التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحلقة الخامسة .

 


حضر الكاهن العجوز وحصن الصبي بدعوات وصلوات حافظة وحمي البيت والمزرعة ببركة الكنيسة وفرض عليها حماية الإله القوي الذي لا ينام ولا يغفل عن شيء .. ثم قدم نصيحة طيبة حينما روت له سيدة المقاطعة كل شيء .. إنه ينصح بدفن الأختين معا تحت بناء مصمت تتلي عليه الصلوات ويحاط بدروع الحماية الكنسية لئلا تهيم أرواحهن بعيدا وتقلق سلام الأحياء ثانية !
كانت " لوتشيا " قد دفنت في مقبرة صغيرة بعيدا عن مقابر آل " دوريا " ومن السهل العثور علي جسدها واستخراجه لتنفيذ نصيحة الكاهن .. لكن ماذا عن " إليزابيث " ؟!
أين دفنت الأخت الثانية ومن الذي تولي عملية دفنها ؟!
لم تكن لدي الدوريات أي معلومات بذلك الشأن .. لكن وصية الكاهن تأمر بالجمع بين الأختين في قبر واحد لتستقر أرواحهما برغم أنه لا أحد يعرف ل" إليزابيث " ، التي ماتت خارج حمي الأسرة ودفنت بعيدا ، عنوان أو موضع مقبرة !
كان هذا لغزا غامضا في حد ذاته .. ففعلا إذا كانت خالة " تيموثي " بلا زوج ولا أبناء ولا أهل ولا عائلة لها سوي أختها ، التي سبقتها إلي القبر ، فمن الذي تولي عملية دفنها إذن وأيضا أستقر جسدها في راحته النهائية ؟!
فكرت النسوة كثيرا ثم جاءت الفكرة الخاطفة ، كلمحة نور تبدد الظلام فجأة ، إلي رأس " دريدا " .. لابد أن الصبي يعرف !
إنه لم يشهد موت خالته ولا دفنها .. لكن لابد أنه يعرف أين دفنت ومن الذي قام بمواراتها التراب !
إذن فلابد من استجواب الفتي .. لكن هل سيفصح الولد عن سره وسر خالته لأخواته المخيفات ؟!
سيشهد أسوأ لحظات حياته إن لم يفعل .. أو أن حاول أن يراوغ ويزوغ من الإجابة !
...
بقيت يومين في الفراش ثم نهضت منه مستندة إلي اثنتين من أخواتها هزيلة وخائرة القوي وشاحبة مضعضعة حتى الموت .. 
لم تكن تأكل سوي قليل من الخبز وقليل من القهوة فأصابها الضعف والهزال وفقدت وزنا بدا هائلا بالنسبة لحجمها النحيف الضئيل خلال يومين فحسب .. لكن الحقيقة فإن المرض لم يكن هو سبب ما ألم بالأخت الكبرى ، فالوصية المتحكمة لم تنم ساعة واحدة خلال هذين اليومين وعانت من كوابيس متكررة .. كوابيس جاثمة ضاغطة مخيفة ترعش أوصالها وتسبب لها الهلوسة والهذيان .. دارت كل تلك الكوابيس حول " والي " !
من ناحيته بقي الحصان الفارة المدلل حبيس إسطبله خلال اليومان المنصرمان برفقة رفيقه " إيمرت " ولم يسمح له بالتجول حول المزرعة والحديقة أوفي داخل المرعي العشبي المخصص لركض الخيول وتريضها وتدريبها .. لكن " أنطوان " حرص ، رغم تنبيه " جرانفيل " الحازم الصارم عليه ، أن يأخذ الحصان ويمشيه قليلا حول الإسطبل كما قدم له دفعة كبيرة من الأعشاب ليعوضه عن حبسه المؤقت ..
كان الفتي يعلم أنهم لو ضبطوه متلبسا بخرق نظام المزرعة وتعليمات سيد الإسطبل فسيكون مصيره الطرد من عمله والرمي خارج القصر .. لكنه لم يعد يبالي .. فقد صار يري نفسه مسئولا ، كأب أو كمالك رقبة ، عن الحصان المسكين الجميل الذي يقبع خلفه سر دفين مخيف !
في الصباح فوجئ الجميع بالسيدة تتساند علي أختها ووصيفتها وتذهب مباشرة إلي الإسطبل الصغير لتلقي نظرة علي " والي " !
