طبيب أمريكي، ينتقل إلي لندن برفقة زوجته الممثلة
المسرحية، وبعد فترة تختفي الزوجة، وتظهر بدلا منها عشيقة في مسكن الطبيب، الجميع
يشكون والأدلة تحاصر الطبيب، ثم يجدون جزء من جثة زوجته الممزقة في قبو منزله، دفن
غير بارع ومحاولة فاشلة لإخفاء رائحة التحلل، ثم هروب عبر المحيط، لكن العدالة
تطارده، وتقبض عليه، ويتدلى دكتور " هاولي هارفي كريبن " من حبل
المشنقة، جزاء وفاقا وحكم مستحق، عدالة تحققت .. أم أن هناك خدعة أكبر من الجميع
.. خدعة فشل أكبر عقل جنائي في التاريخ في اكتشافها، ولم تظهر الحقيقة إلا بعد
مائة عام .. حقيقة مرعبة وغريبة ولا يمكن أن يصدقها أحد ؟!
...
بدأت القضية المثيرة عام 1894م حين تزوج طبيب أمريكي
يدعي " هاولي كريبن " للمرة الثانية، بعد وفاة زوجته الأولي وأم ابنه،
من ممثلة مسرحية اسم شهرتها هو " كورا "، وعاشا معا في نيويورك، وكانت
الزوجة تعمل في المسارح باسم مستعار هو " بيل إلمور"، وبعد ثلاثة أعوام
انتقل الزوجان إلي انجلترا، وعاشا في لندن، في عام 1900 تعرف كريبن بفتاة اسمها
" أيثل لينيف" وجعلها سكرتيرته، ويبدو أن الطبيب ومساعدته ارتبطا بعلاقة
عاطفية، غير أن علاقتهما لم تشتهر قبل عام 1905م، وفي نفس العام أنتقل "
كريبن " وزوجته إلي منزل يقع في شارع ( هيلدروب كريسنت ) في لندن، ولأنهما
كانا يمران بضائقة مالية فقد حولا منزلهما إلي بنسيون، لكن وبعد خمسة أعوام أخري اختفت
الزوجة " كورا " تماما عن الأنظار، آخر مرة ظهرت فيها " كورا
كريبن" كان في حفل في ليلة 31 يناير عام 1910، وفي اليوم التالي لم يجد أحد
لها أثرا .
بدأ أصدقاء الزوجة يسألون عنها، فأخبرهم " كريبن
" أنها عادت إلي أمريكا، ثم زعم أنها ماتت هناك وجثمانها تم حرقه في
كاليفورنيا، قصة غريبة وغير مقنعة، وزادت الشكوك بعد أن تركت " إيثل "،
سكرتيرة الدكتور، بيتها وذهبت لتعيش معه، ثم بدأت السكرتيرة تذهب إلي الحفلات
برفقة " كريبن " وهي ترتدي مجوهرات وملابس زوجته " كورا" !
أمر غبي وملفت جدا للأنظار، بعدها بدأ أصدقاء "
كورا " يوصلون شكوكهم للشرطة، وأهتم بوليس لندن، فأرسلوا محققا إلي منزل
" كريبن"، وهناك سمع المحقق منه نفس القصة : كورا عادت إلي أمريكا وماتت
هناك، لكن أحدا لم يصدق القصة، وفي زيارة المحقق الثانية لمنزله غير دكتور "
كريبن " قصته عن اختفاء زوجته، أدعي أن " كورا " سافرت إلي أمريكا
فعلا، لكن بصحبة عشيق لها، أحد زملاءها الممثلين، وأنها خانت زوجها وهجرته، كانت
القصة مقنعة، ولزيادة التأكيد سمح الطبيب للمحقق بتفتيش المنزل، ولم يجد هذا شيئا
مريبا فغادر البيت راضيا ومقتنعا بقصة " كريبن "، لكن ما حدث بعد ذلك
كان غريبا جدا، فقد رجع نفس المحقق إلي البيت مرة ثالثة، وكان سبب الزيارة هذه
المرة هو ضغوط أصدقاء " كورا" المتواصلة على شرطة سكوتلنديارد، لكن
حينما وصل المحقق " والتر ديو " إلي البيت وجده خاليا، دكتور "
كريبن" وعشيقته أخذوا متعلقاتهم وهربوا .. لكن لماذا هربوا إذا كان كل شيء ما
يرام، وكان دكتور " كريبن" بريئا ؟
تصرف مريب جدا، وفورا بدأت الشرطة تفتش البيت، من أعلاه
إلي أسفله، لم يتركوا ركنا ولا شبرا إلا قلبوه، حتى قبو تخزين الفحم نقبوا أرضيته،
وبمجرد أن فعلوا ذلك انتشرت رائحة كريهة وبشعة .. رائحة تعفن عضوية !
