التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحلقة الأولي .

 

 

أنفتح الباب العملاق كاشفا عن العالم المتسع المدهش القابع خلفه .. كان القصر فخما ومتسعا أكثر مما تخيل وأكثر مما يجب ! 
إنه يعلم جيدا أن آل " دوريا " من أغني أغنياء الإمبراطورية وأكثر أسرها ثراء وعراقة نسب وسمو أصل .. ويعلم أن لديهم منزلا فخما مثيرا للدهشة بحجمه الهائل .. لكن إلي هذا الحد ؟!
إنه لا يكاد يصدق ما تراه عيناه .. فخلف الباب توجد ساحة استقبال فاخرة لا تقل مساحتها عن مساحة أكبر قاعات القصر الملكي .. ومزدانة بتماثيل برونزية وعاجية وفضية وأوثان غريبة المنظر ملتفة بالذهب ، وبأردية كهنوتية غريبة الطابع والمنظر ، ومرصوفة بأفخر أنواع الرخام وأكثرها فخامة وأغلاها ثمنا ..
وفوق كل ذلك كان طاقم الخدمة ، الذي أصطف كجنود حراسة لا يريمون ولا يتحركون من مواضعهم قيد أنملة ، يرتدي ثيابا موحدة فخمة للغاية ، أفخم حتى من الثياب التي رأي سيدته السابقة ترتديها .. لكن الغريب في الأمر أن المقاعد الخمس المذهبة التي خصصت لأفراد السلالة الارستقراطية العريقة لم يكن يحتلها سوي خمس نساء .. خمس نساء ولا رجل بينهن !
الرجال ، بعضهم ، يقفون خلف مقاعدهن بانتظار الأوامر .. لكن في مجالس الآمرين المتسلطين لم يكن هناك سوي نسوة عجائز قبيحات متشابهات إلي حد مثير للدهشة والرعب !
خمس نسوة لكن أين رجالهن ؟!
مال الفتي النزق الأخرق علي من أتي به هنا وسأله مندهشا :
" أين سيد العائلة ؟! "
دفعه السائس العجوز المرهق في كتفه خلسة وقال له مغتاظا :
" ليس هناك سادة .. إنهن وريثات - دوريا - .. السيدات هن كل شيء هنا ! "
دهش الفتي وتعاظمت حيرته .. إذن فسيعمل تحت إمرة نسوة مسنات عانسات علي الأرجح !
أهذا شيء جميل ؟!
لم يجد وقتا كافيا للتفكير في إجابة السؤال فقد أشارت إليه أحداهن بالاقتراب .. كانت أشدهن نحولا وبروز عظام .. ترتدي ثوبا علي الموضة لكنه محتشم متحفظ ينحني قبه العلوي ملاصقا للترقوه مخفيا عظام صدرها النحيلة البارزة ، وتغطي شعرها بزينة متلألئة من ماسكات الشعر الذهبية المتنوعة .. يداها النحيلتان كانت مغطاتان بالجواهر البراقة .. وفي يدها غليون مشتعل تنفث أدخنته علي فترات منتظمة وكأنها تؤدي دورا رتيبا في مسرحية مملة كل فقرة فيها محددة بوقت محدد .. كانت هي الوحيدة التي تدخن بينهن ، في ذلك اليوم علي الأقل ، وكانت تلك ميزة تظهر هيمنتها علي الجلسة الأسرية .. فقد كانت أكبرهن سنا وتقوم بدور الوصية القانونية علي كافة أملاك وأموال آل " دوريا " التي يصعب حصرها .. إنها الأخت الكبرى " دوروثيا " المتغطرسة !
رمقت النسوة سائس الخيل الجديد المقترح ، فلم يكن أمر توظيفه قد حُسم بعد ، بهدوء وصمت كامل .. ورغم هدوئهن الظاهري إلا أن نظراتهن إليه أشعرته بخوف وارتباك وجعلت برودة غير لطيفة تتمشي في أوصاله .. حتى أنه كاد يتعثر بطرف السجادة الهائلة حينما دفعه مقدمه إلي الأمام ليكون في دائرة رؤية السيدات .. تماسك ولحق نفسه ورفع عينين متوترتين ينظر إلي النسوة الخمس اللائي يرمقنه من فوق الطرف الآخر من السجادة بلا اهتمام تقريبا ..
