قضي " أنسيل " اليوم في تعب وإرهاق شديدين ، لم
يكن قادرا على القيام بأعماله المعتادة ، وكان يشعر بتعب سريع وضيق في تنفسه ، وبدأ
يلاحظ ظهور بقع وتقرحات متعددة على جلده .. لم يكن هناك أي أثر للإصابات التي
أحدثها في جسده الذئب ، الذي هاجمه ليلة الأمس حتى كاد يصدق أن الأمر كله لم يكن
سوي حلم ، أو كابوس مزعج قليلا .. لكن بقعة الدماء المخيفة الجافة بالقرب من باب
كوخه أقنعته بأن شيئا غامضا غريبا وقع له ليلة الأمس ، لكنه لم يفهمه جيدا حتى
الآن ..
عموما لقد أكتفي بصب الماء على الدماء الجافة أمام بابه ،
ونزحها بعيدا لإخفاء أثار ما حدث بالأمس ولتجنب أية أسئلة لن يملك لها إجابات
شافية ..
على آخر النهار كانت مقاومة " أنسيل " قد
انهارت تماما ، ولم يعد بوسعه القيام بأي نشاط بعد ذلك .. تسلل مبتعدا عن المزرعة ،
وكان من حسن حظه أن أحدا ما لم يلاحظه .. أنسل إلي داخل كوخه وأرتمي على فراشه
القش المنخفض ، وأغمض عينيه محاولا الخلود للنوم للتخلص من إرهاقه العجيب المتفاقم
.. كان هذا في اللحظة التي بدأ فيها القمر رحلة شروقه على الأرض !
من نافذة الكوخ تطلع " أنسيل " ليجد الظلام قد
أنتشر حوله ، والشمس توارت في الأفق مفسحة الطريق لسيد الليل ( القمر ) ليحل محلها
ويفرض مخافته على الكون !
بدأ القمر يلمع في الأفق ، فهب " أنسيل " من
فراشه بعنف مفاجئ ، حتى كاد يسقط على وجهه .. وكان ذلك لأنه أحس بألسنة نار تندلع فجأة في جوفه ، وتتصاعد إلي
رأسه وتلعق دمائه بشغف !
أمسك " أنسيل " برأسه متألما ضاغطا على صدغيه ،
محاولا تخفيف آلام رأسه .. لكن النار ذاتها بدأت تسري في جميع أرجاء جسده !
النار في رأسه ، في دمه ، في عروقه .. جوفه تمزقه النار
.. جلده يخشوشن ويسخن .. لسانه يحترق حرارة .. عرق ساخن يسيل من كل مسامه مضمخا
برائحة خبيثة نفاذة ..
قاوم " أنسيل " آلامه للحظة ، حتى لم يعد
قادرا على المقاومة بعد .. فأرتمي على الأرض متقلبا بعنف من النار التي تشويه ، وهم
بالصراخ طالبا النجدة والمساعدة حين لاحظ أمرا غريبا .. لقد أنتشر الشعر الأسود
الكثيف على جلده وبدأت ملابسه تتمزق وعضلاته وأوصاله تنتفخ .. لقد برزت له أظافر
عملاقة أيضا !
كان التحول سريعا مؤلما مرعبا ، حتى أن المسكين لم يجد
وقتا لطلب المساعدة من أي أحد .. في الحقيقة كان التفكير في طلب المساعدة متأخرا
جدا .. فقد كان في المرحلة الأخيرة من التحول !
لا لم يسرع بطلب العون ولم يلجأ لطلب المساعدة ، ولم
يعالج بالماء المقدس والصليب .. لا لم يفكر في أنه سيتحول فعليا ، ولمجرد عضات
مؤلمة دامية من ذئب مفترس ، لوحش .. مستذئب !
بعد دقائق كان باب الكوخ يٌدفع ويُنتزع من مكانه تحت
تأثير قوة عاتية ، لا يجرؤ أحد في العالم على الوقوف بوجهها .. أندفع باب الكوخ
للخارج ، وأنهار على الأرض .. ليخرج ذلك الشيء العملاق المخيف واثبا وثبات قوية
طويلة متجها للغابة .. إن الغابة تناديه .. وتعالي نداء الرفاق ينادونه .. ليبدأ
معهم أولي ليالي حياته الجديدة .. وليبدأ أولي ليالي الصيد المجيدة !
..................................
في الصباح حدث شيء مريع .. لقد عثر بعض الحطابين على جسد
ممزق في الغابة .. جسد بشري !
روع الحطابون المساكين لهذا المنظر المثير للاشمئزاز ، وصرخوا
طالبين النجدة من أقرب من يمكنه تقديم العون لهم .. ولم يكن هناك أقرب لموضع الجثة
من خدم وأتباع السيد " بيرجيس " ، الذي تسيطر أملاكه على تلك الناحية
كلها .. هرع رجال " بيرجيس " لمساعدة الحطابين المساكين ، وهناك وجدوهم
يلتفون في حلقة حول شيء ما يشبه كومة من اللحم الممزق المختلط ببعض الأجسام السميكة الصلبة .. لم تكن
كومة لحم بل كانت بقايا جثة اختلطت عظامها ببقايا لحمها الممزق .. أثار المنظر
اشمئزاز وفزع الجميع .. لكن السؤال الملح ظهر على الفور وسط الرجال المرتجفين خوفا
: فمن الذي فعل ذلك ؟!
