التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الموءودات ( رواية مسلسلة ) الفصل الثالث

 
 كثيرا ما سمعتهم يقولونها بلا حياء من خلف ظهرها :
" البت القردة  ! "
بعضهم كان يقولها مزاحا أو استظرافا .. وبعضهم الآخر كان يقولها صادقا من قلبه ، والبعض الثالث لم يكن يقصد معناها الحرفي لكن الكلمة كانت تخرج من فمه معطرة بالحقد والغضب .. والسبب إن " إسراء " كانت مختلفة !
لقد ولدت لتجد نفسها مختلفة .. ليست كأي بنت عادية .. فلقد خرجت إلي الحياة قزمة !
كان جذعها وأربعة أطرافها متناسقة متماشية معا لكنها كانت أقصر كثيرا من الحجم الطبيعي للطفل العادي الوليد في مثل عمرها .. فزعت الأم حين تلقتها علي يديها عقب ولادتها وقالت لها احدي النسوة المحيطات بها وهي تمصمص بشفتيها بطريقة سخيفة :
" كله بأمره يا بت الناس .. ما تقهريش نفسك يا أختي ! "
وكأنها دعوة مستترة لها لكي تقهر نفسها حتى تصاب بالمرض وتموت .. لماذا هي دونا عن كل خلق الله ؟!
ولماذا ليست هي دونا عن كل خلق الله أيضا .. سؤالان متعادلان والجهبذ الذي يملك إجابة السؤال الأول يمكنه ببساطة أن يجيب عن الثاني .. هذا إن كان يعرف الجواب أصلا !
لكنها طفلتها في كل الأحوال .. فهل ستتخلي عنها وتلقيها في الشارع مثلا ؟!
محال طبعا .. أخذتها في حضنها وقبلت جبينها المحمر .. ألقمتها الثدي فتناولته بلهفة وسرعان ما كانت ترضع وتروي ظمأها الوجودي الذي لن ينطفئ أبدا ..
الأم " أحلام " التي كانت مبللة بالعرق الناتج عن حزق الولادة وآلامها ومتاعبها نظرت لطفلتها التي لا تدري شيئا عما يدور حولها وابتسمت لها برقة :
" متخافيش يا ضنايا ! "
لماذا اختارت أن تحادثها وهي تعرف أنها وليدة في ساعاتها الأولي ولن تفهم أبدا ما يقال لها .. ليست ابنة مريم لتحادثها في المهد لتعي كما وعي ابن مريم وتكلم في مهده !
لكنها ليست بحاجة إلي أن تكون نبيا لتفهم .. تلك الطفلة التي كُتب لها أن تأتي بهذا الشكل فهمت ما يدور حولها ، فهمته مبكرا جدا ووعت أنها مختلفة ، وأنها تعتبر ناقصة ، وأنهم ينتظرون منها أن تكون قليلة ناقصة عاجزة ولا يتوقعون منها غير ذلك .. اعتبرتها الأسرة ( بلوى ) رسميا ولم يتحدثوا عنها أبدا .. حتى فرحة السبوع حُرمت منها ، هي وأمها ، فقد أبت الجدة أن تقيم حفل سبوع لابنة ابنها الأولي وقالت مقطبة لزوجة ابنها :
" سبوع أيه يا أمي ؟! أنت عايزة الناس تيجي تتفرج علي القردة اللي أنت والداها لنا دي ! "
كانت تلك أول مرة يطلق عليها هذا اللقب الذي سيلازمها طويلا ، وربما لنهاية عمرها ، ( القردة ) .. مع أنهم اختاروا لها اسم " إسراء " لكن الأطفال لم يكونوا ينعتونها أو يتحدثون عنها إلا بتأسماء( القردة ) !
لكن ( القردة ) كبرت .. نعم ظلت أقل كثيرا من متوسط الطول عند لداتها من الأطفال في كل مراحلها لكنها بدأت تكبر .. كان هناك أمل ضعيف يراود الأم أن تزيد قامتها طولا مع تقدمها في العمر وان تصبح علي الأقل ( قصيرة ) .. لكن هذا الأمل البارق سرعان ما خاب .. فعندما وصلت " إسراء " إلي سن الخامسة كان طولها يوازي ثلثي طول الأطفال الذين في نفس عمرها وربما أقل !
ورغم سخرية المحيطين بها فإن " أحلام " الطموحة أصرت علي إدخال الطفلة القزمة إلي الحضانة رغم أن فكرة إلحاق الأطفال بمرحلة الحضانة لم تكن شائعة أو منتشرة في تلك الأيام .. والغريب أن الطفلة الموصومة بالقصر والقزمية كانت هي الوحيدة التي درست في الحضانة من بين كل أطفال أسرتها رغم أن الكثيرين قلن للأم :
" يا خيتي دي لو راحت وسط العيال في المدرسة هيدوسوا عليها برجليهم من غير ما ياخدوا بالهم .. بلا وكسة .. أرزعيها جنبك وعلميها شغل البيت خليها تقضيكي * وتقضي أخواتها ! "
كان هذا المصير المنتظر ل" إسراء " أن تكون خادمة لأسرتها ولأخوتها .. وكأنهم أردوا معاقبتها علي أنها خُلقت مختلفة .. لكن الأم وحدها ، هي فقط ، كانت ملاذها وملجأها الآمن .. فلقد وقفت تجابه عن طفلتها وقالت بصوت عالي :
" لا ! "
لا لمن أراد أن يعاقب طفلتها علي ذنب ، وليس هو بذنب ، لم ترتكبه أصلا .. لا لمن أراد أن يقصي البنت ويحرمها نور الشمس لمجرد أنها جاءت إلي الدنيا أقصر مما يجب !
ومن تلك اللحظة صارت " أحلام " هي القلعة .. القلعة الآمنة المحصنة المبنية بالحجارة الصلدة لتصد عدوان العالم كله علي ابنتها .. حمتها وأصرت علي رأيها .. أدخلتها الحضانة ومن بعدها المدرسة الابتدائية ليدرك الجميع أنهم أمام طفلة غير عادية فعلا !
ذكية !
نعم .. شديدة الذكاء .. تجلس هناك في آخر صف ، فقد ضربها الأطفال الكبار ذوي الأجساد الصحيحة وأمروها بأن تجلس في آخر تختة وإلا ضربوها حتى يعموا عينيها ، فانصاعت مضطرة .. وفيم يفرق معها المكان الذي تجلس فيه وهي تتمتع بذهن لامع متقد أينما جلست أو أينما حلت !
وللأسف لم يكن أحد يعرف حقيقة قدرات الطفلة القزمة ، سوي أمها ، حتى دخلت الصف الثالث الابتدائي .. حينها أرسل الله لها من سيكون له أعظم الأثر في حياتها !
مدرسة !
مدرسة غير عادية كانت تجرب التدريس لأول مرة في حياتها المهنية البادئة لتوها .. خريجة جامعة شابة لكنها طموحة ولامعة العقل .. كانت هي الأخرى تعاني من لعنة شبيهة بلعنة " إسراء " فقد ولدت بحالة عرج خفيف ..
