التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحلقة الثانية

 

في ضوء القمر ووجهه يسبح  في نوره الساطع وقف .. كان يقف أمام الكوخ بالضبط .. إن المزيج يغلي على النار الآن وقد وصل إلي  مرحلة النضج تقريبا .. النضج القريب يعني خلاص قريب يا فتي فأصبر وأنتظر ..
خلاص من الجوع الذي مزق أحشائه منذ ثلاث ليال قضاها في سجن السيد عقابا له على سرقة قطعة اللحم .. لم تسمنه قطعة اللحم المسروقة ولم تغنه من جوع لكنها تسببت في أن يُترك ليتضور جوعا ثلاثة ليال بطولها .. أي نوع من الناس أولئك الذين يتركون إنسانا يكاد يهلك جوعا لمجرد خطأ صغير كهذا ؟!
من داخل الكوخ صدرت رائحة شهية تدل على اقتراب نضج الطعام .. لقد أخرجوه من السجن ، بعد أن نال وصلة لوم وتقريع وتعنيف من السيد ومن نائبه ذو الأسنان المتآكلة ، وتركوه يعود لكوخه .. في طريقه نصب فخا متقنا ووقع له بعد قليل أرنب سمين كان يبدو وكأنه خُلق خصيصا لكي يعوضه عن الجوع الذي نهش أحشائه طويلا .. همس شاكرا بمجرد أن أمسك به :
" شكرا للرب "
وذهب لكوخه سريعا ليعد وجبة دسمة تسمنه وتغنيه ..
لكنه بينما كان واقفا أمام الكوخ منتظرا نضج الوجبة ، فلم يتحمل قلبه المتلهف الانتظار طويلا على كثب من الأرنب الذي لا زال أمامه بعض الوقت ليكون جاهزا للأكل ، رأي " أنسيل " شيئا غريبا ..
لقد رأي ظلا ضخما يتحرك أمام قرص القمر المكتمل !
حدق " أنسيل " وفتح عينيه على أتساعهما محاولا تحديد شكل هذا الظل المتحرك أمامه .. كان هناك جسم يتحرك ، فيما يبدو ، فوق أحد التلال القريبة ملقيا بظله الضخم على قرص القمر اللامع .. فجأة شعر " أنسيل " بأمعائه تهتز ، ولم يكن اهتزازها ناتجا عن الجوع هذه المرة .. بل عن الخوف !
لقد تذكر كل ما سمعه عن هجمات الذئب العملاق الذي أوقع عدة ضحايا في المناطق القريبة .. أيكون دوره قد حل تلك الليلة المشئومة ؟!
لا .. ليس بتلك السهولة سيدخل كوخه ويغلق بابه على نفسه جيدا .. سيأكل أرنبه الناضج السمين ثم سيخلد للنوم .. ليس تلك الليلة أيها الذئب المتوحش فأبحث لنفسك عن فريسة غيري الليلة !
بالفعل أسرع " أنسيل " إلي داخل الكوخ .. أغلق الباب وأستخدم قطعة خشبية ضخمة ، يحتفظ بها عنده ، في تدعيم باب الكوخ وتقوية موقفه ..
 كان الأرنب السمين يسبح في حسائه الدسم واعدا بعشاء فاخر قد يضاهي عشاء السيد ذاته .. لكن صوت الزمجرة الشرسة الخفيضة الآتية من الخارج جعلت الأرنب ينزلق بصعوبة في معدة " أنسيل " الخالية ..
تناول القن عشائه .. وفرش أغطيته على الأرض وتدثر بها ، بعد أن أطفأ النار ، محاولا الاستغراق في النوم ..
مضي وقت لم يستطع " أنسيل " تحديده لكنه الشيء الوحيد الذي يمكنه تحديده بل والتأكد منه أن صوت الزمجرة والخشخشة قد أختفي نهائيا ..
أرهف " أنسيل " أذنيه جيدا .. كان الهواء طيبا بالخارج ولا رياح شديدة ولا أي صوت يمنعه من تسمع ما يدور حول كوخه .. وكان الكون بالقرب من الكوخ ساكنا صامتا هادئا تماما ..
خرج من فراشه ، كانت قدماه تقودانه بالرغم عنه ، وقف بقرب باب كوخه يتسمع .. لا صوت ولا حركة ولا نأمة !
قادته قدماه ثانية ولكن إلي الخارج هذه المرة .. وقف خارج بابه يتطلع للكون المظلم من حوله .. لا شيء مخيف لا شيء مقلق ..