أخيرا تعطفت عليه السيدة الحاكمة وقالت متسائلة بنبرة هادئة رزينة :
" يا غلام .. أتسمح لي بمعرفة اسمك ؟! "
نطق متعثرا متلعثما :
" أنطوان يا سيدتي ! "
قال الفتي فتقدمت السيدة بوجهها إلي الأمام مظهرة بجلاء أنها لم تكد تسمع شيئا .. فكرر الفتي مرتعشا أكثر :
" أنطوان يا سيدتي ! "
عبست النسوة كلهن دفعة واحدة وكانت " دورثيا " أكثرهن عبوسا وتقطيبا .. نفخت دخان غليونها برتابة ثم هتفت متسائلة ولكن بلا أثر لانفعال :
" هل أنت من أصل فرنسي يا فتي ؟! إن الأدميرال " نلسون " هو والد أمي .. ولن نقبل بوجود أحد من دم الكورسيكي[1] الحقير علي أرض " دوريا " المقدسة ! "
هز الفتي رأسه فورا نافيا الجزء الأول من التهمة بينما لم يفهم بقية الكلام وهتف فورا خائفا أكثر :
" لا يا سيدتي المبجلة .. إنه مجرد اسم ! "
أفرخ روعها وبدا وكأن أحدهم أنتزع دبوسا كان يشكها في مؤخر رأسها وظهرت عليها علامات الارتياح .. صمتت وصمتوا كلهم حولها لدقائق قبل أن تعود لتتساءل :
" هل تحب الخيل يا " أنطوان " ؟! "
ابتسم الفتي للمرة الأولي منذ أن دخل هذا الحمى الفخم المخيف ورد فورا بإخلاص :
" أجل يا سيدتي .. الخيل هي حياتي .. أنا .. "
لكزه راعيه في ظهره ليكف عن الكلام ويسحب ابتسامته الزائدة .. فقد بدا للسائس العجوز أن الفتي قد تحدث أكثر مما ينبغي وابتسم أكثر مما ينبغي أيضا !
عادوا للصمت .. فكرت السيدة قليلا ثم قالت مخاطبة راعي الفتي الذي جاء به إلي هنا :
" " جوديفا " .. خذ هذا الفتي وجربه بحسب خبرتك المهنية .. وإن أجتاز المستوي المطلوب فاعهد إليه ب" إيمرت " و" والي " ! "
أنحني " جوديفا " ومد يده ليسحب الفتي خارجا بعد أن قدم احتراماته للسيدات الخمس ، اللائي لم تنبس أربعة منهن بحرف واحد ، وغادرا معا دون كلمة .. فقد كانت المقابلة قد انتهت !
...
خرج الفتي محصورا روحيا من لدن النسوة المخيفات المتشابهات .. كن جميعهن يعقصن شعورهن ويزيننها بنفس الطريقة حتى بدون كلهن كأحجار شطرنج متماثلة تماما وهذا أكثر ما جعلهن مرعبات حقا ..
قال " جوديفا " للفتي بهدوء :
" فرصة عظيمة لك يا فتي .. لن تجد منزلا عريقا وحياة ناعمة كما يوجد هنا ! "
أرتعش صوت الغلام وهو يرد متجاهلا المغريات التي يقدمها له راعيه بطريقة معسولة :
" إنهن مخيفات ! "
رمقه الرجل المسن الذي عرك الدنيا طويلا حتى طرحته أرضا واستوت كجلمود صخر فوق أنفاسه :
" لم يطلب منك أحد أن تحبهن .. فقط اعمل لديهن "
فكر " أنطوان " قليلا ثم سأل محترزا من إثارة غضب راعيه رغم أنه يعرفه باردا قليل الانفعال :
لماذا تبدون كلهن متشابهات هكذا ؟!
فاجأه " جوديفا " برد زاد من رعبه منهن :
إنهن خمس توائم !
اتسعت عينا الفتي وتساءل برعب :
ماذا ؟! خمس توائم .. ولدن لساعة واحدة وحواهن رحم واحد .. يا إلهي !
رد عليه " جوديفا " الذي مل الخوض في خصوصيات سيداته المتأنقات :
" إنهن لسن توائم ساعة واحدة يا أبله .. أربعة منهن فقط هن اللائي ولدن معا .. أما السيدة الكبرى " دوروثيا " فقد فقدت توءمتيها في سن الرضاع ! "
إذن فهن أصلا سبعة توائم ماتت منهن اثنتان .. أي عائلية قططية ولوده هذه ؟!
عاد الفتي يكرر مستسلما هذه المرة :
تبدون مخيفات .. لا تبدون وحسب .. إنهن مخيفات حقا !
