نادما على شيء صنعه في حياته ، ولا حتى على نقاط دمه التي وقع بها عقده المظلم المشئوم ، لقد نام نومة هادئة منذ تلك الليلة التي مُزق فيها في ظلام ( ستاوفين ) ووحشتها ، ووحدته هو الشرسة الوحشية !
لكن أولئك الملاعين ما فتئوا يحاولون استدعائه وجلبه من عالمه المظلم الصامت البارد ، عالمه الذي وجد فيه ، رغم كل شيء ، الأمن والسلام .. جيش من الموهوبين ،وممن يهوون دس أنوفهم في شئون الغير ، والنبش في القبور التي يجب أن تبقي مغلقة على أسرارها المظلمة ، إنه يتذكر حشد وجوههم الفضولية الكريهة ، وأسمائهم كذلك .. " مارلو " ، " مان " ،و" مان " آخر ، " بيرليوز " ، " براتشيت " ، وشخص يدعي " بيسوا " .. ومن أيضا ؟!
كثيرون !
 لكنهم جمعيا عجزوا عن استحضار روحه أو إزعاجها ، لقد كتبوا ما تخيلوه عنه، عن الساحر والمشعوذ وحليف الشيطان الرهيب ، حكايات قيلت لهم فدونوها .. أضفوا القليل من أرواحهم ، من خيالاتهم ، وربما من أمراض أنفسهم عليه وعلى قصته .. لكن أحدا منهم لم يلامس روحه ملامسة حقيقية ، ولم يتمكن من غرس ثمرة جديدة في شجرته المجدبة ،التي هوت ميتة منذ قرون ثلاثة .. وحده ذلك الألماني المزعج هو الذي أنتزع روحه من مستقرها ، مواطنه اللاحق العبقري ، طوافة روحه بين السماء والأرض ، لقد أزعج سلامه وجلبه من عالمه .. ألا فلتهدأ يا " فولفجانج " ، ولتنم في سلام ، فلقد بددت سلامي يا رجل ،وأكاد أن أبدد سلامك بدوري .. وأحملك إلي عالمي الصامت البارد لتجاورني إلي الأبد !
مشي بقدمين متألمتين تنزفان دما ، إنه يشعر بالأمن والسلامة والصحة طالما ظل مستلقيا في وضعه الذي دُفن عليه ، لكنه ما إن يُجبر على تلبية نداء متدخل سخيف والتحرك من موضعه ،حتى تهاجمه آلام الكون كله مخترقة لحمة ونافذة عبر عظامه .. إنها العقوبة المعتادة التي تُفرض على من يجرون وراء المعرفة العليا .. الألم الأبدي أحياء وأموات !
ثلاثمائة عام من الموت ليست شيئا يذكر إذا قورنت بحجم المعرفة الشاملة ،التي أطلع عليها قبل أن يهوي محاطا بأطباق الظلام الشامل ، الموت يقتل العارفين .. لكنه أعجز من أن يقتل المعرفة نفسها !
لقد ترك كنز معرفته منتشرا ومتناثرا في الهواء ، ولقد ألتقط رجل من موطنه ، بعد كل تلك السنوات ،الخيط ، فكان لزاما عليه أن يلبي النداء .. إنه قادم اليوم ليقوده إلي الموت بيده !
غرفة مكتب أنيقة وجد نفسه فيها ، يعرفها جيدا فكم استدعيت روحه إليها ،مكتب كبير وأوراق متناثرة ، وشمعدان فضي مزين بشموع كلها مطفأة .. الهواء ساكن والحرارة ثابتة ، كل شيء ميت هامد ساكن منحني الظهر مستسلم مستعد ، إن العبقرية التي يحويها الجسد تتسلل خارجة الآن ، تفارقه على كره .. فقد آن أوان موت الجسد .. ولكن العبقرية لن تموت معه !
لقد نصحه الأطباء بلزوم الفراش لكنه تمرد عليهم ورفض الانصياع ،كرفيقه الجواب بين السماء والأرض .. رافقا بعضهما ستين عاما !
ستين عاما يا " فولفجانج جوته " وأنا حبيس أدراجك وأوراقك ، حبيس روحك ، رفيق لروحك .. والآن أتي الوقت لتتلاصق أرواحنا وتندمج إلي الأبد !