في حفرة وجدوا أشياء كلها أغرب من بعضها، كمية من
الليمون المقطع، وملابس داخلية رجالية ملفوف داخلها شيء، قطعة من جسم بشري، جذع،
بدون رأس ولا أطراف ولا هيكل عظمي ولا وجه يمكن التعرف من خلاله على شخصية صاحب
الجثة !
وفورا أعتبر دكتور " كريبن" متهما، وبدأت
الشرطة مطاردته، أما هو فقد كان في المحيط الآن، هرب من لندن مع " إيثل"
إلي بروكسيل في بلجيكا، ثم ركبا سفينة متجهة إلي كندا، كان الرجل وشك على أن يفلت
من قبضة البوليس، فلو وصل إلي كندا فلن يمكن القبض عليه أو تتبعه هناك، لكن
البوليس الإنجليزي كان مصرا على الإمساك بالطبيب
وعشيقته، الأمور الغريبة والمدهشة في هذه القصة لا نهاية لها، ومنها سبب
القبض على " كريبن"، فقد تخفت صديقته " إيثل" في شكل صبي وهما
فوق السفينة، حتى لا يعرف أحد أنهما رجل وامرأة، لكن الفتاة لم تتقن سلوك الرجال
فشك قائد السفينة فيها، الأغرب أن إصرار " كريبن" على الركوب في الدرجة
الأولي أحد أسباب القبض عليه، فلو ركب هو و" إيثل" الدرجة الثالثة، التي
تقع خارج نطاق تجول القبطان لكان من الممكن أن يفلتا، ويصلا إلي كندا سالمين، أرسل
القبطان برقية إلي لندن بشكوكه، وتلقت الشرطة هنا الإشعار، فركب المحقق "
والتر ديو" سفينة أسرع من سفينة " كريبن"، ووصل قبله إلي الميناء
الذي حدده القبطان الذكي اللماح، لذلك ما أن وضع " كريبن" قدمه في كيبيك
الكندية حتى وجد " ديو" في انتظاره، فقيد يديه ووضعه على سفينة أخري
أعادته هو وصديقته إلي لندن، مرة أخري ساهم غباء " كريبن" في سرعة سقوطه،
فقد كان من الأسلم له أن يسافر إلي امريكا، بدلا من كندا التي كانت لا تزال جزء من
الإمبراطورية البريطانية وخاضعة للقانون الإنجليزي .
إعادة " كريبن " و" إيثل" إلي لندن
قوبلت باهتمام من الصحف والجمهور، تحولت محاكمة " كريبن" إلي حدث شعبي
وكان الناس يحجزون أماكن في محكمة أولد بيلي لرؤية الطبيب القاتل وشريكته.
الجذع البشري الذي وجدوه في قبو بيت " كريبن"
قام بفحصه أشهر متخصص في علم الأمراض في التاريخ، وأبو الطب الشرعي الحديث دكتور
" برنارد سبيلسبري"، وثبت من نتائج التشريح أن صاحب الجذع تعاطي كمية
كبيرة من سم ( سكوبولامين)، وكان بالجذع علامة على أن صاحبه أجري جراحة في البطن،
لاحظ أننا نقول ( صاحب) الجذع وليس ( صاحبته)، لأن دكتور " سبيلسبري"
أعلن بوضوح أن الجذع لا يمكن من خلاله تحديد جنس الضحية، إن كان رجلا أو امرأة على
نحو مؤكد .