بوغت الجميع بطلبها هذا وحذروها من سلوك الحيوان نحوها وإمكان إقدامه علي مهاجمتها مرة أخري . لكن " دوروثيا " لم تبالي بكلمة مما قالوها مع أنهم كانوا علي صواب تماما في كل ما قالوه .. ساعدوها علي الوصول إلي حيث شاءت حيث تفاجأ " أنطوان " بظهورها .. رمقت الفتي الصغير بنظرة غريبة من أسفل حاجبيها الرفيعين وعيونها القادحة ذات النظرات الحادة .. ثم أدركت كل شيء !
إن هذا الفتي لم يعد ينفذ التعليمات المعطاة له .. إن الشاب الصغير عشق " والي " وأحبه ، مثلما عشقته هي وأحبته وطالما أحبته منذ أن رزقت به ، وصار مقربا من الحيوان الجميل الحزين .. لقد رأي الفتي وعرف شيئا لذلك فقد صار مؤهلا ليسمع القصة كاملة !
لقد تعبت من إخفاء سرها علي الآخرين وتحلم بأن تبوح بكل شيء .. لتلقي بكل هذا العبء وتزيحه عن صدرها .. ليسمع شخص واحد علي الأقل في ذلك العالم قصتها ويدرك براءتها !
الجميع يلومونها ويؤمنون سرا أنها مجرمة آثمة .. حتى وإن كان بعضهم يلتمس لها عذرا ويحسب أنه لم يكن أمامها سوي فعل ما فعلته فعلا !
حتى أخواتها يشاركن الآخرين رأيهم بها .. بل إنها تري نظرات التوقير الممزوجة بالخوف الدفين غير المعلن في قعر عيون شقيقاتها وهن ينظرن إليها .. إنهن يوقرنها لأنها أختهن الكبرى والوصية عليهن .. وأيضا لأنها ، من أجلهن ، أقدمت علي فعل شنيع .. لطخت يداها بدم طفل صغير !
كلهن كن يؤمن بذلك حتى " ديميلزا " التي تحوم حولها هي نفسها شكوك قوية في موت " لوتشيا " وأختها " إليزابيث " الغامض .. من جانبها صمتت " دوروثيا " ولاذت بالسكوت .. لم تدافع عن نفسها لأن دفع التهمة عن نفسها كان يعني وضع رقبة كائن عزيز عليها في طوق القطع .. " والي " !
هب الجواد واقفا حينما رأي سيدته تدلف إلي الإسطبل .. حمحم ثم صهل عاليا فألتفت " أنطوان " خلفه مروعا .. ضرب الرعب قلبه حينما وجه تلك المرأة الصلبة القاسية التي لا تعرف الرحمة .. المرأة التي دفنت طفلا حيا في المستنقع !
كان هذا هو الظن الذي تكرس في ضمير السائس الصغير .. لم يكن يعرف قصة الأخ الصغير " تيموثي " ولا الولاية الغير شرعية والموت الغامض ولا شيء من هذا .. لكنه رأي بعينيه شبح طفل يسكن المستنقع القذر المظلم .. طفل جميل لا يعرف عنه أي شيء .. لكنه رآه ورأي " والي " يخرجه من هناك .. ويعرف شيئا واحدا .. أن الحيوان يعرف أن السيدة القبيحة الكريهة هي قاتلة الغلام لذلك يمقتها ويريد الفتك بها !
في الظاهر كان تفسير الفتي صائبا مائة في المائة .. لكن الحقيقة لم يكن يعلمها سوي الله وحده ثم " دوروثيا " !
دخلت الإسطبل بخطوات ضعيفة خائرة ثم طلبت من الفتي بهدوء أن يغادر المكان ويتركها بمفردها مع جواديها .. نهض الفتي وواجهها بقوة ثم أعلن رفضه لطلب سيدته !
قال لها مظهرا خوفه عليها :
" سيفتك بك يا سيدتي ! "
نظرته المرأة برقة وأحست أن تحت جلد هذا الفتي ، الخادم المراهق ، يوجد قلب كبير نابض .. قلب يمكنها أن تأمن إليه وتركن وتبوح إليه بشيء مما تخفيه عن الجميع !
