التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل العاشر

 



في الساعات المتأخرة من الليل آتاها المخاض .. عنيفا مفاجئا حارقا ، ورغم أن " نعمة " جربت الولادة أربع مرات من قبل ، فإنها لم تشهد مخاضا حاميا كهذي المرة ، حتى في ولادتها الأولي البكرية ..
كانت أم " نعمة " تقيم برفقتها وتنام بجوار ابنتها منذ أن تعدت منتصف شهرها التاسع من الحمل .. وهي أول من سمع أناتاها وصرخاتها وأول من هرع لنجدتها في البيت .. ترامي الصوات المكتوم إلي أذني " عبد الرحيم "  الذي يرقد مفتح العينين بجوار زوجته الثانية النكدية .. كانت " ثريا " قد نكدت عيشه تلك الليلة وجعلته يقضي ساعات في الجحيم من كثرة كلامها وشكاواها وزنها ، الذي كزن النحل لا ينقطع ، علي أذنيه .. كان موضوع الحوار الذي فُتح وظل مفتوحا تتداول فيه الألسن منذ نحو شهر هو موضوع ولادة " نعمة " .. فمنذ أن دخلت الزوجة بحملها الشهر التاسع والحماة وكنتها الجديدة لا حديث لهن سوي عن الولادة وتكاليف الولادة .. كانت " نعمة " مصرة علي أن تلد عند طبيبها تلك المرة ، لأنه حذرها في آخر زيارة لها من أنها تعاني ضعفا في الرحم ، ومن الأفضل أن توضع تحت إشراف طبي وتعقيم كامل بدلا من أن تسلم نفسها لداية أو حكيمة جاهلة لا يعرف إلا الله ما الذي يمكن أن تصنعه بها أو تسببه لها من أضرار .. أصرت " نعمة " علي تنفيذ النصيحة وحدثت "عبد الرحيم " ، وبينهما ساتر من فتور ومقت خفي وكراهية مستترة من ناحيتها ، عن تكاليف الولادة ، وأمرته بأن يجهز نفسه للدفع .. أذعن الزوج رغبة في استرضاء زوجته الأولي واستمالتها إليه ، لعل وعسي تعود المياه إلي مجاريها بينهما .. لكن الخبر سرعان ما تسرب إلي أذني " ثريا " المطرطقتين في تحفز  أبدي وما لبثت أن نقلته إلي حماتها ..
بدأت الحماة الممتعضة الهجوم فبينما كانوا يتناولون الإفطار مجتمعين ذات صباح يوم جمعة ، و" نعمة " تجلس منزوية في الركن ببطنها المتكورة وحولها بناتها تطعمهن ولا تطعم هي ، قالت الجدة وهي تدفع ببصلة خضراء مقشرة إلي ابنها الذي يأكل لماما ويبدو شارد اللب والعقل :
" كل يا ضنايا كل .. شقيان يا حبة عيني وهمك ما يتلم .. بس نقول أيه بقي علي الحريم اللي معندهاش دم ! "
ابتسمت " ثريا " خفية شامتة .. بينما تحفزت " نعمة " وتوترت لعلمها أنها المقصود بتلك العبارة الأخيرة وأن حماتها تعتبرها ( مرة معندهاش دم ) لسبب لا تدريه .. رد " عبد الرحيم "  فورا محاولا لم الموضوع قبل أن يتسع :
" ربنا يعين يا أما وكله علي قد جهده .. إن شاء الله نكفي ومنقصرش مع حد ! "
كان يطيب بكلامه ما فتقته أمه لكن زوجته الثانية فتحت فمها قائلة بسخرية :
" كلها الحريم عتولد في البيوت .. آمال يا أختي لو كانت البطن جايبة ولاد كنا وصلنا لحد فين ؟! "
هنا نظرت إليها " نعمة " غاضبة وقالت وهي تلف ذراعيها حول " حسناء " الصغيرة لتمنعها من التحرك بعيدا وقلب صينية الطعام :
" والله البت والواد دولا حاجة بتاعة ربنا .. ولما تبقي تجيبي عيال أصلا أبقي أولدي عند الداية يا حبيبتي ! "
كانت " نعمة " تلكزها وتعيرها وترد لها صاعها الملآن صاعين أكثر امتلاء .. لكن الحماة غضبت لزوجة ابنها الجديدة ، وقالت تنهر " نعمة " دون مبالاة بزوجها الجالس كالنخلة الجافة التي تساقطت فروعها وجف رمقها :
" ما جابت يا ست الكل .. وادين في عين العدو .. وإن شا الله هتجيب لولدي زيهم ورا بعض ونكيدوا العدوين ! "
ضحكت " نعمة " فجأة وقالت مستهزئة :
" أصل اللي يتبطر علي النعمة عمر ما ربنا ينولهاله تاني .. في واحدة بردو ترمي ضناها ! "
أربد وجه " ثريا " وقتمت ملامحها .. كانت تلك أكثر نقطة ضعف لديها ، ولديها اللذين أخذوهما منها ، كانت تلك المرأة تظل ثابتة قوية متجذرة في الأرض أمام من يعاديها حتى يأتي ذكر ولديها .. حين ذاك كانت جذورها تقتلع وتتحول لهباء منثور ، وتعجز حتى عن الرد .. تطلعت " ثريا " إلي بنات زوجها للحظة ثم أحمر وجهها ودمعت عيناها ونهضت بسرعة وهرعت نحو الطابق العلوي لتلوذ بحمي غرفتها من النار التي تحرق ضلوعها .. ستبكي حتى تجف عينيها وستنتحب حتى يتمزق قلبها .. لكن وخزة الألم التي سببتها لها ضرتها علي مسمع من الجميع لن تمر علي خير .. وستجعلها أكثر حنقا وحقدا وإصرارا علي إنفاذ رأيها .. فإما هي وإما " نعمة " في ذلك البيت !