كاد يرجع إلي كوخه وإلي فراشه حينما شعر بحركة واهنة بقربه .. تجمدت أوصاله حينما أنطلق صوت خفيض مهدد من خلفه .. عواء خفيض مصر ..
نظر " أنسيل " خلفه ببطء لكن بطئه ولا سرعته لم يكونا ليضراه شيئا .. لأن الضرر نفسه واقف خلفه الآن !
هجم الوحش الضخم على التابع المسكين من خلفه .. أسقطه أرضا ومزق كتفه وجزءا من ظهره في وحشية خاطفة .. لم يعطه فرصة للصراخ ولا للمقاومة ولا حتى للإصابة بالقدر الواجب من الرعب ..
كان هجوما خاطفا مريعا .. تمخض عنه رجل ملقي على الأرض غارق في دمائه وفاقدا لوعيه وملقي بالقرب من باب كوخه الصغير ..
سقط " أنسيل " أرضا مضرجا بدمائه النازفة .. لم يجد حتى الفرصة الكافية للصراخ !
جرحه الوحش جروح بليغة وقضم جزاء كبيرا من لحمه ثم تركه ليقضي بمفرده ..
ظل " أنسيل " الجريح راقدا على ظهره ساعات فاقدا لرشده .. مرت ساعات أخري وهو غير واع لما يحدث في الكون حوله حتى أقترب الفجر .. في تباشير الفجر بدأ " أنسيل " يسترد وعيه .. فتح عينيه للحظة ثم أنقلب على وجهه وأفرغ محتويات معدته بأكملها .. سقط الأرنب السمين ، الذي لم يعد كذلك ، من معدته .. أسترد " أنسيل " وعيه شيئا فشيئا ببطء شديد ..
وببطء شديد بدأ ينهض من سقطته .. وقف أخيرا على قدميه متطلعا للبقعة التي كان ساقطا فيها ولنفسه بدهشة شديدة ..
كانت الدماء الجافة تغطي المكان من حوله .. تفحص جسده ببطء .. قميصه ممزقا وقد تحول لأشرطة مدلاة على جانبيه ونصفه الأعلى شبه مكشوف .. لكن جلده سليم تماما .. لا تمزقات ، ولا تهتكات ، ولا جروح .. لا جروح على ظهره أو على ذراعيه .. لا جروح في أي مكان !!
...
في داخل الكوخ أستقر المقام ب" ايزيا " ، وتلك المرأة الغامضة التي تطلق على نفسها اسم " سيليمن " .. حتى هذا اللحظة لم يكن " ايزيا " فاهما لما تريده تلك المرأة الغريبة منه ، ولا حتى يعرف لماذا اهتمت بأمره وعرضت مساعدته ، ولا نوعية تلك المساعدة التي ستقدمها إليه .. لكنه في كل الأحوال كان منتظرا تحقيق وعدها بصبر فارغ وقلب جسور شغوف مستعد لتقبل أي شيء وكل شيء .. ما دام واعدا بالتحرر من سيطرة الآخرين وإذلالهم له !
وضعت المرأة قدرا على نار حامية ، لا يعرف ولم يلاحظ متى ولا كيف أشعلتها ، وبدأت خيوط من أدخنة خفيفة ملونة تتصاعد منه على الفور .. همست المرأة ورموشها ترتعش بإغراء :
-" أتحب القوة يا " ايزيا " ؟! "
نظر لها الرجل المقصود لحظة بصمت عاجزا عن الرد ، فعاودت سؤاله بلهجة أكثر نعومة وإغراء تلك المرة :
-" أتحب القوة يا " ايزيا بن هيبوليت " .. أتحب أن تكون رجلا قويا ؟! "
أستفزه سؤالها فهل هي ترمي إلي اتهامه بالضعف ، وتدعي بأنها هي التي ستعطيه القوة .. ألم تسمع عن بطولاته وضرباته القوية التي هشمت فكوك ورؤوس منافسيه في القرية من قبل ؟!
