ردهات
وراء ردهات يجتازها وثيابه السابغة تجرجر خلفه ،رأسه مجلل بتاج رمادي من الشعر
،ليس ملزما بأن يكشف جلدة رأسه للسماء ،فهو إله وليس بكاهن ،ابن إله وملك للأرض
السوداء القديمة ،ملك منتصر لكن الأعداء يدقون الأبواب ،وأباطيل السحر لم تنجع هذه
المرة ،إن آمون قد أفلت صولجانه وخر جالسا مختارا القعود تاركا القيام لغيره
،" أردشير سوم " على الأبواب ومن يملك صده ودفعه إلي الوراء ؟!
الخديعة
الحقيقية للشر أنه لا ينفع في كل الحالات ،حتى السحر يخيب ويرتد إلي عنق صاحبه
أحيانا ،جيوش تتري وتسد أبواب أرضه وتهاجم حصونه ،وآمون الجالس على عرشه لم يعد
يقدر على الوقوف وحده ،يحتاج إلي من يساعده ،أترك إيمان البسطاء خلفك ،إننا يا
كاهن تاجي تعلم جيدا كما أعلم الأصل والحقيقة خلف كل زيف سقناه وبشرنا به بالناس
،على البسطاء دوما أن يدفعوا ثمن ضنكهم ،أما من دفعوهم إلي ضيق العيش ومغالبة
الأقدار فهم غالبا ينجون على صهوة فرس أو على ظهر سفينة !
الأيونيين
كرماء يا سيدي ،كرماء برغم وحشيتهم وقلة تعليمهم ،لا بأس فإنه سيذهب إليهم لاجئا
لا معلما ،والقاعدة الأولي التي درج عليها منذ أن فتح عينيه لقاء النور الوهاج في
ساعة ميلاده : إن المصريون يحوزون علم الجميع لكنهم لا يعطون علمهم لأحد !
...
أسدلت
ثوبها الكتاني الأبيض الشاهي حتى لامست أطرافه قدميها ،ثم تحسست تاج شعرها الذهبي
وزينة رأسها اللامعة البراقة ،خلفها وقفت " بيلياس " الرصينة تعاين جمال
مولاتها :
-"
سيدتي "
قالت
الوصيفة الفخورة :
-"
إنك لترمين إلي شيء جلل ! "
أريبة
هذه الأثينية الكهلة وتعرف كل شيء ،إنها تخدم زوجة الملك منذ سنين وتعلم هوي قلبها
حتى دون أن ينطق لسانها بحرف عن سرها المصون ،تريد رجلا من رحمها ،تعويضا كافيا عن
انصراف رجلها ومولاها إلي أحضان نساء أخريات ،لو وضعت له الولد لفازت وخسرت غيرها
،سيكون ولدها ملكا بعد أبيه وتنزل الأخريات إلي مرتبة الجواري والمحظيات لكن :
-"
لقد جف النبع الذي كنت أرتوي منه لذا استمطر السماء بخدعة كخدعة " أفيجينا
" المحاصرة في أرض أجنبية ! "
ابتسمت
" بيلياس " ولم تعلق فقد فهمت كل شيء ،سألت سيدتها مستبشرة :
-"
متي يكون ؟! "
فقالت
" أولمبياس " وهي تغطي شفتيها بمزيج من الخنافس المسحوقة وعجينة دم
الماعز وشحم الغزال ،ليحافظ على رونق الشفاه ونعومة الطلاء :
-"
إن الشفتين باب قلب المرأة واللسان مخرج قلب الرجل !"
لم
تفهمها الوصيفة هذه المرة ،لكنها عرفت أن هناك سرا يجدر بها حتى هي نفسها ألا تفتش
خلفه ،فتنهدت قائلة بود :
-"
هل أُبعد مولاي عن المهجع الليلة وأحيط فراش سيدتي بحمي الظلام ؟!"
ألتفتت
نحوها " أولمبياس " وردت غير مبالية ،وإن كان ألم الغيرة يعتصر قلبها
ويظهر أثره في بريق عينيها الذي خمدت نيرانه للحظة واحدة :
-"
لا حاجة إلي سد الطرقات في وجهه فلديه هدية جديدة من حلفاءه وسيجرب الليلة لحما أبديرا
بليدا !"
