التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل الحادي عشر ( والأخير)

 

 

 من ينتظرون لكل قصة نهاية يتجاهلون حقيقة مهمة واضحة وبسيطة .. أنه ما من شيء له نهاية في هذا الكون !

كل شيء فيه لا نهائي .. يبدأ ولا ينتهي .. فالموت ليس نهاية ولا الولادة ولا الحياة نهايات !
كل شيء في الكون يدور حول نفسه ليبدأ من جديد والقصة التي تنتهي تكتب سطر بداية لقصة جديدة تنبع من ذيلها .. حتى الموت ليس نهاية مناسبة لأي قصة !
فهناك ميت لكن هناك أحياء يتركهم من خلفهم هم علي كل حال جزء منه وهو جزء منهم .. حتى الميت نفسه تنتظره حياة أخري خلف القبر ، ليس مهما أن تعرف عنها شيئا أو لا تعرف .. لكن الروح الصامدة الراسخة تقول لك بوضوح منذ لحظة صرخة الوليد بوجهك حين يلج الدنيا برأسه ، أو بقدميه أحيانا ( أنا لا أموت .. أنا خالد وبعد أن أنتهي أبدأ من جديد )
بدايات جديدة وليست نهايات هي إذن ..
...
" سناء "
مرت عليها أوقات صعبة وأيام طويلة مؤلمة بعد وفاة البنت القصيرة الصغيرة " إسراء " مدهوسة تحت الأقدام .. لم يكن موت الفتاة هو سبب ألمها المبرح حقيقة بل ما جري بعد حادث الموت .. فما من أحد عوقب علي ذلك الخطأ الجسيم الذي نتج عنه موت طفلة صغيرة ضعيفة البنيان غضة الإهاب !
فالسيد مدير المدرسة تلقي مساعدة وحماية كاملة من المسئولين بالإدارة التعليمية ، التي تتبعها المدرسة ، وأنسلت يده من المسئولية بشهادة السيد الزائر الكبير التي جاءت في صالحه تماما .. شهد الموظف التعليمي الكبير بأن السيد المدير ، حفظ الله عليه كرشه ولغده السمين ، كان جالسا برفقته في المكتب يراجعان دفاتر وأوراق هامة وأنه لا شأن له بقرار إنزال جميع الطلاب ، صغارا وكبارا ، كلهم من سلم واحد مما نجم عنه موت الطفلة التي لها ظروف صحية خاصة .. ألقيت الكرة في ملعب من كانوا يتولون مسئولية الإشراف اليومي في ذلك اليوم المشئوم .. فسرعان ما ركلوها بعيدا ونفضوا أيديهم من المسئولية ومن الجريمة ببراعة متناهية .. ببساطة تم التلاعب في كشف الإشراف اليومي وإثبات أسماء ثلاثة مدرسين تغيبوا عن المدرسة يومئذ كمشرفين علي المدرسة في يوم الأحد ، وقيل أن الثلاثة تغيبوا فقام بقية المدرسين بواجب الإشراف اليومي متطوعين .. وعندما سؤل عن اسم الشخص الذي قرر أن يوجه الطلاب كلهم لاستخدام سلم واحد للنزول لم يجد المحققين من يجيبهم علي هذا السؤال ورميت المسئولية علي هذا وذاك لكن ما من ورقة رأسماءتثبت من هو المسئول عن هذا القرار الغبي !
المدرسون كلهم أتحدوا ووقفوا صفا يدافعون عن أنفسهم .. كل واحد منهم وجد أن إفلات الآخرين هو ضمان لإفلاته هو من المسئولية ومن العقاب ، فتضامنوا وتآزروا معا ربما لأول وآخر مرة في تاريخ مزاملتهم المهنية .. أختفي الحقد المتبادل بين مدرسي المادة الواحدة ، وتبخرت المنافسة علي الرؤوس وعلي الفوز بكعكة الدروس الخصوصية .. ووضع المدرسون ، خاصة المدرسون الأوائل الذين كانوا لا يكفون عن تبادل الشكاوي الكيدية والضربات القذرة تحت الحزام وبسببهم أصبحت المدرسة مرتعا للنيابة الإدارية ومحققيها ، خلافاتهم في جيوبهم ، فكل هذا نُسي الآن وتبدد .. ولم تبق سوي المسئولية الخطرة التي تهددهم جميعا .. فشل المحققون تماما في التوصل لمن أتخذ قرار استخدام السلم الواحد ، كما فشلوا في معرفة من الذي بادر بإنزال طلاب فصول الصف السادس قبل موعدهم بأكثر من ربع ساعة ، ليسقطوا فوق الجميع ويدهسوا بأقدامهم النزقة الغليظة عنق وجسد فتاة قزمة مسكينة لا حول لها ولا قوة !
طارت الكرة حول الملعب وما من أحد تمكن من اللحاق أو الإمساك بها .. وطارت روح " إسراء " الصغيرة فوقهم كلهم لتري كيف ضاعت دماؤها وضاعت روحها هباء في وطن أرخص ما فيه هو دماء الناس وأرواحهم !
حتى " سناء " لاذت بالصمت وتمسكت به .. وجدت نفسها في محيط معادي ، مهددة بما هو أكثر من فقدان وظيفتها ، إن هي تجرأت وفتحت فمها ولفظت الاسم الذي تعرفه جيدا .. اسم المدرس الأول الغضنفر الذي أتخذ قرار نزول الطلاب كلهم من السلم الآخر ليحافظ علي شكل المدرسة ونظافة السلم المجاور لمكتب المدير أثناء وجود السيد المحترم الزائر الكبير !
كان اسمه معروفا للجميع لكنهم كانوا جميعا أيضا يؤمنون بمبدأ وعقيدة واحدة :
" وهو الأستاذ " محمد " ذنبه أيه ؟! ده عمرها يا بت الناس والأعمار بيد الله وما ياخد الروح إلا اللي خالقها ! "
فلسفة قبيحة مبنية علي أكثر المثل سموا وجمالا في الكون .. وما دام الله هو خالق الروح وهو وحده الذي يأخذها ، فبأي حق تدهسون ما خلقه الله .. وبأي ملة تمزقون بديع صنعه وتفرمونه وتدوسونه بأقدام غبية غليظة ؟!
لا جواب سيأتيك من أحدهم .. فلا تتعب نفسك بالسؤال !
لقد تربوا علي ألا يسألوا .. وربوا أولادهم وتلاميذهم علي نفس المبدأ الصفيق .. فخرج الجميع يؤمنون بأن السؤال عيب وحرام !
