كانت تكتب خواطر وأشعار وخلافه في دفترها الضخم وعيناها
تجول بين الصفحات وهي لا تكاد تدرك أن الجميع حولها يفعلون مثلها ، ويتشاغلون بأي
شيء ريثما تنتهي تلك المحاضرة المملة السخيفة .. لم يكن العيب في السيد المحاضر بل
المادة نفسها كانت سمجة وثقيلة وجامدة ، وكانت أغلبية الدفعة ، إن لم تكن الدفعة
بأكملها ، يكرهونها كراهيتهم للموت ..
لم تكن " مروة " طالبة مهملة أو كارهة لدراستها
، لكن بزوغ بوادر النبوغ الأدبي والشعري عندها كانت تعرقل سير تفكيرها العادي في
أغلب الأوقات ..
اكتشفت نفسها حين دخلت المدرسة الثانوية ، قبل ذلك كانت
تخطط لدخول القسم العلمي ، لتحقق حلم أبويها بأن تدرس الطب وتصير دكتورة قد الدنيا
.. لم يكن هذا الحلم حلمها الخاص ، لكنها كانت تتقبله بشكل ما ، وربما تتعلق به
أيضا .. لكن الصخرة كانت تقف في الطريق تعترضها وتنتظرها لتصطدم بها مباشرة ..
اصطدمت بصخور الفيزياء والكيمياء والعلوم الثقيلة في الصف الأول الثانوي ، حتى
الرياضيات التي كانت تحبها في المرحلة الإعدادية وتحوز فيها أعلي الدرجات ، تغيرت
نظرتها لها بعد أن وجدت نفسها في مواجهة وحوش الرياضيات والهندسة الجافة في
المرحلة الثانوية .. تخطت اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والتاريخ
والجغرافيا بدرجات جيدة جدا ، بينما عبرت من نفق العلوم والرياضيات بصعوبة بالغة ،
وبدرجات علي ( الحركرك ) ..
دهشت الأم لهذه النتيجة غير المنتظرة إطلاقا من ابنتها
طبيبة المستقبل ، بينما أنفجر الأب غاضبا لما أعتبره فشلا وخيبة وتقصيرا من ابنته
الكبرى .. لكن الجيد في الأمر أن "
مروة " اكتشفت نفسها مبكرا قبل أن تتورط في دراسة ، وربما عملا ، لا تحبهما
ولا يناسبان مزاجها الشخصي وميولها الطبيعية .. اكتشفت السر إذن ، لكنها احتفظت به
لنفسها ، درجت علي كتابة خواطر وأشعار قصيرة ، لا يتعدي كل منها بضعة أسطر ، لكنها
كانت ترفعها إلي عالم آخر ترفرف فيه بأجنحة من نور وهي تخطها بيمينها .. لكنها
حرصت علي إخفاء تلك الكنوز المغبونة عن عيون كل من في البيت ، الأب والأم وحتى
إخوتها لم يعلموا حرفا عما تكتبه .. بل حتى رفيقات الدراسة المقربات لم تخبرهن
بشيء .. أحيانا كانت تشعر بالخجل مما تفعله ، وكأنها تأتي منكرا أو ترتكب جريمة ،
لكنها في دخيلة نفسها ،، كانت تعرف السر في هذا التمنع عن إظهار حقيقة الموهبة
التي من الله عليها بها أمام الآخرين .. فلو علم أحد الأبوين بأمر الكتابة
والخواطر والأشعار ، فسيرجعان كل فشل تحققه في العلوم إلي هذا الأمر ، وليس إلي
أنها غير موهوبة علميا ..ولن يصدقا أبدا أنه لا علاقة بين ما تخطه من قصص قصيرة
وأشعار وخواطر ، وبين إحجامها عن تحقيق رغبتهما المتقدة في الالتحاق بالكلية
العلمية المرموقة ..