أجابه راعيه بحدة لكن دون أن يرفع صوته :
إنهن يقدمن أجرا طيبا وطعاما وفيرا ومسكنا لائقا .. ولن تعمل عملا شاقا بل ستنام في غرفتك مرتاحا دافئا قبل أن ينتصف الليل .. ماذا كنت تفعل في مزرعة آل " جود ؟! حدثني عن المعاملة الرائعة التي كنت تتلقاها هناك !
آتاه خطاب " جوديفا " موجعا فوق الجرح تماما فتراجع الفتي مائة خطوة إلي الخلف وأظهر إذعانا وهو يقول :
" نعم أنت علي حق .. هنا خير من أرض آل " جود " .. لكنهن مخيفات حقا ! "
نفخ الراعي المسن حنقا لكنه ترك الفتي وعاد إلي الداخل ليبلغ الوصية أنه قرر توظيف الفتي .. بينما بقي أنطوان في الحديقة الفسيحة المترامية بمفرده .. لقد قرر العمل لدي آل " دوريا " وأنتهي الأمر .. لا يعرف إن كان قراره صائبا أم خاطئا تماما لكن " جوديفا " المسن الأحمق علي حق في كل كلمة قالها .. فكر الفتي قليلا في المستقبل الذي ينتظره تحت إمرة أولئك النسوة الفظيعات .. لكن تفكيره قوطع بغتة وعلي نحو مفاجئ تماما .. فقد بدأ يلحظ ، من مكانه في طرف الحديقة الشرقي ، شيئا غريبا للغاية .. شيئا علي مرمي البصر منه ويبدو عجيبا للغاية !
...
أعطوه حجرة في الجناح الجنوبي من غرف الخدمة ليكون قريبا من الإسطبل .. كان يتمني أن يكون في موضع بالقرب من البناء الأزرق لكن حظه شاء له أن يبتعد عنه .. وأصلا لم تكن السيدات لتسمحن لأحد بالاقتراب منه خطوة واحدة ! 
في تلك الليلة أكل " انطوان " طعاما طيبا ، عشاء وفيرا لذيذا وتمدد علي حشية لينة محشوة بما بدا له لفات من أقمشة ناعمة حريرية الملمس فأخذت الحشية تدغدغ جلده من أسفله محدثة أثرا ممتعا في جسده وهو يتقلب علي جانبيه طلبا للنوم .. فقد كان النوم عصيا رغم كل ما أحيط به من عوامل هناءة !
كان الفتي من النوع الفضولي المولع بدس أنفه في كل ما يراه ، خاصة لو كان شيئا لا يفهمه أو يدرك له معني .. وهو لا يستطيع أن يعثر ، بعد كل ما بذل من جهد في التفكير واستنطاق الأدلة وفحص الأمثلة القريبة ، علي معني لوجود هكذا بناء غريب متوحد منعزل في وسط حديقة القصر الشامخ الفسيح .. فهل هو قبر مثلا ؟!
لكن لأي مبرر يبنون قبرا في ذلك المكان غير الملائم كليا .. هل هو نصب تذكاري لأحد أجداد الأسرة العظماء ؟!
للأدميرال " هوراشيو نلسون " مثلا .. لكن يبقي السؤال معلقا بلا جواب شاف .. لأي غرض يوضع هذا البناء الغريب هنا ولما هو مصمت تماما .. كيف يدخلون إليه إذن ؟!
دارت رأس الفتي الذي ثرثر مع نفسه داخل رأسه حتى أوجعته رأسه وأصابه الصداع .. قرر أخيرا أن يهجع وينام موفرا علي نفسه كل تلك المتاعب التي لا نفع فيها له ولا لغيره !
نام أخيرا !
نام !
لكنه صحا بعد أقل من ساعة علي أصوات غريبة آتية من خارج الغرفة التي يرقد فيها .. أصوات جياد مذعورة !
كانت ثمة جياد تحرن وتصيح غاضبة .. لكن لأي سبب ؟!
أزاح الفتي الغطاء وهرع إلي الخارج .. لم يفعل ذلك بوحي من مهام عمله بل لأنه وقع في غرام أحصنة العائلة بمجرد أن رآها .. " إيمرت " الأبيض الشاهق الجميل و" والي " الذهبي الملكي المتغطرس .. كم هما جميلين وكم هما رائعين ومحببين !
هرع إلي الخارج إذن فوجد الخيل ثائرة بالفعل .. الغريب أن رئيس الإسطبل " غرانفيل " ولا أحد من مستخدميه المتعددين جاء علي صوت الجياد ليري ما يحدث .. الجميع بقوا في الداخل رغم ارتفاع صوت استغاثات الحيوانات العجماء !
