التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل السابع

 

 
 
موجه جديد شغل منصبه قريبا لكنه يبدو مخضرما حقا .. بملامح صغيرة تعطيه سنا أصغر من سنه الحقيقي ، وبنظارة مستديرة العدسات بسلسلة ذهبية طويلة لامعة .. كان يرتدي بذلة صيفية نظيفة لكنها لم تكوي جيدا ، فقد كانت أطراف البنطلون متهدلة ومكرمشة كما أن الأكمام كانت مجعدة بشكل يوحي بأن من قام علي كي تلك الملابس شخص إما أنه لا صبر له ولا يجيد فن إتقان العمل ، وإما أنه قام بكيها غصبا فركلها برجل كلب حتى يتخلص منها .. بالرغم من كل ذلك فقد منظر الموجه مقبولا لدرجة كبيرة .. بدا ل" سناء "رجلا طيبا لا يخشي شره ولا يُتوقع منه السوء من القول أو العمل وهو يجلس في مقعد جلدي مريح أمام مكتب المدير .. الذي جلس فاردا جذعه فتمدد كرشه العظيم أمامه كبالون منتفخ لا يحتاج إلا لشكة إبرة من طفل شقي لينفجر وتتناثر أحشائه ، التي خنقها الشحم وجثم الدهن علي أنفاسها .. كانت تلك أول مرة تري فيها المدرسة الجديدة وجه موجهها ، الذي من المفترض أنه يتابعها ويتابع عملها بشكل دوري ومنتظم .. ويسجل تقدمها وملاحظاته حولها بشكل دائم مصدرا حكمه حول مدي كفاءتها للعمل .. لكن شيء من هذا لم يكن ليحدث !
فكل موجه في تلك الإدارة مكلف بمتابعة ما لا يقل عن أربعين مدرسة .. بعضها به أكثر من عشرة مدرسي فصول للصف الثالث الابتدائي ، مما يعني أن هناك تقريبا أربعمائة مدرس يقعون في عهدته ويكلف هو بالإشراف عليهم وتنظيم أمورهم ومتابعة أعمالهم .. فبأي عقل يفعل رجل في الخمسين أو الستين ذلك ومن أين يأتي القوة اللازمة للصمود في وجه كل ذلك ؟!
كانت " سناء " تعذره وتعذر عدم زيارته لها مرة واحدة ، لا هي ولا جميع مدرسي الفصل للصف الثالث الابتدائي كلهم ، منذ بداية العام الدراسي .. أضف إلي ذلك أن الرجل بدا مريضا واهنا حقا وربما كان مصابا بالسكر كما يظهر من شكله !
توافد مدرسوا الصف الثالث علي مكتب المدير تلبية لطلباته ومراسيله التي أخذ يوفدها إلي كل منهم في فصله أو أينما أنحط في المدرسة ليأتي لمقابلة السيد المبجل الموجه .. كان المدرسون الآخرون علي ما يرام !
دفاتر تحضير منسقة .. تواريخ مضبوطة .. دروسهم متماشية مع خطة العام الدراسي تماما .. قام الموجه بنظر دفاتر المدرسين وإلقاء بعض التعليمات والتعليقات بشأن طريقة التحضير والتهيئة وخلافه .. ثم بدأ يطلب من كل مدرس أن يحضر له بعض الكراسات الخاصة بتلاميذ فصله ليوقع عليها .. وبكذا تنتهي زيارته الموأسماءويظل الطابق مستورا !
زيارة الفصول ورؤية الأولاد عن قرب وسماعهم والنظر إليهم ومحادثتهم لم ترد بخاطر السيد الموجه أصلا .. فكم فصلا سيزور وكم تلميذا سيحادث ؟!
إنه ليس رائق البال لشيء من هذا فلديه ثلاث مدارس أخري المفروض أن يزورها زيارة روتينية اليوم تبعا لخطته السابقة .. فلو أنه قضي دقيقة واحدة في كل فصل وحادث تلميذا واحدا فسيضيع عليه بقية اليوم ويتعذر تنفيذ بقية خطة الزيارة !
لم تكن " سناء " تعرف شيئا من هذا .. لم تكن تعرف أن التعليم في مصر هو مجرد حبر علي ورق ، وأن زيارات الموجهين لا تزيد عن مزيد من الحبر علي مزيد من الورق .. كانت تظن أنها ستتعلم ممن يتولي مهمة توجيهها شيئا إلا أنها اكتشفت أنه ليس لديه ما يعلمه لها ، وإن كان لديه ذلك فلا وقت عنده ليعلمها إياه .. إنه سرعة البطء أو بطء السرعة .. الأوضاع المقلوبة التي تريد أن تقفز لتعتدل فيكون مآلها أن تنقلب علي جذور رقبتها أكثر وأكثر !