ضحكت
الوصيفة فقد كانت تعرف غرام سيدها بالنساء الجميلات الغبيات ،وصبت لعناتها على
أبديرة وسكانها قبل أن تنتبه لتمام الوقت وتهتف بأنفاس مبهورة :
-"
أظن أن وقتي قد حان لأكون في خدمة سيدتي خارج مخدعها ولن يصل إلي مقام راحتها أنسي
الليلة ولا حتى " فيليب " العظيم ذاته ! "
تبسمت
لها الملكة المتحمسة وأغدقت عليها نظرات العطف ،ووعود المكافآت السخية القادمة
،قبل أن تدفعها خارجا بلطف ،ثم تتجه بدلال نحو فراشها وتستلقي عليه ،وهي تحرص على
ألا تتبدل خلجة واحدة من منظرها المنسق الأنيق ،ثم ترمي ثوبها وتفرشه حولها ،فتصير
في أتم منظر وأكمل بهاء !
لم
تكد تمر فترة قصيرة من عمر الزمان حتى كان باب مهجع "أولمبياس " يُفتح
ودخيل غريب يتسلل داخله ،تهدجت أنفاس الملكة لكنها بقيت ساكنة رابطة الجأش وهي
تراقب ،من عل ،الثعبان الهائل وهو يقترب منها ،ثم ينتصب مرتقيا عتبات فراشها
المرتفع ويزحف حتى يلامس طرفي قدميها الصغيرتين ،ويكمل مسيرته فوق جسدها ليستقر
أخيرا فوق صدرها المختلج !
سمعت
حفيفا يهمس لها خفية وبصوت لم تسمع له من قبل مثيلا :
-"فلتصر
أرواحك عظيمة في جلالتي وليكن اجتماعك معي جميلا !"
شدت
" أولمبياس " على جفنيها المغلقين بقوة وتنسمت ريح بخور " بنت
" الطيبة وهتفت بأنفاس مسحورة :
-"
نعم نعم .. ليكن مثلما قلت يا آمون !"
...
تواجهت
القوتان على جانبي البحر الصغير ،كان الجنود في لباسهم القصير يتراصون بنظام
منتظرين الأوامر بالهجوم والفتك ،جنود مصر بجلودهم وعيونهم السمراء ،يقفون وجها
لوجه أمام هؤلاء الدخلاء الذين لوحت حرارة مصر بشراتهم وجعلت قبحهم يزيد ضعفين
،خلقت الآلهة الجمال لمصر ووزعت القبح على أعداءها ،الأخمينيون الآتون من خلف
الجبال التي تختفي وراءها الشمس ،رجال الظلام المديدي القامة ،المتحالفين مع
الخونة ،دائما مع الخونة ،ما لهم بمصر ومال مصر بهم إن هم لم يرموا بأنفسهم في أرض
تكره كل دخيل !
كانت
أرض المعركة صغيرة لا تتجاوز حدود وعاء فخاري كبير عامر بماء " حابي "
الطاهر ،الماء الذي لا يجرؤ مصري منذ أن زحف النور خارجا من الماء وأضاء الدنيا
،على تدنيسه ،وحول الحمي بدأت المعركة ،كان الإله يشرف من عل ويقرر مصير الحرب
الطاحنة ،الحرب التي تمت بصمت ،وبصوت متحمس يعلو تدريجيا راح الإله يعزم لاعنا
أعداءه ومنزلا بهم أشد العقوبات والوعود ،الموت لأعداء مصر ولكل من يجرؤ على
اختراق أنهارها وتلويث ماءها المبارك بتراب قدميه أو مراكبه غير المباركة ،البركة
لمصر واللعنة لأعدائها ،و"آمون " ينتقم ويثأر مثلما يحمي ويبارك
،"آمون " واقفا بنفسه يشرف على حماية أرضه .. وراح جنود الظلام يتساقطون
بلا عدد !
-"
المجد لك يا " آمون " !"
واحدا
وراء الآخر ،فجيعة ومهلكة كبري ،جيش بأسره يموت بلا رحمة :
-"
أين أربابكم منكم اليوم !"
جنود
مصر يتقدمون ويدوسون أعداءهم تحت قدميهم ،المنتصرون يسحقون المهزومين ،وكليهما لا
يريمان من مكانهما ولا تري في عيونهما حياة ولا صخبا ،إنهم جميعا موتي ،جميعهم
تماثيل لا حياة فيها ،والمعركة تجري تحت أشراف " " ،ومن وراءه " آمون " يعضده
ويثبته ،وهكذا راح الأعداء يتراجعون مدحورين ،انطلقت صرخات الحماس من فم الملك
،يومه اليوم والليالي القادمة كلها له ،لقد ثبت قدميه على الأرض السوداء ولن
يزعزعه بعد اليوم زلزال ولا طوفان !