أما الحماة فقد غضبت وقالت بصوت مرتفع :
" فيه يا بت أنت محدش مالي عينك ؟! دي ستك وست اللي جابوكي وبكرة تجيب الواد وتكيدك وتهري كبدك ! "
تصدت لها " نعمة " بقوة وردت عليها بمنتهي الشجاعة :
" دي تبقي ستك أنت وست اللي خلفوكي .. أنا مليش أسياد يا حجة ! ناس حشرية ومعندهاش دم .. مالك أنت ولا هي بولادتي .. هو الشملول ولدك ده أنا مش مسئولة منه ؟! والزفت العيل اللي هولده ده مش عيله ؟! "
هبت الحماة واقفة وصاحت بقوة وغضب :
" ما تلمي نفسك يا قليلة الأدب يا اللي محدش رباكي .. بتردي عليا يا بت ويتشتميني ؟! والله ما أنت قاعدة فيه .. ولا عايزينك ولا عايزين بنتتك قطعة تقطعك وتقطعهم بليتنا وكسرتي عينا ! "
كادت المرأتان تشتبكان في خناقة حامية لرب السماء ، لولا أن فاض الكيل بالرجل الممزق بين طرفين كلاهما يشدانه بلا رحمة ولا هوادة .. رمي اللقمة من يده .. ثم نهض فجأة ليضرب صينية الطعام كلها بقدمه فتنقلب ، وتتساقط منها أطباق الفول والبصل المقطع المغمور بالليمون ، ومخلل الليمون والفلفل والخبز وأكواب الماء .. سقط كل شيء بصوت مدوي فأجفلت البنات الصغيرات وصرخن .. بينما انسحبت " نعمة " إلي الخلف ببطنها المتكورة حاملة ابنتها الصغرى علي صدرها وجاذبة معها بقية البنات إلي الخلف بيديها وبذيل ثوبها .. صرخت الأم وشعرت بالرعب لمنظر ابنها بعينيه المحمرتين ووجه المسود الكظيم الذي يوشك علي الانفجار .. صرخ بحنق والانفعال يخنق صوته :
" ما تبس بقي .. ما تبس حرام عليكم .. حرام عليكم مررتوا عيشي وسودتوا أيامي .. الله يقطع الولادة علي اللي هيولدها علي الولاد علي البنات علي الحريم ع الجواز في ساعة واحدة .. حرام عليكم حرام عليكم ! "
أسرع خارجا وهو لا يكف عن ترديد " حرام عليكم .. حرام عليكم ! "
حتى نزل السلم طولا وهو يكاد يبكي من فرط الحزن والانفعال .. أصبح خارج البيت الذي تتنازعه امرأتان وتهيمن عليه أم قوية لا قلب لها .. ثلاث نساء يلتففن حوله وكل منهن تجذبه من ناحية .. كل منهن تريد منه قطعة .. لكن الله خلقه ، كما خلق سائر الناس ، قطعة واحدة .. لا تمزيق ولا تفريق ولا تشتيت لها .. فكيف يرضيهن إذن ؟!
كيف يرضيهن وهو عاجز عن إرضاء نفسه .. كيف يتحمل أوزانهن فوق كاهله وهو غير قادر علي حمل نفسه أو تحمل ما رزأته به الأيام من مصاب يبدو غير أليم .. لكنه أشد ألما من أي شيء عرفه في حياته !
" نعمة " وبناتها ..
" ثريا " ومطالبها ..
أمه وسطوتها !
نقار دائم وشجار مستمر وغيرة ولوعة وتمزق ووجع وعصيان وتمرد وكراهية محبوسة متبادلة حتى نخاع العظم .. حتى نخاع العظم تسلل المرض فأمضه وفي دمه انتشرت فكرة واحدة .. إنه سيقضي بقية حياته في نكد دائم بين مصيبتين !
...