كان بالإمكان التغاضي عن عرجها لكنها قررت أن تتناساه تماما .. تعلمت حتى وصلت إلي الجامعة وحصلت علي مؤهلها الدراسي بتقدير كان جدير بضمان مستقبل مشرق لها في سلك التدريس الجامعي لولا الواسطة والمحسوبية والكوسة المصرية التي تعفنت علي مدار آلاف الأعوام .. لكنها لم تيأس ،  تلك الشابة الحلوة التي تنكز في مشيها لم تيأس .. عرضت عليها فرصة التدريس فلم ترفضها ، وبين عشية وضحاها وجدت نفسها تنتقل من مقعد الدارسين إلي مقعد المدرسين .. ومن دور المسئول عنه إلي دور المسئول عن الآخرين .. أعطيت فرصة لتكون هي كما أرادت دائما أن تكون وألقي بها ، بقليل من الشفقة ، إلي فصل مكدس بست وثلاثين طفل وطفلة .. في مدينة صغيرة وبلد كبيرة لا قيمة للإنسان فيها ، إلا كرقم علي ورقة فإن مُحي الرقم وبليت الورقة فلا هو موجود ولا أحد يبالي به .. وكهذا المبدأ بالضبط لم يكن أولئك الحفنة من الأطفال يهمون أحدا .. كومة من اللحم الصغير تنتظر من ينضجها علي مهل لا من يسويها علي الجانبين ويحرقها .. وعندما أتت " سناء " إلي الفصل كان الأطفال قد احترقوا أو كادوا بين حر الإهمال وحرارة انعدام الضمير .. المدرسة مليئة بالمدرسون لكنهم كقلتهم كانوا .. أغلبهم يأتي إلي المدرسة فقط ليوقع في دفتر الحضور والانصراف ويختلق أي عذر بعدها للزوغان والانصراف مبكرا .. أو يقضي بقية اليوم الدراسي جالسا أمام الفصل ، الذي يهيص فيه الأولاد الصغار ويتسلون بضرب بعضهم بعضا ، ممسكا عصاه ولا عمل له إلا أن يصرخ فيهم بين الفينة والفينة :
" بس يا واد .. بس يا بت ! "
أما أن يعتبر هذا ( الواد ) وتلك ( البت ) مسئولية ملقاة علي عاتقه سيحاسب عليها عاجلا أو آجلا ، أمام سلطان الأرض أو سلطان السماء ، فشيء لا يدخل في حسابات أغلب أولئك المدرسين الأفاضل .. وماذا تفعل قردة صغيرة منبوذة ك" إسراء " في هذا الوسط ؟!
ليس عليها إلا أن تتحمل وتتلقي الضربات من هنا وهناك ، وتظل صامتة وإلا نالها المزيد من العدوان ، وتنتظر حتى تنصرم أيامها لتصعد عام دراسي جديد وتنتقل إلي فصل آخر ربما وجدت فيه خيرا بانتظارها .. لكن وعندما جاءت " سناء " تبدل كل شيء في فصل 3/2 الابتدائي ..
ومن حسن الحظ إنها تسلمت العمل في بدايات الفصل الدراسي الأول لتجد فرصة كافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. ولكن ما الذي يمكن إنقاذه وسط هذا الحطام المحترق !
إن أغلب تلاميذ الفصل ، الذين درسوا عامين في نفس المدرسة والمفروض أنهم اجتازوا امتحانات صفين دراسيين كاملين ، لم يكونوا يحفظون الحروف الأبجدية حتى !
ثلاثة أو أربعة أطفال فقط وسط كل هذه الجحافل من التلاميذ يحفظون الألف باء .. ولم تكن تلك هي المصيبة فقط .. الكارثة كانت في المستوي الخلقي المنخفض ، بل المنعدم ، لأغلب أولئك التلاميذ .. لم يكن هذا ذنبهم وحدهم فقد جاءوا من بيوت تطعمهم وتسقيهم وتكسوهم وتشتري لهم الكتب والكراريس والأقلام والمساطر ثم تدفعهم إلي المدرسة لتتولي تربيتهم وتعليمهم .. أغلبهم كانوا صبيان شرسين ذو مناظر وأخلاق شكسة ، وزاد الطين بلة أن المدرسة كانت مشتركة مما دفع أولئك الغلامان ، الذين لا يكادون يفقهون حديثا ، إلي المبالغة في إظهار العنف والجسارة رغبة في الحصول علي إعجاب البنات ، النسوة الصغيرات ، رغم أن معظم أولئك الأولاد كانوا يفعلون ذلك بطريقة غريزية ودون أن يفقهوا معني أولاد وبنات وجنس آخر وخلافه .. وفي تلك الظروف وجدت " سناء " نفسها ..
وجدت نفسها شابة طموحة محبة لعملها ولها آمال عريضة في مدرسة متخصصة في وأد آمال الناس صغارا وكبارا وتحطيم أحلامهم وهدم قصور المني فوق رؤوسهم ..
قيل لها : لا تصدعي رأسك .. لا تتعبي نفسك معهم .. هم صبية فاشلين ولا فائدة ترجي من ورائهم .. أسحبي كرسيا وأجلسي وأقرئي ودعيهم يرددون ورائك .. ومن فهم فليفهم ومن لم يفعل فليذهب إلي .. أمه !
هكذا ؟!
طيب !
لكن من قال أن هكذا يرضيها أو يحقق طموحاتها .. إنها تفهم ما يدور حولها جيدا وتعيه .. إنهم ثلة من الساخطين الناقمين !
مدرسات جاهلات بلا ملعقة ثقافة واحدة تملأ رؤوسهن الفارغة ، ولا هم لديهن سوي التحدث عن الأزواج والأولاد ومتاعب الحمل والولادة ( الواد اللي مش راضي يتفطم ) و( البت اللي داخل عليها دم وتملي عيانة ) .. ولا يفكرن سوي في مرتب يقبضنه آخر الشهر وهن غير راضيات ولا قانعات ليساهمن مع أزواجهن ، الذين هدتهم مسئوليات البيوت الثقال ، في النفقات وتحمل مطالب المعيشة الصعبة والتي لا تفتأ تزيد صعوبة يوما بعد يوم وعاما أكثر من الذي قبله  .. أما المدرسون الرجال فهم لا يقلون كراهية لكل ما حولهم عن النساء .. وكزميلاتهم من المدرسات كانوا يئنون تحت مطالب بيوتهم ونسائهم وأولادهم .. والمرتب هو منية حياتهم ومدار تفكيرهم ولا هم لديهم سوي السؤال عن الحوافز والبدلات والقضية المرفوعة من عشروميت سنة من أجل الحصول علي بديل نقدي للوجبة وزيادات شهر 7 المنتظرة وهكذا وهكذا ..
لكن ماذا عن التلاميذ ؟!
فليذهبوا إلي الجحيم يا أخي .. خاصة وأن من حاولوا تكسير الصنم ودفع الطلاب لكي يحبوا المدرسة والعلم والتعليم ، وحاولوا أن يفعلوا شيئا مختلفا .. من لديهم بقية ضمير ، من لديهم بقية حب لهذا البلد ، من يعرفون معني أن تكون مسلما بحق أو مسيحيا بحق ، هؤلاء أنهار الصنم فوقهم وردمتهم أتربته وصاروا يعانون من مشاغبة الطلاب وعنادهم من ناحية ،  واستغلال بقية المدرسين لجهدهم من ناحية أخري ومحاولة زحلقة كل عمل عليهم .. فالحصص الاحتياطية الثقيلة لا تكون إلا من نصيب الفئة العاملة ذات الضمير الحي أما البقية فيجلسون في الطرقة العريضة ملوكا يشربون الشاي .. أي بيئة هذه يعمل وينتج فيها الإنسان ؟!