كانت أقدامه تنزف وخيوط الدماء التي تسيل منها تلطخ السجاجيد الفاخرة الغالية ، تلطخ أسطح منزله ، كما لطخت لعنته روح " جوته " وجعلتها تهيم غير مستقرة ، سابحة في الهواء ستين عاما كاملة تطارد سرابا وتعشق وهما وتناجي خيالا وتقلق راحة ميت ..
لكن كل شيء سينتهي الآن .. الآن كل شيء سينتهي !
إنه يجود بدمائه النازفة الحارة بكرم على أرض مكتب " جوته " ، لقد قضم الشيطان أعقاب قدميه في تلك الليلة البائسة ، آتاه هائجا غاضبا وحنقه الساخن ينبعث أمواجا من مقت من عينيه اللتين تشعان بنار الجحيم  .. إذن أنت تريد أن تفلت يا " فاوست " العزيز ؟!
حسنا لم يفلت أيهما ، وبقيا مربوطين معا يتجولان بين السماء والأرض .. وفي لحظة وجد عميقة من الكون جاء رجل ليطلع على سرهما ويصف رحلاتهما .. اليوم هو مرشح للحاق بهما والانضمام إليهما .. المرشح الوحيد !
كان " جوته " ، الذي يعكف على أوراقه ، منحنيا يلمس ما كتبه ويفحصه بعينين لم تعودا تريان  تقريبا ، إنه يري جيوشا سوداء تتقدم نحوه من الظلام ، إنه الموت جاء يطلبه ،وهو لا يخشي الموت .. لكنه يخاف أن يذهب قبل أن يتمم عمله !
النهاية .. يجب أن يضع نهاية لقصة " فاوست " قبل أن تنقضي آخر ساعات عمره .. ويضمه القبر والصمت والوحشة !
مديرا ظهره غير منتبه لمن ولما يأتي من خلفه ، إنها ليلته الأخيرة والنهاية تعانده وتتمرد عليه .. يمسكها فتكاد تفلت منه ، يقبض عليها بيدين مصرتين فتتبدد كسحابة دخان وتنطلق متلاشية أمام عينيه ، غامضة كحياة صاحبها ، مروعة كموته ، مخيفة كمصيره ، بسيطة كسره ، عذبة كالهدف الذي تطلع إليه ، مؤلمة كعقوبته التي لحقت به ، ساحرة كرفقته وجولاته بين السماء والأرض ، خالدة كاسمه ، عبقرية كالخطة التي وضعها لحياته ولم يتاح له أن يتممها .. أخيرا اهتز " جوته " وهو يشعر بيد تتلمس عنقه من الخلف وتلامس كتفيه !
اهتز طربا لا جزعا ، فهو يعرف أنه آت وينتظره ، ليست ستون يوما أنتظره فيها ورافق ظله وداهم خياله ،وهو في أشد أركان قبره ظلاما وبرودة ووحشة .. إنها ستون عاما .. ستون عاما أوشكت أن تنقضي وينقضي معها عمره !
نفخ " فاوست " باتجاه الشمعدان فأضاءت شموعه كلها وتراقصت خيوط الضوء وتداخلت طربا ، ضرب حفيف الهواء ظهر " جوته " ،وعنقه ومؤخرة رأسه ، فهم بأن يستدير ليري من خلفه ، رغم أنه توقع من هو ولماذا حضر الساعة .. لكن زائره أوقفه !
تمسكت قبضة قاسية بمؤخرة عنقه وأبقته على وضعه الأول وآتاه صوت ، طالما تخيل نبراته وسمعها ترن ، في سكون الكون وضجيجه ، في أذنيه وتتسلل حتى منابع روحه ، يقول هامسا :
-" لماذا لا تتركونا نحن الموتى في حالنا .. لما لا تدعوننا ننعم بنومنا الهادئ في القبور .. لما تنتزعون أرواحنا وتستحضروها إلي هنا من جديد .. تعيدون  إلينا
 كل تلك الذكريات واللحظات التعسة .. تبددون سلامنا فنبدد سلامكم .. تبحثون عنا فنأتي إليكم .. ما السر وراء كل ذلك يا عزيزي ؟! "!
