الفلسفة
الشعبية المصرية الأصيلة تقوم على عدد من النظريات أهمها نظرية ( أديني عمر
وأرميني البحر ) ونظرية ( زينا زي الناس ) و ( أشمعنا إحنا يعني من دون الناس ) ..
وهذه كلها نظريات فلسفية جميلة توصل إليها المصريون ، الذين هم أقدم شعوب الأرض
وأكثرها غلباً وشقاء ، بعد سنوات طويلة من التعب والبهدلة والمرمطة التاريخية
المحترمة التي تؤهلهم لنيل لقب ( بطل العالم في الغلب والهم والغم والنكد )
"
عمر " كان موظف مصري بسيط من أسلاف الفراعنة والفلاح الفصيح والفلاحين المغلوبين على أمرهم وبائعات الفجل
والجرجير المصفر المصرات على أنه ورور !
وكان
ل" عمر " زوجة مصرية طيبة مخلصة هي صورة طبق الأصل لكل الزوجات المصريات
الطيبات المخلصات في كل زمان ومكان .. مسلمة تؤدي الفروض وتصوم رمضان وتتمني أن
تعيش حتى تحج البيت وتعود من الحجاز وفي يدها حقيبة سوداء كبيرة محملة بالطرح
البيضاء وزجاجات الروائح الصغيرة ذات الرائحة القوية لإهدائها لشقيقاتها وبنات
شقيقاتها .. أما الذكور فيكفيهم الطواقي البيضاء المثقبة .. وكترت عليهم في
الحقيقة !
بالإضافة
إلى ذلك كانت مدام " عمر " هذه تجمع في فلسفتها كل المسلمات والحكم
المصرية الخالصة التي لا يجور الزمان عليها !
وهكذا
جاء عيد ( شم النسيم ) وشم النسيم عند المصريين ليس شم روائح الزهور والتمتع برؤية
الأوراق الخضراء النامية المبهجة والتنزه وسط المروج الخضراء .. بل يعني شم روائح
البصل الأخضر والفسيخ ، والتمتع برؤية البيض الملون المضروب بالكركديه والبصل
والأقلام الفلوماستر أحياناً والتنزه وسط الطماطم والخيار والشلولو غالباً !
وبمجرد
أن أشتمت مدام " عمر " أول تباشير الربيع ولاحظت أن جارتها المسيحية
" جاكلين " أم الولد والبنت بدأت في تخزين البيض استعدادا لصنع الكيك من
أجل عيد القيامة واحتفالا بانتهاء صوم الزيت الطويل حتى وضعت عصابتها الرمادية على
رأسها وذهبت إلى زوجها وصاحت في وجهه دون مقدمات :
"
هتجيب لنا الفسيخ أمتي إن شاء الله ؟! "
روع
" عمر " المسكين الذي كان جالساً على طرابيزة السفرة فارداً أمامه فرخ
ورق فلوسكاب أخذاً في حساب ميزانية الشهر المهبب الذي لا يبدو له نهاية !
فزع
" عمر " وكاد يرد على زوجته رد بارد من ردوده المثلجة التي سيكون لها
الفضل في إصابة زوجته بالشلل قريباً بإذن الله .. ولكنه رفع عينيه إليها وتفرس
فيها فوجدها قد اتخذت وضع قتالي ممتاز جدير ببروسلي شخصياً ، ولو أن " بروسلي
" لم يكن لديه الشجاعة الكافية للزواج من امرأة مثل مدام " عمر " ،
وقد وضعت على رأسها عصابتها الرمادية التي تعني في عرفهما الزوجي استعدادها للردح
حتى آخر حبل صوتي في حنجرتها !
وهكذا
وجد " عمر " نفسه في ورطة .. فالفسيخ قد أرتفع ثمنه كثيراً بسبب الظروف
السيئة التي تمر بها مصر .. إضافة إلى أن ميزانيته قد خرمت هذا الشهر بالذات بسبب
مرض الولد الصغير باللوز والتهاب الحلق الذي كلفه أكثر من مائتي جنيه لعلاجه ..