في الإسطبل كان الجوادين في حالة هياج كامل وكلا منهما يحاول أن يفر من قيوده بطريقة جنونية .. لم يكن هناك شيء هنا .. لا شيء مثير للفزع فما الذي دهي هذين الجوادين ؟!
تطلع " أنطوان " حوله وتفحص الإسطبل وما حوله فحصا كاملا وتمشي حول المكان فلم يجد شيئا غريبا أو دخيلا .. إنه عاجز عن الفهم الآن !
فجأة رأي " أنطوان " ضوء يقترب منه .. لم يعرف إن كان ضوء شمعة أم ضوء مصباح غاز فقد كان مكتوما وكأنه حوله سحابة ضبابية تحجب نوره وتمنعه من التوهج والانتشار .. لكن الضوء ، وحينما كان علي مسافة مناسبة ، كان كافيا لكي يري الفتي علي موجاته الضعيفة أن ثمة شخص يقترب .. شخص يحمل شمعة ويسير ببطء وهدوء !
أقترب الضوء وحامله أكثر وشهق " أنطوان " فزعا فقد رأي قدا نحيلا لامرأة تضع حجابا شفافا حول رأسها وتسير عابرة الحديقة إلي الناحية الأخري حيث يقع المبني الأزرق الغريب !
لا شيء قادر الآن علي منع الفتي من تتبعها ومعرفة ما يحدث بالضبط هنا !
بخطوات غير مسموعة علي العشب المبلل بماء المطر سار الفتي حذرا متتبعا الخطوات البطيئة الثقيلة لمن تسير ، أو يسير ، أمامه .. سارا حتى وجد نفسه بالقرب من المبني الأزرق وهناك توقفت السيدة التي يغطي الحجاب وجهها ورأسها وينسدل فضله ليغطي رقبتها وعينيها !
كيف تري الطريق وعينيها مغطاتين ؟!
عجيب !
توقفت هناك ثم بدأت ترتعش وترتجف .. رفع " أنطوان " رأسه ليجد سحابة ثقيلة تحجب وجه القمر .. المطر قادم مرة أخري تلك الليلة !
عاد ينظر إلي حيث تقف المرأة فلم يجد لها أثرا !
اختفت تماما .. لكن البناء كان مفتوحا !
ثمة فتحة غريبة الشكل ، تبدو وكأنها جدار كامل تم إزاحته أو إزالته ، يشع منها نور واهن وتنبعث من داخلها أصوات خفيضة تنادي هامسة بصوت منغم غريب :
" أرشي .. أرشي ! "
كاد الفضول يقتل الفتي .. وبلا تفكير وجد نفسه يضع قدمه ليدخل ويري ما الذي يحدث في ذلك المكان الغريب .. لكنه شعر بيد ثقيلة تتشبث بكتفه من الخلف .. نظر خلفه مذعورا فوجد " جوديفا " ينظر إليه بوجه مرتعب غاضب .. هم الفتي بالاعتراض لكن الراعي المسن سحبه بقسوة وغلظة .. جذبه عبر الحديقة حتى أدخله إلي غرفته .. دخل خلفه بعد أن دفعه داخلا بقوة شديدة وغل ظاهر .. رماه داخلا ثم وضع أصبعه علي شفتيه محذرا وقال له مهددا :
" لا تتجول داخل القصر ليلا .. مهما سمعت فلا تترك غرفتك .. أرشي أيضا كان فضوليا مثلك ! "
تركه وذهب دون مزيد من التفسير .. وفي الصباح وجد " أنطوان " جمعا عدائيا صموتا يرفض جميع من فيه أن يفهمه شيئا أو يقدم له تفسير لأي شيء !
...
لم يجد الأدميرال الشجاع صعوبة في تحقيق هذا النصر الكبير علي الفرنسيين المتغطرسين .. ما الذي كان يظنه " برويس "[2]الأحمق وهو يقرر خوض المعركة ضد أسطول صاحب الجلالة " جورج الثالث " ملك المملكة العظمي وهو بتلك الحالة المزرية من نقص الاستعداد .. أكان يظنها لعبة صغيرة يخوضها بعصا خشبية ؟!
عموما فقد قدر للقائد الفرنسي ذو الأنف المرفوعة أن يدفع ثمنا غاليا لعنجهيته وثقته الزائدة بنفسه .. وكان الثمن فادحا للغاية .. ضياع أسطوله وتدميره وحياته هو شخصيا !