بكت " سناء " حتى شبعت بكاء وحزنا .. أعطوها أجازة مرضية لمدة عشرة أيام عادت بعدها وقد تبدلت تبدلا كاملا .. وكأن امرأة جديدة حلت محل الأولي وأزاحتها وألقتها أرضا وهشمت رأسها !
امرأتان تتنازعان جسدا واحدا وروحين .. روح قديمة طلقة تحب الحياة وتعتقد أنه يمكنها أن تفعل الكثير ، روح تؤمن أنه بإمكانها أن تغير وتصلح الخطأ وتعالج الجرثومة المستفحلة ولو حتى بالبتر والاستئصال .. وروح جديدة كسولة متثائبة بلا عزم ولا شيء تؤمن به .. تري المدرسة من حولها مثالا علي الفساد والإهمال وروح الجشع والتفاهة التي كُتب عليها أن تحيا فيها إلي الأبد .. إلي الأبد يتوجب عليها أن تحيا هنا وتتحمل ما يفرضه مجتمع غير سوي .. مجتمع أعمي يتظاهر بأنه يري كل شيء ، ويعرف كل شيء بل ويعير الآخرين بعماهم .. ويقترح عليهم أن يصدر إليهم خبراته المجيدة وإنجازاته الفذة !
تنازعتها كلا الروحين فتمزقت بينهما .. عادت وقد قررت أن تفعل مثلما يفعل الناس ، فما دامت في روما فيجب عليها أن تفعل مثلما يفعل الرومان ، وإذا كان الإهمال وانعدام الضمير قانون سائد هنا فليكن هو ذاته قانونها ونبراسها .. فقد تمطي السأم في روحها وأنتشر الضجر في خلاياها !
وعلام تخوض كل تلك المعركة وحدها .. وضد من ؟!
ضد نظام راسخ قديم قدم الوباء ومنتشر انتشار الطاعون ؟!
ما جدوى أن تدخل معركة خاسرة وأنت تعرف جيدا ، ومن قبل أن تخضها ، أنها كذلك ؟!
عادت بدفاتر تحضير مضبوطة وكراسات منسقة ومراعاة كاملة لتوزيعة المنهج .. لكن بلا روح تعمل بها ولا خفقة قلب متوثب طموح متأمل !
مات شيء بداخلها حين وضعت الطفلة المزرقة الميتة علي حجرها .. ودفنت روحها حين وجدت الكل وقد أفلتوا ووجدت نفسها تنعي بنتا لم يعد أحد يذكرها !
لقد ذهبت لتعزي أسرتها فيها ، فوجدت الأم تبكي بحرقة وتعدد علي بنتها المغدورة القتيلة.. بينما الجدة للأب تنهرها وتقول لها بلا أثر لدمعة في زاوية عينها التي تستحق رصاصة تندب فيها :
" ما خلاص يا بت الناس ! يعني مات الهايج * دي هبابة بت وكتر الله من البنات ! "
هبابة بت ؟!
أنتهي الأمر إذن ؟!
لا ليس بعد .. لأن " سناء " القديمة ما لبثت تحاول العودة من جديد .. فكم تتحرك الروح القديمة الحقيقية تحت الجلد الثخين الجديد المزيف !
تشعر أحيانا بدهشة مما وصلت إليه .. تحس بذهول لكونها أصبحت هكذا .. تتمطى روحها الحقيقية وتنتعش ، فتجد نفسها تأخذ حصصا إضافية من زملائها لتعلم الطلاب في فصلها كلمات جديدة أو تقرأ عليهم قصة أو تشرح لهم درسا تجده أصعب مما يستطيعون أن يهضموا وأكبر مما تستطيع عقولهم أن تستوعبه .. لكن الأولاد أنفسهم هم الذين أصبحوا يتهربون من الأعباء الإضافية !
انسلوا في إثر بعضهم مبتعدين متعللين بكل علة وكل حجة تخطر لهم علي بال .. إنهم يريدون حصص ألعاب .. يريدون أن يتمتعوا بفسحتهم .. لا يريدون أشياء إضافية !
ليسوا بحاجة إلي ما تقدمه لهم مجانا فهم يحصلون عليه مثمنا بدقة ، ويدفعون مقابله في حصص الدروس الخصوصية التي ارتبطوا كلهم ، أو أغلبهم ، بها رغم حداثة سنهم وصغر أعمارهم الدراسية .. لا يريدون الشيء المجاني ففي عرفهم كل شيء مجاني ، حتى وإن كان المثل يحثهم علي الإكثار منه ، إلا أنهم لا يرونه إلا شيئا رخيصا تافها معدوم القيمة !
تسللوا من بين يديها ووجدت نفسها تقبض علي الهواء .. فعادت الروح الجديدة تؤنبها وتشمت بها :
" وأنت مال أهلك .. ما إن شالله عنهم ما أتعلموا .. روحي روحي أقعدي مع زمايلك في أوضة المدرسات وأشربيلك كوباية شاي .. بلا قلبة دماغ ! "
بلا نقاش أطاعت " سناء " النصيحة .. ولملمت كتبها وألوانها وكراسات التلوين وذهبت إلي حيث يجب أن تذهب كل مدرسة في تلك المخروبة المسماة مدرسة .. غرفة المدرسات لتثرثر مثلما يثرثرن وتشرب الشاي مثلما يشربن .. وتتكلم في كل تافهة وسخيفة وبالية مثلما يتكلمن !
لكنها أحيانا وهي في منتصف الطريق تستوقفها أداة نداء خافتة .. ثمة من يناديها ويستحثها علي العودة .. لكن العودة باهظة الثمن هنا .. والبقاء علي حرف السيف لا يُجني منه إلا القلق وحزات الجروح !
...
لم تمت " مروة " بل نجت !