ويبدو أن مرتب إبريل كشهر إبريل نفسه مجرد كذبة !
المصيبة
الحقيقية كانت في حالات التسمم الرهيبة
التي حدثت لبعض جيرانهم العام الماضي وكادت تودي بحياة طفلين من أطفال السيد
" سيد عبد الحميد " أقدم موظف وسط قاطني العمارة وأثقلهم دماً .. وكان
ذلك بفضل الفسيخ وسمومه الكيماوية التي لا تباري !
ولكن في
كل الحالات لم يكن أمام السيد " عمر " سوي تلبية مطالب زوجته مدام
" عمر " .. لأنه ببساطة يعرف أنه إذا تقاعس عن تنفيذ أمرها وشراء الفسيخ
لها فإن الموت بالتسمم سيكون أعز أمانيه لبقية حياته !
وهكذا
مرة ثانية وبطيبة الزوج المصري الغلبان حينما تتحكم فيه زوجته وتعمل منه شرابة خرج
ممتازة صالحة للتصدير إلى الموطن الأصلي لشرابات الخرج ، أرتدي السيد " عمر
" قميص وبنطلون ، أول قميص وبنطلون وقعا تحت يده ، وخرج إلى مكان قريب يعرفه
جيداً وأبتاع ثلاثة كيلو جرام من الفسيخ وماء الملوحة الأصفر الذي يصيب بالاشمئزاز
.. وكان هذا أقل قدر يمكن أن تقبل به مدام " عمر " !
............................
وجاء يوم
عيد شم النسيم واستيقظ الأولاد الثلاثة مبكراً .. وأسرعوا يتسابقون أيهم يستعمل
الحمام أولاً وانطلقت صرخاتهم في البيت حتى أحالته إلى معسكر للمجاذيب وليس بيت
موظف بسيط في الساعة السادسة والنصف صباحاً !
وطبعاً استيقاظ
الأولاد المبكر كان له حكمة لا يعلمها إلا الراسخون في العلم .. فصحوهم المبكر
يعني أن ينتهوا من الاغتسال والإفطار والاستعداد للخروج مبكراً جداً واللحاق
بالحدائق وهى ما تزال بكر منداة بقطرات الندي الأولي ونوال شرف أن تكون عائلتهم
الكريمة صاحبة السبق في إلقاء قشور البصل والبرتقال واللب وعظام الفسيخ وأوراق الحلوى
في كل أنحاء الحديقة المسكينة التي لا تملك لساناً تدافع به عن نفسها مثل جدهم
الفلاح الفصيح !ّ
وعلى
صوت الصرخات استيقظ السيد " عمر " مفزوعاً ليجد ولداه يتدافعان بشراسة
على باب الحمام الذي يكاد ينهار تحت ثقلهما .. بينما وقفت أختهما الصغيرة منكوشة
الشعر تبتسم بفمهما الأترم في سعادة ليس لها أي مبرر !
وهكذا
قام الأب بالواجب القومي الذي لا يقره عليه أي خبير تربوي متأنق ، لا يفهم حرفاً في التربية ، فكال للولد
الكبير لكمة في لغده السمين ثم جذب أخاه من شعره ودفعه جانباً .. ودخل السيد
" عمر " إلى الحمام ليفك عن نفسه ويعبر عن رأيه الحقيقي في زوجته
وأولاده !
وبعد
دقائق خرج السيد " عمر " من الحمام ليجد الأولاد وقد ارتدوا ملابسهم ،
وزوجته قامت بعمل لم تقم به منذ عدة أشهر ، وهو أنها جلست أمام التسريحة ولغمطت
خلقتها بالأحمر والأخضر والأصفر والبنفسجي بشكل جعلها تشبه محاربي الهنود الحمر في
الفيلم الذي شاهده العام الماضي ولم يعد يتذكر اسمه !