في إجازة نهاية العام الدراسي ، وبعد أن خرجت منهكة
القوي من امتحانات الصف الأول الثانوي ، بدأت المعركة مبكرا .. كانت قد عانت
الأمرين جراء معاركها الضارية مع الفيزياء والكيمياء والرياضيات المعقدة ، والتي خسرتها كلها لكن بأقل الخسائر الممكنة ،
وتحتاج لهدنة طويلة تستريح فيها وتضع الحرب أوزارها.. لكن الأبوين ، خاصة الأب ،
كانا مصرين علي أن يبدآ المعركة مبكرا ، بدأ النقار والشجار والخلافات الهادئة
الباردة ، فالأب أسرع وحجز لها مكانا في مجموعات خاصة للفيزياء والكيمياء
والرياضيات والأحياء عند أهم المدرسين في المدينة الصغيرة ، ليضمن أن تجد ابنته
مكانا في وسط مئات التلاميذ الذين يتهافتون علي أولئك المدرسين الكبار ، أساطين
هذه المواد المرعبة وسدنتها .. تصرف الأب علي مسئوليته الخاصة ، وباعتبار أن ابنته
قد خضعت لرغبته ، ورغبة أمها ، والتحقت بالقسم العلمي في الثانوية العامة .. أما
الأم ، التي كانت تري في هذه الحجوزات تبكيرا شديدا قبل الأوان ، فقد أخذت تقنع
ابنتها بأنهما ، هي وأبيها ، يريدان مصلحتها ويعملان علي أن تحقق أملهما في أن
تصير طبيبة قد الدنيا تملأ العين .. وراحت الأم ، عندما أحست من ابنتها بوادر تمرد
واحتجاج ، تدعو الله مخلصة أن يهدي ابنتها ويلهمها الصواب ، وكأنها تعصي الله
عندما تقرر لنفسها ما تريده .. لكن ماذا عما تريده هي وما تحبه ؟!
لم يهتم أحد بذلك ، فليس لرغباتها ولا لاهتماماتها أدني
احترام أو أهمية ..
تحزب الأبوان إذن ، كل بطريقته ، ضد الابنة التي وقفت في
الجبهة تقاتل بمفردها ولا سلاح لديها تزود به عن نفسها ، سوي سلاح محاولة شرح
الأمر لولي الأمر وإفهامهما أنه لا تريد مخالفتهما ولا عصيانهما .. بل كل ما هناك ، أنه من حقها أن تختار الدراسة
التي تحبها ، والتي هي قادرة علي استيعابها ..
لكن كافة جهودها ذهبت أدراج الرياح .. فلم تكد نتيجتها
تظهر ، ويتأكد نجاحها في الصف الأول الثانوي ، وبلا مواد رسوب أو ملاحق ، حتى
أعتبر الأبوين ذلك دليلا كافيا علي أن بإمكانها اجتياز المواد العلمية والنجاح
فيها ..
أحتفل الأبوان بنجاح ابنتها الكبرى .. وبدأ الأب في عرض
الرشاوى المادية والعينية علي ابنته اليافعة ، واعدا إياها بأنهار اللبن والعسل إن
هي استجابت لإرادته وفعلت مثلما يريدها أن تفعل .. وجدت الابنة نفسها محاصرة في
الركن .. ومع بداية العام الدراسي الجديد وجدت نفسها ، وكأنها مسحوبة من أذنها
وعقلها مغيب ، توافق علي الالتحاق بالقسم العلمي إرضاء للأبوين .. وقد كان هذا خطأ
فادحا ارتكبته وظلت تندم عليه طويلا بعد ذلك !
...
كان أول أسبوع من الدراسة كافيا جدا لتعرف " مروة
" حقيقة ما يحدث معها .. إنها ببساطة غير قادرة علي فهم حرف واحد من المواد
العلمية .. وقفت الكيمياء والرياضيات في حلقها كشوكة هائلة ، أما الفيزياء فقد
أصابتها بالرعب والجفاف .. ورغم أنها حضرت حصصها المقررة مع الأساتذة الفطاحل
المشاهير ، إلا إنها خرجت من تلك الدروس القليلة يا مولاي كما خلقتني .. ولم تفهم
حرفا واحدا مما قيل أو تم شرحه من قبل هؤلاء المدرسين !