حيوان مفترس ؟!
صحيح أن تلك الغابة تعج بأنواع مختلفة من الحيوانات
اللاحمة ، لكن أي منها لا يستطيع أن يصنع
بجسد بشري ما صُنع بذلك المسكين الممزق المجهول الهوية !
في تلك اللحظة وصل المزيد من الدعم للرجال داخل الغابة
، وكانوا مجموعة من خدم السيد "
بيرجيس " ، يقودهم أحد عمال المزرعة يدعي " أنسيل " .. فرق "
أنسيل " بجسده الضخم الحلقة البشرية المحيطة بالجثة ، ووقف على كثب منها وأخذ
ينظر لها بعمق وتركيز .. لحظة واحدة ألم فيها بتفاصيل المشهد المروع الواقع تحت
بصره .. ثم هرول مبتعدا وأفرغ معدته خلف الأشجار !
تقيأ " أنسيل " المسكين من هول المنظر، ثم قام
بتغطية قيئه بسرعة ببعض الأوراق المتساقطة ، خشية أن تقع أنظار البعض على محتويات
معدته التي أفرغها لتوه .. فليس من الحصافة أن يري أحدهم قطع اللحم الغريبة التي
لفظها من جوفه !
عاد " أنسيل " إلي حلقة الرجال ، وأشار عليهم
بالبحث أولا عن أحد يتعرف على القتيل ويعرف شخصيته لحمله وإعادته إلي أهليته ، أو
ليدفنونه حيث هو إن كان مجهول الهوية ..
وبالفعل عزم الرجال على تنفيذ الفكرة على الفور ، وذهب
بعضهم لإخبار أهل القرية القريبة من الغابة بما حدث ، لعل القتيل يكون من بين أهلها أو يكون هناك من
هو قادر على تعريف شخصيته ..
ولم يبقي مع " أنسيل " سوي اثنين من أتباع
السيد أمرهما بأن يذهبا ويجمعا الأغصان لتغطية الجثة بها ، وذهبا تاركين إياه يحدق
باشمئزاز في بقايا جسد الآدمي الممدد أمامه سائلا نفسه برعب :
-" أيمكن أن أكون أنا من فعلت ذلك .. شيء مثير
للاشمئزاز حقا ! "
في تلك اللحظة شاهد " أنسيل " شيئا جعل قلبه
يدق رعبا ودهشة .. لقد كانت هي !
تلك المرأة المسماة " سيليمن " ذات جدائل
الشعر الطويلة والجمال الغامض .. كانت تمر خلف بعض الشجيرات القريبة حاملة بيدها
كومة من الأعشاب ذات الشعر الكثيف المتدلي الغريب المنظر ، تجمدت أنفاس "
أنسيل " للحظة وعزم على محاولة اللحاق بها ..
إنه لم يراها منذ تلك الليلة الوحيدة التي قابلها فيها ولا يعرف ما إذا كانت حلما من
الأحلام أم حقيقة جامدة !
تحرك سريعا من موقفه لكنها كانت قد توارت بعيدا عن ناظريه
في أقل من لحظة .. صاح يائسا :
-" سيدتي .. سيدتي أأنت هنا ؟! "
لم يجبه سوي صوت الريح ، وهي تعصف بأعالي الأشجار
والأوراق المتساقطة بغزارة في خريفها المعتاد .. مرت لحظة ثم كرر " أنسيل
" النداء دون أن يجبه أحد .. ولم يكد يفكر في البحث عنها للمرة الثانية حتى
كان الأتباع الاثنين قد عادا محملين بكومات من الأغصان لتغطية الجثة بها .. وخلال
ثوان كانت كومة اللحم المختلطة بالعظام ترقد تحت الأغصان وأوراق الشجر بعيدا عن
عيني " أنسيل " المرتعبتين !
وبعد بضع ساعات كان أهل القرية المجاورة قد أرسلوا وفدا
منهم للتعرف على جثة القتيل .. الذي لم يكن سوي راهب عجوز يقيم منفردا نائيا بنفسه
في تلك الأنحاء والغابات المظلمة المنقطعة .. لقد كان راهبا يا " أنسيل
" .. راهبا !
ردد لنفسه وهو يراقب الرجال الأشداء ، وهم يحفرون قبرا
صغيرا لدفن بقايا الراهب الممزقة به .. الآن فقط تيقن " أنسيل " بأنه
انتهي وحلت عليه اللعنة !
...