ولكن لم
يكن المطلوب من السيد " عمر " تذكر اسم الفيلم بتاع الهنود ولكن كان المطلوب
منه على وجه السرعة هو الانتهاء من الإفطار وسحب العائلة الكريمة على احدي الحدائق
ليستمتعوا بعيد الربيع وشم النسيم .. أقصد عيد شم الفسيخ !
.............................
وخرجت
العائلة الكريمة لتجد الشارع هادئاً ساكناً ليس فيه صريخ ابن يومين .. ويبدو أن
شعب مصر كلها قد أصابه العقل على كبر ما عدا السيد " عمر " وزوجة السيد
" عمر " وأولاد السيد " عمر " !
في
الحقيقة أن " عمر " لم يكن سعيداً على الإطلاق فبالأمس قرأ مقال في
جريدة الأهرام بمناسبة عيد شم النسيم وقد تحدث كاتبه عن أعراض التسمم التي يسببها
الفسيخ والأسماك المملحة كالرنجة والملوحة .. والحقيقة أن كاتب المقال قد أسرف على
نفسه وعلى القراء في تخويف الناس من الفسيخ .. لدرجة أنه من المفروض أن تقوم
المخابرات العامة المصرية بضمه إلى صفوفها وتدريبه على أساليب التخفي وتغيير
الملامح ليتسن له الهروب من مطاردة تجار الفسيخ والأسماك له !
ولكن
الحمد لله أن تجار الفسيخ لا يقرئون الأهرام ولا حتى روزاليوسف والحمد لله !
ولكن
رغم كل شيء فإن هذا المقال قد زرع بذرة شيء أسود ،ليكن خوف أو تشاؤم ، في نفس
السيد " عمر " وجعله لا يحس بالبهجة وهو سائر وسط أسرته حاملاً كيس الفسيخ
والبصل وهو يشعر كأنه يحمل في يده قنبلة نووية من التي تثير رعب الأمريكان اسم
الله على مقامهم !
...........................
ووصلت
الأسرة السعيدة إلى الحديقة لتجد الحارس على الباب الخارجي يفرك عينيه وينظر إليهم
بدهشة عارمة وعيناه تقول بوضوح :
"
حد يجي دلوقتي يا ولاد المجنونة " !
ولكن
ميعاد العمل في الحديقة كان قد بدأ مما يعني أنه لا يستطيع منعهم من الدخول ..
والحقيقة إن الوزارة المسئولة عن الحدائق في مصر ، وليس مهماًُ أي واحدة فيهم ، لم
تضع في حسبانها وهى تحدد مواعيد العمل الرسمية في الحدائق والمتنزهات الحكومية
المصرية وجود مخلوقات على شاكلة مدام " عمر " في الأراضي المصرية ..
وإلا كانت قد غيرت مواعيد العمل الرسمية وجعلتها من منتصف الليل حتى الرابعة
صباحاً !
ودخلت
أسرة السيد " عمر " إلى الحديقة وبدأت في ممارسة طقوسها الربيعية
المقدسة !
في
البداية سارت الأسرة وسط الأشجار وأحواض الزهور الحمراء والصفراء والبيضاء الصغيرة
المنمقة .. ومن جانبها أخذت الأزهار نفساً طويلاً واستعدت للصراخ والولولة ، لو
كان هذا في إمكانها ، والاستنجاد بأمة لا إله إلا الله من أطفال السيد " عمر
" الثلاثة الذين أخذوا يقطعون زهرة ، ولابد أن يقطعوا ، من كل حوض زهور يمر
في طريقهم بدون أي لزوم !
وقد
حاول السيد " عمر " أن يزجر الأولاد ويمنعهم من تقطيع الأزهار والورود
ولكن الأم الحنون زمجرت في وجهه ثم قالت له بتناحة :
"
خلى الولاد يتبسطوا "
ومن أجل
أن يتبسط الأولاد تركت الأم الحبل لهم على الغارب ليقطعوا ويهرسوا ويمزقوا كل ما
يجدوه أمامهم .. فنحن نعتبر أن منع الأطفال من التدمير أو التخريب هو كسر لخواطرهم
الرقيقة !