ماذا تفعل إذن ؟!
أتستمر وتبقي سادرة في هذا الأمر حتى تجد نفسها وجها
لوجه أمام الامتحانات ؟!
كان من الخطأ أصلا أن تستجيب لضغوط الأبوين وإلحاحهما
وتخضع لرغباتهما ، لكن هل من الصواب معالجة الخطأ بخطأ أكبر وأشد جرما .. أتبقي
مكانها ساكنة حتى يجرفها الطوفان ؟!
في بداية الأسبوع التالي استيقظت صباحا مبكرة عن موعدها
ونزلت مصرة علي أمر ما .. كانت قد اتخذت قرارها وأنتهي الأمر ولم يتبقي سوي
المرحلة الأصعب ، أن تقاتل من أجل تحقيق ما تريد ، لقد قضت يوم جمعة مؤلم وشاق
للغاية بالأمس .. ذهبت إلي المسجد برفقة أمها ، كعادتهما كل ظهر يوم جمعة ، وأدت
الصلاة وسط النساء والفتيات ، في المصلي المخصص لهن بالدور السفلي ، لم تكن تركز
في كلمات الإمام أثناء الخطبة ولا حتى أثناء تلاوته للآيات الحكيمة وقت الصلاة ،
كان كل عقلها متركز هناك في مؤخرة وعيها حيث يقبع القرار الخطير منتظرا التنفيذ ،
وجدت نفسها تبكي عندما وضعت رأسها علي الأرض وسجدت لربها .. انهمرت الدموع من
عينيها دون أن تعرف سببا لذلك ، أو لعلها كانت تعرف وتتعامي عنه ، وصاحب الدموع المنهمرة كالمطر
إحساس بتثاقل رأسها وألم في زاويتي عينيها وتنميل في أطرافها .. لم تعرف لماذا
كانت تبكي بالضبط ؟!
كان هناك ألف سبب وسبب تجعلها تبكي .. لكن أيهم الذي
داهمها الآن وجعلها تجهش بالبكاء !
ليس من المهم أن تعرف .. فليس مهما أن تعرف سبب بكائك
خاصة إذا كنت ستبكي كثيرا بعد ذلك !
قُضيت الصلاة
وأنتشر الناس في أرض الله الواسعة ، التي كانت يومها في ضيق ثقب إبرة في نظر
" مروة " ، وعادت الفتاة مع أمها إلي المنزل .. صعدت فورا إلي غرفتها
ورفضت أن تتناول الغداء بحجة أن نفسها مسدودة !
لكنها كانت تكذب والأم كانت تعرف ذلك ، لقد أحست بما
يحدث مع ابنتها وشعرت ببوادر شيء سيء قادم في الطريق ، لكنها غضت بصرها وتعامت عن
كل ما تراه ، متمنية من ربها أن يكون الأمر مجرد عارض يزول قريبا ..