ليس كل الموجهين هكذا .. لكن موجه " سناء " كان هكذا للأسف !
لذلك تجهم وجهه حينما جاءته بقليل من كراسات تلاميذ فصلها وكشاكيلهم النظيفة .. رأي أمامه خطوطا قلقة خائفة تخط علي الورق صرخة صامتة هادرة ميتة تقول : إننا لا نعرف كيف نكتب .. إننا لم نتعلم الكتابة بعد !
محاولات إحياء وبوادر بعث لكنه يبحث عن المنهج وتوزيعته لا عن محاولات إحياء الميتات .. فأين دروس اللغة العربية والرياضيات والدين المقررة ؟!
أين يوم النجاح وأين الأطفال الذين هشموا المصابيح والزجاج في الطريق .. أين الحث علي عدم قطف الزهور ، رغم أن النشيد نفسه كان باعثا قويا ليس علي قطف الزهور وحدها بل علي قطف كل ما يمكن نزعه وكسر رقبته ، وتحت حماية كلماته المعسول تقطف زهور أولئك الصغار وتهرس هرسا .. أين جمع الأعداد المكونة من أربع وخمسة أرقام مع أن أغلب أولئك الصغار يخطئون في العد بعد رقم العشرين ولا يميزون بين الواحد والعشرين والإثني عشر .. أين دروس الله خالقنا والله خالق الكون التي يرددها الأطفال ثم يندفعون خارج الفصول ليسبوا الدين لبعضهم وينعتوا بعضهم بأقبح النعوت وأنكي الألفاظ ؟!
هل المهم هو ما يتعلمونه حقا أم ما هو مرقوم في كراساتهم ؟!
الأخيرة طبعا ولنكن صرحاء واضحين مباشرين في الوصول إلي الهدف حتى لو كان وقحا جبانا .. أعطني كراسات منظمة ودروس تامة ودفاتر تحضير سليمة أعطيك تقديرا عاليا حتى لو كنت لا تعطي تلاميذك في الفصل حرفا ولا تمنحهم من فضول رضاك كلمة بحق الله !
ذلك ما هو ما نبغي .. لذلك تجهمت ملامحه واعتراه الهم حينما وجد تلك الصرخة المضادة تنفجر في وجهه .. كراسات أولادها لا تعجبه مثلما أعجبته كراسات الآخرين رغم أنها أنظف وأكثر تنظيما .. لكن ما بال النظافة والنظام هنا وما جدواهما ؟!
إنه لأمر متشابك ومحاولة حله غير مجدية .. لكن الموجه الخبير يرمق الفتاة حديثة التعيين بعين حادة خضراء تلمع بالخوف والدهشة والانفعال !
" مش ماشية مع المنهج ليه يا أبلة ؟! "
سألها متحفزا وردت مستعدة لمجابهة الحجة بالحجة :
" عشان العيال مش بيعرفوا يكتبوا يا حضرة الموجه ! "
تجهم علي تجهمه وهتف مستنكرا :
" حضرتك هنا مهمتك تدي المنهج وبس .. ملكيش دعوة بيعرفوا يكتبوا ولا مبيعرفوش ! "
هنا أنفتح المدير الذي وجدها فرصة سانحة لتبيان نشاطه في قنص المخالفين والإيقاع بهم في شر أعمالهم :
" والله لسه قايللها الكلام ده من كام يوم .. لكن الأبلة شباب بقي ومتحمسة ومش هاممها كلام الأكبر منها ! "
ضربة خسيسة تحت الحزام من يد الموجه الشبيه بالفيل أبو زلومة .. لكن " سناء " كانت تتوقعها علي أي حال .. فذلك رجل لا يرجي منه ، ولا من مثله ، سوي ذلك !
صمتت للحظة لتجهز ردا كان جاهزا في رأسها أصلا لكنها كانت تبحث عن أفضل لهجة تنطق بها وتعرض حجتها فليس المهم أن تكون حجتك قوية المهم أن تجعلها تبدو كذلك حتى لو تكلمت عن الضفدعة أم ضفدعين !
بقليل من الخوف ردت " سناء " موضحة :
" حضرتك العيال مش بيفهموا حاجة من الكتب ولا من الدروس اللي بياخدوها .. فأنا مركزة معاهم في الكتابة والقراية وحفظ الأرقام وكده عشان يطلعوا سنة رابعة وهما بيعرفوا يقروا ويكتبوا علي الأقل ! "
بغل نظرها المدير أما الموجه فقد أرتسمت في عيناه الخضراوان ابتسامة لها مغزى ما .. سرعان ما نزلت الابتسامة حتى وصلت إلي فمه وارتفعت شفتاه كاشفتان عن فم يشي بطيبة مختزنة واستعداد قديم للفهم والتجاوب .. إنه يشعر بالحزن من أجلها ؟!