في نفس تلك الليلة جاء الطلق ساخنا لينهي نقاشا طال واستطال وتمدد وتفرع حتى أنتهي في الفراغ دون أن يترك أثرا أو يحل مشكلة .. فكرة الجدال تنتهي دائما إلي لا شيء .. كانت مفاجئة الطلق هي التي أنهت الأمر وحسمت النقاش وبترت حبل الجدال .. فلقد كانت الساعة تقارب الثانية صباحا وسخونة الولادة وسرعتها لا تسمح حتى بالتفكير في نقل " نعمة " المتلوية ألما إلي عيادة الطبيب .. قضي الأمر رغم أنه كان بالإمكان أن يحاولوا علي الأقل .. لكن الأم ، أم الزوجة ، تدخلت بفلسفتها الأبدية التي تعتنق فكرة المرأة التي يجب أن تستسلم حتى تموت ، لكي لا تصبح امرأة متمردة أو فاجرة .. وهمست في أذني ابنتها التي تعض الوسادة وبنتين من بناتها يبكين بجوارها ، بينما هرعت الابنتان الأخريين للاحتماء بأبيهما ، مطمئنة مذعنة :
" نجيبوا الست " عطيات " الحكيمة يا ضنايا ونلموا الدور .. ما هي ولدتك قبل كده مرتين وطلعتي زي الفل يا أمي ! "
جزت " نعمة " علي أسنانها ، ألما وغيظا ، وقال بوجه محمر بشكل مروع من فرط الألم ومكابدته :
" يا أمايا أنا الدكتور قالي وحذرني قدامك .. عايزين تموتوني وتخلصوا عليا .. مستخسرين فيا قرشين أولد بيهم ! "
لا لم تكن الأم تستخسر في ابنتها حتى نور عينيها أو دمها نفسه .. لكن ما باليد حيلة !
لم تجد " نعمة " فرصة لمواصلة الكلام فقد داهمتها نوبة آلام مبرحة ورقدت شبه فاقدة الوعي .. هرعت الأم ، حماة " عبد الرحيم "  إلي الخارج ، وهي تجر " شيماء " و" مروة " قسرا بيديها وتدفعهما إلي خالة أمهما" سلوى " ، التي أحضروها بالتليفون ، وتصرخ في وجه زوج ابنتها :
" روح يا ولدي .. غيتنا يا ضنايا وهاتلنا الحكيمة ! "
كانت " ثريا " تقبع كضبعه في شقتها بالدور العلوي وتسمع كل ما يدور في الدور الأسفل ، عن طريق أذنيها اللذين مدتهما ، مع رأسها ورقبتها ، وأدلتهما من زاوية السلم لتسمع كل ما يجري وتتظاهر بأنها لا تهتم في نفس الوقت .. وهكذا سمعت صرخة حماة زوجها وأمرها له بإحضار الحكيمة فشعرت بأنها انتصرت في معركتها .. انتصرت علي " نعمة " أم البنات وأجبرتها علي أن تلد بين يدي الداية وليس تحت إشراف طبيبها كما أرادت وخططت .. فرحت " ثريا " بنصرها الصغير عديم القيمة وشعرت بنسائم الفرحة .. لكن فرحتها كانت ستكون أكبر لو عرفت أن المعركة ذاتها علي وشك أن تنتهي إلي الأبد .. وأنه لم يبقي حربا لتخوضها ولا صراعا لتجند قواها فيه !
...
أحضروا الست " عطيات " ، وهي حكيمة مدربة سبق أن باشرت توليد " نعمة " في ولادتيها الثالثة والرابعة ، وتقيم علي مقربة من منزل والد " عبد الرحيم "  .. وكانت الحكيمة المدربة التي تقوم بعمل أفضل مما تقوم به الدايات القذرات قد تقلص رزقها وقل دخلها من الولادات بسبب لجوء معظم النساء في السنوات الأخيرة للولادة في عيادات الأطباء .. مما ألجأ المرأة ، التي تنفق علي ولدين وثلاث بنات تركهم لها زوجها الممرض السابق في مستشفي المركز ، الذي تركها وترك لها الأولاد وتزوج من امرأة ( بحراوية ) وأنتقل للإقامة معها في القاهرة ، ناسيا أسرته ومتناسيا زوجته الأولي ، التي لم يقطعها من حياته بالطلاق ، لكنه اعتبرها غير موجودة ، وأمتنع عن إرسال مليم لها أو لأبنائه الخمسة .. تكسبت " عطيات " بعد انقطاع دخلها السابق أو معظمه من العمل في عيادات الأطباء ، نظير أجر شهري أو نسبة من حصيلة العيادة وإيرادها اليومي .. لكن المرأة ، في كل الحالات ، لم تعدم زبائن يطلبون خدماتها ومساعدتها في الولادة ، خاصة وأن أسعارها أقل كثيرا وأكثر مهاودة من أجور الأطباء المحترفين الذين يقصمون ظهور الوالدات ، والمواليد أحيانا ، بأجور أيديهم المرتفعة .. عدا تكاليف الأدوات والجراحة والقطن والشاش والحقن وخلافه !
وقد كانت والدة " عبد الرحيم "  ممن يؤمنون بأن الحكيمة لا تقل في شيء عن طبيب النساء ويمكنها أن تجر الطفل خارج بطن أمه مثلما يجره الطبيب .. لكن كل الفارق بينهما أنها ، أي " عطيات " ، لا تتقاضي أكثر من مائتين وخمسين أو ثلاثمائة جنيه ، إذا زادت ومدت رجلها في الأجرة ، بينما الطبيب المتعلم لا يأخذ أقل من ألف وخمسمائة أو ألفين جنيها في الولادة الواحدة !