لكن في صبيحة السبت ، وبعد ليلة سيئة للغاية ، كانت
" مروة " قد حسمت أمرها تماما وقررت أن تقف للحظة وتقاتل في سبيل حريتها
وسعادتها .. كانت الأم تقف في المطبخ تحاول إشعال البوتاجاز عندما دلفت البنت
وألقت تحية الصباح علي والدتها بصوت مضعضع من فرط الأرق والقلق :
" صباح الخير يا ماما "
" صباح الفل يا أمي "
ردت الأم وعلي وجهها ابتسامة واسعة مرحبة .. لاحظت
" مروة " ما يحدث فراحت ناحية أمها وأخذت منها الثقاب وقامت بإشعال
الموقد :
" صاحية ليه بدري كده يا بتي .. لسه بدري علي معاد
مدرستك ! "
وضعت الأم طاسة علي النار وهي تتحدث ، بعد أن شطفتها
بالماء من الصنبور ، وأخذت تجففها خفيفا قبل أن تضع فيها السمن وتبدأ في كسر البيض
لقليه :
" عنك أنت يا ماما "
قالت " مروة " وهي تحاول أن تأخذ مكان أمها
أمام الموقد المشتعل :
" لا لا خليكي أنت .. روحي أنت أغسلي وشك وصحي
أخواتك علي بال ما أطقش* لكم البيض وأعملكم شوية شاي ! "
أحست " مروة " بالتردد الشديد ، ولم تعرف ما
الأصوب ، أن تقف مكانها وتصر علي أن تفتح الموضوع للحديث مع أمها الآن وفورا ، أم
تذهب لتفعل مثلما طلبت منها وتنتظر حتى تسنح لحظة أكثر مناسبة :
" روحي يا بت .. واقفة كده ليه ؟! "
" ماما .. عاوزة أقولك حاجة ! "
وجدت البنت نفسها تقول ذلك قبل أن تخطط جيدا لما ستقوله
بالضبط :
" في أيه ؟! "
كانت الأم تقلب البيض بالمعلقة ليحمر وجهه الآخر وهي
تنصت لأبنتها بانتباه .. ترددت كثيرا وجف حلقها قبل أن تجد الشجاعة الكافية لقول
تلك الجملة :
" ماما .. أنا هحول النهاردة .. هحول لأدبي !
"
تركت الأم المعلقة من يدها وتركتها داخل طاسة البيض ثم
تحولت لتنظر لابنتها بدهشة وذهول :
" أيه ؟ هتحولي إزاي يعني ؟! "
دعكت " مروة " جبهتها بتوتر وقالت مستجدية
العطف :
" ماما .. أنا مش بحب العلمي ومش فاهمة حاجة في
المواد ومش هعرف أكمل فيه ! "
هزت الأم رأسها وانتبهت للبيض الذي أوشك علي الاحتراق
خلفها فالتفتت إليه بسرعة وذعر .. مدت يدها لتمسك بالمعلقة فوجدتها قد سخنت بشدة
وعندما لمستها أصابتها السخونة المرتفعة بصدمة جعلتها تفلت المعلقة من يدها لتسقط
علي الأرض ، وكادت الطاسة أيضا تنزلق من فوق الموقد وتسقط هي الأخرى .. أمسكت الأم بيد الطاسة البلاستيكية ونفخت من
لسعة الحرارة في يدها وقالت لابنتها بغضب :
" طيب روحي بس حضري الصينية وبلاش كلام فارغ علي
الصبح ! "
كان رد فعل الأم صادما ل" مروة " التي أحست أن
أمها ليس لديها حتى استعدادا لمجرد الاستماع إليها :
" أنا هحول النهاردة وأديني قولتلكم ! "
رفعت الأم البيض من فوق الموقد .. ووضعت بدلا منه براد الشاي وقالت متظاهرة
بالهدوء بينما هي تفعل ذلك :
" بلاش هلفطة * فاضية علي الصبح .. يلا روحي صحي
أخواتك ربنا يهديكي يا دكتورة ! "
نفخت " مروة " بضيق وقد أدركت أن محادثة أمها
وإقناعها لن تكون بالسهولة التي توقعتها .. كانت تعتقد أن الأب وحده هو العائق وهو
المشكلة التي يجب عليها التغلب عليها ، فاكتشفت أن أمها كذلك قد حجرت رأسها وبدا
أنها لن تقبل بسهولة الرضوخ لرغبات ابنتها .. وها هي تنادي ابنتها مدللة بلقب (
دكتورة ) وكأنها تذكرها بواجباتها نحو الأسرة .. تلك التي يبدو أنها تتلخص في أن
تدرس لتصبح ( دكتورة ) حتى ولو كان ذلك رغم أنفها !