هذا الحزن القديم .. الحزن الذي يهاجمك عندما تري أحدهم يزحزح صخرة هائلة معتقدا أنه سيصل بها إلي أعلي الجبل ويعلن انتصاره .. إن المسكين لا يعرف أن الصخرة ستتزحزح من جديد وستسقط فوقه .. ومحتمل جدا إن تهشم رأسه وتسحقه .. إنه يعرف أنها علي حق !
يعرف ذلك ولا ينكره بقلبه وإن أنكره عقله الصلد .. إن تلك الفتاة الشابة لا تعرف أنه هو ، حضرة الموجه ، وهي معه ، ليسا إلا ترسين في آلة عملاقة معطلة .. آلة تركت بلا صيانة ولا زيت أحقابا لا لشيء إلا لأن صاحبها لا يريد لها سوي أن تبقي معطلة !
كيف ترغب تلك البنت الغافلة الساذجة أن تحارب الآلة الهائلة بمفردها .. وصاحبها نفسه في نهاية المطاف ؟!
يالها من مستحقة للشفقة !
ترك الآخرين يذهبون واستبقاها وأجلسها إلي جواره .. فتح لها صدرا حنونا متجاوبا فوجدت فيه أبا ومعلما يرجي خيره :
" بصي يا بنتي .. أنت عندك حق مقدرش أغلطك ولا أقول إنك غلطانة ! "
فرحت " سناء " وابتسمت بسعادة لكن الموجه أستدرك فورا :
" لكن مش إحنا اللي بنحط نظام التعليم .. مش إحنا اللي بنخطط ولا بنحط المناهج ولا ده من صلاحياتنا .. إحنا بنفذ وبس ! "
أخفضت رأسها وغضت بصرها :
" فاهماني يا بنتي .. ننفذ وبس .. اللي أكبر مننا عايزين كده وعاجبهم كده ! "
المزيد من الإغضاء والمزيد من السخونة في وجهها وأطرافها :
" لكننا مش عاجزين قوي زي ما بتتخيلي .. برضه في أيدينا نصلح ! "
ابتسمت أخيرا ورفعت رأسها :
" بصي أنت صح مقدرش أقول غير كده .. لكن دينا علمنا إن المؤمن كيس فطن .. أحمدي ربنا أني أنا مش موجه ولا رئيس قطاع تاني اللي جالك النهاردة .. كانت هتتوقع عليكي عقوبة وتتحولي للتحقيق غالبا .. عايزة تصلحي ماشي .. بس في نفس الوقت متنسيش واجبك الأصلي اللي أتعينتي عشانه ! "
بدأت تفهمه وتتابعه بتركيز :
" أدي العيال الدروس عادي .. معاكي .. تسعة وتسعين في المية منهم مش هيفهموا حاجة ولا الدروس مناسبة لمستواهم العقلي أصلا .. مش هجادلك في دي ولا هاخد وادي معاكي .. بس في نفس الوقت لازم تديهالهم .. "
همت بطرح سؤال لكنه كان أسرع منها في الإجابة عليه قبل أن تطرحه :
" أدخلي حصصك عادي واديهم دروس العربي والحساب والدين .. وفي أي حصة فاضية خديهم في فصل فاضي .. أو حصة احتياطي مثلا وأديهم اللي تقدري عليه .. علميهم يكتبوا ويقروا ويحسبوا .. أنا عارف إنهم ميعرفوش حاجة من ده كله .. وأعتبريها لوجه الله .. لوجه الله يا بنتي مش لوجه حد تاني .. وصدقيني ربنا هيباركلك في قرشك وفي صحتك وفي الفلوس اللي بتاخديها أكتر من كل التنابلة زمايلك دول !
رجل جميل .. لماذا ليس كل رجال التعليم في مصر مثله ؟!
أنصرف الموجه بعد أن كتب ديباجة الزيارة التقليدية في دفتر الزيارات .. وقع المدرسون بالعلم ومنهم " سناء " .. كتب الموجه أسماء كل المدرسين وأمام اسم كل منهم الفصل القائم بالتدريس له ، وتقييمه لأدائه والتزامه بالمنهج وتوزيعته المعتمدة والانتظام في العملية التعليمية .. أعطاهم كلهم درجات متقاربة إن لم تكن متطابقة ، مرت عينا المدير سريعا علي الأسماء حتى عثرتا علي اسم " سناء " .. ساءه ما قرأ .. كتب الموجه الأسطر التالية أسفل اسمها :
" سناء عبد العال البدري " ..
معلم مساعد فصل
3/2
الالتزام : جيد جدا
السير في المنهج :
جيد جدا ومطابق للخطة الموضوعة !