ذهب " عبد الرحيم "  ودق علي باب بيت " عطيات " فخرجت له خلال دقائق وعلي رأسها شال خفيف لفت به رأسها الأشيب بسرعة فبقي الكثير من شعرها الأبيض الخفيف ظاهرا للعيان :
" خير يا ولدي ؟! "
كانت تنادي كل من يقل سنه عن خمسين عاما بلقب ( ولدي ) مع أنها هي نفسها لم تكن تزيد عن الحادية والخمسين من عمرها .. لكن الهم والجري وراء اللقمة والجنية وحمل تبعات خمسة أبناء بمفردها أنسوها عمرها الحقيقي .. وجعلوها تشعر وكأن عمرها مائة عام !
مستعطفا متوسلا قال لها " عبد الرحيم "  الذي يلهث لأنه قطع المسافة بين بيتهم وبيتها جري في جري :
" " نعمة " بتولد .. والنبي تشهلي يا حاجة وتيجي تولديها ! "
طبعا كانت المرأة مرحبة فهذا رزق جديد هي في أشد الحاجة إليه .. أحكمت لف الشال حول رأسها وقالت مبدية العطف والتفاهم :
" حالا يا ولدي .. أجيب بس حاجتي وتني جاية معاك ! "
كانت الست " عطيات " بوصفها حكيمة قد الدنيا تصر علي تمييز نفسها عن الدايات الشعبيات ، اللائي انقرضن بشكل شبه كامل ، بثياب بيضاء نظيفة تذهب بها لتوليد النسوة الماخضات وبحقيبة صغيرة تصطحبها معها لتظهر بمظهر الأطباء المتعلمين الفاهمين .. كانت تفهم في مسألة الولادة ورعاية من هن في مرحلة المخاض كثيرا ، وكانت تحرص علي أن يتوفر برفقتها بعض الأدوات والأدوية البسيطة لتسارع بنجدة الوالدة في حالة حدوث مشكلة بسيطة أثناء أو بعد الولادة .. وكانت تعتبر محل ثقة الأمهات كبيرات السن ، والحموات خصيصا من اللائي يكرهن تكليف النسوة لأولادهن رهقا في الولادة ، بينما يمكن إتمام الأمر علي خير وجه بورقتين أو ثلاث ورقات من فئة المائة جنيه تدفع في يد " عطيات " بدلا من دفع أضعاف أضعافها في أيدي الأطباء المغالين في أجورهم .. أسرعت الحكيمة تابعة " عبد الرحيم " ، الذي تعرف بيتهم مثلما تعرف بيتها تماما ، وقد لبست ثوبها البسيط وردائها الأبيض النظيف وحملت حقيبتها الصغيرة .. وجاءت خلفه تماما بخطواتها السريعة الرشيقة رغم سنها الذي لا يعد سن صغير بأي حال .. وما إن فتح " عبد الرحيم "  باب البيت وأوسع لها تاركا إياها تسبقه نحو السلم حتى  أتاهما صراخ " نعمة " قويا حاميا كسكين تشق ظلام الليل وتوقظ كل نائم وكل غافل وكل متغافل صارخة فيه أن أنهض وقم .. فثمة امرأة تتألم هنا ، سيدة تتألم وتتمخض محترقة مكتوية بآلام فوق طاقة البشر علي الاحتمال .. من أجل أن تأتي إلي العالم بشقي جديد يشارك القدامى الموجودين بالفعل شقاءهم ، ويقتسم معهم اللقمة المغموسة بالضنك والمر والصبر وطول البال الذي لا ينتهي إلا إلي حفرة متر في متر نعود فيها مثلما جئنا ونسير سيرتنا الأولي .. قبضة تراب بدأنا وقبضة تراب ننتهي وما بين البدء والصيرورة والنهاية ألم وعذاب وليل طويل .. لا ينجلي إلا عن صباح بشمس باردة لا تسمن ولا تغني من زمهرير !
لكن أحدا من الغافلين النائمين لم يستيقظ علي صراخ " نعمة " الذي حجبته الأبواب ومنعته الموانع المعدنية من أقفال وموانع رمزية مما تربت عليه أن تكتم ألمها وتتجاهل وجعها .. فالألم عيب والتصريح به عيب أكبر !
أسرعت الست " عطيات " ترتقي السلم وهي تتمتم داعية بالسلامة والساعة السهلة التي تأتي .. فينسحب الوليد من الرحم ويطل برأسه إلي العالم صائحا بصوت لا يسمعه ولن يسمعه أحد :
" مرحبا .. لم أتيتم بي إلي هذا العالم الخرب ولما جشمتموني وجشمتم أنفسكم تلك المتاعب كلها ؟! "
لم يصرخ الوليد ، الذي لا يزال يئن بالداخل ويحاول الإفلات بكل الطرق ، ولم يندو عنه حس .. فالولادة عسرة والطلق ، رغم سخونته ، لم ينجح في جلب المولود إلي العالم بالقوة بعد أن فشلت معه كل الطرق السلمية والأساليب الطيبة !