لكن الصحراء الجرداء أحيانا ما تلبث أن تفاجئنا بما يختبئ تحت أديمها الجاف من كنوز .. هناك أمل ؟!
نعم هناك بالطبع .. وقد بدأت بوادره تظهر بمجرد أن وصلت " سناء " إلي تلك الفلاة التعليمية المنقطعة النظير ..
فقد قررت أن تعطي ، تعطي ولا تنتظر ، ولذلك سرعان ما أخذت في المقابل وبدأت الثمرة المرة تحلو بين يديها .. أدركت منذ البداية أنهم ليسوا إلا أطفالا .. صغار لم يهتم بهم أحد كما يجب ، ولم يعاملهم كما يجب ، ولم يعطهم حقهم كما يجب .. يُضربون في البيوت ، يُقذفون إلي  الشوارع ، يتركون بلا علم ولا توجيه ، لا أحد يعطيهم كتابا لينظروا فيه ، ولا أحد يعلمهم نشيدا حلوا ليرددوه .. ليسوا وحوشا أبدا ولا مشاريع مجرمين .. إطلاقا !
إنهم ثمرة زرعت ثم بخل عليها راعيها بالسقي فظمئت .. لكن ما إن تمتد إليهم يد حانية بالماء حتى يرووا ويخضروا وتزهر ثمارهم وتتفتح زهورهم عطرة ندية ..
تركت المناهج العقيمة جانبا ، فماذا تجدي الكتب المكدسة بالمعلومات والتلاميذ لا يعرفون كيف يكتبون أسمائهم أو يتهجوها ؟
 ولأننا في بلد تسير علي رأسها رافعة قدميها إلي أعلي فقد كانت كتب الصف الثالث الابتدائي تصلح ، تماما ، لطالب في الصف الثالث الإعدادي .. بلا مبالغة ولا فصاحة زائدة .. كيف يدرس أولئك الأولاد الذين لا يعرفون هجاء حروف لغتهم الأم الثمانية والعشرون دروسا كاملة مكونة من عشرين سطرا !
أغباء هذا أم تغابي ؟!
لا يهم أيهما .. المهم أنها قررت أن تعمل علي مسئوليتها الخاصة .. طرحت كتب الوزارة جانبا وطلبت من كل طفل كراسة واحدة وقلم رصاص وعلبة ألوان !
أهذا كثير .. ولا حق الله .. لكن أغلبية الطلاب أتوا في اليوم التالي بأيديهم فارغة !
غريب هذا منهم فقد كان لديهم بالطبع عشرات الكراسات والأقلام الملونة في بيوتهم وحقائبهم كانت عامرة بها .. صحيح أن أغلبهم كان يأتي بحقيبة فارغة أو بها بضع كراريس قذرة مكرمشة وأقلام متكسرة بروها حتى نحل وبرها وتقصفت سنونها وجأرت إلي الله بالشكوى منهم .. لكنهم كانوا قادرين علي تنفذ طلب مدرستهم الجديدة الصغير فلما امتنعوا إذن  ؟!
في الحقيقة فإن هذا الموقف الغريب أتخذه أغلب تلاميذ 3/2 لكن ليسوا كلهم .. بالتحديد عشرة منهم نفذوا وجاءوا بكراسات جديدة وأقلام ملونة .. أما " إسراء " فقد شعرت بالفرحة لحديث المعلمة المثير للبهجة معهم بالأمس وظلت تزن علي أذني أمها حتى أعطتها جنيهين كاملين فاشترت كراستين وعلبة ألوان خشب صغيرة بل وبراية خضراء جميلة كذلك .. وعندما وقفت الأبلة " سناء " أمام الفصل وسألت التلاميذ بوجه منشرح :
" ها يا حلوين .. مين فيكم اللي جاب الحاجات اللي قلنا عليها إمبارح ! "
وبغض النظر عن الكلمة نفسها التي لم تكن منطبقة علي أغلبية تلاميذ هذا الفصل المشاغب .. فإن أغلب ( الحلوين ) نظروا إليها بعيون متسعة متحدية ولم يرفع سوي أقل من ثلث تعداد الفصل أيديهم قائلين بسعادة الطفل حين يستشعر التميز علي غيره من الأطفال :
" أنا .. أنا .. أنا ! "
كانت " إسراء " أول من رفع يده في الفصل وكانت تجاهد بساعدها القصير ليظهر كفها مرفوعا من خلف رؤوس الأولاد الكبار الطوال القامة الذين احتلوا بالذوق أو بالعافية المقاعد الأمامية كلها .. نظرت " سناء " حولها متأملة وجوه التلاميذ المعرضين وقد بدأت تفهم حقيقة الأمر .. إنها لعبتهم الصغيرة من أجل تطفيشها !
بلهاء !
يظنون إنها ستستسلم بسهولة ومن أول جولة .. لكنها كالت لهم ببراعة الضربة الناعمة القوية :
" خلاص يا حبايبي ولا يهمكم .. أصلا اللي مجابوش الحاجات اللي قلنا عليها مش هيشاركوا معانا في النشاط وهيقعدوا في الفصل لوحدهم ! "
زاط الأطفال المطيعين فرحا بتفوقهم المنتظر وبالنشاط الذي سيشاركون فيه والذي لا يعرفون عنه شيئا بعد .. بدأت " سناء " توضح لهم ما سيفعلونه :
" إحنا دلوقتي هننزل الجنينة ونعمل حلقة ونكتب علي الأرض ! "
" هيييييييييييييييييييي ! "
زاط الأولاد ثانية بينما بدأت وجوه الممتنعين تضرب إلي اللون القاتم وبدأ بعضهم يصر علي أسنانه ..
لم تضيع المدرسة الهمامة وقتا كانت تعرف أن تأجيل تنفيذ الوعد ولو للحظة واحدة قمين بتعكير صفو الأطفال وإطفاء نار حماستهم .. لذلك فورا وجهت أمرا محببا :
" يلا .. هاتوا شنطكم وتعالوا ورايا .. الباقيين بقا يقعدوا في الفصل ورئيس الفصل هيوقف عليهم ! "
" هييييييييي ! "
صاح الأطفال فرحا وقد استشعروا نوعا من لذة الانتقام من الجبابرة العتاة في الفصل الذين اعتادوا ضرب الصغار الضعفاء وإذلالهم .. حملت " إسراء " حقيبتها وهرعت تتسلل بين الأقدام حتى وصلت إلي مقدمة الفصل حيث تقف الأستاذة تجمع حقيبتها وحاجياتها من فوق منضدة المدرسين لتتقدم أطفالها في رحلتهم القصيرة خارج الفصل المعتم ..
وصلت " أسراء " أخيرا إلي حيث تقف معلمتها بعد رحلة شاقة بين الأطفال الذين كادوا يدهسوها ، بقصد أو بدون قصد .. ومدت يدها الصغيرة القصيرة لتمسك بيد معلمتها .. ألتفتت " سناء " التي كانت مشغولة بتنظيم الأولاد في صفين ، احدهما للبنات والآخر للصبيان ، لتجد تلك الصغيرة القزمة تتعلق بيدها بشكل عاطفي غريب .. تمعنت في ملامحها الغريبة فأحست بأضلعها تدر حنانا لها .. تلك الطفلة تحتاج إلي الحماية وقد جاءت تلتمس منها الحماية !