رد بخشونة متعمدة أكسبها لصوته الحاد القوي :
-" لست بحاجة إلي القوة فأنا قوي بالفعل ! "
هنا انطلقت " سيليمن " تضحك .. ضحكت برقة فلم يثر ضحكها غضب " ايزيا " ، ثم اقتربت منه ومدت يديها ذواتا الأظافر الطويلة المطلية بلون غريب ، وبدأت تلمس صدره العاري القوي وتهمس له بخفوت :
-" ليست القوة أن تصرع الآخرين يا فتي ما داموا قادرين على أن يردوا لك الضربة .. القوة الحقيقية أن تضرب دون أن تواتي أحد الجراءة على رد الضربات لك أو مقاومتك ! لذلك فالحيوان أقوي مننا .. لأنه يضربنا ويخيفنا في نفس الوقت .. "
استمرت المرأة تلامس صدر " ايزيا " برقة للحظة ، وهي ساكتة ثم عادت لإكمال كلامها قائلة :
-" أنا أحب الحيوانات لأنها قوية بحق ، ولأنها لا تخفي قوتها ولا تحاول التظاهر بالضعف .. أنا أحب الحيوانات وأنت حيوان يا ابن " هيبوليت " .. لذلك عزمت على مساعدتك وتقديم العون لك بشرط صغير ! "
بصمت متسائل نظر لها " ايزيا " الخاضع للمساتها ، التي أثارت القشعريرة في جسده ، منتظرا أن تبوح له بشرطها الصغير هذا لكنها لم تتكلم أكثر من ذلك ، بل اتجهت إلي القدر التي ملأت أصوات فوران المياه بداخله الكوخ ، وأخذت تلقي بداخله أصنافا مختلفة من الأعشاب والنباتات ، وهي تدمدم بكلمات غامضة تتبعها بالمزيد من تلك الأعشاب الغريبة .. فجأة انطفأت النيران من تلقاء نفسها !
تصاعدت أدخنة خضراء متراقصة كثيفة من الوعاء ، تصاحبها رائحة قوية للغاية ، لم تكن رائحة سيئة لكنها نفاذة وقوية جدا ، انطفأت على أثرها النار وخمدت خمودا كاملا !
أمسكت " سيليمن " بالوعاء الساخن بيديها ببساطة ، واقتربت وهي تحمله من " ايزيا " ثم طلبت منه بحزم أن يخلع ثيابه .. نظر لها الرجل لحظة بصمت وشك وفتور ثم بدأ يمتثل لطلبها دون كلمة ..
وقف " ايزيا " أخيرا أمامها مكشوف الجسد ، وبدأت هي تغمس أصابعها الطويلة في القدر وتدهن جلده الصلب الجاف بخلاصة ما يحتويه القدر من مواد عجيبة ..
بدأت تدهنه برقة وتسد مسامه بذلك المَرُوخُ السميك ، الذي يشبه الزبد في دسامته ونعومة ملمسه ..
غطته " سيليمن " بذلك الدهان في أقل من لحظة ، ثم ابتعدت عنه وتركته واقفا أمامها مغطي بالدسم .. استمر " ايزيا " ينظر إليها منتظرا أن تتفوه بأي شيء ، أن تفسر له ما فعلته ، أن تحقق ما وعدته به لكنها لم تفه بكلمة واحدة زائدة ..
أنتظر " ايزيا " طويلا تقديم التفسير المقنع ولما لم يأتي سألها بقلق :
-" أهذا كل شيء ! "
انصرفت عنه المرأة جارة شعرها الطويل المنساب خلفها ، وذهبت لتستلقي على فراش خفيض دون أن تتحدث ثانية ..
سألها للمرة الثانية بقلق وشعور بخيبة الأمل :
-" أهذا كل شيء ؟! "
فردت عليه المرأة بصوت منغم حازم :
-" عد لبيتك يا " ايزيا " ! "
بدهشة عارمة تساءل الرجل العاري :
-" ألم تعديني بتقديم العون لي في تحقيق أحلامي ؟! "
بثقة أجابت وهي تسحب غطاء سمكيا حتى ذقنها :
-" وقد فعلت ! عد لدارك يا " ايزيا " ! "
-" ولكن .. "
قاطعته المرأة وهي تغمض عينيها مستسلمة للنوم :
-" عد لدارك يا ابن " هيبوليت " وأنتظر الغد .. أليس الغد بقريب يا عزيزي ؟! "
 
كاد " ايزيا " يعترض ويطلب المزيد من التفسير ، لكنه أمتثل وأرتدي ثيابه وغادر الكوخ بصمت عائدا لبيته الصغير الحقير .. وهناك خلع ثيابه ليتهيأ للنوم فلاحظ ، لأول مرة ، أن هناك شيء غريب نما على جسده فجأة ، شعيرات .. شعيرات جامدة قصيرة خشنة شديدة السواد ، ومختلفة تماما عن شعر جسده الفاتح اللون .. لم يكن هذا هو أغرب ما في الأمر .. الأغرب فعلا هو أن لون جلده نفسه تغير بدرجة كبيرة وبدأ يحس بشيء غامض يتمشي في عروقه ويمتزج بدمائه .. إنه النداء بدأ يتعالي أخيرا ويصل إلي دمه وأذنيه !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...