عندما كان " سميي فندان " يعبر تلك الأرض
القاحلة بمفرده وقعت تلك الحادثة البسيطة .. لقد رأي ذنبا !
لم يثر هذا الأمر أي مخاوف لدي السيد " فندان
" المسن الذي شاهد مئات ، بل آلاف ، الذئاب من كافة الأحجام والأشكال
والفصائل طوال تجواله في عرض فرنسا وطولها في تلك الأزمنة القاحلة .. إنه يعمل
مزارعا وراعيا للغنم وتاجرا للمحاصيل وسمسارا للأراضي والعقارات إن وجدت ..
ورجل متعدد الأعمال متعدد المواهب رأي ما رأي من أخطار
طوال عمره المديد لن يخاف من مجرد ذئب متوحش صغير كهذا !
لكنه فيما يبدو لم يكن ذنبا صغيرا .. وإن كان متوحشا
بالفعل .. متوحشا أكثر مما ينبغي حتى وإن لم يكن ذنبا حقيقيا على الإطلاق !
كان ظل الذئب وحدوده الخارجية ظاهرة من أعلى التبة
الرملية الصغيرة المظلمة .. وصوته المخيف يندفع مولولا في عواء متصل شاكي مخيف ..
عواء أكبر وأقوي مما ينبغي لذئب صغير .. لكنه وبمجرد أن أقترب من دائرة الضوء التي
يصنعها القمر على الرمال والأعشاب القليلة المتناثرة حتى شهق " فندان "
بفزع وهمس راجيا إلهه بتوسل :
" يا إلهي الرحيم .. يا إلهي الرحيم ! "
ذلك أن هذا الذئب كان أكبر واحدا من جنسه رآه طوال ستين
عاما من عمره ..
شهق الرجل فزعا لكنه لم يأخذ فرصة كبيرة للتعبير عن رعبه
الشديد .. فقد هاجمه الذئب في أقل من لحظة .. قفز قفزة طولية هائلة قاطعا نحو عشرة
أمتار في الهواء ليسقط فوق صدر " فندان " المذعور ..
صرخ الرجل ومد يده المرتجفة بحثا عن سيفه الذي
يحتفظ به في أسفاره النائية دائما لكن الذئب المهاجم أدرك غرضه فيما يبدو ،
فأنقض أول ما أنقض على يد ضحيته اليمني ومزقها بوحشية وأقتلع أثنين من الأصابع
الطويلة المرتجفة ..
سقط " فندان " أرضا والدماء تسيل من يده
الممزقة والذئب الأبيض الضخم يعلوه مواصلا تمزيق ما تبقي من جسد ضحيته ومن عقله
كذلك ..
وحينما أشرقت شمس الصباح على تلك المنطقة المنعزلة كان
هناك على الرمال رجل ممدد وسط بركة من الدماء وقد تطايرت أجزاء من جسده واختفت ..
وظل ملقي على الرمال الساخنة حتى جاء بعض السيارة بالصدفة لقطع بعض الأشجار
الباسقة من الغابة القريبة فوجدوه هناك في أسوأ حال وقد فقد وعيه كما فقد عقله ..
لكن العجيب حقا هو أن السيد " فندان " قد نجا من تلك التجربة .. نجا
ليكون أقصوصة تحكي في طول فرنسا وعرضها وإن كان هو نفسه ظل حيا بما تبقي من جسده
غير واع لأي شيء يدور حوله حتى آخر لحظات حياته .. وإن لم يعرف أحد سبب إصابته
بالجنون رغم كل ذلك !
...
كانت تلك حادثة عابرة بالطبع .. مجرد اعتداء حيوان مفترس
على إنسان مسافر بمفرده في الخلاء الموحش .. أي غرابة في مثل ذلك الأمر ؟!
لكن تلك الثقة تكون على حق عندما تحدث الحادثة مرة واحدة
.. أما عندما تتكرر ثلاث مرات أخري في نفس الأسبوع فهناك شيء خطأ بالتأكيد !
ففي اليوم الثالث لوقوع حادثة السيد " فندان "
خرجت الفتاة الجميلة " هارميس " التي تقيم في قرية صغيرة بالقرب من
باريس لترعي أبقارها في أراضي عشبية قريبة وهناك استقرت بقطيعها الذي عكف على
تناول المزيد من تلك الأعشاب الرخصة اللذيذة وشرب الماء من بركة صافية صغيرة في
المنتصف .. كانت " هارميس " قد سمعت ، شأنها في ذلك شأن كل سكان باريس
والمناطق المحيطة بها ، عن حادثة السيد " فندان " وأسفت لها كثيرا ..
لكنها لم تتخيل أنها ستكون الضحية التالية لذلك الذئب الذي ليس ذئبا في الحقيقة !