" دي القردة جايه معانا أهي ! "
قال أحد الأولاد مستظرفا فضحك معظم الأولاد بينما ظل القليلون صامتين أما " إسراء " فقد تبللت عيناها بالدموع سريعا .. ليس لأن الإهانة والتعيير قد لحقا بها ، فهي تتلقي الإهانات كل دقيقة وفي كل مكان لكن تلك المرة كان وقعها مختلفا عن كل مرة .. فقد شعرت أن معلمتها ، التي أحبتها من أول نظرة ومن أول جملة سمعتها من بين شفتيها ، قد تحرمها من جنة قربها إن تبنت نظرة الأطفال والناس الآخرين لها .. قزمة قصيرة ضئيلة لا قيمة لها !
قردة !
هل يمكن أن تناديها " مس سناء " يوما قائلة لها :
" تعالي يا قردة ! "
ذلك الخاطر الذي مر كالبرق في ذهن " إسراء " هو الذي دفعها للبكاء وهو الذي بلل عيناها بالدموع :
" تعالي يا حبيبتي ! "
لم تكن " سناء " قد حفظت أسماء تلاميذها بعد بالطبع وسقط اسم " إسراء " من رأسها حينما حاولت استدعائه لتناديها به :
" نعم ! "
قالت الفتاة الصغيرة وهي تقترب من معلمتها التي جثت علي ركبتيها وفتحت لها ذراعيها .. لم تصدق البنت نفسها فرمت بنفسها كصخرة صغيرة فوق صدر معلمتها وأخفت رأسها الضئيلة في حضنها!
تساقطت دموعها حينما لمست حنان المعلمة عليها .. رفعت " سناء " رأس طفلتها وقبلت شعرها القصير المفلفل الذي جمعته أمها لها بصعوبة بثلاثة توك علي جانبي وفي نهاية رأسها ، ثم ابتسمت لها قائلة :
" عايزة تيجي معانا يا حبيبتي ؟! "
هزت الطفلة رأسها فورا بحماس فسألتها المعلمة ثانية :
" أنت جبتي الحاجات اللي قلنا عليها ؟! "
بحماسة أشد رفعت البنت الحقيبة القماشية التي تعلقها بشريط في رقبتها وفتحتها بلهفة شديدة .. ونقبت بداخلها حتى أخرجت الكراستين وعلبة الألوان والبراية وعرضتهم علي المعلمة وهي تبتسم :
" شاطرة شاطرة يا حبيبتي .. يلا هاتي أيدك ! "
مدت " إسراء " يدها بلهفة وقبضت علي كف معلمتها وهي لا تكاد تصدق نفسها .. بينما وقفت المعلمة علي قدميها معتدلة وقالت للتلاميذ الواقفين يكملون جمع حاجياتهم :
" شفتوا زميلتكم شاطرة إزاي .. جابت حاجات أكتر من اللي قلنا عليها وكمان جابت ألوان جميييلة قوي .. يلا نسقف لها ! "
بدأ بعض الأطفال الودعاء يصفقون فورا .. أما الصغيرة السعيدة فقد وجدت نفسها ، كفرخ صغير تائه وجد عشه أخيرا ، تلتصق بمعلمتها أكثر وتمد رأسها لتخفيها في ساقها المغطاة بجيبة رمادية أنيقة بسيطة !
...
يوما بعد يوم بدأ بعض التلاميذ المشاغبين يستجيبون .. كان هذا صعبا في البداية وربما محالا بالنسبة للبعض .. لكن الإصرار دائما ما يكافأ بالنجاح .. نجحت " سناء " ، ولو قليلا ، في إنقاذ بعض الطلاب من براثن وغياهب النظام التعليمي الفاشل الذي كُتب عليهم أن يعيشوا أساري له مدي الحياة .. أحب الأطفال حصص الفناء جدا .. وحتى الطلاب المناوئون الشرسون عادة بدؤوا ينصاعون ويجلبوا معهم صباحا كراساتهم وألوانهم وأدواتهم المختلفة ، معلنين عن رغبتهم في الاشتراك في اللعب والتعلم في حديقة المدرسة .. كانت حديقة المدرسة في الحقيقة مقلب زبالة وليس حديقة أبدا !
فالفراشون ، الذين يوجد منهم اثنان في المدرسة ، تعودوا أن يجمعوا القمامة ، بعد أن يقوموا بكنس المدرسة ، هذا إن كنسوها من الأساس ، ويكدسوها أكواما فوق أكوام في الحديقة الجدباء المقفرة .. ثم يبدءون في حرقها !
طبعا كان هذا أمرا اعتياديا في المدرسة ، بل في معظم المدارس ، ولا أحد يستهجنه ولا يتحدث عن خطورته علي صحة الأطفال والعاملين بالمدرسة ولا شيء من هذا القبيل .. وحتى إن فعلها أحد وتكلم منتقدا فسيكون رد الفعل الطبيعي المكرر :
" آمال يعني نودي الزبالة فين يا حضرت .. ناكلها ؟! "
وبالطبع لم يكن الأمر ذنب أولئك العمال فقط فهم ليسوا إلا خيوطا منسلة في قماشة متهرئة بالفعل .. لكن ماذا يمكن أن تفعل مدرسة مجدة ك" سناء " عندما تجد نفسها ، ومعها معظم فصلها ، ذات صباح وهم مندمجون تماما في حصة اللعب والكتابة وشخبطة الحروف الهجائية بالألوان وإذ بسحابة قاتمة من الدخان الخانق الحارق كريه الرائحة تحلق فوقهم ؟!
تسكت طبعا مثلما يفعل الآخرون .. فهي لن تعدل الكون وحدها فالكل هنا يؤمنون بأنه لا يمكنهم تعديل الكون لذلك يشاركون بحماسة منقطعة النظير في تخريبه أكثر وأكثر !
لكن حتى ذلك الاستسلام السهل العبيط الذي يستمرئه أغلب الناس ويستسهلونه لم يكن من السهل علي المدرسة الجديدة الركون إليه .. تركت أطفالها جالسون فوق العشب القليل المتناثر بعد أن أمرتهم بلهجتها اللطيفة بتلوين حرف الراء جيدا بعد أن قاموا برسمه مزدوجا تمهيدا للانتقال لتلوين كلمة ( رمل ) التي كتبوها بخطوطهم القلقة غير المتمكنة بعد ، وكل منهم يحاول أن يجعل خطه أجمل من خط غيره وكلمته أوضح وأكثر جمالا من كلمات غيره .. اتجهت ببطء ناحية الفراش الذي كان يشرف علي احتراق كوم القمامة وهو واقف ببرود يدخن سيجارة كريهة الرائحة ككومة القمامة تماما وربما أكثر :
" يا عم " مصطفي " العيال أتخنقوا من الدخانة ! "
أخرج السيجارة من فيه بعظمة ونظر إليها وكأنه لا يراها فعلا :
" معلش يا أبلة .. أصل الزبالة كترت وأتحوشت ولازم نحرقها ! "
سألته بحذر :
" وهو أنتوا لازم تحرقوها ؟! "
" آمال يعني نوديها فين ؟! "
اقترحت بشطارة :
" ما تحطوها في أكياس وتدوها لعربية الزبالة لما تيجي أحسن من الخنقة دي ! "
ضحك ووضع سيجارته في فمه مرة أخري وأخذ يتكلم وهي تهتز بين شفتيه :
" قلبك أبيض يا أبلة ! عربية زبالة أيه .. هو في عربيات زبالة أصلا بتعدي النواحي دي ؟! "
وكان الرجل محقا بالفعل .. فلا توجد وسيلة أخري للتخلص من القمامة هنا سوي حرقها .. وحتى إن كانت توجد واحدة لما فكروا في تجربتها .. لأن الحكمة البليغة التي عليها عاشوا وعليها يموتون تقول لهم بصراحة : عيش عيشة أهلك !