ظهرت علامات خيبة الأمل علي وجه المدير .. وشعر بأن الموجه قد خيب أمله وأيأس رجاءه !
...
شعر تلاميذ فصل 3/2 بتغير في جدول حصصهم مع المس " سناء " .. بدءوا يستخدمون الكتب المدرسية العادية أثناء الحصص ويكتبون خلفها دروسا طويلة من اللغة العربية ومسائل حسابية عويصة فشلت قواهم العقلية غير الناضجة بعد في استيعابها أو فهمها .. كانت  " سناء " تشفق عليهم وعلي نفسها !
فقد بدأت المشاكل فور تطبيقها الجدول الجديد .. كان جدولها مزدحما بعشرين حصة مقسمة علي ست حصص لغة عربية وست حصص حساب وثلاث حصص تربية دينية إسلامية .. ولم تكن وحدها التي تتولي التدريس للفصل بل كان هناك مدرس للغة الإنجليزية يستحوذ علي ست حصص أسبوعية بالإضافة إلي حصص الألعاب والنشاط .. وبعد التغيير الذي حدث في الفصل واضطرار المدرسة الهمامة للبحث عن حصص إضافية لإعطاء الأولاد مبادئ القراءة والكتابة والحساب بدأت المشاكل .. فالمدرسون كل منهم حريص علي حصصه حرصه علي عينه لا لشيء إلا لأن كل منهم يريد أن ينتهي من المنهج السخيف المكدس .. يدخل كل منهم الفصل .. يأمر الأولاد بإخراج كتبهم وكراساتهم .. ثم يوليهم ظهره ويخرج إصبع الطبشور ليبدأ في تسويد السبورة وملأها بالكتابة مرة ومرتين وثلاثا .. وإن فتح الله عليه بقليل من الضمير يجعلهم يقرئون خلفه بعض العبارات البسيطة أو بعض الكلمات الإنجليزية .. الغريب أن " سناء " أحست أن المدرسين الآخرين يتكاتفون لمنعها من التحصل علي تلك الحصص الاحتياطية والإضافية رغم أنهم كانوا سابقا ، ولا زالوا ، حريصين أشد الحرص علي زحلقة تلك الأعباء الزائدة علي أي شخص يقبل أن يحملها عنهم !
كان وجود " سناء " قد أصبح غير مرغوب لكثير من المدرسين الآخرين .. همست بعض الزميلات الثرثارات في أذنيها ، وهن متجمعات لأكل سندوتشات السلطة والطعمية في الفسحة ، أن أحد المدرسين الذي يقيم بالقرية التي تقع بها المدرسة متضرر مما تفعله مع تلاميذ فصلها لأن كافة الطلاب الصغار يأخذون دروسا خصوصية عنده .. وأوحين لها بلؤم النساء الصريح المتغطي أنه هو من أوعز للمدير بالتحدث عنها بشكل سيء أمام الموجه الذي حضر منذ أيام قليلة .. لأنه هو والمدير سمن علي عسل أو كقطعة زبد علي فطيرة مشلتتة !
لم تشعر " سناء " بالقلق من هذا الكلام .. فهي في النهاية لا تفعل شيئا خاطئا بل الواجب أن يشكروها علي مجهوداتها !
غير أن أحكام المنطق شيء وأفعال العقول الخربة شيء آخر تماما .. فما لبثت المدرسة القليلة الخبرة أن أحست بحرب ضروس خفية تقام ضدها في المدرسة !
كل شيء كان يجري في الخفاء ، من تحت لتحت ، وتحت أغطية الوجوه المداهنة المعسولة الباسمة دائما لكن إحساسها الواضح الصريح كان صائبا .. ففجأة لم يعد هناك مدرس واحد علي استعداد لترك حصته الأساسية أو الاحتياطية في فصل 3/2 أو التنازل عنها .. بل الأكثر أنه عندما قامت هي ، ومن تلقاء نفسها بجمع كافة الطلاب الذي لا يجيدون القراءة والكتابة في المرحلة الابتدائية بالمدرسة وعقد حصة كتابة وقراءة لهم في كل فسحة يوميا ، حتى بدأت المدرسة تغلي غليانا ضدها .. كان جهل الطلاب وضعف مستوياتهم كنز إستراتيجي ومورد رزق لعدد غفير من أولئك المدرسون ، تجار العلم الذين لا يختلفون في شيء عن تجار الأسلحة ، ومعني أن تأتي مدرسة تافهة صغيرة وتأخذ بيد أولئك الأطفال لكي يتعلموا .. بل لكي يعلموا أنفسهم بأنفسهم ويتعودوا أن يستذكروا دروسهم ويئودوا واجباتهم دونما حاجة إلي معونة خارجية ، هو أنها أتت لا لتعلم أطفالا .. بل لتقطع أرزاقهم وتقلل مدخولاتهم !