أمره " جرانفيل " بأن ينفذ أوامر السيدة فأبي مرة أخري .. صاح بوجهها تلك المرة غير هياب لها ولا لسلطتها المستندة إلي أموالها وتحكمها في لقمة عيشه :
" لا لن أتركك معه بمفردك .. تريدين التخلص منه أليس كذلك ؟! لأنه الشاهد الوحيد علي جريمتك ! "
نهره " جرانفيل " وجاء " جوديفا " علي صوت الصراخ وحاول أن يفهم ما الذي يدور هنا لكنه لم يسمع سوي صراخا وحشيا من رئيس الإسطبل موجها إلي الفتي المستخدم الجديد :
" أنتهر أيها الغلام الحقير .. ونفذ أوامر سيدتك ! "
ذهب " أنطوان " فورا إلي حيث يقف " والي " متوترا متأهبا .. تعلق بعنقه فألتصق به الحيوان وكأنه يطلب منه الحماية ..
عندئذ حدث شيء غريب كان أشد وقعا علي الحاضرين من حدوث ظاهرة كونية مفاجئة .. فلقد ابتسمت السيدة راضية ورفعت الشال عن كتفيها ثم مررته إلي وصيفتها .. مشت ببطء نحو الغلام والحصان اللذان اندمجا في كتلة واحدة لم يعد من الممكن تمييز الإنسان فيها من الحيوان وقالت ببطء وحنان غريب عليها :
" فلتبق إذن .. يا فتاي ! "
بهت جميع من يحيطون بها وتوجه " جوديفا " نحو " أنطوان " وعلي وجهه علامات الغضب الشديد وخيبة الأمل .. إنه هو من أقترح توظيف ذلك الغلام هنا وسيتحمل وزره الآن وسيتلقى اللوم وربما الطرد من عمله جراء التوصية باستخدام ولد أرعن قليل الأدب !
لكن السيدة تقدمت لتحمي " أنطوان " أمرت " جوديفا " بحسم أن يبتعد عنه وعن الجواد ثم أمرتهم للمرة الثانية بالخروج جميعا ..
نظر إليها الفتي متحيرا وربما مذعورا .. حمحم الحصان ثانية حينما بدأت السيدة تتجه نحوه ببطء .. تعالي صوت الحصان معلنا رفضه أو قبوله لكن " أنطوان " لم يفهمه تلك المرة .. وهذه أول مرة يجد الفتي نفسه عاجزا عن تفهم معني أصوات الحيوان الأعجم المحبب إلي قلبه !
أقتربت السيدة أكثر فتوتر " والي " إلي الحد الأقصى .. وكذلك توتر الفتي لأنه خشي أن يقوم الحصان بالهجوم علي السيدة مرة أخري مثلما فعلها من قبل .. وهو وحده معها الآن وأي ضرر سيلحق بها سيكون هو المسئول عنه .. مد " أنطوان " يديه وأحكم لف عنان الجواد حول ذراعه ليتمكن من السيطرة عليه في اللحظة المناسبة إن ثار وهاج ..
لكن " والي " كان هادئا تماما تلك المرة .. هناك سر هنا ولغز كامن لا يفهمه الفتي .. لم يعد الفتي قادرا علي فهمه بعد !
لكن السيدة كانت تعرف جيدا ما تفعل .. ليس عليها إلا أن تلمسه .. أن تقترب منها نافية عن نفسها التهمة البشعة .. تهمة التخلي عن جوادها المحبب المفضل بعد أن أزهق روحا من أجلها !
أخيرا صارت أمامه .. توتر وحمحم وظهرت نظرة حمراء شريرة في عينيه .. خاف " أنطوان " فجأة وشد العنان بقوة لكن السيدة تقدمت أكثر .. أمسكت بيد الغلام وسحبت المقود من حول يده وأمسكته بقوة في يدها .. هجع الحصان فجأة وحل عليه الهدوء ..
تقدمت حتى لامست يدها عنق الحيوان المكتنز الضخم .. هنا وفجأة مد " والي " رقبته إلي الأمام .. قبلت السيدة مقدمة أنفه ثم بدأت تبكي !
الآن صار " أنطوان " لا يفهم شيئا .. حقيقة لم يعد يفهم أي شيء !