فبينما كانت الأبقار ترعي على مقربة منها في حراسة
مجموعة من الكلاب المدربة على حراسة حيوانات المرعي إذ حدثت حركة غريبة بين
الأبقار التي بدأت تركض محاولة الفرار في نفس الوقت الذي علا فيه نباح الكلاب
الشرس بشكل يدل على وجود دخيل في المكان .. دخيل مخيف !
نهضت " هارميس " من مكمنها تحت احدي الأشجار
لتتطلع حولها .. وبالفعل وعلى بعد خطوات صغيرة منها رأت الفتاة شيئا غريبا يتجه
نحوها .. كان شيئا شبيها بالذئب لكنه كان في حجم يقرب من حجم بقرة كبيرة .. اتسعت
عينا " هارميس " دهشة ورعبا قبل أن يقفز الذئب فوقها .. أنشب مخالبه في
عنقها وأنيابه في صدرها ووصلت لعمق بعيد في لحظة .. صرخت الفتاة رعبا وحاولت
الاستغاثة بالناس لكن لا أحد كان قريبا بما يكفي ليسمعها .. الغريب حقا أن الكلاب
قد فرت هاربة ولم تهاجم الذئب !
طافت رؤية معتمة للحظة في ذهن " هارميس " قبل
أن تفقد وعيها متأثرة بصدمة عصبية عنيفة وبجراحها المخيفة .. ماتت الفتاة بين يدي
الوحش العجيب ، الذي مزقها تمزيقا دون أن يترك قطعة واحدة سليمة في جسدها .. وخلال
لحظات كان الوحش قد أنتهي من تمزيق ضحيته المسكينة ، وأبتعد في قفزات سريعة .. كان
الوحش يبتعد بسرعة غير مبال بقطيع الأبقار الفار الهائج أمامه .. أنه لا يهاجم
الأبقار ولا الحيوانات الأخرى كلها .. إنه لا يهاجم سوي البشر .. فمشكلته الحقيقية
كانت مع البشر وليس غيرهم !
...
عندما تعدي عليه السيد بالضرب لم يستطع " أنسيل
" أن يدافع عن نفسه .. كان مجرد قن أرض يزرع الأرض لسيده ويعيش كالعبد على
فضلات موائد السيد وعلى ما يجود به خدمه عليه من فتات الخبز والجبن .. ورغم ضخامته
الجسمانية وطوله المفرط فقد كان من غير المتوقع أن يدفع الأذى عن نفسه .. لذلك
أستسلم للضربات المنهالة عليه من سوط يمسك به السيد ، الذي لا يتجاوز حجمه حجم ابن عرس ، سادا
أذنيه عن السباب البذيء الذي يمطره به .. وكل ذلك من أجل قطعة لحم صغيرة سرقها من
أمام الكلاب !!
كان " أنسيل " قد أقدم على فعلة مستهجنة قليلا
وهي أنه أستغل فرصة تراخي حراس كلاب السيد وأخذ قطعة من لحم الخنزير المدخن الذي
أمر السيد به لكلابه .. ولم يكن دافع القن الفقير لتلك الفعلة سوي توقه لذوق اللحم
الذي لم يتذوقه منذ بضعة سنوات .. فهل أجرم ؟!
الأمر لم يزد على قطعة لحم صغيرة لكن السيد أعتبر الأمر
وكأنه نهاية العالم .. كان السيد قد أكتشف الأمر بالصدفة البحتة السيئة بينما كان
يتفقد كلابه المدللة فوجد خادمه الذي يشبه غوريلا ضخمة يلوك شيئا في فمه .. شك
الشد فيما يلوكه " أنسيل " في فمه وأمره بأن يفتحه ويريه ما الذي يأكله
.. حاول الخادم التملص قليلا لكنه سرعان ما أستسلم خوفا من إثارة غضب السيد أكثر
من ذلك فصدع بالأمر وفتح فمه ليجد السيد قطعة لحم في مرحلة المضغ ترقد بين فكي
خادمه وسرعان ما أدرك مصدره .. طبعا كان الأمر كله أصغر مما يستحق لكن السيد كان
متعمدا لإيذاء " أنسيل " وتعذيبه أمام كافة الأقنان والخدم الآخرين وحتى
أمام زوجته ، زوجة السيد ، نفسها !
ولسوء حظ السيد فقد كان الجميع يعرفون دافعه الحقيقي لرد
الفعل المبالغ فيه هذا .. وأولهم زوجته التي لوت شفتيها ازدراء واشمئزازا وهي تري
زوجها الضئيل ينهال على ذلك العملاق بسوطه وعصاه من أجل قطعة لحم صغيرة تافهة !
كان الجميع يعرفون السبب الحقيقي .. حتى وإن كان السيد
لا يعرف ولا يتخيل أنهم يعرفون !
...