ذهبت البنت إلي الخارج وأيقظت أخواتها بمزيج من الغضب
والخوف والعصبية .. ثم عادت إلي غرفتها لترتدي ثياب المدرسة ، وخرجت بعد دقائق علي
صوت أمها وهي تناديها :
" تعالي يا
" مروة " كلي لك لقمة قبل ما تطلعي * "
خرجت " مروة " حاملة حقيبتها المدرسية علي
عاتقها وذهبت إلي حيث تجلس الأسرة لتتناول إفطارها :
" تعالي .. تعالي يا أمي .. شقي ريقك بلقمة !
"
بجفاء ردت :
" مليش نفس .. أنا رايحة المدرسة ! "
" ما لسه بدري .. لسه الجرس تلاقيه مضربش ! "
متعمدة تحديها أجابت " مروة " :
" لا ما أنا هروح للمدير الأول عشان أقوله إني
عايزة أحول أدبي ! "
ابتلعت الأم اللقمة التي في فمها بصعوبة ، وكادت تقف في
حلقها وتسده ، ثم شربت جرعة ماء قبل أن تقول لابنتها ببدايات غضب :
" يا بت ما قولنا بلاش كلام فاضي ع الصبح .. ناقصك
أيه عشان تسيبي العلمي وتخيبي أملك .. ده أنت أبوكي حاجزلك الدروس من الأجازة
وبيدفعلك الشيء الفلاني .. حرام عليكي يا بتي تنكدي علينا من غير داعي ! "
غضبت " مروة " وقالت وهي تشد حقيبتها وتزيحها
خلف كتفها بعنف :
" أنا مش حابة العلمي يا ماما .. مش فاهمة حاجة فيه
ومش هنجح فيه أبدا ! "
ابتسمت الأم بملق وأخذت تمنيها بمعسول الكلام الذي تجيده
الأمهات :
" لا متخافيش .. أنت بس ركزي وأقعدي علي كتبك وأنت
إن شاء الله هتنجحي وترفعي راسنا .. ده أنت مفيش حد زيك يا أمي .. ولا في بت أبوها
عملها كل اللي عملهولك أبوكي ربنا يباركلنا فيه يا رب .. إن شاء الله منصورة يا
أمي ! "
كانت " مروة " قد وصلت لنقطة النهاية في حبل
صبرها .. فخرجت من البيت وهي تقول مهددة بجد :
" أنت عملت اللي علي وقولتلكم .. أنتوا حرين بقي !
"
غادرت الفتاة البيت عازمة علي تنفيذ ما هددت وتوعدت
بفعله .. لكنها كانت تعرف أن هذه المجادلة القصيرة مع أمها ليست هي نهاية المطاف
.. وأن الوضع سيكون مختلفا تماما حينما يحين أوان الاصطدام بأبيها !
...
وبالفعل نفذت رغبتها .. كان مدير المدرسة الثانوية علي
معرفة شخصية بوالدها ، لم يكونا صديقين ، لكنه كان يعرفه جيدا لذلك فقد سألها
متوجسا :
" وأبوكي موافق علي كده يا " مروة " ؟!
"
فردت محاولة الخروج من هذا الموقف دون أن تتورط في الكذب
:
" أنا مدياهم فكرة في البيت ومحدش هيمانع طالما ده
فيه مصلحتي ! "
" طيب .. ماشي "
ومشي الموضوع بالفعل وأنتهي .. وقبل عودة والد "
مروة " من رحلة عمل له في القاهرة كانت ابنته الكبرى قد صارت طالبة في القسم
الأدبي ، خلافا لرغبته ، وتسلمت كتبها الجديدة وانتظمت في دروسها .. وجدت "
مروة " نفسها أخيرا بين كتب التاريخ والجغرافيا ، وأحبت الفلسفة وعلم النفس
.. وفي ذلك اليوم ، حينما حضرت أول حصة لها في الفلسفة ، وجدت نفسها تلقائيا
منجذبة إلي كل كلمة تسمعها .. وفي نهاية اليوم وعندما عادت إلي البيت كانت هناك
بوادر شيء ما تولد في عقلها .. سطور وأحرف وكلمات وخواطر تريد أن تخرج علي الورق !