تعالي النداء وتصاعد حتى خلايا مخ " ايزيا "
الذي لم يعد قادرا على المقاومة أكثر من ذلك .. على أطراف الغابة وقفت ثلة صغيرة
من الذئاب تعوي بأعلى أصواتها المرعبة .. كانت تناديه .. الغريب أنه صار يفهم
لغتها الآن ويدرك كل ما تريد أن توصله إليه من معلومات :
-" تعالي .. تعالي .. ننتظرك في ضوء القمر ! "
تردد النداء في المرة الأولي فحاول أن يصم أذنيه بأقصى
ما لديه من قوة :
-" تعالي .. هلم إلي مرتعك النبيل .. رافقنا تلك
الليلة ! "
تعالي النداء للمرة الثانية وخارت قوي " أيزيا
" تماما ، وصار بالفعل عاجزا عن مقاومة المزيد .. الغريب أنه كان يحاول
المقاومة والامتناع عن تلبية النداء رغم أن هذا ، وهذا بالتحديد ، ما عمل من أجله
وما حلم به طويلا !
-" هلم تعالي .. لا تتمنع ليلة طيبة وصيد وفير !
"
هنا تحطمت مقاومته تماما فهرول بأنفاس لاهثة إلي أطراف
الغابة .. حيث كانت أسرة كاملة من الذئاب تنتظره !
جروا أمامه فتبعهم ، توغلوا داخل الغابة وصعدوا تلا
قريبا .. وقفوا في ضوء القمر الساطع وأنطلق عوائهم المخيف يمزق الليل الساكن في
تلك الناحية الموبوءة .. كان عواء جماعيا هو أعنف وأخوف ما سمعته ( شيفلدان ) في
كل تاريخها الطويل .. فالويل لك يا شيفلدان .. الويل ، كل الويل ، لك !
.........................
في اليوم التالي أستيقظ سكان ( شيفلدان ) على نبأ العثور على جثة ممزقة
رابعة في تلك الأنحاء .. عُثر على الجثة الجديدة بالقرب من أطراف الغابة ، محاطة بغائط
حيواني كثير متجمد .. كان القتيل تلك المرة رجلا ولكنه مهم وعظيم الشأن ،
لقد كان السيد " بيرجيس " الأصغر
بنفسه !
كان " أرمان بيرجيس " قد توجه ناحية الغابة في
الليلة السابقة مطاردا حيوانا غريبا رآه من شرفة قصر الضيعة الكبير ، وأحب أن يثبت بطولته وجرأته بصيد ذلك الحيوان غير
معروف النوع .. لكنه غادر القصر على حصانه من دون علم أحد ، لذلك لم ينتبه أحد
لغيابه ، خاصة أخيه الأكبر ، الذي كان مخمورا وفي أشد حالات الثمالة ولم يبالي
باختفاء أخيه الأصغر ، ولا تغيبه طوال الليل عن القصر .. وكان العثور على "
أرمان " المدلل ممزقا بشناعة فاصل جديد في سلسلة حوادث الرعب التي تعيشها
مقاطعة ( شيفلدان ) لكنه كان فاصلا أهم وأكثر خطورة .. فلم يتحرك أحد أو يهتم
لسقوط ضحايا من الفلاحين أو التجار أو الراعيات أو الرهبان الفقراء .. لكن سقوط
المدلل الثري الجميل أهاج السلطات الحاكمة التي قررت ، في هبة مفاجئة للشجاعة
والاهتمام بأرواح الناس ، إطلاق حملة لتعقب وصيد ذلك الذئب المتوحش !
تم خلال أيام تجميع فريق من الصيادين ومطاردي الحيوانات
المفترسة ، وتزويدهم بالأسلحة اللازمة الكافية ..
ساهم السيد " بيرجيس " شقيق الضحية الأكبر في
الحملة ، ليذر الرماد في عيون المندهشين من بروده وعدم مبالاته بما حدث لأخيه
الأصغر .. وفي ليلة مقمرة انطلقت الحملة ، التي ضمت الرجال الأشداء الذين طاردوا
وأوقعوا وجندلوا وحوشا أكثر ترويعا ووحشية من وحش ( شيفلدان ) السخيف هذا .. لكنهم
ارتبكوا خطأ فادحا صغيرا .. فلقد اختاروا ليلة مقمرة لإتمام مهمتهم .. وبئس الاختيار والقرار كان هذا !
من ناحيته لم يطلب أحد من " أنسيل " ، الخادم
الضخم العملاق ، الانضمام لحملة الصيد هذه .. وإن كان البعض قد اقترحوا ضمه إليها ،
المفرطة وضخامة بدنه لكن لم يستمع أحد
لتلك المقترحات المتعجلة لحسن حظ " أنسيل " نفسه !
لذلك ، وبينما
كانت أملاك السيد " بيرجس " تعج بالحركة والنشاط والاضطراب من أجل تجهيز
، وإطلاق حملة صيد الذئب الموعودة ، وفي خضم انشغال الجميع أختفي " أنسيل
" .. وتواري بعيدا عن العيون في مكان لا يعلمه أحد !
تعليقات
إرسال تعليق