كانت " عطيات " مدربة جيدا وتعرف كيف تتعامل مع حالات تعسر الولادة لكنها أحست بخطورة حالة " نعمة " بمجرد أن بدأت في دفع يديها داخل الرحم للمساعدة في إخراج الطفل .. كانت " نعمة " تنزف وتفقد دما بطريقة أكثر كثيرا مما يجب !
راقدة علي الفراش مفتوحة الساقين والحكيمة تحاول إخراج الجنين بينما بحر ، بحر حقيقة ، دون أي مبالغة ، دموي ينبجس من بين فخذيها ويسيل علي الفراش الذي أغتسل بالدم وتحمم به .. لكن الدم لم يغسل إثمه ولم يطهره ولم يفده بل زاده إثما وعدوانا ونجاسة !
كانت الأم ، حماة " عبد الرحيم "  ،  تقف الآن وقد اعتراها الذهول والفزع .. بدأت تدرك أن شيئا يحدث لابنتها .. تحول وجهها إلي اللون القاتم المسود وهتفت أخيرا بقلق وهي تشهد محاولات الحكيمة المستميتة لجر رجل الجنين العصي ، أو رأسه علي الأصح ، إلي الخارج وإبعاده عن حمي الرحم الذي يتشبث به في عناد لم تري له مثيلا من قبل :
" نجيبولها الدكتور يا أم " طارق " .. دي هتموت يا خيتي ! "
كانت الحماة تقف لدي الباب تحرس عملية الولادة من بعيد ، كقائد يشهد معركة وهو منبطح علي بطنه لا يشترك في القتال ولا يترك الجنود المقاتلين المساكين في حالهم .. فردت فورا وكأنها سمعت تجديفا علي الذات الإلهية :
" يا أمي علي الحريم يا بووووي .. ما هي زي الفل وكلها هبابة وتولد وتخمسهم ! "
كانت تقصد أن تخمس البنات .. وتأتي بالبنت الخامسة وهذا هو كل ما كان يعني العجوز العقربة في تلك اللحظة !
لم ترد الأم لعلمها أنها لن تخلص مع الحماة الساعة .. كما أن قلقها الشديد علي ابنتها جعل عقلها يذهل وتنسي اقتراح الطبيب ، وتتجه بعقلها وقلبها وكل جوانحها لمتابعة عملية الولادة المتعسرة الشاقة .. كانت الحكيمة تبذل جهدها و" نعمة  " الميتة تعبا ونزفا كذلك تفعل كل ما في وسعها وتدفع بأخر ما تبقي لديها من قوة .. دفعت ودفعت ودفعت وتبللت بالعرق ، وتغطي الفراش حولها بالدم وأخذوا يضعون حلل قديمة ، من التي يستخدمونها في تسخين المياه ، عند قدمي الفراش لتتلقي ما يسيل من دم غزير وينزلق من فوق المشمع العريض الذي فرشوه تحت الوالدة .. مرت لحظات عصيبة علي الجميع حقا بينما كان " عبد الرحيم "  يقف عن باب الشقة الخارجي مرتخيا مسنودا علي الأب وقد هرم واعتراه العجز والكبر فجأة .. كان يسمع صراخ زوجته وأناتها من موضعه فينخسه الألم في صدره وبين ضلوعه .. لم يحدث من قبل أن تألم الزوج لآلام الوضع التي تعانيها زوجته ، لكنه تلك المرة يشعر أنه ألم مشترك بينهما .. يشعر أن " نعمة " لا تصرخ من وجع الولادة ولا حرها ، لكن صرخاتها التي تتردد الآن خافتة هامدة هي الصرخات التي كان يجب أن تطلقها يوم زواجه .. إنها تعبر عن الألم الذي حبسته بين ضلوعها طويلا وقد آن له أن ينتفض ويخرج .. بطريقة ما هو مسئول عما تعانيه الآن .. إنه متأكد من أنه لو لم يغدر بها ، لو لم يوجع قلبها ويأتيها بضرة كريهة ، لما تألمت ولما صرخت ولما تعذبت هكذا .. إنه وهم يشمله وهو يعلم أنه وهم .. لكنه عاجز عن دفعه وعاجز عن إبعاده عن عقله وعاجز عن فعل أي شيء في أي شيء !
لقد خرب الآن وصار حطاما .. بقية رجل كان يختال بنفسه منذ ساعات فإذا به الآن يبكي كطفل لا حول ولا قوة له !