لم تجد " سناء " ، التي لا تعرف كيف تعيش عيشة أهلها ، أمامها إلا حل واحد لإنقاذ تلاميذها ، وإنقاذ نفسها ، من الموت اختناقا .. وهو أن تجمع الأطفال وتعود بهم إلي الفصل !
الغريب في الأمر أنه في الأيام التالية وكلما نزلت المدرسة الجديدة بفصلها إلي الحوش يشتعل كوم القمامة علي الفور وتتصاعد منه الأدخنة الخانقة في توقيت مضبوط دقيق مثير للريبة !
بعد بضع أيام بدأت " سناء " تدرك حقيقة الوضع .. ذهبت إلي المدير تشكو إليه العامل فنظر إليها ببرود وقال لائما مؤنبا :
" ما هو الحوش مش ملكك لوحدك يا أبلة .. والأساتذة بيشكوا منك ! "
كانت هذه أول مرة تسمع فيها " سناء " أن أحدا يشكو منها فشعرت بالدهشة وأرتفع حاجباها راسمين علامة استفهام واضحة .. نهرها المدير بلطف وخبث قائلا :
" الأساتذة بيقولوا أنك محتلة الحوش أنت والعيال بتوعك ومش عارفين ينزلوا فصولهم حصص ألعاب ولا حاجة .. مينفعش كده يا أبلة الفناء ده للمدرسة كلها ! "
ردت عليه فورا فقد كان دفاعها واضحا وجاهزا :
" بس إحنا مش بناخد الحوش كله .. بنقعد علي جنب في حتة صغيرة والحوش كله بيبقي فاضي واللي عايز ينزل ينزل إحنا ما منعناش حد ! "
هز السيد المدير رأسه نفيا فقد مل الحديث في هذا الأمر لمدة دقيقة ونصف ووجد هذا أكثر مما ينبغي :
" مينفعش فصلين ينزلوا مع بعض في نفس الوقت عشان العيال بتضرب بعضها وبيشاغبوا مع بعض .. وأنت عيال فصلك صغيرين وفي فصول في الإعدادي بيبقوا عايزين ينزلوهم ومبيعرفوش عشان حضرتك قاعدلهم بعيالك بتوع تالتة ابتدائي تحت وسادة عليهم الطريق .. والعيال الكبار لو نزلوا علي عيالك هيطحنوهم طحن ! "
تعجبت " سناء " مما تسمع وأخذت تحاول شرح الأمر للمدير لكنه لم يعطيها الفرصة لذلك .. هو ناقص وجع دماغ ؟
" بصي يا حاجة " سناء " إحنا مش ناقصين وجع دماغ .. حصصك تاخديها في فصلك .. ولو الموجه بتاعك جه هيقولك أن اللي بتعمليه ده غلط ! "
ارتسمت علامة الاستفهام مرة أخري علي وجه " سناء " وهمت بالاعتراض لكن المدير نهرها متظاهرا بالمزاح :
" خلاص خلصنا .. علي فصلك يا أبلة لو سمحتي .. "
ثم أمسك هاتفه المحمول وطلب رقما من قائمة الأرقام المسجلة عنده وهتف مازحا :
" أيوه يا حاج " ممدوح " أزيك .. والنبي وأنت جاي تجيب لنا معاك شوية سندوتشات .. سلطة وطعمية .. أيه ؟ أيوه من عند الراجل بتاعنا .. "
لم تطق " سناء " الاستمرار في متابعة المحادثة الشيقة فاستأذنت بدون كلام وهرعت خارجة من مكتب المدير !
...
أصيب أغلب الأطفال بالإحباط بعد انقطاع حصص الكتابة والتلوين في الحوش .. لكن الطفلة الصغيرة " إسراء " قالت لمعلمتها بصوتها الرفيع الغريب :
" معلش يا مس ممكن نرسم ونلون هنا ! "
ضحك أحد الأطفال المشاغبين ثم هتف وهو يحرك حاجبيه مغيظا :
" صح يا قردة ! "
صمتت " إسراء " وتحركت دمعة في زاوية عينها .. كان الأطفال قد توقفوا ، تقريبا ، عن مناداتها بتلك الكنية البغيضة منذ أن نهرت الأستاذة أحد الأطفال وعنفته بشدة لاستخدامه هذه الكلمة القبيحة في وصف زميلته وأخذت وعدا من جميع طلاب الفصل بألا ينادوا " إسراء " بتلك الكلمة مرة أخري أبدا .. جذبت " سناء " الطفلة الدامعة بجوارها وقبلت رأسها ثم طلبت من الولد الذي أستخدم كلمة القردة أن يقف :
" مش قولنا بلاش الكلمة دي يا محمد قبل كده ؟! "
ضحك قليل من الأولاد بينما أضطرب الولد المسمي " محمد " وأخذ يتلعثم ويعتذر :
" معلش يا أبلة .. أنا .. أنا آسف ! "
كانت ثقافة الاعتذار من الأشياء التي وجدت المعلمة صعوبة حقيقية في زرعها في أذهان طلاب 3/2 لكنها تمكنت من غرس البذرة علي الأقل في النهاية :
" خلاص يا حبيبي .. بس متقولش الكلمة دي تاني لو سمحت ! "
أحمر وجه الولد وهتف بصوت منخفض وبلهجة معتذرة حقيقية :
" حاضر ! "
أجلسته المدرسة ثم بدأت تخاطب الفصل محاولة طمأنتهم بأن الحصص التي أحبوها وتعلقوا بها في الفناء لن تفوتهم تماما ولن يحرموا منها حرمانا كاملا :
" بصوا يا عيال أنا عارفة إنكم زعلانيين عشان حصص الحوش هتوقف شوية .. بس أنا أحب أطمنكم .. متخافوش دي فترة مؤقتة بس لحد ما ينضفوا الحوش ويزرعوا فيه شجر وورد .. ولغاية ما ده يحصل إحنا هنلون وهنرسم هنا وهنعمل كل الحاجات الحلوة اللي أنتوا بتحبوها ! "
زاط الأولاد وهيصوا وصفقوا وهللوا بما فيهم " إسراء " التي رفعت رأسها الصغيرة وهللت ببراءة :
" هييييييييييي !"
...
مرت بضع أيام حاولت فيها " سناء " إقناع المدير بالسماح لها باستئناف حصص الكتابة في الفناء .. لم يقتصر نشاط المدرسة المجدة علي تلك النقطة لكنها ، وفي نفس الوقت ، كانت تسير في طريق آخر أكثر تمهيدا وسهولة ، فقامت بتقسيم طلاب فصلها إلي مجموعات جديدة ووضعت الطلاب المجتهدين وسط الطلبة الضعفاء والمشاغبين ليحفزوهم علي العمل .. كان لديها في الفصل ست تلاميذ تحديدا تعتبرهم أكثر الطلاب نشاطا واجتهادا .. أولهم كان الولد " أسعد " الذي جعلته علي رأس المجموعة (أ) ، ثم البنت الجميلة " هناء " ذات الشعر البني الرائع والوجه المستدير الناعم وهي التي تولت قيادة المجموعة (ب) ، طالبها المحبب " أندرو " كان قائدا للمجموعة (ج) ، و" هشام " للمجموعة (د) ، " سلمي " للمجموعة (و) وأخيرا المجموعة (ي) التي اختارت المس لقيادتها الفتاة " إسراء " !