علي أن الذنب في النهاية لم يكن كله ذنبهم .. فهم شريك في الجرم وليسوا أصحابه بمفردهم !
فهناك بعيدا ، في قلب العاصمة ، وفي مكاتب أنيقة تلمع بالنظافة وتبرق كالبلور وتنتشر فيها روائح المعطرات الغالية الباهظة كان يجلس المجرمون الحقيقيون .. رؤوس الأفاعي الذين أفسدوا التعليم في مصر بحنكة ودهاء ودونما تعجل أو جلبة وجعلوا عاليه سافله .. وخرجوا أجيالا عقب أجيال من الفاشلين والجهلاء والأميين الحقيقيين الذي تزيد جهالتهم أضعافا علي تلك التي ينعم بها من لم يُكتب لهم أن يلتحقوا بالمدارس أصلا !
الكل كان شريك بالجرم والكل كانوا يتربحون منه .. حتى الأولاد أنفسهم ما لبثوا أن بدءوا في النهاية يتذمرون !
بدأت الحصص الزائدة تصبح عبء إضافيا ثقيلا عليهم .. إنهم لا زالوا صغارا ويريدون أن يمرحوا ويلعبوا وينطلقوا أحرارا ، لا أن يسمروا منذ الثامنة صباحا وحتى الواحدة والربع ظهرا فوق مقاعدهم الحجرية المهشمة ولا يسمح لهم بفسحة ينطلقون فيها من عقالهم ويفلتون من خنقتهم سوي لنص ساعة وحسب .. بعد أسبوعين بدأت وطأة الأمر تزيد ثم بدأت " سناء " نفسها تشعر بالتعب !
ولما كان حضور تلك الحصص الاختيارية أصبح الآن حرا لكل طالب يختاره أو يعزف عنه .. فقد أخذ الأولاد ، سواء من فصل " سناء " الأساسي نفسه أو ممن كانوا يحضرون حصص التقوية من الفصول الأخرى ، يتسربون هاربين واحدا تلو الآخر وفوجا إثر فوج .. حتى لو يبق في النهاية علي مقاعد الدراسة الإضافية سوي سبع طلاب منهم الفتاة الصغيرة " إسراء " !
كان تعلق " إسراء " بمعلمتها يزداد يوما بعد يوم .. وكذلك المعلمة نفسها أخذ يتنامي لديها إحساس كبير بالمحبة والمسئولية تجاه الطفلة القزمة اللائذة بحماها واللاجئة إلي ظلها .. كان الجميع يستغربون تلك العلاقة الوثيقة بين " سناء " وتلك الطفلة خاصة !
كثيرا ما سمعتهم يمزحون حينما يرون الفتاة التي لا تكاد تُري ، تهرع عقب انطلاق جرس الفسحة إلي حجرة المدرسات لتلتصق بجوار " سناء " وتبقي بجوارها حتى عودة التلاميذ إلي الفصول .. كانت زميلات " سناء " يمزحن ويقلن مستخفات لدمائهن السمجة :
" يا أختي اللي جابلك يخليلك ! "
أما المتزوجات والأمهات منهن ، اللائي ضقن ذرعا بما يحتشد في بيوتهن من أطفال هم أشقي من العفاريت المسلسلة نفسها ، فكن يرمقن زميلتهن والفتاة الملتصقة بذيلها ويقلن ممصمصات بشفاههن المشققة المسودة :
" يا أختي .. هي الواحدة فينا حاملة عيالها لما هتحمل عيال الناس .. بلا قرف ! "
لكن ما أحزن " سناء " حقا أن الأطفال في المدرسة لم يكفوا تماما بعد عن مناداة الطفلة بكنية ( القردة ) الكريهة !
لكن القردة الصغيرة تعلمت ألا تلقي بالا للساخرين والمستهزئين .. تعلمت أنها بشطارتها وبذكائها ، وبجدها واجتهادها ، تستطيع أن تجبر الآخرين علي أن يعاملوها كطفلة حقيقية .. كإنسان يحس ويشعر ويمكنه أن يتفوق علي منتقديه ومعذبيه !
...
مضت الأيام تسير سيرا عاديا .. تبطئ حينا وتخب خببا أحيانا أخري حتى أوشك الفصل الدراسي الثاني علي الانتهاء .. تعلمت " سناء " المزيد في كل يوم من تلك الأيام المتهاوية وراء بعضها ، صارت أكثر خبرة ولو قليلا ، تعلمت أن تفتح عينيها وتري ما يدور حولها بطريقة أخري .. طريقة تري الألوان سبعة وليس أبيض وأسود فحسب !