بكي حزنا وألما لها وألما لنفسه .. وفي لحظة شعر بأن يكره الأخرى كراهية الموت .. يكره " ثريا " ،بل ويكره أخيها " بدوي " أيضا ، كراهيته لكل شيء يجب أن يكرهه في تلك الحياة .. ذرف الدموع ولحقت به بناته فالتففن حوله .. مد ذراعين متخاذلتين وضمهن كلهن إليه في حضن واحد وهو يبكي معهن .. أحاطت به البنات ، وأخذت ابنته " شيماء " تمسح له دموعه بطرف ثوبها .. قبل خدها ثم قبل خدود ورؤوس بناته وفي لحظة غمره نفس الشعور الذي غمر أمهن ، زوجته الحبيبة من قبل ، حين كانت بحاجة ليد حانية تمسح علي قلبها .. حين احتاجت إلي أم فوجدت في بناتها أربع أمهات صغيرات يحطن بها ويقدمن لها من الحماية ما كان يجب عليها هي إن تقدمه لهن وتمنحهن إياه .. الآن يشعر " عبد الرحيم "  أن بناته صرن أمهات له .. أمهات صغيرات ، لا تبلغ إحداهن نصف ساق أمه الحقيقية ، لكنهن أكثر حنانا وأكثر عطفا وأكثر قوة .. وأعظم شأنا من كل الأمهات البالغات في العالم !
ضمهن إليه بقوة في نفس اللحظة التي دوت فيها ، وبشكل مباغت تماما ، زغرودة قوية من الحجرة الداخلية حيث ترقد " نعمة " .. كانت أم " عبد الرحيم "  هي التي تزغرد ، وتجاوبت معها خلال ثانية أصوات أخري تشاركها الزغاريد وإعلان الفرح .. ولم يكن لتلك الإشارات الصوتية سوي معني واحد كمعني هتاف النصر .. أنه أحرز الهدف المرجو أخيرا ورزق بالولد !
نعم ..
نعم ..
نعم ..
لقد جاءت بالولد .. " نعمة " وضعت صبيا !
...
جري كطير فكوا قيوده وخلوا بينه وبين باب القفص إلي حيث ترقد زوجته .. زوجته الأولي .. حبيبته .. أم بناته وأم ابنه .. أم الولد الآتي أخيرا وبعد طول شقاء وطول عذاب وطول تصبر وطول انتظار !
كانت الجدة تمسك بلفة من فوط بيضاء وتحملها إلي صدرها في حنان ولهفة .. صرخت من فرط لهفتها وفرحتها حين وقعت عيناها علي ابنها المخضل وجهه بالدموع :
" واد واد واد .. يا واد جالك الواد ! "
لكن " عبد الرحيم "  لم يري الولد ولم يلتفت إليه .. هرع لينظر إلي زوجته المنطرحة علي الفراش ..
كانت " نعمة " ترقد وسط بحر من الدماء الذي يغطي الفراش من حولها والأرض من حول الفراش .. امتلأت الحلل التي جلبوها بالدم وترقرق دم الأم المسفوح جهدا ورهقا بين أحضان المعدن الغليظ .. كانت الحكيمة تتصرف بارتباك وجرت نحو " عبد الرحيم "  صارخة وهي تدفع إليه بورقة منتزعة من غطاء علبة تبدو ورقية سمكية كعلبة دواء :
" هاتلنا الحقن دي يا خيي حالا .. علي طول يا ولدي شالله يسعدك ويفرح قلبك ! "
كانت تحمل دائما علبة حقن (اكسوسوتين )* فارغة لتطلب إحضارها حين تشعر أن الأم الوالدة تنزف فوق المقدار المعقول ، لأنها لا تجيد نطق اسم الحقن اللاتيني وبالتأكيد لا تجيد كتابته .. لكن " عبد الرحيم "  دفعها بعيدا .. لم يعد يري في مرآة الوجود سوي وجه زوجته الشاحب الميت المثير للرعب .. من نظرة واحدة إليها ، ثم إلي وجه حماته ، أدرك أن هناك شيء خطير يحدث .. والحقيقة أنه كان مخطئا في ذلك فالشيء الخطير كان قد حدث بالفعل وأنتهي الأمر !
الشيء الخطير حدث عندما تجاهلوا نصيحة الطبيب ، وحينما أعطي هو أذنيه لامرأتين موتورتين حاقدتين وغمط امرأته حقها .. وأستكثر عليها بضع مئات من الجنيهات .. الخطأ حدث حينما تهاون في حق نفسه وفي حق زوجته وحبيبته .. حينما رضخ مرة ومرة ومرة ، ووجد نفسه أخيرا لم يعد يعرف إلا الرضوخ .. حدث الخطأ إذن وأنتهي لكن ليست كل الأخطاء قابلة للإصلاح للأسف !
أرتمي فوق جسد " نعمة " يحدثها :
" " نعمة " .. " نعمة " حبيبتي يا مرت عمري .. مالك .. متخافيش أنا هوديكي للدكتور .. متخافيش هشيلك علي كتفي وهوديكي للدكتور دلوقتي ! "
اعترضت أمه بخفوت :
" أنت بس هاتلها الحقن وهي هتبقي كويسة إن شاء .. "
تحول إلي أمه وصرخ فيها بقوة :
" أسكتي .. مسمعش نفسك ! "
بقوة أسد غاضب نهرها فانتهرت وسكتت ولم تحر كلمة زائدة .. لقد كانت بحاجة لمن يُسكتها منذ زمن طويل !