" إسراء " الصغيرة التي لا يكاد طولها يبلغ نصف طول زملائها الآخرين صارت قائدة مجموعة .. لم يعلن طلاب المجموعة (ي ) عن مشاعرهم وإن كانت علامات التذمر قد بدت علي وجوه خمسة منهم .. كيف تقدم المدرسة تلك القزمة عليهم ؟!
كان هذا التقسيم يشبه إلي حد بعيد مجموعات التعلم النشط لكن الأستاذة " سناء " كان لديها تصور آخر مختلف تماما عن الأمر .. أعلنت للطلاب أن هذه المراكز القيادية ليست نهائية ولا دائمة :
" كل واحد فيكم ممكن يكون قائد مجموعة .. لو اشتغلت وأنجزت أكتر من كل زملائك اللي معاك في مجموعتك هتبقي أنت قائدهم في الأسبوع الجاي أو اللي بعده ! "
فرح كثير من الأولاد المستبعدين من مراكز قيادات المجموعات .. وبدا أن البعض قد أساء الفهم حقا ، لأن طالب مشاغب من المجموعة (أ) مد يده ولكم قائدهم " أسعد " في وجهه معتقدا أن هذه هي المقومات المطلوبة في القيادة .. أن يكون بلطجي لا يشق له غبار !
أوقفته المس غاضبة ووجهت إليه عبارات لوم وتأنيب دون إسراف .. أفهمته أن العمل والإنجاز الذي تقصده هو الاجتهاد والجد والتقدم الدراسي وليس العدوان والضرب وتبادل اللكمات !
سمع الولد بأذنيه وسكت وبدا عليه أنه إما أنه أقتنع وإما أنه لا يجرؤ علي مقارعة المدرسة التي صارت لها ، شيئا فشيئا ، هيبة وكلمة مسموعة لدي أغلب التلاميذ .. بدأ العمل خلال خمس دقائق !
أمسكت " سناء " بقطعة طباشير وكتبت عبارة ( أنا تلميذ مجتهد ) بخط كبير مجرور عبر السبورة .. ثم ألتفتت إلي التلاميذ وأمرتهم بلطف قائلة :
" يلا يا ولاد .. كل واحد يطلع كراسة الحروف بتاعتنا ويكتب الجملة دي زي ما أنا كاتباها .. وبعدين هنلون سوا .. اللي ميعرفش يكتب حاجة يقولي وأنا هجي أساعده ! "
بدأ التلاميذ العمل .. بعضهم يعمل في صمت وهدوء والبعض الآخر يتعمد إحداث قدر من الضجة والهرجلة يزيد أو ينقص .. لكن المهم أنهم جميعا يعملون أو يتظاهرون بذلك .. كانت " سناء " كقارئة مثقفة تدرك حقيقة مهمة ، أن تظاهر الطلبة المشاغبين ولو كذبا بأنهم يعلمون فيه خير كثير .. فذلك التظاهر معناه أنهم يرغبون في الاندماج في الجو العام الحماسي المحيط بهم ، وأن سورة عنادهم وتحديهم لها قد انكسرت أو كادت .. لذلك أخذت أعداد المصرين علي عدم إحضار أدواتهم معهم صباحا تقل وتقل حتى كادت تتلاشي .. صحيح أنه لا زال هناك بعض المشاغبين المعنادين لكنهم قلوا حتى كادوا يضمحلوا .. الأهم أن عنادهم صار من النوع الخفي الحميد .. عناد طفولي محض وليس عناد عتاولة يدمنون الظهور بمظهر الكبار البلطجية !
تحسنت الأمور إذن وفي وقت قياسي .. رحمك الله أيتها المخلصة الشريفة وأكثر من أمثالك !
...
كان اليوم يوم اثنين والمدرسة هادئة تماما .. ليست هادئة بمعني هادئة بل بمعني أن كل الأمور تسير في أعنتها المعتادة .. فوضي في  كل ركن في المدرسة الحكومية الممتازة !
أغلب الفصول فارغة من المدرسين ، الذين وجد كل منهم لنفسه ببراعة حجة لغيابه عن فصله وترك التلاميذ بمفردهم في حجرات الدراسة .. أما التلاميذ وقد وجدوا أنفسهم كالخيل الجامحة محلولي القيود فقد انهالوا علي بعضهم ضربا ولطما وفشا الخصام لأقل الأسباب بينهم .. الأقل عدائية انشغلوا في الرغي ورمي قشور اللب أو أكياس الشيبس الفارغة علي بعضهم .. بعض المدرسين الذي يتمتعون بموهبة الابتكار تخلصوا من العبء من جذوره ، وأزاحوا طلاب فصولهم علي الحوش كقطيع من الخراف يطاردها راعي مجنون مهمته تطفيشها وليس رعايتها والحفاظ عليها ..
قليل من الفصول التي بقيت تحت مدرس حازم يرعي ضميره كان الطلاب فيها لا يكادون يسمعون شيئا من عنف الضجة حولهم في الفصول الخاوية من الرعاة .. أفلتت أعصاب بعض المدرسين الذي يعملون في فصولهم ، فخرجوا ممتشقين عصيهم وذهبوا إلي الفصول التي تركها مدرسوها يصرخون في الطلاب بل ويسبونهم أحيانا مطالبين إياهم بالإقلاع عن ضجتهم المهولة .. ثم بدأ المدرسون يتدفقون علي مكتب المدير شاكين بعضهم وكل منهم يلقي باللائمة علي الآخر .. وبينما المدير يجلس في مكتبه كجمل المحمل يكاد كرشه الكبير ينفجر من عظم ما تراكم داخله من شحوم تعالت الضجة وأخذ بعض المدرسين يتبادلون عبارات اللوم والتأنيب :
" مش عارفين نشتغل منكم يا عم ! "
" الدنيا هايصة والعيال مش سامعة حاجة .. ما تلموا عيالكم شوية ! "
" فصل الأستاذ  " محمد " فاضي  ! "
" راح فين بسلامته ؟! "
" سايبهم البيه وقاعد في الطرقة بيشرب حلبة ! "
" ليه هو والد ولا أيه .. كل يوم حلبة حلبة ! "
" لا ومغات كمان ! "
" ده علي كده بيرضع بقي ! "
أنفجر البعض ضاحكين والمدير يتابعهم وهو يدور بكرسيه بسعادة ويرمقهم صامتا :
" يا حضرة المدير مينفعش كده .. لازم يكون لك وقفة مع المدرسين المهملين دول ! "
" والله ما حد خاربها غير النسوان ! "
كانت تلك حجة كثير من المدرسين الرجال .. فكل مصيبة تحدث في المدرسة لابد أن سببها هو المدرسات السيدات رغم أنهم لم يكونوا يقلون إهمالا ولا انعدام ضمير عنهن !