أنقذها حسن حظها وتصاريف القدر ولحظة تريث من الموت ، وربما لا مبالاة بها أو عدم رغبة في ضمها إلي صفوف رعاياه .. سقطت مباشرة كقطعة حجر ، ولأن موعدها لم يحن بها ولا تزال لها بقية من عمر تحياها ،  فقد نفذت بالقرب من أسلاك الكهرباء المعلقة أسفل شرفتي منزلها وعبرت بجانبها دون أن تصب بسوء .. ثم عندما قاربت الوصول إلي الأرض وجدت نفسها تنقلب لتعتدل في الحقيقة .. كان تهبط برأسها لكنها وجدت نفسها تتشقلب كبهلوان محترف لتهبط علي قدميها .. اهتزت واضطربت وانعدم وزنها وخف وعيها وتلاشي .. وما إن ارتطمت قدماها بالأرض حتى داخت بشدة وأنتابها دوار رهيب فسقطت علي ظهرها وعلي مؤخر رأسها محدثة صوتا مدويا .. جذب انتباه جارتهم التي كانت تقف لتجمع غسيلا جافا مضي علي تعليقه فوق حبال الغسيل يومين .. شاهدت سقوط البنت من منظور جانبي وهي تهم بالعودة إلي داخل المنزل ، فاعتقدت أولا أنها قطعة ملابس سقطت من شرفة منزل جارهم أبو " عمر " ..  لكن صوت الارتطام جعلها تنتبه وتفتح عينيها وتهرع لتري الأمر من منظور كامل فرأت البنت ذات الستة عشر ربيعا ساقطة ممددة علي بعد مترين من باب منزلها ففهمت كل شيء وأخذت تصيح وتصرخ منادية أبويها وقد قر في ذهنها أن البنت قد قضت وانتهت .. هرع الأب وخلفه الأم التي تصيح وتدفع زوجها لتري ابنتها مسجاة أمامها وكمية دماء بدت لها مخيفة تنداح أسفل مؤخر رأسها .. رمت بنفسها فوق ابنتها واندلعت صرخاتها القوية فأسرعت نسوة الجيران وانفتحن صارخات مشاركات في الإعلان عن المأساة غير الضرورية أبدا التي حدثت الآن !
فقد الأب توازنه وأحس أنه يكاد يفقد الوعي وعلي صوت الصراخ جاء أخوته وأبنائهم .. وخلال لحظات كانت " مروة " ممددة علي حجري أمها وحجر زوجة عمها " فايق " متلاصقتين في المقعد الخلفي من سيارة أبيها .. بينما عمها نفسه يقود السيارة بسرعة جنونية إلي مستشفي المركز وبجواره أبيها مكفهر الوجه صامت تماما .. وقد أصابته الصدمة الفادحة بالخرس وما يشبه الشلل العقلي الكامل حتى أنه لم يستطع أن يتذكر كيف يقود سيارة !
وصلوا المستشفي ودخلوا والمرأتان تصرخان بدون لحظة هدنة .. وهرع أطباء الاستقبال وعدد من الممرضات والتمورجية ، الذين أبدوا نشاطا فائقا حين وقعت عيونهم علي السيارة الفاخرة التي أقلت البنت وذويها إلي المستشفي ، وأدركوا أنهم أمام زبائن ثقلاء الجيوب دافئين بالنقود .. حُملت البنت فورا إلي حيث جري تنظيف جرح مؤخر رأسها ثم حملوها لعمل أشعة علي رأسها للتأكد من عدم وجود كسور بالجمجمة .. وبنقود أبيها وبشخط عمها وعصبيته نشطوا أكثر وعملوا لها أشعة كاملة علي كل أجزاء جسدها .. وخلال ساعة كانوا قد تيقنوا من النتيجة المطمئنة لقلوب الجميع .. البنت بخير ، لا كسور ، ولا إصابات خطرة به ، حتى الجرح الذي كان بسيطا نتج عن ارتطامها بأحجار الطريق وزلطه لا أكثر ، ونظفوه وطهروه بعناية ، ثم ضمدوه .. وحملوها إلي غرفة خاصة بها .. بعد أن نفحهم عمها بخمس ورقات من ذات المائة ليضمن لابنة أخيه معاملة خاصة !
كانت مصابة بصدمة عصبية قوية لكنها بخير ليست ميتة ولا معرضة للموت .. وكان بالإمكان أن تخرج في نفس اليوم وتعود إلي قريتها ومنزلها ، لكن الأب والعم أصروا علي أن تبقي يومين تحت رعاية الأطباء .. وبالنقود ضمنوا لها كل رعاية ممكنة وفائقة واطمئنوا إلي أن ابنتهم في أيد أمينة .. طالما ملأتها بالنقود !
خلال اليومين اللذين قضتهما هناك كفت " مروة " تماما عن الإحساس بشيء أو التفكير في شيء .. عندما فتحت عيناها لأول مرة حسبت نفسها ماتت وذهبت إلي الجنة !
ولكن أي جنة لمنتحرة قتلت نفسها ؟!
حين ذاك اعتراها الرعب وظنت أنها ماتت حقا لكنها ذهبت إلي جهنم .. وساءت الصدف السيئة أن تقترب منها في تلك اللحظة ممرضة ضخمة غريبة السحنة ، وما إن تبينت ملامحها بالقرب من وجهها حتى صرخت صرخة مدوية رنت في المستشفي من أولها إلي آخرها .. كانت الأم في الحمام تقضي حاجتها كارهة ، فهي لا تريد ترك ابنتها حتى لمجرد لحظة أو حتى للقيام بنشاط طبيعي لا تستطيع منعه أو إيقافه ، ورافقتها أختها ، التي حلت محل زوجة عمها " فايق " في البيات معهم في المستشفي الليلة الماضية لتمسك لها باب الحمام .. فحمامات المستشفي بلا أبواب كخلق الله ، لها أرتجة ومزاليج تغلق بها .. سمعت الأم والخالة الصرخة فأسرعتا عائدتين لتجدا " مروة " منزوية في ركن السرير مغطية رأسها وجسدها بالملاءة وهي تصرخ من تحتها بجنون :
" مش عايزة أروح النار .. مش عايزة أروح النار ! "
أسرعت إليها المرأتان وأمسكت أمها بالملاءة تنزعها من فوق وجه ابنتها .. بينما قالت الخالة التي تناولت كوب ماء وحملته وهي تقول لأمها متوترة :
" هطس * وشها بشوية مية لتتلبس * ! "
وبالفعل وضعت الخالة كمية ماء في كف يدها وألقتهم بوجه " مروة " فانتفضت وارتعشت وكفت عن الصراخ .. كانت تلك أول لحظة تدرك فيها البنت أنها لا تزال علي قيد الحياة !
لم تمت إذن ؟!
لم تمت ولا زالت حية ترزق ولا تزال تحت نير أبيها .. لم ينقذها منه موت ولا جنون ولا انتحار !
لكن الأب في الحقيقة كان قد تغير كثيرا بعد تلك التجربة السريعة المريرة الصعبة .. بدأ يراجع نفسه !
ليس عن فهم أو ندم أو مصارحة النفس بل عن طريق حساب الخسائر والمكاسب والآلة الحاسبة الجافة .. فقد فكر مع نفسه قليلا ، حين كف قلبه عن الارتجاف واللهاث في صدره أخيرا ، عندما أخبروه مبشرين مهنئين أن ابنته لا تزال حية وأنها بخير وأنها ناجية بإذن الله ، بدأ ساعتها يفكر .. ما الذي سيستفيده من إجبار ابنته علي ما تكره ؟!