أخيرا تكلمت السيدة المتحكمة .. بنبرة خافتة متألمة وبصوت غريب مختنق بعض الشيء حادثت الفتي قائلة :
" أنت رأيت شيئا يا " أنطوان " .. رأيت وعرفت أليس كذلك .. ما الذي تظنه عني ؟! "
كانت تلك أول تحادث الفتي حديثا قريبا هكذا بعيدا عن سلطتها كسيدة القصر والمتصرفة في أقدار جميع من فيه .. تلعثم الفتي خوفا وفرقا ثم أجاب أخيرا بشجاعة واتته فجأة :
" لقد قتلت هذا الطفل .. الطفل الميت في المستنقع ! "
بشجاعة واجهها معلنا رأيه فيها بصراحة .. فابتسمت !
شدت شفتيها الرفيعتين مظهرة ابتسامة مخيفة حقا لكنها تكلمت بصوت بدا محملا بالصدق والإخلاص وربما الحنان كذلك :
" الكل يعتقدون هذا حتى أنا بدأت أعتقد أنهم علي حق .. شككت في نفسي لولا وجود شاهد عدل يعلم جيدا أنني بريئة من تلك التهمة .. لم أقتل أخي الصغير رغم أنه مات أمام عيني قتيلا ! "
حدجها الفتي بدهشة .. إنها تعترف بالقتل وتنفي التهمة عن نفسها في نفس الوقت !
أخاها .. إنه لم يكن يعرف أن الفتي في المستنقع أخ للدوريات لكن هذا يفسر كلمات الرجل الشبح الغامضة :
" الولد من دم دوريا يرقد ميتا في المستنقع ! "
إذن الولد في المستنقع هو أخو السيدة .. لكن كيف أنتهي به الحال هناك ؟!
كانت السيدة تشعر بالسوء حقا وكان لديها قدرا هائلا من الضعف والخور والخوف والفزع والرغبة في الاعتراف .. لم تقل كلمة مما ستفوه به الآن لأي مخلوق لكن ها قد حان حين الاعتراف وإنزال الحمل الثقيل من فوق كاهلها الضعيف المرزوء !
ستخبر الفتي بكل شيء وهي تعرف أنه لن يبوح بكلمة منه لأحد .. ستكون مطمئنة علي " والي " معه وهذا هو كل ما يهمها الآن !
ابتسمت له مرة أخري ابتسامة شاحبة .. أجفل الغلام وخافها فجأة فأبتعد عنها وأنزوي في الركن .. قالت السيدة أخيرا :
" أنت عرفت شيئا وخفيت عنك أشياء .. تظن أنني قاتلة أخي ؟! لا لم يحدث هذا وحبا في الله صدق كل كلمة سأقولها .. لقد سئمت كل هذا ! أتعرف الحقيقة ؟! أنت رأيت شيئا وبقيت أشياء أخري لتعرفها .. نعم أخي الصغير قُتل وأمام عيني .. لكنني لست قاتلته ! لكن ها هنا ، مع ذلك ، يوجد قاتله .. أمامي وأمامك ! "
تحول " أنطوان " بفزع لينظر خلفه فوقعت عيناه علي السيدة و" والي " ملتصقا بها بطريقة حميمية للغاية .. تفرس في وجه الحصان ثم أنصرف تماما إلي التطلع إلي عيناه الغامقتان القويتان .. ضرب الرعب قلب الفتي فقد بدأ أخيرا يفهم كل شيء
...
إنها هنا الآن وستخر معترفة بكل شيء وسيفهم كل ما يدور حوله .. إنه يتمني ذلك علي الأقل لكنه لم يكن واثقا أن أمنيته ستتحقق ! 
رغم التعب والهزال الذي كانت تعانيه إلا أن السيدة تكلمت بصوت قوي ظهرت فيه كما يجب أن تكون .. وصية كبيرة متصرفة متحكمة لا يهزها شيء .. بقي " والي " ملاصقا لها وهذا أكثر ما أثار دهشة " أنطوان " وريبته .. لقد كان هذا الحيوان يحاول الفتك بها منذ يومان وهو الآن لا يريد أن يبتعد عنها قيد خطوة واحدة !