غضبت الأستاذة " سعاد " ، التي كانت تقف أمام مكتب المدير تقدم له إجازة اعتيادية لمدة ثلاثة أيام ليوقعها لها ، ونظرت إلي المدرس خفيف الدم الذي يلقي باللائمة علي زميلاتها المدرسات في إحداث الفوضى بالمدرسة :
" لا اسم الله عليكم أنتوا اللي مقطعين السبابير* من كتر الشغل .. يا راجل ده أنت بالذات مبتدخلش فصلك غير من الموسم للموسم ! "
ضحك البعض لتعليق أبلة " سعاد " بينما تدخل آخرون في الحوار اللطيف .. وحدثت مجادلة طويلة أنصبت علي نقطة بالغة الخطورة .. من المتسبب في الفوضى داخل المدرسة المدرسات أم المدرسون .. الست ( اللي هي مش كمالة العدد ) أم الرجل الذي هو سيد البيت ؟!
طبعا كان هذا هو كل ما يعني الطرفين .. من السبب .. أما الحلول فلم تكن تلزمهم بقرش وليس من المتوقع أن يقدموا علي وجع أدمغتهم بالتفكير فيها أو البحث عنها !
المدير كرجل شرابة خرج محترم لا يهش ولا ينش لم يكن له في تلك المجادلة سوي شيء واحد .. أن ينهر الجميع مطالبا إياهم بأن يعاملوا ربنا ويحللوا القرش الذي يقبضونه آخر الشهر !
احتدمت المناقشة التي لعب فيها المدير دور ضابط إيقاع مهمته توجيه النغمة النشاز ، وحشرها حشرا وسط بقية النشوز لتبدو في النهاية السيمفونية مقبولة شكلا مرفوضة عقلا وضميرا وخلقا .. وعد الجميع بأن يلتزموا بجداولهم وحصصهم ثم خرجوا من لدن صاحب النهي والأمر ليفعل كل منهم ما يحبه .. عاد المتنطعون للوقوف أمام فصولهم يتحدثون أو يدفعون الطلاب للدخول إلي الفصول عنوة ، ودون أن يكلفوا خاطرهم بإعطائهم حقهم من التعليم والتوجيه والتدريس الحق .. القلة القليلة من المدرسين ذوي الضمائر وجدوا أنفسهم في خضم بحر هائج لا يعرفون كيف يمكنهم أن يعملوا فيه كما يفعل الناس .. فلجئوا إلي آخر حل لديهم .. إغلاق أبواب فصولهم محاولين صنع جو من الهدوء المصطنع لعلهم يحظون بوقت نافع مع تلاميذهم !
ورغم ارتفاع درجات الحرارة نسبيا في ذلك اليوم .. إلا أن الأستاذة " سناء " وجدت نفسها مدفوعة إلي إغلاق باب الفصل لتتفادى الأصوات المرتفعة القادمة من كل مكان حول حجرتها الدراسية .. وأيضا لقطع الطريق علي الطلاب الذين يجلسون في مقدمة الفصل ، والذين لا عمل لكثير منهم سوي أن يرموا بأبصارهم خارج الفصل متابعين بتركيز كل من يتحرك جيئة وذهابا وكأنهم لأول مرة يرون بشرا .. أستعاد الفصل قدرا من هدوئه وعاد الطلاب للتلوين .. لكن لم يمضي سوي أقل من ثلث الساعة قبل أن تباغت المدرسة النشطة بالباب يدفع والمدير يبدو علي عتبته غاضبا منتفخ الوجه !
" أيه الهرجلة اللي أنت عاملالنها دي يا أبلة ؟! "
صرخ فيها مقررا حقيقة لا طارحا سؤال وبدا أنه عثر أخيرا علي الفأر الذي يدعبس في أنحاء المدرسة ويقضم الخبز والجبن المحفوظة في دولاب الخزين ..
كان الطلاب الذين يجلسون علي هيئة مجموعات قد هبوا واقفين عند دخول المدير لكن المربي الهمام بدا أنه لا يراهم .. فقط يري المقاعد التي تغير نظامها وتحولت لما يشبه الموائد المستديرة :
" أيه الفوضى دي يا أبلة ؟! "
بح صوت " سناء " لفرط اضطرابها من مفاجأة دخول المدير من ناحية وللهجته المتهمة الهجومية من ناحية أخري .. شعرت أنها محاصرة ومطالبة بنفي تهم عن نفسها فقالت بصوت مبحوح :
" دي مجموعات يا حضرة المدير ! "
لم يفهم المدير شيئا ، أو فهم وتظاهر بأنه لم يفعل ، لكنه رد مهاجما القلعة علي الفور بغية إسقاطها بضربة واحدة بدلا من الحصار الطويل :
" مجموعات أيه وهباب أيه ! عيالك عاملين دوشة في المدرسة وقالبين دماغ الكل ومحدش عارف يشتغل من هوستهم * "
اتسعت عينا " سناء " دهشة !
لم يعطيها المدير فرصة لإبداء دفاعها الذي كان جاهزا وواضحا ونقيا كماء طهور فهو يعرف أنه لو ناقشها وجادلها فسيظهر جهله هو لا إهمالها هي :
" التخت دي ترجع زي ما كانت .. مش قاعدين في حضانة بنلعب إحنا ! "
همت " سناء " بالكلام لكنه صرخ في الأولاد ظاهريا وفيها هي في الواقع :
" يلا يا واد منك له .. قوم رجع التخت زي ما كانت ! "
نفد صبر المدرسة خاصة مع تحزب التلاميذ بجوارها بعد أن لم يبدي أي منهم أية طاعة لأمر المدير وقالت له بأدب :
" يا حضرة المدير دي اسمها مجموعات ودي حاجة اسمها التعلم النشط .. دي حاجات أتدربنا عليها وواخدينها في أساسيات التدريس الحديثة ! "
" مفيش كلام من ده .. ده مسمهوش تعليم ده اسمه لعب عيال وهزار .. فين كتبك يا واد منك له ؟! "
كانت تلك الخطوة التي توصل إليها عقل المدير القاصر من أجل إثبات أن المدرسة المبتدئة التي تقف أمامه تعطيه محاضرة في أساسيات التعليم وتقارعه الحجة بالحجة مجرد فتاة جاهلة فاشلة تقضي حصصها في اللعب مع العيال بدلا من تعليمهم .. لم يكن هناك كتاب مدرسي واحد علي مناضد الأولاد !
" الله الله .. فين كتب العيال دي يا أبلة ؟! دي حصة أيه دي ؟! "
نظر المدير إلي السبورة فوجد عليها تاريخ اليوم الميلادي والهجري وأسفلهم خط ثم عنوان الحصة ( حساب ) .. إذن فهي حصة حساب وعلي ذلك :
" فين كتب الحساب يا واد وفين كراريسكم ؟! "
لم يكن هناك كتب حساب مطلقا أمام الأولاد ولم يكن علي تختهم سوي كراسات مربعات رسموا فيها أرقاما مزدوجة وكانوا يعكفون علي تلوينها عندما قاطعهم السيد المدير بهجمته العنترية الشجاعة :
" الله الله .. فين الكتب اللي العيال شغالين فيها يا أبلة ؟! "
وجه إلي " سناء " السؤال بقسوة فردت عليه فورا :
" إحنا مش شغالين من الكتب ! "
أرتفع حاجبيه دهشة وهتف :
" هو أنت شغالة علي مزاجك ولا أيه .. مش فيه منهج المفروض تمشي عليه ؟ فين تحضيرك ؟! "
كان المدير يريد أن يري دفتر التحضير الخاص بالمدرسة ، التي يبدو أنها لا تقوم بمهامها كما يجب .. التقطت " سناء " الدفتر وقدمته إليه .. كانت كمدرسة فصل تعلم الأطفال اللغة العربية والحساب والدين للتلاميذ المسلمون .. تناول المدير الدفتر واخذ يقلب فيه وهو لا يكاد يفهم شيئا من طريقة التحضير التي يراها مرقومة أمامه في الصفحات ذات الأحرف السميكة الملونة .. إنه يري عشرات من طرائق التحضير مع مدرسي الفصول ، ومدرسي اللغة العربية والرياضيات والدراسات واللغة الإنجليزية والعلوم والتربية الفنية .. وكل تلك الطرق يجمع بينها كلها في ذهن المدير عامل مشترك واحد فقط .. إنه لا يفهم شيئا منها كلها !