من الواضح أنه غير قادر علي إرغامها علي أن تدرس الطب أو تتخرج دكتورة كما يريد ويشتهي .. يمضه هذا ويتعبه لكن هل الحل أن يتركها تقتل نفسها ويفقدها ؟!
لم يكن الأب قاسيا إلي تلك الدرجة .. بل هو فقط رجل ضيق الأفق قليل الفهم يؤمن بأن المهن العليا ، كما يفهمها ، ستمنحه وتمنح ابنته وتمنح أسرته كلها مزيدا من العلي والسمو والارتفاع الطبقي والمال والسطوة والعزة .. لكن ما العمل إن كانت ابنته لا تفهمه ولا تستوعب ما يريده ويأمله لها ومن أجلها !
فليخلي سبيلها إذن ويتركها تفعل ما تشاء لعله يجنب نفسه ، ويجنب زوجته المسكينة ، لحظات أخري من الألم الموجع والقلق المعتصر الذي شاهده بعينيه منذ أن وقعت أنظاره علي ابنته ممددة علي الأرض وبقعة الدم أسفل رأسها .. فلتفعل ما تشاء إذن !
يأسا ومللا وليس عقلا وتفهما وتعقلا .. بدأ يغمرها بحنان جاف وهي راقدة في المستشفي مصدومة مذعورة .. لم يكن يحبذ رؤية وجهها في الحقيقة ، علي الأقل حتى ينسي ما جلبته له من قلق وألم وهم ، لكنه لم يشأ أن يقال أنه أب قاسي فظ بلا قلب ولا مشاعر .. من ناحيتها كانت " مروة " تخافه وتشعر بأن حنيته عليها كحنان الإبر وهي تخيط الجروح !
خاط جرحها بإبرته غير المسممة وخرجت معه ومع أمها من المستشفي علي حال طيبة .. كانت الأستاذة " ماريان " حاضرة في تلك الأيام بقوة وبشكل دائم .. في الحقيقة إنها لم تكد تفارق " مروة " منذ أن سمعت بخبر محاولة الانتحار الفاشلة المخيف .. هرعت إلي المستشفي ولم تنتظر حتى يعود زوجها من عمله ويقلها إلي المستشفي في المركز ، فاتصلت بابن أختها دكتور " وجيه " ، الذي كان يزور عائلته في القرية ، ورجته أن يأتي فورا ويذهب معها لتطمئن علي " مروة " .. كان " وجيه " هو الذي نجح في تغيير فكر والد " مروة " بذكائه ولباقته وعلمه الغزير وحسن منطقه !
حدث الأب برفق ، بعد أن عرفه بنفسه  وبمركزه الوظيفي ، ثم دعاه إلي جلسة حديث هادئة بين رجلين يستطيع كلا منهما أن يفهم الآخر جيدا ويدرك ما الذي يقصده بالضبط .. سأله أولا لماذا  يريد أن تكون ابنته طبيبة ؟!
أرتج علي الأب للحظة ثم أجاب بغير كبير ثقة :
" عشان تكون بني أدمة محترمة والناس كلها تشاور عليها وتقول الدكتور " مروة " بنت فلان أهي ! "
ضحك " وجيه " في باطنه وأدرك أي نوعية من الناس ينتمي إليها هذا الأب .. ليس غريب عليه هذا النمط فلديه في عائلته أشكال كهذه وقد تعامل معهم شخصيا .. بل كاد يكون ضحية لهم ك " مروة " تماما !
إنه يتفهمهم تماما ويعطف علي عقولهم ويحس بأنهم مخلصين حقا فيما يقولونه ، ويعتقدون بصدق ما يؤمنون به تمام التصديق .. إنهم ذوي الاتجاه الواحد .. ذوي التفكير المنمط والفكر المحدد الذي يسير في خط مستقيم لا يري ، ولا يهتم ، بما يقع علي يمينه أو شماله !
فالدنيا في نظرهم خط واحد .. من التعليم والوظائف والزواج ، والمركز في نظرهم مرتبط بالوظيفة وبالمركز التعليمي .. لا أفق ولا خيال لديهم ولا يعترفون بأن ثمة أشياء أخري في العالم تستحق أن يعيش الإنسان من أجلها ويقاتل حتى الوصول إليها !
قد يسمعون بأسماء كُتاب وشعراء وفنانين مشاهير صنعوا اسما وصنعوا لأنفسهم ولأسمائهم تلك نفوذا ومكانة ، مكانة بأقلامهم وفرشهم وألوانهم وأصواتهم وأخيلتهم الجامحة ومواهبهم التي بلا حدود .. لا ريب أنهم ، أو كثير منهم ، درسوا وتعلموا وكانوا أولادا نابهين أذكياء ومجتهدين ومتفوقين كذلك ، لكنهم امتلكوا شيئا آخر .. شيئا لا يقدره أولئك الناس ولا يرغبون ، ولا يحبون ، أن يعترفوا به .. إنه الموهبة والمنحة الإلهية غير المنكورة التي تسري في دمائهم دون سواهم !
أولئك الناس لا يعترفون بالموهبة ولا يؤمنون بها .. إنها تتجاوز خط أفقهم وتسمو فوقه ، إنها تعلو علي الفوقية التي اعتادوا أن يوقفوا أنظارهم عندها ويمنعوها من التطلع لما فوقها ، لأنهم يؤمنون جد الإيمان بأن ( اللي يبص لفوق يتعب ) .. ولذلك لا يعترفون بذلك ولا يصدعون به !
وحتى إن صادفوا واحدا من هذا النمط الموهوب كان رد فعلهم هو تجاهله أو الإدعاء بأنهم لا يرونه .. هذا إذا لم يعمدوا إلي تسفيه أحلامه وكسر مجاديفه !
كانت " مروة " من الصنف الموهوب الرقيق ، الذي يملك شيئا مختلفا ، وكان أبيها علي النقيض ، من المعسكر الآخر .. من عشاق الخط المستقيم ومن كارهي الخيال وجاحدي نعمة الموهبة !
كيف يعترف بأن له ابنة شاعرة موهوبة ؟!
لو كانت ولدا ربما كان سيخلي سبيلها لكنها بنت .. والبنت لا يجب أن تخرج عن الخط المرسوم لها ولتحمد الله في كل صلاة أن لها أبا يضع في يديها القيود ويغلها بالسلاسل ليحميها من همزات الشيطان الذي يقبع في عقلها !
لكنها ألقت بنفسها من أعلي البناء .. اختارت الموت علي أن تحيا حياة لا تريدها ولا تقدر علي دفع تكاليفها !