تناثرت
أشلاء الأعداء وتطايرت دماءهم فملأت الغرفة الفسيحة ،الأجسام الميتة تنزف وتدفع
الدماء حارة غزيرة ،إنها معجزة ألهتنا ولها نحني الرؤوس ولا نتساءل عن السر ..
فجأة أنفتح باب وهرع رجل متسربل بلباس الحرب متهدج الأنفاس وصوته يفيض حماسة :
-"
مولاي " نخت حور " المؤله .. إن
الأعداء يفرون وقد دحرناهم فلم نتعب في التنكيل بهم !"
شهق
الملك وصفق حبورا ،ثم رفع عصاه المسحورة ،التي تحمل رأسا مختزنا فيه أسرار لم يطلع
عليها رجال قبله ،وقبل مقدمها ،ثم خر إلي الأرض وهو يصيح فرحا،بينما راحت تماثيل
الجنود المذبوحين تشحب وتذبل وتبخر الماء من الإناء السحري ،راجعا إلي مستقره
الأول ،وفي القاع تبقت ثمالة عطرة منه فتلقفها "نخت حو" وبلل شفتيه منها
،قبل أن يدفع الإناء بما فيه إلي قائده آمرا :
-"
هيا تجرع منه وأسقي جندك !"
تطلع
القائد ،الذي تغبر وجهه بتراب المعركة ،إلي الوعاء شبه الفارغ دهشا وهمست شفتاه باعتراض
لم يجرؤ على الإفصاح عنه فنهره الملك غاضبا من التشكيك في عظم النبوءة وقوة الآلهة
:
-"
إن ما فيه يكفي ليسقي أرض مصر عشرة أعوام قادمة .. فليسر ماء زلالا في حلوقكم
ولتكن خمر انتصاركم اليوم معتقة بيد "آمون " ذاته !"
...
كسيف
الوجه دخل مخدع زوجته ،سمع صوت المزمار الخافت لكن النغمات أصمت أذنيه المرهفتين
،ليس في قصري يا "أولمبياس كثيرة الأسماء" ،أيتها الزوجة التي لها من
الأسماء أكثر مما فعلته من موبقات وما انغمست فيه من لهو ومجون ،إن " فيليب
" ملك عظيم الآن وذو سمعة يجب الحفاظ عليها ،لا يمكن أن تكون قد تجرأت على
إقامة عربدة لربها الماجن " ديونيسوس " في قصره في تلك الساعة ،التي
ينغمس فيها جنده المخلصون في محاصرة مدن أيونيا المنهكة واحدة وراء الأخري ،أطمأن
حينما حطت قدماه على عتبة المخدع الفاخر إذ تأكد أن الأمر لا يعدو أن يكون عزفا
فرديا على شرف مزاج زوجته المتقلب هذه الأيام ،لقد فارقتها عادة النساء منذ أسابيع
وتعكر مزاجها ،حرمت نفسها عليه وقالت له في نشوة إحساس مذهل بالتعالي عليه :
-"
لا تقربني لئلا تدنس نطفة إلهية قد تكون مستقرة الآن في رحمي !"
كيف
تجرؤ على الغطرسة أمامه ،وهو من هو ،وكيف لها أن تتحامق حد أن تدعي أن " زيوس
" العظيم باشرها بنفسه ؟!
يا
لها من مخلوقة سكيرة بلهاء ،" زيوس " يا " ميرتل " البائسة
،كم اسم لهذه المرأة الغامضة ؟!
لا
أحد يعرف يقينا ،لكنه متأكد من شيء واحد ،أنها لو كانت حقا تحمل ولدا في أحشائها
فلن يكون هذا المولود ابنه هو !
لما
هو متيقن على هذا النحو ؟!
إنه
شيء يمكن مناقشته بين زوجة وزوجها ،أي زوجة وأي زوج ،سوي " فيليب "
و"أولمبياس " ،والسبب أنه بحاجة إلي ابن يدعم قوة سلالته واستمرارها
،وأنه أيضا يعلم تماما بعجزه المطلق عن مواجهة عابدة " ديونيسوس "
الباخية أو إعلان كذبها !