بطرف عينه لاحظ " جوته " الدماء التي لوثت سترته الأنيقة عند الكتف وقال :
-" لأننا مثلكم .. ننشد المعرفة ونبحث عنها ! "
أطلق " فاوست " ضحكة عالية مشروخة ،وقال مستهينا :
-" المعرفة ؟! ماذا جنينا نحن من المعرفة لتجروا أنتم ورائها .. الشيء الوحيد الذي عرفناه من المعرفة أنه لا خير في المعرفة .. هل تحب أن تنظر إلي وجهي لتعرف عواقب المعرفة ! "
أندهش " جوته " ، الذي قضي من عمره ستة عقود يداعب المعرفة ،ويتلمس أسرارها مع روح هذا الشقي الواقف خلفه الآن ، ورد بثقة :
-" نعم إنني أتطلع لرؤية وجهك .. لتزيد محبتي للمعرفة وليزيد يقيني فيها ! "
كاد يستدير في مقعده ،لكن ضغطة يد قوية أوقفته مرة ثانية ،وجاءه صوت متلطف يقول راجيا :
-" ليس بعد .. لم يحن الوقت بعد .. أمامك ساعات ثلاث .. سأمليك النهاية ثم نمضي ! "
أرتجف بدن " جوته " كله وداهمته لحظة خوف ، لكن إرادته الصلبة تفوقت على كل شيء .. شدد عزمه ومد يده لتناول قلمه لكنه وجد ريشة تطير فوق مكتبه ،وتهبط نحوه في رقة بالغة ، كانت ريشة كبيرة وطرفها مبلل بحبر أحمر كثيف .. هبطت على كثب من يده الممدودة أمامه ، كان يعرف جيدا ما عليه عمله ، قوة خفية تأمره وترشده إلي ما يجب عليه فعله ، وهو ينفذ صاغرا راضيا .. تناولها وتأمل طرفها :
-" إنها مبللة وجاهزة ! "
جاءه الصوت مفسرا ومطمئنا ثم أستكمل بسخرية هائلة :
-" مبللة بدمي منذ ثلاثمائة عام ! إنني أهبك دمي حبرا لقصتك كما وهبتني سنواتك طعاما لإحياء حقيقتي الميتة .. إنني " فاوست " الدجال الأكبر أسدد ديوني بفوائدها المركبة ! "
أغمض " جوته " عينيه ،بينما شرع شبح " فاوست " يملي عليه نهاية قصته ، نهاية جولات إنسان يتوق إلي المعرفة ، وشيطان يحلم بانتزاع روح عارفة ، بين السماء والأرض .. لقد كتب الحقيقة كاملة لكن تبقت النهاية وحدها !
وراح " فاوست " يملي ويملي ، بينما جرف الحماس للمعرفة ، لمعرفة النهاية ، " جوته " ،فنسي تماما أنه يقضي آخر ساعات عمره برفقة شبح دامي لدجال حيره ورافقه واندمجت روحاهما معا لستين عاما كاملة !
...
وبعد انقضاء ثلاث ساعات كان المكتب الفخم قد أستعاد هدوئه وصمته الخالدين .. لا أحد ، من الخدم ، يجرؤ على اقتحام مكتب سيدهم الكاتب العبقري وهو يعمل ،لذلك بقيت أوراقا محبرة مسودة بسطور قليلة تحت أسفل رأس السيد " جوته "  ،الذي أسند رأسه إلي مكتبه ،ومضت عيناه تحدقان في لا شيء ، بينما يرتكز ذقنه مستقيما فوق أوراق تحوي النهاية الأصلية ،والوحيدة لقصة وملحمة " فاوست " الضخمة ..
  أما شبح " فاوست " نفسه فكان قد أختفي ،وعاد إلي عالمه السرمدي المظلم الساكن البارد .. غير مخلف سوي بضع بقع من الدماء على السجادة الفاخرة ، وعلى كتف سترة الشاعر العظيم الأيمن .. منهيا بذلك آخر مهامه على الأرض .. وآخذا روح " جوته " معه !

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...