أفهمه " وجيه " أن ابنته لا ترتكب خطأ ولا تقترف جرما .. ليس ذنبها أنها موهوبة حتى النخاع ، وليس ذنبها أنها تكره نوع الدراسة التي أراد أن يفرضه عليها .. ولا ذنبها أن لقب الطبيبة لا يستهويها ولا يثير خيالها !
خلوا سبيلها إذن يا قوم واتركوها ترعي في أرض الله ما دامت لا تأتي جرما .. ولا تفعل ما يسيء إليكم ولا إلي اسم عائلتها وشرف أبيها وكرامته !
أقنع الرجل الرجل فنكس الأب رأسه .. شعر بقليل من الندم لكنه لا زال يعتقد أنه علي حق وأنه في النهاية هو الأصوب والأكثر حكمة والأحق بأن يتبع !
وعندما غادرت " مروة " المستشفي برفقة الأبوين والأقارب، ومعها " ماريان " ، التي عاهدتها علي أن تبقي بجوارها دائما ، كان لديها صك خضوع رزين من الأب .. سيتركها تختار الدراسة التي تحبها ولن يفرض عليها شيئا .. مقابل ألا تفعل هي بدورها شيئا إلا بعد استشارته وموافقته ورضاه !
وعدها " وجيه " بأن يساعدها علي نشر قصصها وقصائدها في مجلات أدبية صغيرة .. وأعطاها أملا جديدا ومزق سترا فوق رأسها سامحا للفجر بأن يشرق أخيرا علي قلبها .. سيرعي موهبتها وسيعلمها كيف تصقلها وتزيدها وتجمل المأوي الذي آواها الله إليه وتحسنه !
هل ضاع عام من عمرها سدي ؟!
هل تعود لتعيد السنة بعد أن تغير مسار دراستها إلي القسم الأدبي .. هل تبقي ، كما هي ، في القسم العلمي وتجتهد قدر طاقتها لتحصل علي مجموع يؤهلها لدخول كلية الآداب أو التربية ؟!
هناك طرق متعددة أمامها .. والأب لا يقف بوسط أي منها معترضا لكنه يقف في نهاياتها كلها !
فهو لا زال مقتنعا بأن ابنته لم تفعل أكثر من أنها تركت القمر الواضح المنير لتمسك بنجمة صغيرة تافهة ، يعلم الله إن كانت ستضيء لها حياتها أم ستظلم عليها ليلها ونهارها .. والأب معذور في تصوراته فهو مما نالوا تعليما مجانيا ، ولا يعرف أن النجمة الصغيرة البعيدة أكبر آلاف وربما ملايين  المرات ، من قمره القريب المخادع .. الذي يحيا حياته ويبلغ أجله في ثمانية وعشرين يوما قصيرة .. وربما كان يدور حول هذا النجم ألوفا من عينة قمره الذي لا يضيء إلا بما يختلسه من ضوء الشمس !
عادت الفتاة إلي البيت سالمة وقد تحولت حياتها تحولا جذريا أو بدأت تفعل وتغير أفقها وتلون بلون الوعد الجميل وحلاوة الانتظار والصبر حين تكون غير مؤلمة أو مثيرة للوجع ..
وخلال أيام كان كل شيء قد تبدل حولها .. عادت تكتب بكثرة وملأت درجها أشعارا وقصصا وإلهاما وخطت علي الورق حياة أخري جديدة ، غير التي مزقها ودمرها لها أبيها من قبل ، تبدو أكثر جمالا وأقل حزنا .. ربما لأنها حياة مرسومة في ضوء النهار وعلي أعين كل من لديه أعين يري بها .. وليست مسروقة في ظلمات الليل ودفء الكشاكيل المغلقة المقفل عليها ألف درج ودرج !
لكن السؤال كان دائما يراودها .. وكم ألحت عليها فكرة أن تسأله لأبيها ولأمها ولجميع من يحيطون بها ويتداخلون في حياتها بشكل مباشر ويغمرونها بنصائحهم البلهاء التي يفعلون خيرا لو احتفظوا بها لأنفسهم .. هل كان يجب أن تعرض نفسها للموت من أجل أن يتركوها تفعل ما تشاء ؟!
" هل يجب أن أقف علي حافة الموت حتى تسمحوا لي بالحياة ؟! "
...
أيام شديدة السواد والحزن مرت علي البيت كله عقب وفاة " نعمة " المفاجئة !
كان ذلك الحدث من الأحداث الغريبة التي تجتمع فيها النقائض ويفشل الإنسان في العثور علي شعور مناسب ليجعل قلبه وعقله يتبنيانه ويعتمدانه شعورا رسميا قانونيا .. هل يفرح أم يحزن ؟!
كانوا ينتظرون الولد ويتلهفون للحصول عليه .. وها قد جاء وحصلوا عليه لكن أم الولد ذهبت في المقابل !
سيتربي يتيما ، بلا أم ، تحوطه مجموعة غريبة من البشر .. أب أنتظر مقدمه طويلا وحن إليه ولدا وسندا وظهيرا وحاميا له في ظهره ، وقاسي وعاني وضحي بعلاقته مع زوجته حبيبته ، وتجشم مئونة إيواء وإطعام أربعة وعشرين ضلعا لا يحب صاحبتهم ولا يهوي فؤاده إليها من أجل أن تأتيه به ..  وجاءه أخيرا ليشعر أمام الولد الصغير الباكي بشيء غريب .. يشعر بأنه كقطعة كعك بلا سكر لا طعم له ولا متعة بتذوقه !
هذا الولد فأسترح وأهنأ .. ها هو قد جاء ، لكنه للغرابة ولدهشة الظروف ، لم يرح قلب الأب ، ولن يستريح هو أو يهنأ بحضن أمه وحنانها .. ولد كُتب عليه أن يولد ويعيش لا مستريح ولا مستراح به !
لم يكره ضناه حتما لكنه عجز عن أن يحبه .. كما عجز عن أن يشعر بفرحة مجيئه ويطرب لرؤية ملامحه الذكورية الصغيرة !
وبجوار الأب تقبع جدة ، تأودت وتأوهت وملأت الدنيا صراخا وتعييرا وشماتة وسخرية واستهزاء وكيدا ، ليحصل ولدها علي الذكر الذي سيحمل اسمه ويحفظ ذكره مدي الدهر وحتى نهاية الزمان .. لكنها تلقت الضربة علي أم رأسها فترنحت وأفاقت أخيرا لتري الحق ساطعا لا يحتاج إلي برهان !
لقد ماتت زوجة ابنها تاركة له ، لولدها ، خمسة أطفال . أربع بنات وولدا رضيعا في أيامه ، بل في ساعاته ، الأولي .. ومهما فعلت ومهما كان ما يكنه قلبها من كراهية للبنات ، وهي لا تكرههن في الواقع ولا تستطيع إلي ذلك سبيلا ، فإنها لن تستطيع أن تتجاهل الحقيقة المؤلمة الصغيرة .. أن الخمسة أطفال صاروا معلقين في رقبتها الآن !