غير
أنه يأمل في أن يكون الأمر كله لعبة نسائية من امرأة تخشي تزعزع سلطانها وزيغان
قلب رجلها عنها !
خلف
باب المخدع كانت المرأة تدق كعبيها وتدور حول نفسها مؤدية رقصة فراشة جامحة لا
يقدر أحد على إيقافها أو يملك جمالا يضاهي جمالها !
فتن
بمرآها وراعه الجمال الذي أضيف إلي المقدار الكبير الذي كانت تحوزه من قبل ،لكن
نظرة واحدة إلي جذعها صدعت أفكاره وجعلت الدنيا تدور به !
كان
بطنها بارزا مترجرجا يدور ويرقص معها ،بطنها الذي كان مستويا كشفرة سيف ،صنعه حداد
بارع ،بلا ثلمات ولا توترات على السطح .. متي كبر بطن المرأة وأمتلأ هكذا ؟!
كانت
" " الملعونة تدق لسيدتها طبلة
خافتة بيمناها بينما يسراها معلقة بمزمار تنفخ فيه ،دون أن ينقطع تركيزها بمواصلة
قرع طبلتها ،فتخرج نغمات عذبة ،أما "أولمبياس " فقد كانت جزلة تطرب
الكون بنشيد حصاد مرذول يفوح بنصر المزارعين المتكبرين وهم يجزون المحصول بمناجلهم
ويفرحون بقطف الثمار ودق عنق الأعشاب ،كانت النغمات عذبة لكنها مليئة بشعور الانقباض
الذي تفيضه على الجماهير سامرات الناي الأولتراديات اللائي يشبه عزفهن نواح
النادبات المشئوم !
لوهلة
أحس " فيليب " أن زوجته ترقص على نشيد جنائزي في خفة وحبور ،جنازته هو
"فيليب " بالتحديد !
أنقبض
قلبه أكثر وأكثر ولم يجرؤ على أن يطأ مخدعها فأنسحب وكر راجعا في الممر المضاء
بمشاعل عديدة ،غير أن نسمة هواء قوية ضربت المكان ،وضربت معها قلب الملك الهلوع ،فانطفأت
كافة المشاعل دفعة واحدة ،وتركت " فيليب " المذعور وحده وسط طبقات
وطبقات من الظلام تكتنفه وتكاد تخنقه .. بينما "أولمبياس " بالداخل
تواصل رقصها المحموم وقد بقيت مشاعل حجرتها وحدها مضاءة بلهب متماوج ومثير للهلع !
...
تشبث بأحد الحبال التي تمسك السارية وتدعمها
،كان يحتاج إلي شيء يستند عليه حتى لو كان حبلا مجدولا قليل الحيلة ،في طيبة ترك آلهة
مدحورة لأول مرة في تاريخها العظيم ،أول مرة ولعلها الأخيرة ،فلقد سطا الأخمينيون
الغلاظ الوجوه على مصر وأقاموا حامياتهم على الأرض ،وأنهار الأرض تلوثت بدماء نجسة
ودم طاهر سُفح دون حق وصولجان الأرباب سقط ،حتى "آمون " لم يعد يقوي على
رفع ذراعيه ،لقد علمه الزمان أنه لا أمان لشيء وعلمه السحر أن الهزيمة واردة حتى
وإن كانت أسلحتك ماضية وقوتك لا تضاهي ،إنهم يعرضون عليه الأمان ،الحلفاء الخونة
الذين باعوا مصر وملكها ليد الفارسي القاسية الشحيحة ،كم أغدق عليهم المنن
والعطايا لكنهم باعوه بخسا في نهاية الأمر !
ثمة
مرافئ آمنة كثيرة مفتوحة له ،والبر سبيل ميسر يقوده إلي الجنوب ،حيث الأراضي التي
تلوحها الشمس الحارقة ولا يجرؤ الغزاة على التقدم فيها خشية التيه في الصحاري
المليئة بالوحوش ،سيكون آمنا هناك ،لكنه لا يبحث عن الأمن ،بل عن طريق جديد يعيد
إليه وإلي مصر العزة !
ليس
لمصر حاجة إلي الجنوب ،لكن الشمال أولي بابن "آمون " المدحور المطرود
،الأيونيين كرماء وهم حلفاء طيبين ،جهلاء جدا وأغبياء جدا ،وهذه فضيلتهم الكبرى
،لكن لديهم من المحاسن ما يكفيهم ،ويجعل أرضهم خير مكان يأوي إليه !