فلا شر مطلق ولا خير مطلق في ذلك العالم .. إن المدرس الذي يجبر الأطفال علي أخذ دروس خصوصية عنده مدان ومجني عليه في نفس الوقت .. إنه مجني عليه من نظام كامل يطبق علي رأسه ولا يعطيه ما يكفيه ويقيم أوده وأود أولاده ومن هم معلقين برقبته من عيال وعائلة .. ولأن المجني عليه كثيرا ما يكون جلادا أكثر وحشية ، فإنه يستدير إلي الطلاب ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ليحلب منهم ما يحتاجه تحت مليون مسمي ومسمي جاهز وحاضر في كل وقت .. الطلاب المجني عليهم الأول في ذلك النظام الفاشل غالبا يتحولون إلي متهمين لا يشق لهم غبار في إفساد كل شيء وتضييع كل فرصة سانحة لهم للتعلم والفهم .. بل إنهم كثيرا ما يهرعون إلي المدرسين طالبين الانتظام في مجموعاتهم منذ اليوم الأول للدراسة .. ليس طمعا في أي شيء سوي النجاح السهل المضمون مع مدرس يمسك بيده دفاتر درجات الطالب .. وباليد الأخرى يتقاضي منه ثمن خدماته التعليمية المدفوعة له !
منظومة هائلة من الفساد والفساد المضاد .. زوج غيلان يتناطحان ولا بقاء لأحدهما إلا بالإجهاز بالضربة القاضية علي الآخر !
لكن الغولان تعلما كيف يتعايشا .. تعلما أنه بإمكانهما بدلا من التنازع علي سيادة القطيع .. فإن الأسهل والأقل خسارة للطرفين هو اقتسامه وتوزيعه بالعدل بينهما !
وهكذا تري في نظام التعليم المصري تلك الحالة الفريدة .. الفساد يتعايش تماما تماما مع الضمير النقي .. وكلاهما ، ولشدة الغرابة ، يستفيد من الآخر !
بل إن الفساد كثيرا ما يرتدي رداء أبيض مغسول بالثلج والبرد ويسابق الصلاح في إبداء حسن النوايا .. لذلك يتم توزيع بسكويت الوجبات علي الجميع ، طلابا ومدرسين ومديرين ، والبقية تباع علنا وتسرق علنا وتظهر علنا ، ولا أحد يحاسب أو يشعر بشيء خطأ في الأمر كله .. إنه الخطأ عندما يتكرر فيحل محل الصواب وقد يطرده دامغا إياه بكل نقيصة !
لا عجب في شيء هنا .. لا شيء يستحق العجب .. فكم كل شيء هنا رخيص حتى الروح .. الروح ليست رخيصة فحسب بل إنها أكثر الرخيصات رخصا !
...
 
في يوم من شهر إبريل حدثت تلك الحادثة .. نسيها الجميع بعد شهور وعادوا يمارسون حياتهم الطبيعية وأفواههم مفتوحة من الأذن وحتى الأذن وهما لا يشعرون بأي شيء .. لا ندم ولا ألم ولا وخزة ضمير !
فلا ضمير عند الأغلبية ليخزهم .. إن الضمير عند البعض ترفا وعبئا وفضول أعضاء بشرية لا قيمة لها .. مثله مثل الشعر المتساقط والجلد الميت والأظافر المقصوصة !
في نهاية اليوم الدراسي دق الجرس معلنا ساعة التحرر المباركة .. كانت تلك نهايات العام الدراسي وما قبل امتحانات الفصل الدراسي الثاني ، حيث تزيد شهوة الأولاد لمغادرة المدرسة والتحرر من سجنها مثلما تزيد شهوة المرء للطعام كلما تنشق رائحته الشهية أكثر !
دق الجرس واندفع الأولاد .. اندفعوا كالثيران الهائجة .. فلا تنظيم ولا نظام ولا راعي صالح ليسيطر علي القطيع الهائج الفائر المتدافع بوحشية .. كان الأولاد ينزلون من سلم والبنات من سلم آخر ، لكن في ذلك اليوم مُنع الأولاد من استخدام السلم الخاص بهم ، لأن زائرا كبيرا من مديرية التربية والتعليم كان في مكتب السيد المدير .. هذا الزائر الذي من أجله كنسوا المدرسة ونظفوها ومسحوا السلالم وأزالوا أكوام القمامة من الفناء وقلموا الأفرع المتدلية القبيحة من أشجار النبق الجرداء .. فعلوا كل ما بوسعهم من أجل سيادته ، وخصصوا له السلم الملاصق لمكتب المدير ليستخدمه حين نزوله ..