بالطبع كانت والدة " مروة " علي علم بما حدث
.. ورغم رفض الأم لما فعلته ابنتها بشكل شخصي ، إذ كانت هي نفسها تتمني التحاق
ابنتها بكلية الطب لتتخرج دكتورة قد الدنيا .. إلا أن الأم لم تكن تمانع في ترك
الفتاة تفعل ما تشاء طالما كانت تلك رغبتها ، لكن المشكلة الحقيقية كانت في الأب
..
الأب ، وكما يعرفون كلهم ، عنيد صلب متشبث برأيه ..
ويعتبر معارضة أي فرد له فيما يريده ، ليست نوعا من الحرية والاختلاف ، قدر ما هو
انتقاص له وإهدار لكرامته !
لذلك كانت الزوجة تعتقد أن زوجها لن يترك الأمر يمر علي
خير ، وسيعتبر ما فعلته " مروة " وتغييرها لمسار دراستها ونوعها دون
إذنه وموافقته تحدي له وعصيانا وكسرا لسلطته الأبوية والرجولية .. وللأسف فقد تحقق
ما كانت تخشاه الأم !
ولأن فعلة الخير ما أكثرهم في الدنيا ، وفي تلك المدن
الصغيرة حيث يكثر الناس ويتلاصقون ، يتزايد فعلة الخير ومحبي تهدئة النفوس بصورة
غير طبيعية .. كورم سرطاني خبيث !
كان ل" مروة " صديقة هي ابنة ابن عم أبيها ،
ولم تكن العلاقة بين الأب وابن عمه وثيقة ، إلا أنه وجد في نفسه ما يكفي من
الصفاقة لكي يتصل خصيصا بقريبه مدعيا رغبته في الاطمئنان علي صحته وتفقد أحواله في
مصر * وسرب إليه نبأ تغيير بنته لدراستها وتحويلها من القسم العلمي للقسم الأدبي
ممصمصا بشفتيه معلنا عدم تفهمه لتلك الخطوة الغريبة !
طبعا كان واضحا أن الرجل يصطاد في الماء العكر وأنه وجد
نفسه فارغا بلا عمل ولا شغل يشغله فقرر أن يتسلي ب( الخبص ) وإثارة الأب علي ابنته
.. لكن الحقيقة أن رد فعل الأب أصابه بالإحباط مؤقتا !
كان والد " مروة " يعلم جيدا أخلاق قريبه وأنه
لم يتصل به إلا ليشمت ويشنف آذانه ، التي كآذان الفيل ، بسماع تنهداته وحرقة قلبه
علي ما فعلته ابنته من وراء ظهره فقرر ألا يدعه يهنأ بما يريد سماعه :
" معلش يا حاج .. كله نصيب ! وبعدين البت معملتش
حاجة من ورايا .. كله بعلمي ومشورتي ! "
أنخرس الآخر ولملم ذيول الكلام وأغلق الهاتف .. لكن
النار اشتعلت في قلب الأب واندلع لهيب
النار في عقله !
أتصل فورا بزوجته وأستجوبها بضراوة حول حقيقة الأمر ،
وعندما أستوثق أن الخبر صادق ولا كذب ولا شبهة دس حقير فيه ثارت ثائرته :
" أنتوا بتتصرفوا من دماغكم من ورايا ؟ هو أنا موت
وأتدفنت خلاص .. دفنتوني بالحيا يا " محاسن " أنت وبنتك ؟! "
كادت الأم تصاب بانهيار لسابق علمها بأن تلك الهبة
العصبية في التليفون لن تكون هي نهاية المطاف .. بل مجرد بداية لأيام سوداء قادمة
وستراها بأم عينيها رغما عنها ولا شك !