لكن كل ذلك كان يربط " كريبن" بالجريمة رغم
ذلك، فالسم أشتري " كريبن" كمية منه قبل اختفاء زوجته " كورا"، وذلك بشهادة الصيدلي الذي
باع له السم، كما أن أثر العملية الجراحية يتفق مع تاريخ " كورا كريبن "
الطبي، لأنها أجرت عملية في المبيض منذ سنوات .
رغم ذلك أصر دفاع " كريبن" على براءته، وأن
زوجته لم تقتل بل هربت إلي أمريكا، وأن الرفات التي وجدوها في القبو ترجع إلي
الوقت الذي كان مستأجر سابق يعيش في المنزل، قبل أن ينتقل " كريبن "
و" كورا " إليه، كانت هناك محاولات أخري لإثبات براءة "
كريبن" لكن دكتور " سبيلسبري" وقف عقبة في طريق قبول المحكمة لهذه
الدفوع، لأنه كلما جاء دفاع الطبيب القاتل بحجة أفشلها وأثبت كذبها، في النهاية
أطمأنت هيئة المحلفين إلي جرم " كريبن" وكفاية الأدلة ضده، فتم تجريمه
وحكم عليه بالإعدام، وتدلي دكتور " هاولي هارفي كريبن " من حبل المشنقة
يوم 23 نوفمبر عام 1910 في سجن بينتونفيل في لندن، أما عشيقته " إيثل " فاعتبرت
بريئة ولم يحكم عليها بأي عقوبات !
لكن هل انتهت القضية إلي هذا الحد، و" كريبن"
مجرم مدان والجرم ثابت عليه ؟!
الحقيقة أن التطورات العلمية تأتي دائما لتقلب الأمور
رأسا على عقب، وتحول كل الأشياء المؤكدة إلي أمور مشكوك فيها، وربما تثبت كذبها
وتلفقيها من الأساس، ووفقا للتطور العلمي الكبير في مجال الطب الشرعي والعلوم
الجنائية نقول أن دكتور " كريبن" ربما يكون بريئا، أو على الأقل فربما
يكون قد قتل شخصا أخر غير زوجته " كورا"، وأكثر من كل ذلك فربما تكون "
كورا كريبن " لم تقتل أصلا !
مفاجأة مذهلة أليس كذلك لكن كيف أكتشف العلماء هذه
الحقيقة الغريبة جدا ؟!
حتى بعد مائة عام من شنقه كان الناس يهتمون بقضية دكتور
" كريبن" ويتساءلون حول النقاط الغامضة فيها، فمثلا هل من المعقول أن
يتخلص " كريبن" من رأس وأطراف وعظام زوجته، بعد أن يقتلها، ثم يدفن
الجذع في قبو منزله، وهل معقول أن طبيب لا يعرف أن ثمار الليمون ليست كافية لإخفاء
رائحة التعفن وللتسريع بعملية التحلل الطبيعية، ثم هناك أمر آخر فما سبب تجرؤ
" كريبن" على تقديم مجوهرات وملابس زوجته إلي عشيقته، والسماح لها
باستخدامها علنا، على الأقل كان الرجل سيأخذ جانب الحذر في حالة كونه قتل زوجته
فعلا !
لكن كل هذه كانت تكهنات وافتراضات فقط، حتى تدخل العلم
بهيبته ليقلب قضية حدثت منذ مائة عام رأسا على عقب، ففي عام 2007م، تتبع علماء
الأنساب في جامعة ميتشيجن بعض أقارب " كورا كريبن" الأحياء، أخذوا منهم
عينات حمض نووي، وطابقوها بالنسيج المحفوظ من جذع القبو الشهير، وكانت النتيجة
مفاجئة .. لا علاقة إطلاقا بين بقايا الجثة وعائلة " كورا " !