السلم يجب أن يبقي نظيفا لامعا براقا من أجل ( البيه ) أما الأولاد فلديهم سلم البنات .. طبعا كان معروف المنظر الذي سيحدث عند اختلاط الحابل بالنابل واختلاط الأولاد بالبنات عند النزول من السلم المشترك .. وكمحاولة لتجنب المجزرة التي سيتكوم فيها الأولاد فوق بعضهم حتى يتحولوا لطبق صلصلة كبير ، فقد قام المدرسون بحجز الأولاد والسماح لفصول البنات بالخروج مبكرين عشر دقائق .. كانت المدرسة مكونة من ثلاث طوابق تعلو الطابق الأرضي وكلها مكدسة بالفصول المكتظة بدورها بالأطفال .. نزلت فصول البنات تباعا تتبعهن وتتفرق بينهن قليل من المدرسات اللائي خرجن مع بناتهن ليحاولن تنظيم الأمر علي السلم .. هبطت البنات لكنهن لم يستطعن أن يلتزمن بالصمت والهدوء ، فلابد من ضجة ولابد من ( هييييييييي ) وكأنهن كن محبوسات في ( جوانتاناموا ) وأطلق سراحهن للمرة الأولي منذ عشرين عاما .. سمع الأولاد المحبوسون في فصولهم ( هييييي ) من البنات فتوتروا .. بدأت أعناقهم تشرأب مستطلعة وبدأ آخرون ، خاصة قصار القامة منهم وخفيفي الوزن ، يتسربون من بين أرجل المدرسين الواقفين حراسا ديدبانات علي أبواب الفصول المهشمة ، ويخرجون منطلقين فرحين مشاركين في الهتاف القومي الموحد الذي يبدو كأنه النشيد الوطني للمدارس المصرية .. أصبحت السيطرة علي بقية الأولاد الآن أكثر صعوبة وأكثر إثارة للملل .. أخذ بعض المدرسين يسحبون حقائبهم ويتبعون الأولاد الهاربين لاحقين بهم بينما الأفواج تخرج من الفصول كأنها السيل منهمر .. كانت فصول البنات لا تزال تنزل عبر السلم حينما لحق بهن الأولاد .. كانت تلك من المرات القليلة التي يُسمح فيها للطلاب من النوعين بالركوب أو النزول عبر سلم واحد مشترك ..
فصل 3/2 كان يقع في الدور قبل الأخير وكانت البنات والأولاد الصغار ينزلون متشابكي الأيدي تنفيذا لتعليمات مدرساتهم .. أما الفصول من الصف الرابع وحتى الخامس فقد كانت منفصلة بنات عن أولاد .. كانت " إسراء " الصغيرة تهبط بتؤدة وسط رفاقها ممسكة بيد ابنة عمها الأكبر والأطول منها " سما " .. التي كانت تعتبر في المدرسة الحارس المناوب المسئول عن سلامة المفعوصة الصغيرة التي يصعب رؤيتها بالعين المجردة .. فجأة وجد الأولاد الصغار أنفسهم يندفعون إلي الأمام تحت ضغط الأولاد الكبار الشرسون الآتون من فوقهم .. يندفعون فوق السلالم .. سقط بعض الأولاد الذين في المقدمة تحت الضغط الشديد من فوقهم وتعفرت ثيابهم ووجوههم بالتراب .. لكنهم وبسبب صحة بنيتهم تمكنوا من دفع الضاغطين عليهم ورفع أنفسهم وإخراجها من تحت الأرجل .. أنتهي الموقف علي خير ؟!
لا لم ينته .. لأن المزيد من الأولاد الكبار ، أولاد الصف السادس الفارعين هذه المرة ، قدموا كجحافل الجراد وتساقطوا فوق الجميع .. سقط أطفال الصفين الثاني والثالث وأتي المزيد من الأطفال من فوقهم وتكوم الكبار فوق الجميع .. انفلتت يد " إسراء " الصغيرة الزلقة من يد ابنة عمها ووجدت نفسها ، كصخرة صغيرة تائهة مذعنة لقوة تيار ماء هادر ، تنزلق وتسقط سقوطا متتابعا فوق السلالم .. سقط المزيد من الأولاد وأزداد حجم الأجسام المنهارة فوق بعضها البعض .. أخرج الأطفال الأكبر أنفسهم من تحت الأرجل بمساعدة أيدي زملائهم الذي شدوهم .. أما الطفلة القزمة فقد تلاشت وسط الأرجل ولم يعد أحد تقريبا يراها أو يشعر بها وهي تُعتصر بأسفل .. صرخت البنات وتعالي صياح الأولاد ..