" لا يا أخويا .. بعد الشر عليك إحنا لينا لازمة من
غيرك ده أنت الكبير وراجل البيت والكلمة كلمتك والشورة شورتك .. "
قاطعها صارخا بضراوة :
" ولما هو كده بتك بتتصرف من ورايا ليه يا ولية ..
سبتيها تمشي اللي في دماغها ليه من غير ما تاخد إذني ؟ "
" والنعمة يا أخويا ما عرفت إلا بعد ما عملت عملتها
! "
صرخ في وجهها وكاد الرذاذ المتطاير من شدقيه يعبر
المسافة الفاصلة بينهما ويتناثر عبر سماعة الهاتف في وجهها :
" يعني عملت كده من وراكي ؟! "
" لا لا يا أخويا قالتلي .. بس افتكرتها بتهذر
والنبي ومفتكرتش إنها هتروح تعمل اللي عايزاه ! "
كانت الأم في محاولتها لتبرير موقفها ، الذي هو كالزفت
في نظر زوجها ، قد تناست أنها تغرف من بحر الطين وتضع فوق رأس ابنتها التي ستتلقى
غضبة أبيها بمفردها فيما يبدو .. لكن ( إن جالك الطوفان حط ولدك تحت رجليك ) وقد كانت غضبة الزوج ، كما تعرفها هي ، أقسي من
أي طوفان .. أفرغ الأب غضبه علي رأس زوجته في الهاتف ، مؤقتا ، ولحين تسنح له
الفرصة لمواجهة ابنته المارقة وعقابها العقاب اللائق بفعلتها .. سيعاقبها وسيجبرها
علي العودة إلي القسم العلمي وإلا فلن ينفق مليما علي دراستها ثانية ما دامت تخالف
أوامره وتتحدي إرادته !
...
كانت " مروة " نائمة حينما عاد أبيها من رحلة
عمله في القاهرة .. وكان نومها العميق له ما يبرره ، فهي لم تكن تعلم بأن أبوها
الساخط سيرجع الليلة وإلا لطار النوم من عينيها وجافاها فراشها .. لكن الأب ، وفي
تصرف غير معتاد منه علي الإطلاق ، فاجأ الجميع برجوعه في منتصف الليل ، دون أن يخبرهم
في البيت بعزمه علي العودة مساء اليوم ، وهو ما لم يقدم عليه من قبل أبدا .. وعلي
غير عادته أيضا جاء الأب بيده فارغة ، سوي من حقيبته الشخصية ، بدون هدايا لأحد ..
خاصة لمروة التي لم يكن يعود من أي سفر له إلا وهو محمل بالهدايا لها !
كان غاضبا مستاء ووجهه مسود من الغيظ لكنه حاول في
البداية إنهاء الموضوع بطريقة سلمية ودون خسائر فادحة ..
وبناء علي أوامره المشددة أسرعت الأم إلي غرفة ابنتها
لتوقظها لمقابلة أبيها :
" مروة .. مروة .. بت يا مروة ! "
كررت الأم مضطربة خائفة وهي تحاول إيقاظ ابنتها التي
سهرت طويلا تذاكر في الظاهر ، وتكتب قصة في الباطن :
" أيه .. أيييه يا ماما .. بتصحيني ليه ؟! "
سألت مروة والنوم لا يزال يغلق عينيها تماما :
" أصحي .. قومي يا أختي .. أستلقي وعدك .. أبوكي جه
! "
" أيه ؟! "
هبت " مروة " من رقدتها وكأنما لدغتها عقرب
وفارقتها رغبة النوم تماما وشعرت بخفق مؤلم في قلبها وبرودة في معدتها :
" أيه ده .. جه دلوقتي ؟ مقلناش يعني أنه جاي
الليلة ؟! "
كانت تبدي دهشتها أكثر مما كانت تتساءل وتستفسر لكن الأم
كانت أشد اضطرابا وجزعا منها :
" أهوه ده اللي حصل بقي ! طب فجأة زي القضا
المستعجل .. وشكله ناويلك الليلة .. خديه بالمسايسة * بقي وقوليله حاضر ونعم ..