ما الذي يحدث هنا .. أخيرا بدأت السيدة تتكلم وتفصح عن كل شيء :
" لقد كان لنا أخ صغير ظهر في حياتنا فجأة لكن تلك قصة لا أهمية لها .. ظهور هذا الطفل سيظل دائما مسمار في نعش أخوتنا وفي سبيل توحدنا كأخوات مترابطات كما كنا منذ بضع سنوات .. إننا نتبادل الشكوك والاتهامات الصامتة كما نتبادل الابتسامات المداهنة .. لكنني أنا ، وبصفتي أكبر الأخوات وأكثرهن تعاسة ، كان يجب أن أنال حظ الأسد من الشكوك .. أنت رأيت المرأة التي تجول في حديقة القصر ليلا ؟! "
كانت تسأله فهز " أنطوان " رأسه فورا مظهرا إجابته الواضحة التي لا لبس فيها .. نعم رأيتها !
أكملت كلامها قائلة فورا :
" إنها " لوتشيا " والدة " تيموثي " أخي الصغير .. الفتي الذي أرشدك " والي " إلي حيث يستقر في المستنقع ! "
بهت " أنطوان " فلم يكن قد روي لأحد تجربته في المستنقع في تلك الليلة الرهيبة .. حينما استدعاه الحصان بحمحمته أمام بابه وحمله علي الذهاب خلفه ليري ما رأي ويسمع ما سمع !
لكن كيف عرفت السيدة بذلك الأمر ؟!
لم تدعه في حيرته طويلا بل أجابت علي سؤاله الذي لم يسأله فورا :
" أنا أعرف أنه فعل .. فقد أحبك ! أحبك مثلما أحبني سابقا وأنا أعرف جوادي العزيز حينما يحب أحدا .. أنا أعرفه فقد ربيته علي يدي وسقيته من روحي .. إنني عانس عجوز ولا أولاد لي .. لكن " والي " هو صغيري وأنا أعرف صغيري مثل أي أم يا " أنطوان " ! "
لم يستطع الفتي أن يمسك نفسه فسألها فورا متعجبا :
" إذن لماذا أراد قتلك .. لماذا هاجمك بضراوة وشراسة ؟! "
ابتسمت له بود .. سرها أنه مهتم وانه يريد أن يعرف .. يريد أن يعرف فعلا ولا يظهر لها رغبة معرفة سببها نفاق المستخدم لمخدومته .. هتفت مجلية الغامض الذي أمضه كثيرا التفكير فيه :
" إنه لم يكن يريد قتلي .. كان يريد أن يعاقبني ! إنه يعتقد أنني تخليت عنه .. تركته بعد أن فعل من أجلي ما لم يجرؤ مخلوق من نوعه علي فعله ! "
أشتعل فضوله الآن وكاد يصرخ فيها متوسلا أن توضح له كل شيء .. لكنها كانت آتية أصلا لتحكي كل شيء ولم يكن هناك عندها نية لإخفاء أي شيء :
" سأحكي لك يا طفلي .. سأروي لك ما لم أحكه لأحد من قبل .. لكنني أطلب الحصول علي وعد قبل كل شيء ! "
سألها مرتابا :
" وعد ؟! "
ابتسمت له ثانية مطمئنة وهتفت :
" نعم وعد .. عدني بأن ترعي " والي " في حياتي أو موتي وألا تبوح بسر يؤدي لتعرضه للخطر مهما حدث ومهما ضغطوا عليك ! "
لم يكن بحاجة إلي ضغط ليفعل فهو قد صار يعتبر نفسه مسئولا عن " والي " فعلا وليس بحاجة إلي من يطلب منه ذلك .. رد فورا :
" نعم أعدك .. سأرعاه بحياتي وسأدفع عنه كل شر وكل خطر وسأحميه بآخر رمق لدي من حياة وقوة ! "
تنهدت السيدة براحة كبيرة وبدا أنها استردت جزأ كبيرا من لونها الطبيعي ومن صحتها بمجرد أن سمعت طمأنة الفتي الصادقة الحارة لها .. قالت فورا ببسمة حزن :
" لقد وعدتني وأنا أصدقك .. وأثق بك .. إذن فلتعلم أن " والي " هو قاتل أخي الصغير ! "
بهت الفتي .. بهت حقا وشحب لونه وتراجع إلي الخلف وشعر كأن يدا غليظة هوت بضربة علي رأسه فكادت تفلقها نصفين !
تكلم فورا دون ترتيب ودون أن يشعر بخطورة ما يقوله :
" أنت كاذبة .. أيتها السيدة أنت تكذبين ! "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...