وبعد لأي
، وكأنهم يبحثون عن إبرة في كوم إبر ، وجدت الأسرة السعيدة مكاناً مناسباً لجلوس
عظمتهم .. فأخرجت الأم الملاية الصغيرة التي أحضرتها من أجل الجلوس عليها وفرشتها
على الأرض ، ثم تناولت الكيس من الأب وتربعت على الملاية بعد أن خلعت الشبشب ووضعته
جانباً بحرص وأخذت الأم ، بعد أن سمت باسم الله الرحمن الرحيم ، تخرج خيرات الله
المكدسة في الكيس وتضعها أمامها .. أكوام من البصل الأخضر بعروشه اللينة الريانة
الجميلة ، خيار ، طماطم ، جزر ، جرجير ، حلبة خضراء لا أعرف من أين أتوا بها
بالضبط ، وأخيراً سيد الكل وتاج رأس إخوته .. الفسيخ الذي وصلت رائحته إلى البيت
الأبيض وجعلت الأخ " أوباما " يتقلب في نومه ويستيقظ فجأة وخياشيمه متمددة
ثم يزغد الأخت " ميشيل " النائمة كاللوح بجواره ويقول لها :
"
أيه الريحة دي يا بت يا ميشيل ؟! "
فترد
عليه وهي تتثاءب :
"
دا الفسيخ يا مدهول .. شفت السيد " عمر " جاب للعيال الفسيخ والبصل
ومهنيهم .. مش زيك يا جلدة يا قيحة ! "
وبعيداً
عن الأخ " أوباما " وحرمه السيدة " ميشيل " وخناقتهما بسبب
فسيخ السيد " عمر " ومدام السيد " عمر " فإن الفسيخ هذا العام
كانت له رائحة نفاذة أكثر من أي عام مضي !
شم
السيد " عمر " الفسيخ جيداً ، فرغم إنه هو بيده اللي عايزة قطعها الذي
أشتراه ، لكنه لم يتنبه لمدي نفاذ رائحته هكذا إلا الآن !
توجس
" عمر " خيفة وقال للأم محاولاً استمالتها إلى رأيه :
"
مش حاسة إن رائحة الفسيخ غريبة شوية ؟! "
فنظرت
إليه زوجته التي كانت قد بدأت في تقشير البصل بالفعل وأجابت بسخرية :
"
غريبة إزاي يعني ؟! زفرة ! "
طبعاً
كانت الرائحة زفرة .. إذا لم يكن الفسيخ زفر فما الذي سيكون كذلك ؟!
طبعاً
كانت الزوجة تمزح ولكن ليس هذا ما قصده الزوج .. فالفسيخ بالفعل كانت له رائحة
نفاذة تختلط برائحة أخري غريبة تشبه رائحة الماء الآسن بدون أي مبالغة في التشبيه
.
ولكن
ملاحظة الزوج لم تلق آذانا صاغية من الزوجة التي انهمكت في الإعداد للوجبة
الربيعية المقدسة دون أدني اهتمام بملاحظة الزوج العابرة .. ولكن السيد " عمر
" ، وقد تذكر المقال المهبب الذي قرأه بالأمس ، عاد يلح على زوجته في عدم
تناول هذا الفسيخ :
"
طب بصي بلاش ناكله ونجيب غيره ! "
"
يا عم وليه التكاليف دي .. ما هو الفسيخ حلو أهو ! "
"
يا وليه أنا متووهوش من إمبارح .. بلاش منه الفسيخ ده ليكون مسموم ! "
"
يا عم زينا ذي الناس .. هي جت علينا إحنا يعني .. ما كل الناس بتاكل فسيخ وما
جرالهاش حاجة .. أهو اللي يجرا على الناس يجرا علينا .. "
وبهذه
الدفقة من الحكم الشعبية البليغة انتهت المناقشة وبدأت الأسرة السعيدة ، حتى الآن
، في التهام الفسيخ وتوابعه !