خلي ليلتك وليلتنا دي تعدي علي خير ! "
هرشت " مروة " رأسها وجمعت شعرها الطويل
الهائش في إيشارب ملون صغير وهتفت :
" أيوه بس .. "
لم تعطها الأم فرصة لإكمال ما تود أن تقوله بل جذبتها من
ذراعها المتراخي وقالت لها محذرة :
" أوعي تعاندي معاه بقي ليفش غله فيكي .. أنت عارفة
أبوكي وعارفة طبعه والنبي يا بتي تعديها علي خير .. يا رب يا رب ! "
لم تكن " مروة " قد رأت أمها خائفة ومضطربة
مثلما رأتها الليلة .. وأحست وهي تترك أمها تقودها إلي حيث يجلس أبيها مستسلمة
أنها تقاد لتحاكم وتعاقب ، وكأنهم وجدوها في وضع خليع برفقة رجل وليس لمجرد أنها
قررت لنفسها نوع الدراسة التي تحبها والتي تلاؤمها .. ناس غرباء تفكيرهم غريب
والتعامل معهم يحتاج لحنكة وصبر وطول بال .. وجلد طويل لا ينتهي ! "
كان الأب قابعا في غرفة الجلوس ، التي أشعلت الأم أضواءها
الكهربية كلها ، جالسا علي كنبة بلدي ممددا قدميه أمامه ، وبينهما وضعت حقيبة سفر
صغيرة سوداء اللون ، لها حزام جلدي عريض تتوسطه توكة معدنية ، ويتدلي علي جانبها
الأيسر قفل صغير يغلق طرفي سحاب معدني طويل ذو لون نحاسي ..
كان وجهه مكفهرا وبين يديه سيجارة مشتعلة يلوكها باضطراب
ويمصها بلا تركيز ، وهو لم يكن مدخنا شرها أصلا .. وعلي منضدة قصيرة الأرجل أمامه
وضعت له الأم كوبا من الماء الصافي وطبق فاكهة متوسط الحجم ممتلئ بعينات من كافة
فواكه الموسم وبجانب الطبق مطفأة زجاجية سميكة وأخري صدفية متماثلتان في الحجم تقريبا
..
دخلت الأم وهي تداري اضطرابها وتحاول تصليح وضع شالها
الذي أنزلق من فوق كتفيها وتهدلت أطرافه حتى وصلت إلي ما فوق ركبتيها بقليل ..
وخلفها ظهرت " مروة " .. مضطربة خائفة ناعسة ومتهيئة للعدوان اللفظي
القاسي الذي تعرف أن أبيها سيمارسه عليها الآن فور أن تقع بين يديه !
ومن ناحيته كان الأب مستعدا لهذا العدوان التي تتخيله
ابنته ، بل وربما لأكثر منه ، إن زين لها شيطانها تحديه أو رفض الرضوخ لأوامره
التي سيفصح عنها حالا .. لكنه قرر أن يبدأ بالحسنى ويعالجها باللين والترغيب قبل
أن يلجأ للأساليب العنيفة التي لا يريد ، خاصة مع فتاة ناضجة ، أن يستخدمها أبدا !
" تعالي يا مروة ! "
قال الأب بطراوة وملاينة عندما وقعت عيناه علي ابنته
الخائفة اللائذة بحمي ظهر أمها المنحني برعب .. تقدمت الفتاة داخل الغرفة حتى حاذت
أبيها الجالس ونظرت لعيناه بخوف !
تعليقات
إرسال تعليق