خطأ ، خطأ يحدث هنا ولا أحد يشعر به .. تدافع المدرسون يحاولون حجز من لم يأتوا بعد ومنعهم من الارتماء فوق الكتلة المختلطة من الصبيان والبنات .. لكن ذلك كان صعبا ، مستحيلا ربما .. مستحيلا .. هرعت المدرسات ينقذن البنات ويحاولن جر من يمكنهن جره منهن من أسفل بينما المدرسون يعملون من أعلي .. تهاوي المزيد والمزيد من الأولاد وأصبح السلم كله وكأنه متحف من زجاج هوت عليه قنبلة .. تناثر الأولاد هنا وهناك ولاكت الأقدام القوية المذعورة الصغار منهم .. دوت الصرخات وتعالت أكثر وأكثر .. أخيرا أحس السيد المدير وزائره الخطير بما يحدث فاندفعا في إثر بعضهما من المكتب المغسول النظيف .. تلاشت وجوه بعض التلاميذ وسط غابات الأذرع والسيقان ، وتدافع الطلبة بالمناكب وتضاربوا بالأرجل محاولين تخليص أنفسهم من الملزمة العاصرة التي وجدوا أنفسهم محشورين بين أسنانها .. المزيد من الدفع والركل .. لكن المدرسات نجحن في سحب البنات اللائي في المقدمة فحدثت انفراجه ،ودخل الهواء بين الصفوف المتهاوية ووجد الطلاب أخيرا أنفسهم قادرين علي التقاط أنفاسهم الهاربة المكتومة .. الكثير من الجروح البسيطة والكدمات والمرايل والجلبابات المتربة المعفرة .. لكن أسفل الكومة كان ثمة جسد صغير ممدد .. " إسراء " التي انزلقت تحت الكومة وانحشرت برأسها الصغيرة وجسدها الصغير وذراعيها الصغيرتين .. اندفعوا فوقها فحاولت أن تدفعهم عن نفسها .. لكن أني لتلك القبضات اللينة الصغيرة ولهذه الأيدي الضعيفة العاجزة أن تزود وتحمي جسدا صغيرا دقيقا بلا حول ولا قوة .. أخذت كبر الدفعة فوق ظهرها فسقطت علي وجهها .. هوت وهووا فوقها .. وتحت الأرجل والأقدام وبين الأجساد لم يلحظها أحد .. لم يسمعها احد وهي تصرخ وتستغيث .. صرخت صرختين قبل أن تهوي فوقها فتاتان كبيرتي الحجم ويخرس صوتها للأبد .. فرقوا الأطفال من حولها .. فرقوهم قسرا وأضطر المدرسون لاستخدام العصي الغليظة وأفرع الأشجار اللدنة اللاسعة لضرب الأولاد وتشتيت شملهم ، وإبعادهم عن الدائرة الصغيرة التي افترشتها " إسراء " بجسد متكور علي نفسه ووجه وأطراف مزرقة متورمة وملامح سطر عليها الذعر واليأس أقوي علاماته الوقحة .. لا نفس يتردد في صدر البنت .. لا نفس يدخل صدرها أو يخرج منه !
أحاطت المدرسات وبعض المدرسين والمدير وزائره بمركز الدائرة حيث جثت " سناء " علي ركبتيها واضعة الطفلة فوق حجرها تحاول إنعاشها والقيام بإجراء تنفس صناعي لها .. بينما أنشغل بقية المدرسون في إجلاء جحافل التلاميذ بعصيهم وفروعهم وإخراجهم من المدرسة عبر الباب الكبير الذي فتحوه علي مصراعيه لتنفذ منه كل تلك السيول المتدفقة .. ووسط دموعها المنهمرة بدأت " سناء " تحاول إنقاذ الطفلة ، كان لديها خلفية طيبة في الإسعافات الأولية .. فبدأت تحاول جعل الطفلة تتنفس ولما وجدت أن صدرها لا يتحرك وأن أنفها لا يستقبل ولا يطرد هواء تأكدت أنها ستموت .. لكن لا لا ..
حاولت إنعاش تنفسها وأخذت تنفخ من أنفاسها الحارة المبللة بالدموع ، منحتها قبلات حياة متكررة ، لكن لا استجابة تصدر من الفتاة ، تحسست نبضها وضغط بإصبعيها علي حنجرتها راجية أن تعثر أناملها علي علامة من علامات نفوذ الأكسجين وتخلله للصدر الساكن .. دلكت قلبها وأخذت تضغط علي عظام صدرها اللينة إلي أسفل محاولة جعلها تستجيب .. هرع البعض أخيرا يطلبون الإسعاف الذي لن يأتي غالبا إلا بعد أن تكون الفتاة قد تحللت في قبرها !
رفعت " سناء " وجها محمرا مغطي بالدموع وقد بلل العرق أطراف شعرها وجعلها تسقط متهدلة من طرف طرحتها الأمامي .. كان الجميع يقفون حولها الآن صامتين متوقعين الأسوأ .. لكن لا أسوأ مما يحدث الآن .. أو مما قد حدث وأنتهي للأسف !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...