............................
بعد
الظهر بقليل عادت أسرة السيد " عمر " إلى شقتها الصغيرة .. كان الخمسة
متخمين بالفسيخ والبصل والحلوى والبرتقال واللب والسوداني .. والحق أن أولاد السيد
" عمر " الثلاثة حطموا كل الأرقام القياسية التي حققها ، بعد طول كفاح ،
أبطال العالم في الفجعة والشراهة .. فهم لم يتركوا شيئاً يؤكل ، أو يشبه شيئاً آخر
هذا شأنه ، إلا أكلوه .. حتى إن الأب خشي أن يقوموا باقتلاع حشائش الحديقة
وأزهارها وأكلها !
ولكنهم
، والحمد لله ، لم يجدوا ضرورة للقيام بذلك
وبمجرد
أن وطأت أقدامهم داخل الشقة حتى أسرع كل منهم إلى فراشه وتسطح فوقه ونام كالقتيل
حتى غربت الشمس تماماً !
..................
في
حوالي السابعة مساء أستيقظ الزوج السيد " عمر " من نومه .. كانت الغرفة
مظلمة تماماً والنوافذ مغلقة وزوجته تغط في النوم بجواره ..
الغريب
أن السيد " عمر " كان يحس بآلام غريبة في جميع أجزاء جسده .. خاصة في
كتفيه وأعلي جسده كما كان حلقه يؤلمه على خفيف .. تحرك السيد " عمر "
وغادر الفراش وقد قرر أن ما يعانيه من آلام ليس له سبب إلا نومته الغبية الخاطئة
الملتوية على الفراش !
خرج
الأب من غرفة نومه ليجد الصالة غارقة في الظلام الدامس بشكل أشعره أنهم في منتصف
الليل وليس قبل آذان العشاء بنصف ساعة ..
توجه
السيد " عمر " نحو غرفة الأولاد وفتح الباب .. فوجد الولدين نائمين
كالخرتيت الشبعان ولكن البنت كانت مستيقظة !
كانت
البنت مستيقظة وجالسة على فراشها بشكل غريب .. أقترب الأب منها بعد أن أضاء النور فوجدها
جالسة في فراشها ورأسها ملتوية إلى أسفل ومسندة إلى ركبتيها المضمومتين !
روع
الأب إذ أدرك أن ابنته تنشج ببطء ويصدر عنها صوت ألم خافت !
فزع
الأب وأمسك برأس ابنته وسألها بذعر :
"
مالك يا منار "
فردت
الطفلة بصوت خافت ضعيف :
"
حلقي بيوجعني قوي يا بابا ! "
وهكذا
لم يعد لدي السيد " عمر أي شك .. لقد أصيب هو وابنته بالتسمم !
............................
جن جنون
" عمر " وجري نحو غرفته وحاول إيقاظ زوجته ولكنها كانت نائمة مثل الصخرة
الهامدة ففتح الدولاب كالمجنون وتناول منه قميص وبنطلون ، أول قميص وبنطلون وقعا
تحت يده ، وارتداهما وهو لا يكاد يعرف عدلتهما من قلبتهما .. وجري عائداً إلى غرفة
الأولاد فوجد طفلته تتألم بصوت أعلي هذه المرة بينما أخويها ما زالا يغطان في
النوم كالجراء الميتة !
حمل
الأب طفلته بعد أن لفها بكبرتاية صغيرة وأخذ يصرخ محاولاً إيقاظ الأم والولدين دون
فائدة .. فتركهم وهرول مغادراً الشقة حاملاً طفلته الضعيفة بين ذراعيه وأسرع نحو الشارع
.. ومن رحمة الله أنه وجد الدكتور " سامي " جارهم الذي تقع عيادته على
بعد شارعين من شارعهم فاتحاً عيادته وليس لديه أي زبائن .. فأسرع السيد " عمر
" وأقتحم غرفة الكشف حاملاً طفلته .. فما إن رآه الدكتور " سامي "
حتى هرول وحمل الطفلة منه وأرقدها على سرير الكشف وبدأ في فحصها ..