كانت أم " نعمة " قد انخرطت في بكاء مر .. بينما فتحت الزوجة عينين غائمتين لا تعرف إن كانت تري بهما العالم المحيط بها ، أم أنها تهيم بهما في عالم آخر لا يراه أحد ممن يحيطون بها .. بصوت منخفض للغاية همست الوالدة المتألمة :
" جبتلك الواد سميه " محمود " عشان نبقي حامدين ربنا عليه ! "
سكتت بعد ذلك .. كانت عيناها لا تزالان تتحركان حركة عشوائية وتدوران هنا وهناك،  لكنها لم تكن مدركة لما يدور حولها ، ولبحر الدم الذي ما أنفك ينفجر من داخلها .. لقد وهن الرحم وفشل في الانقباض .. وأخفق في السيطرة علي الأوعية الدموية فأنفجر الدم الحبيس في الجسد متسربا إلي الخارج وكأنه مداد محبرة مضي عليه سنين في محبسه .. وقد آن أوان خروجه ليسيل ويكتب قصة جديدة أو ينهي قصة قديمة !
صرخ " عبد الرحيم "  مناديا أحد أخوته آمرا إياه بأن يسرع ليستوقف سيارة أو توكتوك أو أي وسيلة ينقلون بها المرأة التي تنزف بغزارة إلي المستشفي أو عيادة طبيب .. أسرع الأخ الأصغر بتنفيذ الأمر ، بينما وضع الزوج ذراعيه تحت جذع زوجته وقدميها ، وحملها كخرقة مبللة خفيفة الوزن ،غير مبال بكل الدم الذي علق به ولطخ ثيابه علي الفور .. حملها وهي لا تكاد تعي ولا تحس بما يدور حولها وأتجه بها نحو السلم .. هرعت البنات الأربع يلحقن بأمهن وأبيهن صارخات والدموع تتقاطر علي أوجههن البريئة بحورا من نزق الحزن وطيشه ، حين يصيب قلوب غضة لا ينبغي لها أن تعرف معني الحزن أو أن تجربه .. لكن خالة أمهن واحدي العمات أسرعن بمنع البنات وحجزهن بالقوة .. وهن يصرخن وينادين أمهن ويحاولن الإفلات بكل طريقة وكل وسيلة تستطيعها أجسامهن الغضة الصغيرة ..
جرت والدة " نعمة " خلف موكب ابنتها ، وتبعتها الحماة علي بعد خطوتين .. وهي تشعر بأن هناك مصيبة قريبة ، قريبة جدا ، ستحدث مع أنها حدثت بالفعل وتحت أنظارها .. لكن منذ متى يبصر العميان أو يحسنون النظر ؟!
بدأ " عبد الرحيم "  يهبط السلم بتؤدة وتأني ودم زوجته يسيل علي ذراعه الذي يسند به أسفل ظهرها .. كان يتمزق بين رغبته في الإسراع لنجدتها وبين حرصه علي عدم تحريك جسدها الواهن بقوة لا تتحملها في تلك الحالة المزرية .. عند منتصف السلم تماما بدأت الزوجة تحتضر !
كانت قد فقدت ما قياسه 2000ملي من دمها وصارت علي أعتاب الموت نتيجة فقدان الدم الضخم .. لم يسرع أحد بنجدتها ، لم تعرف الحكيمة ، التي ليست إلا قابلة مدربة في نهاية الأمر ، كيف تتدارك الأمر أو كيف تسرع بنجدتها .. شغلوا عنها بالولد الذي ألهاهم وتلهوا به ، تاركين من أتت به إلي الدنيا تقضي وتنزف حتى الموت .. أصبح إنقاذها الآن أمرا يعتمد علي شيء واحد .. هل لها بقية من عمر ؟!
عند منتصف السلم اتضحت الإجابة وجاءت إليه تهرع ولكنها لا تبشر ولا تزف .. كانت رأس " نعمة " مائلة في حضن زوجها الذي ضمها إليه بحنان لم يضمها به منذ سنوات وسنوات ، بل منذ ليلة زفافهما ، حيث قرر أن يمنحها الأمان والشعور بالطمأنينة معه قبل أن يطلب منها هي أن تمنحه شيئا .. منحها ومنحتها وكان بالإمكان أن يدوم هذا للأبد .. لولا الولد والتقاليد والانتظار والتصبر والتشكي وقهر النساء ، وغلبة الضعف علي الرجل حين يحب ويتمزق بين من يحب وما يحب ويشتهي .. كان بالإمكان أن يستمر هذا إلي الأبد .. أبده هو وأبدها هي لكن أبدها أسرع للأسف وأكثر قسوة !
حين عد تسعة درجات نزولا ، وما عد ولا كان فيه عقل يعد ، توقف تنفسها تماما .. كان يشعر بنفسها الواهن المتخاذل يدخل ويخرج من صدرها ، ويطمئن إلي أنها لا تزال حية .. لا تزال تقاوم لكن الدم المسفوح كان أكثر من قوتها وأكبر من مقاومتها !