بصفتها جدتهم لأبيهم ، الذي سيتولى رعايتهم بمفرده بعد وفاة أمهم ، فإنها مسئولة مسئولية كاملة عنهم .. عن الولد كما عن البنات الأربعة !
فجدتهم لأمهم ليست ملزمة بهم وهي لن تستطيع أن تبقي لترعي أبناء بنتها المتوفاة بل إن أسرة الأب وأمه هم الملزمون بذلك .. فكيف لها أن ترعي الخمسة أطفال وهي في تلك السن وفي هذه المرحلة من الشيخوخة ؟!
وجود " ثريا " لن يخفف من الأمر .. بل سيزيده بلة وسوادا لأن زوجة الأب مهما كانت فهي زوجة أب .. وهل ستنسي " ثريا " أنها دخلت هذا البيت لتأتي بهذا الولد من رحمها ، فسبقتها ضرتها وحملته هي قبلها .. وأخرجته من رحمها دافعة دمها وروحها فداء لحياته ولوجوده !
الغريب أن موت " نعمة " ، وهي تلد له الولد ، جعل " عبد الرحيم "  يشعر بقربه أكثر من زوجته الميتة ، التي أعتصر قلبه حزنا عليها ووجعا لفراقها ، أكثر مما يشعر بقربه من زوجته الثانية الحية التي بدا وكأنه لا يراها مطلقا ولا يشعر بوجودها !
وفي الأيام الأولي لوفاة " نعمة " أقدم علي تصرفات بالغة الغرابة .. فأخذ يحمم البنات بنفسه ويمشط لهن شعورهن ، خاصة الصغيرة " حسناء " ، ولا يبقي في البيت للحظة إلا وهن حوله ، والصغيرتان علي حجره .. حتى الحمام صار يحملهن إليه بنفسه .. وهو ما لم يقدم عليه من قبل أبدا !
" ثريا " لم يعد لها وجود بالنسبة إليه وبدا وكأنه لا يتعمد تجاهلها بل إنه لا يراها فعلا .. أخذ أجمل صورة جمعته بزوجته الأولي المرحومة .. وقام بتكبيرها وتأطيرها بإطار ذهبي جميل وعلقها في واجهة غرفة الجلوس .. وأخذ ينثر صورها الصغيرة في كل مكان بما فيها غرفة نومه مع زوجته الثانية نفسها !
وأصبحت صباحات " ثريا " عذابا ووجعا مقيما .. تصحو لتجد زوجها يغط في النوم وثمة صورة صغيرة ل" نعمة " أسفل يده أو منزلقة وطرفها ظاهر من تحت الوسادة أو حتى ساقطة علي الأرض بالقرب من قدمي الفراش .. إنه يحمل صورها معه في كل مكان .. يتأملها بدقة ويتفرس ملامحها ، يحادثها بلا صوت ويتوسل إليها كاتما دموعا سيكون أرحم كثيرا لو تركها تسيل وتطفئ حريقا في قلبه :
" سامحيني يا ست الستات .. سامحيني يا حبيبة يا مرت العمر يا غالية ! "
كثيرا ما سمعته يردد ذلك بخفوت وهو مستيقظ مسهد بجوارها موليا لها ظهره .. أو حتى يخرف به وهو نائم !
هل قربه الموت من زوجته الأولي أكثر مما أبعدتهما الحياة وتصاريفها وأحكامها الغريبة !
أليس غريبا أن " نعمة " انتصرت عليها وهي ميتة أكثر مما انتصرت عليها وهي حية .. وأليس غريبا أنها بدأت تحس إحساسا غريبا نحو الولد الصغير يدفعها دائما لأن تحوم حوله محاولة أن تأمن الأعين والرقباء !
أحست للحظات كثيرة أنه ابنها هي .. الولد الذي كان يجب أن يولد من رحمها هي ، لكنه ضل طريقه لتنغرس بذرته في أحشاء " نعمة " ويخرج من بطن ضرتها لا من بطنها هي .. مجرد سوء تفاهم وتيه مؤقت لكن ها قد زالت " نعمة " لتعود الأمور إلي نصابها الصحيح !
لقد شاهدته في جنازة أمه موضوعا نائما علي حجر جدته فأخذت تختلس النظر إليه .. أنه ابن ضرتها ولا شك .. لكن لما بدا لها أنه نسخة من أحد ولديها اللذين فقدتهما رغم أنفها ؟!
نظرت إليه بزاوية عينها ، كانت تلف رأسها بطرحة سوداء خفيفة وتجلس وسط النسوة ، لا حزنا علي المرحومة " نعمة " .. بل لتتوسط المجلس وتثبت نفسها وتسجل اسمها كزوجة الابن الأكبر الوحيدة الآن وسيدة البيت بمعني الكلمة .. لذلك وقفت وكتفها بكتف حماتها تستقبل المعزين وتشد علي أيديهم ، ولكن لا دمعة واحدة في عينيها الواسعتين ، رغم أنها لم تكن تحس بالفرحة ولا بالسعادة لتخلصها من ضرتها .. أبدا بل كانت تحس بإحساس غريب آخر لا يوصف !
شعور غريب غمرها منذ أن سمعتهم ينعون " نعمة " بالصراخ والعويل .. لكن إحساسها ب" محمود " الصغير هو الذي يشغلها الآن !
لا تعرف إن كانت عيناها ووعيها وعقلها اجتمعوا واتفقوا علي خداعها .. وأن يوحوا إليها أن ابن زوجها يشبه ولدها الأصغر " علي " شبها تاما ، لكنها ارتجفت حين تأملت ملامحه للمرة الأولي .. كانت نفسها صادة تماما من بنات " نعمة " لكن الولد كان وضعه مختلفا .. فلم يوضع في حجر أمه قط ولم تلمسه بيداها !
بدا لها ، ل" ثريا " هذا كافيا ليجعله بعيدا عن شعور الفتور والكراهية الذي يغمرها تجاه البنات .. أضف إلي هذا أن البنات كن يتجنبنها تجنبا طبيعيا وبدون وعي ، رغم حداثة أسنانهن ، يشعرن بأنها عدوة أمهن وضرتها .. وبدأت الفتيات تخططن ، بلا وعي منهن ولا تقدير ، لإبعاد أبوهن عن تلك الدخيلة !
لكن الولد شيء آخر .. إنه قطعة لحم حمراء .. لم تلمسه أمه ولم ترضعه ثدييها ولم تضعه علي حجرها !