وبعد
دقائق كان الدكتور قد انتهي من فحص الطفلة وفحص الأب أيضاً ولم يكن هناك شك في
التشخيص .. تسمم متوسط الدرجة بسم "
البوتيولزم " أحد سموم الفسيخ !
وبعد
دقائق كان الدكتور " سامي " قد طلب سيارة إسعاف وذهب بنفسه مع الوالد
وطفلته إلى المستشفي !
وبعد
أقل من نصف ساعة كانت ابنة السيد " عمر " ، والسيد " عمر "
نفسه في المستشفي يتلقيان العلاج .. ولكن الحمد لله كانت حالتهما مطمئنة ..
الغريب
أن الأب حاول عدة مرات من المستشفي الاتصال بزوجته على المحمول ولكنها لم تجب عليه
إطلاقا .. وظل يحاول ويحاول الاتصال بينما المصل المضاد للتسمم يتدفق في عروقه ورغم
تحذيرات الطبيب له بأن يسترخي تماما أثناء عملية أخذ المصل ..
ولكن
السيد " عمر " وقد خبله الفزع على بقية أفراد أسرته لم يكد ينتهي من
جرعة المصل حتى غادر الفراش كالمجنون وجري بسرعة البرق والدكتور " سامي
" ، الذي ظل يلازمه طوال علاجه هو وطفلته ، يلاحقه محاولاً منعه وإيقافه ..
ولكنه فشل في اللحاق به وهو يجري كالغزال , لأول وآخر مرة في حياته , ليطمئن على
أسرته التي لا تجيب على الهاتف رغم كل المحاولات ..
وبمجرد
أن خرج من الباب الأمامي للمستشفي حتى قفز في أول سيارة تاكسي وجدها أمامه وبصوت
مفزوع متهدج من فرط الرعب أملي للسائق العنوان .. ورغم رنة الفزع الواضحة في صوته
إلا أن السائق طرطق أذنيه وبمنتهي البرود قال له :
"
ثلاثين جنيه يا باشا " !
"
ماشي .. ماشي .. اللي أنت عاوزة المهم أنطلق بآخر سرعة عندك "
وهكذا
أنطلق السائق بسرعة مكوك الفضاء عابرا قلب القاهرة الكبرى ، المصاب بضيق وتصلب
وتخشب الشرايين ، في زمن قياسي .. وفي خلال أقل من نصف ساعة كان قد وصل إلى أول
الشارع الذي يقيم فيه بمعجزة من معجزات أحفاد بناة الأهرامات وشارع المفرد بتاعهم
..
وهناك
هبط السيد " عمر " من التاكسي ليكتشف الكارثة المتوقعة جدا أنه لا يحمل
مليما واحدا في جيبه
فقد نزل
من بيته دون أن يحمل محفظته من فرط فزعه ولهوجته .. وقبل أن يفتح السائق فمه
الجميل الصغير قاذفا سيلا من السباب البذيء في وجهه أسرع الرجل الذي يعاني خدر
التسمم والمصل معا يرجوا السائق المحترم ، كما يفترض ، أن ينتظر فقط عشر دقائق ليصعد
إلى شقته ويطمئن على أسرته ثم يعود إليه بالنقود التي يريدها , ولكن السائق خفيف
الدم أخرج رقبته النحيفة من الشباك وصاح في وجه السيد " عمر " مثلما
يصيح ديك " شهريار " كل ليلة بأعلى صوته :
"
عشر دقايق ليه ليه ليييييييييه أنت رايح تجبلي الفلوس من البنك بتاعكم في سويسرا
.. هما دقيقتين ما يزيدوش دقيقة واحدة
"
وقبل أن
يكمل السائق موشحه الشعبي المعتبر كان السيد " عمر " قد تركه يخاطب
الهواء وأخذ يجري بقوة الفزع والخوف والحب لزوجته وأولاده البغال ، بغض النظر عن
كل العبر الموجودة فيهم ، نحو شقته ..