نزفت حتى صفي دمها فأسلمت الروح بين ذراعيه وفي حضنه .. شعر برأسها تخفق في حضنه خفقة صغيرة ثم شهقت وتدلي رأسها محويا في حضنه ساكنا صامتا ولا نفس يتردد في صدرها .. شعر بذلك فتوقف .. باغتته الضربة علي مؤخرة عنقه فتوقف مجبرا !
لو أن أحدا فاجأه في السوق أو الشارع وضربه علي مؤخر رأسه ، علي قفاه .. لتوقف فورا واستدار إليه ورد إليه ضربته عشرا .. لكن كيف السبيل إلي رد ضربة الموت !
هل له وجه تصفعه عليه .. أله جلد تمزقه .. أله بطن أو صدر تركله فيه ؟!
لا شيء من هذا ..
إنه بجبروته وقوته وخطفه المسروق لكل شيء لا يقاوم ولا يؤخذ منه ولا يرد عليه !
تهاوي الآن من الداخل .. آن له أن يتهاوي الآن ويسقط .. فقد صمد أكثر مما يجب وأكثر مما يحتمل .. تهاوي وجلس علي درجة السلم العاشرة يرمق ما أمامه بذهول .. ولم يكن أمامه شيء يُرمق أو ينُظر إليه .. محض مساحة بيضاء لا ألوان فيها .. أفق معتم مخطط بالأبيض ولا خلفية له .. علي درجة السلم العاشرة جلس واضعا إياها في حجره وعلي ساقيه غير مدرك أنه وبعملية طرح بسيط .. بإنقاص واحد كان يمكنه أن يدركها وهي حية !
بناقص واحد كان يمكن أن يعتذر لها ويعلن ندمه .. وكانت ستسمعه رغم الغشاء الذي توارت خلفه وغلفها وأحاطها بغلالة من كتمان .. بناقص واحد كان يمكن أن يجبر كسرها بكلمة تطيب خاطرها وتعرفها أنه لم يحب امرأة في حياتها سواها .. وأن التي تجلس فوق ، مذهولة مرعوبة فاقدة التوازن ، ليست زوجة ولا حبيبة .. إنما هي ماعون !
هي الماعون الذي أتي به وليست " نعمة " .. فلم يتزوج " نعمة " حين تزوجها لتكون معونا له .. أبدا !
تزوجها لأنه أرادها .. ولأنها أحبها .. ولأنها المرأة التي أشار نحوها قلبه وأشارت عليها جوارحه !
لكن الأخرى هي ( الماعون ) .. آتي بها لتحمل وتلد له الولد .. ووالله لو أنها فعلت ثم خيرها بين أن تبقي بلا قيمة أو أن تذهب تاركة له الولد واختارت الثانية ، لطلقها وأبعدها دون تردد ودون ندم !
والله لما كان لها في قلبه ذرة حب ولا لها عنده ذرة مودة ولا رحمة !
فأي رحمة ترجي وراء من أتت لتقوم بمهمة الحمل والإنجاب كأنها أنبوب اصطناعي ؟!
لا والله كان لديه الكثير ليقوله والكثير ليطيب خاطرها ويطيب جرح قلبها به .. ولكن ، ولأنه تلميذ خائب جمع بدلا من أن يطرح ، وفاته واحد لا غير .. فقد فاتته فرصة أن يقول لها كل ذلك إلي الأبد !
جلس بها علي حجره ومن خلفه أتت حماته الوالهة علي ابنتها وأمه التي يعتصرها القلق اعتصارا وينهشها الخوف نهشا .. جاءتا من خلفه تستحثانه علي السير بينما حضر أخيه جريا من الخارج يبشره بأنه أحضر له سيارة بيجو تخص أحد أصدقائه لينقلوا المرأة التي تنزف بها .. لكن ما من فائدة أصبحت ترجي !
صرخت فيه الحماة بعد أن فقدت كل صبر لديها وكل طول بال علي المكاره :
" ما تقوم يا ولدي .. هتقعد بيها كده لما دمها يتصفي قدام عنينا ! "
بدأ يبكي الآن .. سال بحر مفاجئ ، كأنه سيل عرم أنفجر من خلف حطام سد مدمر ، من الدموع علي وجهه وهتف بصوت مبحوح :
" ماتت ! "
ضربت الأم علي صدرها وأحتبس الكلام في حلقها ، بينما أسود وجه أمه هو وتقلصت ملامحها في ذعر .. قال ثانية وهو يضم زوجته الميتة إليه وكأنه يخشي أن ينتزعها أحد من بين يديه :
" بتك ماتت .. " نعمة " ماتت ! "
بدم بارد وقلب أكثر برودا  أستقبل العالم الفجر .. ودوي صوت الآذان من المسجد القريب ليلعن أن العالم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. وبدا كأن صوت الآذان الشجي يستدعي الله نفسه ليشهد علي ما يجري من خلقه وما يجري عليهم .. لكن الله ليس بحاجة إلي استدعاء أو طلب .. فالله ومنذ البدء كان يشهد أيضا ولا زال يشهد .. فهو الشاهد وهو الشهود نفسه !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...