لذلك يمكن للمرأة أن تحب طفلا يتيما أو لقيطا بلا أم معروفة كابنها وتربيه علي عينها ..  ولا تستطيع أن
تفعل ذلك مع طفل تعرف له أما ، خاصة إذا كانت قد رأت أمه هذه رأي العين ولو مرة واحدة ، وهذا لأن الأول لم يوضع علي حجر امرأة أخري تعرفها .. فالمرأة عندما تحب طفلا تؤمن أنه لا مأوي له إلا حجرها ولا حجر في الدنيا يستحق أن يحميه ويؤويه سوي حجرها هي !
إنها تشعر بقوتها وهي تضع طفلا علي ساقيها .. تشعر أنها تهبه الحياة والوجود ، وتمنحه الحب واللبن وقطرات الحياة وتزود عنه الموت .. بنوة الحجر ، قبل بنوة البطن أحيانا ، مسألة حياة أو موت بالنسبة للمرأة !
إنه وهم الخالقة الأنثى .. وحقيقة حب الأم وقوتها اللذين ليس كمثلهما شيء في عالم البشر في الثبات والرسوخ !
" محمود " صالح جدا لأن يكون ابن حجر ل" ثريا " .. حتى إن كانت ضرتها الميتة هي أمه !
هل قررت أن تحتويه بين ذراعيها .. هل قررت أن خير عقاب ل" نعمة " التي سرقت منها " عبد الرحيم "  حية ، وسرقته أكثر وهي ميتة ، أن تأخذ هي ، أي الضرة الحية ، ابنها الوليد الصغير وتجعل منه ابنا لها هي .. هي وحدها حتى بعيدا عن " عبد الرحيم "  ، الذي لم تعد تشعر نحوه سوي بكونه رجل محسوب عليها زوج .. ورفيق فراش مثلما يفعل الناس لا أكثر !
طافت كل تلك المشاعر وتضاربت وعصفت بذهن " ثريا " وبقلبها وعقلها .. حتى وإن كان عقلها الصغير وتعليمها المحدود لا يسمحان لها بصياغة تلك المشاعر العجيبة في صورة عبارات مفهومة .. ولا التعبير عنها بصيغة مقبولة تفهمها هي نفسها وليس مهما أن يفهمها الآخرون !
لم تدري بنفسها إلا وهي تتسلل إليه ذات ظهر حار ميت الهواء ، جثمت فيه الحرارة علي القلوب والصدور فجعلت الكل يهجعون كالموتى بغير حراك .. كانوا قد أحضروا امرأة مرضعة من الجيران ، بعد وفاة الأم بسويعات قليلة ، ورجوها أن ترضع " محمود " مع طفلتها نظير أجر إن طلبت .. لكن  المرأة كان لديها قدر موفور من الحنان والشهامة فقبلت أن ترضع الطفل بلا مقابل .. لكن الولد رفض أن يأخذ ثديها !
حاولت الجارة إرضاعه بلا جدوى .. حاولت مرارا وكررت المحاولة بلا فائدة من أي نوع !
استسلمت الجارة وهي تري الولد يلفظ ثديها مرة بعد مرة ويبكي بحرقة .. جربوا مع قريبات وحبيبات وجارات أخريات ، ممن تسمح ظروفهن الصحية بإرضاع طفل آخر مع أطفالهن .. لكن الولد رفضهن جميعا !
صنعت له جدته والدة أبيه زجاجة ماء بسكر وحملوه إلي طبيب أطفال وصف له نوعا من حليب الأطفال المخصص لتغذية الرضع .. ثم بدءوا موال الرضاعة الصناعية الطويل المرهق !
تنظيف البزازات وغسيلها .. تسخين المياه وصنع اللبن .. تبريد اللبن ليتحمل الغلام الصغير درجة حرارته .. الحفاظ علي ما يتبقي من اللبن في الزجاجة أو سكبه وطرد الذباب بعيدا .. ومن ثم العودة إلي تكرار نفس تلك الخطوات مرة ومرة ومرة ومائة مرة كل يوم !
كانت والدة الأب هي من تقوم بكل ذلك وهي من تتحمل كل ذلك العبء .. أما والدة " نعمة " فقد كان موقفها غريبا بعد وفاة ابنتها !
ملأها شعور بالحقد والكراهية تجاه زوج ابنتها الراحلة وأمه .. شعرت بأنهم مسئولين مسئولية كاملة عن وفاة فقيدتها ، التي مزقت قلبها تمزيقا علي موتها المدمي المثير للأسى .. إنه هو من مرر عيشها هو وأمه التي لم تكن تكف عن معايرتها بالولد المطلوب الذي عجزت عن منحه لهم !
وها قد جاءتهم بالولد .. ودفعت ثمنه من دمها .. فليشبعوا به إذن وليشبعوا ببناتهم فلا ينقصها هم ولا وجع قلب . فما فيها يكفيها ويزيد !
لم تمد للغلام الصغير عينا ولا يدا .. فمنذ الساعة التي رأت ابنتها فيها محمولة غارقة في دمها وقد تحجر شيء في قلبها ، ومات شيء في داخلها لا تعرف ما هو اسمه بالضبط !
شعرت بمزيج القسوة والكراهية نحو " عبد الرحيم "  وأمه ، وبالطبع لم ينسحب ذلك علي أبناء ابنتها الذين لا ذنب لهم في شيء .. لكنها أحست بأنها لا ترغب في أن تحمل همهم ولا هم أبيهم ولا شأن لها فهو مسئول عنهم .. هو من جرح ابنتها وأتي لها بضرة فليحمل هم أبنائه ويتحمل وزرهم ووحده حتى يدرك حجم الهم الذي كانت تحمله عنه المرحومة المسكينة !
تركت لهم الصغار ووقفت تأخذ عزاء ابنتها في بيتها هي .. لا في بيت زوج ابنتها !
كانت الجدة تتخذ هذا الموقف بشكل طارئ ومؤقت فستعود في أقرب فرصة للاعتناء بأطفال " نعمة " وتحن عليهم .. فلن يطاوعها قلبها أن تقسو عليهم ، بعد أن قست عليهم الدنيا .. وأذاقتهم مرارة اليتم وهم في سن الزهور الصغيرة التي لا تزال تحتاج ليد حانية تربت عليها لتتفتح !
وبينما كانت الجدة تفكر هكذا وتضيع في دوامة المشاعر والمشاعر المضادة كانت ضرة ابنتها تعاني تضارب المشاعر مثلها وأكثر .. فقد تسللت إلي حيث مهد " محمود " الصغير وعندما وقعت عيناها عليه نائما في هدوء لم تدري ماذا تفعل به أو له !