استقر
رأيه وتراجع اضطرابه ،أتخذ قراره وصاح معطيا تعلمياته لبحارته المتأهبين المتسمرين
بالقرب من قدميه الملكيتين منتظرين أوامره :
-"
إلي البحر الواسع أيها الجنود المخلصون .. سنبحر إلي أيونيا و"آمون "
يرعي مقصدنا ويهيئ لنا في البحر طريقا مستقيما ! "
والآن
ها هو ذا ملك " " يقترب بسفينة
هروبه من أرض غريبة محملا بخذلانه وبصور آلهته المخذولة التي فارقت أرضها .. وفي
مصر سقطت الضياع والمعابد والقصور .. وافلت "آمون " المنتصر صولجانه وانكسرت
أياديه الممدودة فجلس في ظلمات قدس أقداسه منتظرا أن تغير الأقدار مساراتها وتعيد
إليه هيبته وأن تأتي له بابن متبني من نطفة ولده الهارب ليطرد الغزاة ويعيد
للأرباب حقوقها ول"آمون " موهبته كأب لملوك مصر !
...
خارجا
وقف منتظرا ،بلاطه مشحون بالمنتظرين لكنه لم يستطع البقاء بين رجاله ،تاركا أمور
النساء للنساء ،يحضرون المهرجان في الأرض ويتجهزون لتلقي الخبر العظيم .. سيولد
ابن ل" فيليب " المنتظر وسيكون له خلف ووريث !
كثيرة
الأسماء تستلقي بالداخل منتظرة دفعة المخاض الأخيرة ،والقابلات يحطن بها ،تستغرق
النساء ليلة بأكملها ليضعن بكر أرحامهن ،غير " أولمبياس " البارعة اختصرت
الأمر عليه وعلى نفسها .. خلال دقائق خرجت إليه الوصيفة بوجه مجلل بالبشري :
-"
ولد ولمولاي عظيم الرجاء وفرحة النسل الباقي !"
تهنئه
بعبارات غامضة فلم يطق صبرا ،اقتحم المخدع فأفزع النسوة المتحلقات حول الوالدة
والمولود ،أما المولود له فكان في شغل شاغل عن كل هذه التقاليد العتيقة الثقيلة
،اقترب من مرقد زوجته فوجدها وسيمة مرتبة وكأنها ما ولدت وما عانت وجعا .
لامس
جبهتها مروعا من مشهدها الإلهي الأعظم من كل منظر بشري رآه في عمره كله ،تطلع إلي
المولود الملفوف بالأقماط وتناوله منها ،راقب عينيه المقفلتين وحمرة بشرته وأنفه
المبسوط في وجهه الصغير ،هم الملك المتأثر بالنطق فسبقته زوجته قائلة معلنة قرارها
النهائي :
-"
سأسميه " ألكسندروس " ملكا ووريثا ونسلا لزيوس العظيم ! "
تصر
على أن تقلل منه حتى في تلك اللحظة العظيمة ،لكن لا بأس ،فسوف يسوي حسابه معها
يوما ما بالطريقة التي ترضيه ،أنحني على وليده ،معلنا أمام الناس حتى وإن عرف هو
أنها ليست الحقيقة ،وقبل جبينه ثم هتف وهو يرفعه نحو ضوء الشمس الوهاج الذي يملأ
جنبات المخدع :
-"
إلكسندروس ابن " فيليب " فليحيا ملك ابن ملك ! "
...
ليس
بعيدا عن ذلك المشهد الأسري كان "
" يرفع كأسا احتفالية إلي شفتيه المكتنزتين ،وقد جلله الرضي أخيرا ،ويهتف
بصوت لا يسمعه سواه هو وربه المختفي بين أغراضه التي أخرجوه بها من مصر المأسورة :
-"
"إلكسندورس " هكذا اسميك ابنا ل" آمون " فلتكن ..
"إلكسندورس " ابنا لي ولآمون !"
وأخيرا
حل الساعة المنتظرة .. وهناك بعيدا في مصر استرد "آمون " زهوته وشب
واقفا على قدميه منتظرا حلول الساعة التي يأتي فيها ابنه من الشمال ليطرد أعدائه
من أرضه وأرض أبيه الحقيقي .. أي كان اسمه !
تعليقات
إرسال تعليق