في ضوء القمر تسلسل العملاق مبتعدا .. إنه يرغب في
التواري عن الأنظار ويروم ألا يراه أحد وهو يفعل ما سيقوم بفعله بعد لحظات حتى وإن
مطمئنا أن أحدا ما لن يجرؤ ولن يستطيع منعه من فعله
كان قد وصل إلي قرار حثته عليه فكرة غامضة جنونية لا
يعرف أحد من وضعها في عقله بالضبط .. سيظل للأبد عبدا مهانا مذلولا وسيتذوق المذلة
والهوان ألوانا .. وإن جرؤ على الهرب فسيصبح مجرد عبد آبق وستطارده الكلاب الصيادة
وحاشية السيد حتى لو فر إلي آخر بلاد الدنيا .. أين تقع آخر بلاد الدنيا ؟
لا يهم .. فهو لا يعنيه معرفة أين تقع آخر البلاد وإنما
يتوق لمعرفة أين تقع نهاية عذابه ومتى ستقع بالضبط !
لقد بدأ مشواره الجنوني بتفقد الأحراش ليلا بحثا عن تلكم
الساحرات الشيطانيات اللائي قيل إنهم ينظمن ليل سبتهن في ذلك المكان المنقطع لكنه
، وبعد مراقبة مرهقة استمرت طوال الليلة ، لم يجد أحدا يتسلل إلي تلك الغابة
الصغيرة لإقامة أية طقوس شيطانية .. كم تمني لو كانت أسطورة ليلة السبت صحيحة ،
فهو يحلم بأن تقبله الساحرات خادما لهن على أن يعلمنه كيف يمتطي عصا مقشته ويطير
مبتعدا محلقا بعيدا عن ضيعة السيد وعن صلفه وجبروته أو كيف يتحول لحيوان مفترس
يمزق كل أعدائه في أمن من العقاب !
كلها كانت أوهاما باطلة لكن " ايزيا " المسكين
عاش عليها شهورا طويلة معزيا نفسه بها عن تحرشات السيد واضطهاده الغير مبرر له
الذي زاد في الآونة الأخيرة بصورة غير معقولة ..
حتى حدثت حادثة غير معقولة في حياة " ايزيا "
.. لقد ألتقي بمن يملك أن يحقق له أحلامه .. وألتقي به بالصدفة لطيب الحظ !
في ليلة سبت كان " ايزيا " يسير عائدا من
الأحراش بعد أن أنتهي من المراقبة هناك فوجد نفسه أمام امرأة ناحلة جميلة بشكل
غريب خاصة أن جمالها كان مخيفا للغاية ..
عيون خضراء واسعة تبرق في ضوء القمر الساطع وشعر أشقر
مسترسل حتى أسفل الظهر .. كانت تمسك في يدها قطة سوداء .. أو بمعني أوضح بقايا قطة
سوداء ، فقد كان رأس القطة مفصولا عن جسدها ومتدليا بواسطة خيط صوفي مجدول في يد
المرأة الأخرى ، وفراء القطة كان ممزقا لنصفين كاشفا عن لحمها الأحمر الدامي بأسفل
الجلد ..
نظرت المرأة باهتمام للعملاق الواقف أمامها في وجل وهمست
له بوشوشة مناسبة لوشوشة الأحراش حولهما :
" إيزيا .. أيزيا الجسور ! "
كان القن يري هذه المرأة لأول مرة في حياته ولا يعرف من
أين علمت باسمه وبصفاته الأخلاقية فسألها بصوت أجش مرتعش بسبب لذعة البرد تلك
الليلة :
" من أين علمت باسمي ؟! "
ضحكت المرأة بصخب وأجابت بود :
" لا أحد لا يعلم أنك " ايزيا " يا
" ايزيا " .. تعالي معي ! "
سألها بقلق طارئ :
" إلي أين ؟! "
ضحكت المرأة للمرة الثانية وأمسكت بيده وقادته عبر
الأحراش وهي تهدهد مخاوفه كطفل وتقول له مطمئنة :
" لا تخشي من " سيليمن " شيئا .. فهي
صديقتك وهي التي ستحقق لك أحلامك ! "
وبدون مزيد من التساؤلات سار الاثنان إلي ناحية تملؤها
أشجار القسطل حيث أوقفته المرأة بإشارة من
يدها .. ثم توجهت بمفردها ناحية رقعة صغيرة خالية من النباتات في المنتصف وتلت
همهمات وتعازيم لم يفهم منها " ايزيا
" شيئا .. لكن تمخض عنها ظهور تدريجي لمنزل صغير ، يشبه الكوخ ، لم يكن له
وجود منظور إطلاقا قبل أن تطلق " سيليمن " تعويذاتها القوية .. فُتح باب
المنزل ، الذي تحيط به غلالة من الضباب يبرق فيها برق خافت صامت على شكل أسهم من
الضوء المتقطع ، لاستقبال القادمين ..
وتقدمت المرأة نحوه وهي تدعوا " ايزيا " للحاق بها في الداخل .. كيما
تحقق وعودها له وأحلامه لنفسه !
تعليقات
إرسال تعليق