كانت حماتها قد وضعته لينام في الحجرة ، وبجواره علي سرير صغير أختاه " أسماء " و" حسناء " نائمتان بعمق .. بينما تسحبت الجدة لتنام ساعة من الزمن تستريح فيها من التعب والنصب والهدة التي سببها لها العيال الخمسة !
كانت الطفلتان غارقتان في ثبات عميق يساعدهما هواء مروحة السقف المرتفعة علي المزيد من الاستغراق في النوم فلم تشعر إحداهما بتسلل زوجة الأب إلي الداخل .. وجدت " ثريا " الطفل ذو الثلاثة أيام بين يديها الآن وهي منفردة به أو تكاد تكون كذلك !
فجأة أرتعش قلبها حين وقعت عيناها علي خصلة شعر بنية اللون صغيرة تبرز من اللفة وتغطي جزء من جبينه الناصع الأبيض .. ارتجفت وأرتج عليها تماما ، فقد كان ولدها " علي " ، وأين هي من " علي " الآن ؟! ، لديه نفس تلك الملامح ونفس ذلك الشعر البني الناعم حينما كان في نفس سن " محمود " !
الآن فقدت سيطرتها علي نفسها تماما .. أصبح قلبها هو الذي يسيرها ويحركها ..  والمرأة إن تسلط عليها قلبها تتمخض عن عذراء سماوية ، أو تتمزق عن وحش مخيف !
وقد تمخضت " ثريا " عن أم محرومة .. أم حُرمت من أعز وأغلي ما لديها .. ولديها أخذوهما منها ، لكن ها هو ولد صغير يحتاج أما وصدرا حانيا وقلبا يضعه علي نسيجه ويحفظه داخل لؤلؤته !
لم تعد زوجة أب ، ولا ضرة في تلك اللحظة بل هي أم .. استرجعت بذرتها الأولي من رحم أمها " حواء " ، فانتفضت الأم الكبرى الحامية داخلها وخرجت للعيان .. وتناولت الوليد بلهفة وضمته إليها !
كان " محمود " نائما حين دخلت عليه زوجة أبيه .. لكنه ، وحين أخذته برفق ورفعته من مهده ، ولامس صدرها فتح عينيه وأستيقظ .. بكي برفق لمجرد دقيقة ، لكنها وضعت وجهها بالقرب من وجهه فصمت علي الفور ، وفتح عينان واسعتان  لا دمعة فيهما وأخذ يتطلع إليها بصمت وهدوء .. أعدو هذا أم مجرد طفل يتصرف بفطرة بيضاء نقية لم تلوثها أتربة الأرض بعد ؟!
أعدو صغير هذا .. أم قلب أخضر كبير يحتويه جسد صغير وينتظر منها أن تكون أما له ؟!
لم تشغل نفسها بالأسئلة .. مالت عليه وقبلت شفتيه وضمته إليها أكثر .. فجأة تحركت احدي البنتين فأجفلت " ثريا " وشعرت بالذعر .. لكن البنت تقلبت في نومها وبقيت غافية ولم تستيقظ !
هدأ روعها بعد لحظة فعادت تتطلع إلي " محمود " الذي كان رأسه يلاصق صدرها .. بغتة أحست بأنها تريد أن تشرب ماء وأنها ظمآنة .. وأن هناك شيء يسير علي ثدييها في داخل الثياب !
فقدت عقلها في تلك اللحظة وتملكتها غريزتها وهبت أمومتها النائمة تتمطى .. لم تشعر بنفسها إلا وهي تمد يديها داخل ثوبها ، وتخرج ثديها الأيسر .. أخرجته وقربته من فم الطفل الذي ينظر إليها بهدوء !
لقد حرم علي نفسه المراضع .. ورفض ولفظ أثداء الجارات والقريبات والحبيبات فهل سيقبل بثدي زوجة أبيه ..عدوة أمه وضرتها ؟!
نظر الغلام إليها للحظة فدق قلبها وشعرت بخوف لم تشعر به في حياتها .. فتح الغلام شفتيه وألتقم الثدي وبدأ يمصه ببطء !
تمشي ألم محتمل في صدرها .. ومعه شعور غريب أجتاحها بشيء كبير هائل يسير داخل دمها ويتسلل إلي داخل عروقها !
كان ثديها جافا ولا حليب به لكن الغلام أمتصه ببطء .. أرتعش جسدها رعشة هائلة فوجدت نفسها تنزع ثديها من فمه دون وعي !
سمعت صوت خطوات تقترب من باب الغرفة المغلق من الداخل ، أغلقته بنفسها بحرص ، فتركته ووضعته في مهده وهو يطلق بكاء خافتا يفتت القلب من فرط رقته وعذوبته .. وضعته بحرص وجرت نحو الباب قبل أن تستيقظ احدي الفتاتين وتفضحانها علي اتساع البيت كله !
هل سيصدق أحد أنها تسللت إلي الغرفة ، تحت حمي القيظ الشديد والنوم العميق المخيم علي البيت ، لمجرد أن تلقي نظرة علي الطفل الصغير ؟!
ستمصمص النسوة بشفاههن ويقلن وهن يغمزنها من خلفها :
" ما كان قدامها يا خيتي في جناة أمه مطلتش عليه بعينها يعني .. كهن نسوان يا خيتي وكيدهن عظيم ! "
وستصبح ( كيدهن عظيم ) هذه مدخلا لتصورات ، ليس أكثرها جموحا أنها ربما تريد إلحاق الأذى بالطفل ، أو ربما تريد تسميمه أو إرضاعه شيئا يقتله !
إنهم يعتنقون مبدأ ( الضرة مضرة ) ولا شيء سيجعلهم يتزحزحون عن إيمانهم المطلق هذا ولا ألف دليل .. وحتى إن وجدوا من يخالف تلك المبادئ ويثبت كذبها فلن يكون مصيره سوي الاستهانة والسخرية والتكذيب .. والمزيد من الاقتناع بما يعتقدونه سلفا !
لذلك من الخير لها أن تمنحه حنانها في غفلة من أعين الرقباء .. ليكن " محمود " ابنا لها في الخفاء .. حتى تجد وسيلة لتأخذه علنا ، دون أن يعتقد أحد أنها تفعل ذلك استرضاء لزوجها ، أبيه ، أو بحثا عن حبه الضنين العزيز .. فالحق ، كل الحق ، أن " عبد الرحيم "  لا أهمية له في هذا الأمر .. فالأمر الآن لا يخص سواهما هما الاثنين .. هي " ثريا " و" محمود " الصغير .. الذي حرك في تلك المرأة ما لم يتحرك منذ سنوات وسنوات !
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...