قفز
السلالم في ثواني وكأنه يقفز من فوق سلم مشتعل بالنار ولأول مرة يشعر أنه يحب
زوجته فعلا وأنه يحب أولاده بحق وأنهم يستحقون الحب وأنهم مهمين في حياته , وأنه
لا يستطيع أن يتخيل ، مجرد أن يتخيل ، حياته بدونهم ..
وبالطبع
عندما وصل إلى باب الشقة لم يجد المفتاح معه .. طبيعي جدا .. من ينسي محفظته
ونقوده يجب أن ينسي مفتاح شقته وإلا يصبح متخطيا لكل الأصول والأعراف الخاصة
بالمتمتعين بنعمة الزهايمر ..
وبمجرد
أن فتح باب الشقة تفاجأ السيد " عمر " بأنوار الشقة مضاءة .. وفي الصالة
وجد زوجته واقفة بجوار الشباك وكان منظرها عجيبا بحق .. متزينة متعطرة ناضرة
كالوردة البلدي في الربيع ..
ذهل
السيد " عمر " للجمال الذي حط على زوجته فجأة وأخذ يقترب منها بتؤدة
وكأنه يسير في حلم فقد كانت في أجمل حالة يراها عليها منذ ليلة زواجهما , مع
التجاوز طبعا واعتبارها كانت جميلة ليلة زواجهما ومع تناسي أنها كانت ترتدي قناعا
من الأحمر والأخضر والبمبي تحت الطرحة ، فلما صبح الصباح وغسلت القناع ، أقصد
وجهها ، وساح الطلاء أكتشف أنه تزوج واحدة
لم يراها من قبل إطلاقا ..
المهم
أنه وفي غمرة نشوته التي أنسته نفسه والبنت الملقاة في المستشفي والتسمم الذي يخيم
على الأسرة كالكابوس شعر السيد " عمر " فجأة بدوخة هائلة وغثيان مخيف
ودارت الدنيا به وكاد يسقط على الأرض .. فتحامل على نفسه وأستند على مسند أحد
مقاعد الأنتريه حتى ذهبت الدوخة وقل الغثيان .. ثم فتح عينيه ليجد نفسه واقفا في
الصالة بمفرده وزوجته لا أثر لها في الصالة ولا أمام الشباك .. وهكذا أتضح للأسف ،
وهذا طبيعي أيضا , أن الرؤية الرائعة لزوجته ومنظرها البديع لم تكن إلا هلوسة من
جراء الدوخة والمصل اللعين ..
وفجأة
خرجت الزوجة من غرفة النوم متشعثة وعيناها متورمتان ومحمرتان وتهرش شعرها بيد
بينما اليد الأخرى تحمل التليفون المحمول ..
كانت
تحاول وتكرر المحاولة للاتصال بزوجها الذي ذاب كفص الملح هو وابنتهما " منار
" من البيت .. لقد استيقظت من النوم هي والولدين فلم تجد زوجها ولا البنت
الصغيرة في البيت .. وهكذا افترضت لفرط ذكائها أن زوجها خلاها نائمة وأخذ البنت
وذهب عند أمه !
وطبعا
كانت هذه كارثة بالنسبة لمدام " عمر " ليس لأن زوجها ذهب وهى نائمة ..
بل لأنه ذهب إلى أمه كما هداها خيالها الواسع !