تريدون مفاجأة أعظم وأكثر إثارة للدهشة، حسنا لقد ثبت أن
الجذع البشري يحتوي على كروموسوم واي .. إنه جذع رجل وليس امرأة من الأساس !
الجذع في قبو " كريبن" لرجل وليس لامرأة، إنها
ليست بقايا " كورا كريبن" على الإطلاق .. لكن بقايا جثة من هذه يا تري
.. وأين ذهبت الزوجة المفقودة عام 1910م ؟!
السؤال الأول يصعب جدا إيجاد الإجابة عليه، لكن بعض كتاب
الجريمة اقترحوا أن الجثة قد تكون لمريض مات أثناء قيام دكتور " كريبن"
بإجراء جراحة له، وكان الطبيب معروف فعلا بأنه غير ماهر في عمله، وللتخلص من
المسئولية قطع " كريبن" الجثة وتخلص من بقاياها، ثم دفن الجذع في قبو
منزله، آملا أن يتحلل ويختفي من الوجود، لكن حل أخر ظهر ليفسر وجود هذه البقايا في
بيت " كريبن"، فمن المعروف أن الدكتور كان يجري جراحات غير مشروعة، منها
إجهاض النساء بشكل غير قانوني، في زمن كان الإجهاض محرم ومجرم فيه، فربما تكون جثة
القبو لامرأة ماتت بين يدي " كريبن" وهو يقوم بإجهاضها، أو ربما رجل عرف
بسره وهدده، فقتله " كريبن " بالسم ودفن بقاياه في قبو منزله !
لكن في الحالات يبقي السؤال الأهم : إذا كانت "
كورا كريبن" لم تقتل على يدي زوجها فأين ذهبت بالضبط ؟!
النظرية الأكثر إثارة للدهشة هي أن " كورا"
ربما لم تمت في لندن على الإطلاق، فأثناء فحص ملفات القضية القديمة ظهرت حقيقية
غريبة ومريبة، ففي نفس العام الذي اختفت فيه " كورا" وتم اعتبارها ضحية
جريمة قتل، دخلت إلي أمريكا امرأة مجهولة، كانت آتية من جزر برمودا، واستقرت في
نيويورك، والغريبة أنها بدأت تعمل في التمثيل في المسارح تحت اسم مستعار هو "
بيل روز"، وأنها عاشت في منزل واحد مع سيدة أخري، المدهش أن اسم المرأة
الغريبة يشبه اسم شهرة " كورا كريبن" في لندن جدا، أما شريكتها في السكن
فلم تكن سوي شقيقة " كورا " نفسها !
فهل هذه كلها مصادفات، هل هذه المرأة الغامضة صديقة أو
احدي معارف " كورا كريبن" السابقين، أم أنها " كورا" نفسها
بشحمها ولحمها ؟!
التفسير الوحيد الذي يجعل دكتور " كريبن"
بريئا تماما في هذه القضية هو أن زوجته دبرت مؤامرة للهروب منه وتوريطه في قضية
قتل زائفة، وأن جذع الرجل المدفون في قبو منزله ربما تكون هي من قامت بدفنه،
وحدها، أو بمساعدة أحد عشاقها الكثيرين !
ستبقي قضية " هاولي هارفي كريبن " غير محلولة
بشكل كامل، وستظل هناك كثير من الشكوك والأدلة الغامضة والمريبة، لكن في النهاية
فإن دكتور " كريبن" إما أن يكون مجرم غبي وسيء الحظ .. أو أنه ضحية
مؤامرة وخطة انتقام عبقرية دبرتها امرأة عاشت عمرها كله تقوم بتأدية الأدوار على
المسرح .. وربما يكون مقتلها هو مسرحية أخري .. أعظم مسرحية أدتها في حياتها كلها
!
تعليقات
إرسال تعليق