لم يضيع المدير وقتا كثيرا في تقليب الدفتر بل أمر المدرسة الشابة في شيء من الحدة :
" فين تحضير النهاردة .. الحصة دي فين ؟! "
كان يقصد تحضير الدرس المقرر أن تعطيه للتلاميذ هذه الحصة وقد فهمت ذلك فورا فتناولت الدفتر من بين يديه وفرته سريعا حتى وصلت إلي الصفحة المقصودة وعرضتها علي المدير .. كان الدرس المقرر ، فرضيا ، اليوم هو الجمع بإعادة التأسماء!
لم يفهم المدير معني العنوان لكن كل ما كان يعينه هو أن عنوان الدرس ، كما هو واضح ، لا علاقة له بما تفعله المدرسة في الفصل ولا بما تجعل التلاميذ يقومون به !
زعق بغضب :
" فين كراريسكم ؟! "
جاءه بضعة تلاميذ بكراساتهم فنظر إلي الصفحات التي كانوا يعملون عليها فوجد فيها أرقاما ملونة وقص ولصق لكن لا مسائل ألوف ولا 2148+1435 = ....
تغير لون المدير وقال وكأنه أمسك المدرسة متلبسة ببيع المخدرات :
" أيه ده يا أبلة .. تحضيرك في ناحية وأنت شغالة في ناحية تانية خالص .. مماشياش حسب المنهج ليه إن شاء الله ؟! "
كانت تلك فرصة " سناء " لكي تنبري دفاعا عن وجهة نظرها وقد قررت أن تهتبلها ولا تتركها تضيع :
" يا أستاذ " فايز " العيال مش حافظين الأرقام ولا بيعرفوا يقروا فوق العشرين حتى هياخدوا مسائل فيها ميات وألوف إزاي .. مش لازم يبدءوا بالأساسيات الأول ! "
لم تكن تسأله قدر ما كانت تكاشفه بجهله ، وجهل واضعي المناهج الذين سموا المولود مأمون قبل أن يحملوا به أصلا .. لكن الأستاذ " فايز " لم يكن يفقه شيئا من تلك البديهيات المنطقية التي يعرفها كافة خلق الله ولا ينفذ أغلبهم منها شيئا :
" أنا مليش دعوة بالفلسفة دي يا أبلة .. أنا لي منهج ومقرر تشتغلي عليهم وتمشي معاهم غير كده هحولك للتحقيق !"
يا نهار أسود !
تحقيق ولما ؟!
" ليه تحقيق ؟! "
تساءلت " سناء " بوجه ممتقع ، فهي تواجه التهديدات الوظيفية لأول مرة في حياتها .. ولا تعرف أن التهديد بالتحويل للتحقيق في المدارس المصرية نوع من التماحيك وزيادة جرعة الشطة من أجل أن  يسخن الحوار فقط وينتهي كما يريد من يشهر سلاح التحقيق أولا :
" عشان بتخالفي مقتضيات وظيفتك .. أنت وظيفتك أيه هنا .. عقدك اللي مضتيه في الإدارة التعليمية بيقول أنك بتشتغلي أيه ؟! "
طبعا كان السؤال ليس بحاجة إلي إجابة :
 " مدرسة فصل ! "
ردت " سناء " بدهشة غير دارية أن المدير لا يستجوبها بقدر ما يؤنبها ويذمها :
" طيب ومدرسة الفصل دي بتهبب أيه .. بتدي للعيال أيه ؟! "
" عربي وحساب ودين إسلامي ! "
رفع المدير ذراعيه إلي أعلي وكأنه يستمطر السماء وهتف مغتاظا :
" يعني أديك عارفة إنك ملزمة بكتب الوزارة ومناهجها .. ليه بقي تشتغلي من دماغك وتدي العيال حاجات غير اللي المنهج مقررها عليهم ؟! "
امتقع وجه " سناء " رغم أن الثقة كانت تملؤها لعدم تعودها علي الاستجواب الطويل من قبل أحد خاصة لو كان رئيسها في العمل ويملك لها الثواب والعقاب .. أجابت محاولة شرح وجهة نظرها التي كانت صائبة تماما :
" يا أستاذ " فايز " العيال مبيعرفوش يقروا ويكتبوا ولا بيعرفوا يقروا الأرقام الكبيرة ولا يكتبوها .. دول حتى مش حافظين جدول الضرب ! "
بلا مبالاة كاملة رد المدير فورا :
" عنهم ما عرفوا يكتبوا ولا يتنيلوا ! أنت هنا تدرسي اللي الوزارة مقرراه واللي يفهم يفهم واللي ميفهمش عنه ما فهم ولا فلح .. إحنا هنا ملزمين بواجبات محددة .. المنهج والمنهج وبس ! "
كانت وجهة النظر الغريبة هذه قد سمعتها " سناء " مرارا من زملائها وزميلاتها المدرسون والمدرسات لكنها لم تكن تصدق أن هذه النظر الباردة اللامبالية يمكن أن تكون مستقرة في عقل ووجدان أكبر سلطة إدارية في المدرسة .. فإذا كان رب المدرسة بالدف ضارب فهل يلوم أحد المدرسون الذين يعملون تحت إمرته إن هم انغمسوا في وصلة رقص جماعية هستيرية !
كانت تلك صدمة بالنسبة ل" سناء " .. لكن السيد المدير لم يعطيها الفرصة لابتلاعها بل عاجلها بالثانية فورا مسددا إليها ضربة أصابت طموحها وجدها في مقتل :
" أنت تشتغلي زي ما المنهج بيقول وخلاص .. الأسبوع اللي جاي هزور فصلك تاني ولو لقيتك متأخرة عن المنهج هتصل بالموجه بتاعك وهو يشوف شغله معاكي ! "
وضع دفتر تحضيرها علي المنضدة الصغيرة المغطاة بمفرش بلاستيك أحضره الأطفال الفرحون وزينوه بمزهرية صغيرة بها ورود صناعية معطرة ، ثم أتجه نحو باب الفصل وفتحه .. ألقي نظرة أخري علي السبورة ووجوه الأطفال القلقة ، وإن كان أغلبهم لا يدركون ما يحدث بالضبط بحكم سنهم الصغير ، ثم قال مهددا متوعدا بلهجة صارمة :
" التخت دي ترجع مكانها دلوقتي .. هبعتلك واحد من العمال عشان يشيلك التخت والمقاعد ! "

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...