وهكذا
بمجرد أن رأيت وجهه أمامها حتى صرخت فيه كالوحش المفترس :
"
كنت فين يا راجل أنت .. وفين البت ؟! "
وطبعا
لم ينطق السيد " عمر " بكلمة فقد كانت صدمة رؤية زوجته ، إضافة إلى
الدوخة والغثيان اللذين عادا مرة أخري ، يلجمان لسانه .. ولم تمهله زوجته ليرد
عليها بل عاودت الصراخ بعد أن ألقت التليفون من يدها على أقرب مقعد وشمرت كميها
ليتاح لها استخدام ذراعيها في عملية الردح مثلما يستخدم " هوجان "
ذراعيه في المصارعة :
"
بقولك كنت فييييييييين ما ترد .. بقي يا راجل يا... ( شتائم يجب حذفها إجباريا )
تخليني
نايمة وتسحب البت وتروح عند أمك من غير ما تقولي .. "
وشهقت
مدام " عمر " وتهيأت لمواصلة الهجوم الضاري على زوجها ولكن لفت انتباهها
عدم وجود البنت مع زوجها فصرخت فيه بتوحش :
"
فين البت يا راجل أنت أوعي تكون سبتها تبات عند أمك ! "
وفي هذه
اللحظة خرج الولدان من الغرفة منكوشي الشعر يرتديان البيجامات ويتثئبآن كالخنازير وينظران
لأبيها فرحين فيه لأنها يتعرض لتقريع وبستفة أمهما الغالية الحنون ..
...................................
في
تباشير الصباح أستيقظ السيد " عمر " على ضجة هائلة في شقته .. كان لا
يزال يعيش أجواء الكابوس الرهيب الذي مر به وجعله يحلم بأنه أصيب بالتسمم هو
وابنته بينما أفلت الولدان وأمهما ، للأسف ، ولم يحدث لهم أي شيء ..
لذلك
فقد هب من رقاده على أصداء الصوت الرهيبة وانتثر من رقاده مرة واحدة وبقوة هائلة
.. كانت الغرفة مظلمة بالكامل ، فخرج إلى الصالة ليجد باب شقتهم مفتوحا على
مصراعيه وزوجته وأولاده يقفون خارج الشقة في طرقة السلم بملابس النوم ..
فرك
السيد " عمر " عينيه وأقترب من الباب المفتوح ليفاجأ برجال إسعاف يهبطون
من الدور الأعلى حاملين أربع محفات عليها أربع أجساد ممدة موصلة إليها أكياس
المحاليل ..
فزع
السيد " عمر " للمنظر ولكن فزعه زاد عندما ظهر المزيد من رجال الإسعاف حاملين
المزيد من المحفات !
فزغد
زوجته التي كانت هي وأطفالها الثلاثة واقفين يشاهدون المنظر بسعادة ومتعة لا مبرر
لها وسألها بصوت يملؤه الفزع والنعاس :
"
فيه أيه يا ولية ؟! أيه اللي حصل ؟! "
فالتفتت
إليه زوجته بشعرها المنكوش الذي حاولت حشره في منديل بني بعجلة ظاهرة مما أدي
لبقاء أغلبه منكوشا حول المنديل فبدت أقرب لشكل الشمسية وأجابت بابتسامة عريضة ليس
لها أي لزوم :
"
أسكت مش العمارة كلها أتسممت من الفسيخ .. كلهم يا أخويا جالهم تسمم ونقلوهم على
المستشفي ! "
ثم عادت
ترقب المشهد الممتع لبضع دقائق قبل أن تحدثه من جديد قائلة :
"
الحمد لله يا أخويا اللي ما حصلناش حاجة إحنا ولا العيال .. أكيد أنت جبت من عند
فسخاني غير اللي جابوا كلهم من عنده .. الحمد لله يا أخويا الحمد لله كنا هنضيع في
شربة مية إحنا والعيال ! "
والتقطت
أنفاسها ثم سألته بإلحاح :
"
إلا أنت جبت لنا الفسيخ من عند مين يا أخويا .. ها .. ها .. من عند مين ؟! "
ولم يجب
السيد " عمر " على أسئلة زوجته بل أخذ ينظر لها ولأولادها بقرف لاعنا الزمن
الذي أبتلاه بأسرة من الغيلان لا يؤثر فيهم شيء .. حتى ولا السموم الكيمائية نفسها
!
تمت
تعليقات
إرسال تعليق