فقد حوصر الفرنسي العنيد هو وسفينته المحببة ( الشرق ) بمركبان بريطانيان أمطراه بوابل تلو وابل من القذائف صُرع القائد علي إثرها .. وما لبث القصف المخلص الدءوب أن أدي لإصابة مخزن الذخيرة علي متن المركب .. الذي أنفجر وتناثر بددا مخلفا سحابة هائلة من النار وعددا من الجثث المتناثرة ومؤديا لسقوط المزيد والمزيد من الضحايا من الفرنسيين .. أدي " نلسون " الجسور مهمته خير قيام ودمر أسطول الإمبراطور " نابليون " وحق له التفاخر بما فعله والتباهي !
لكن انتقام صغير كان ينتظر الأدميرال العنيد .. فالشرق لم تنفجر قبل أن يُسحب شيء صغير من جوفها ويُسلم إلي أمير البحار الإنجليزي ويُطلب منه التحفظ عليه وحمايته .. فعل ذلك ضابط فرنسي مغطي بدم المعركة وينازع الموت .. ضابط كان يدرك جيدا أن هذا الشيء لا يجب أن يترك ليدمر مع السفينة الفرنسية القائدة !
نجي الضابط ، الذي أعتبر خائنا فيما بعد ، وحمله البريطانيون إلي مراكبهم وعالجوه أو حاولوا ذلك .. لكن محاولاتهم المخلصة فشلت ومات الرجل بين أيديهم .. لكن " نلسون " لم يتواني عن تحقيق رجاء الرجل الأخير .. لأنه كبريطاني مخلص تعلم أن رد مطالب المحتضرين ليس شيئا واردا في قواميس الرجال أصلا !
لكن الشيء الذي أحتفظ به الأدميرال لم يكن إلا لعنة كبيرة حطت عليه وهو لا يدرك ذلك بعد !
...
في الصباح أستدعي " أنطوان " من قبل السيدات للمثول بين أيديهن .. توقع كارثة تحط عليه وعقاب صارم قاس يوقع عليه .. فلم يكن بإمكانه أن يتوقع من تلك الوجوه النحيلة القاسية سوي أكثر العقوبات قسوة وصرامة !
لكن الغريب أنهن لم يسألنه مطلقا عن أحداث الليلة الماضية .. بل سألته السيدة " دوروثيا " عن الجوادين وصحتهما وكيف يأكلان ثم أوصته ، أمرته في الواقع ، بأن يوليهما كل عناية ورعاية ممكنة .. أنصرف الفتي من حضرتهن تلبية للأمر الصادر إليه وهو في حيرة من أمره !
أتعبه التفكير كثيرا فقرر أن يتوقف عن التفكير .. مضت بقية اليوم علي خير حال حتى حل المساء !
هجع جميع سكان القصر العملاق عند إطفاء المصابيح في التاسعة والنصف مساء كما تقتضي تقاليد الأسرة العريقة .. لكن القليلون ظلوا ساهرين .. " أنطوان " كان أحدهم لكنه لم يكن يدري أن ثمة ساهر مسهد آخر بين جدران قصر " دوريا " مثله !
فجأة سمع الفتي الصغير دقا علي باب حجرته .. دقا حذرا متواطئا يبدو وكأن صاحبه لا يريد لأحد أن يسمعه .. بهت " أنطوان " وداهمه خوف غريزي لكنه أسرع نحو الباب وفتحه !
فعل ذلك ثم تراجع عشر خطوات إلي الخلف .. فقد رآها هناك تقف عند الباب !
السيدة ذات الحجاب الذي يغطي وجهها وعينيها المختفيتين تحت القماش الشفاف !
كانت تقف هناك وفي يدها شمعة بيضاء كبيرة ساكنة كقبر صامتة كجثة متصلبة كوتد خشبي .. ذعر الفتي ورمقها مرعوبا .. لكنها رفعت إليه عينان ثاقبان ساجيتان وهمست له من بين شفتين مقفلتين :
" هل رأيتها ؟! "
جف ريق الفتي ولم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة .. حاول أن ينطق للمرة الثانية وفشل .. لكنه نجح في المرة الثالثة فقد أحس أنها لن تبتعد إلا إذا أجاب علي سؤالها الغامض الذي لم يكن يعرف إجابته :
" من .. من هي ؟! "
صمتت للحظة ثم قالت بصوت مخيف :
" إليصابات .. أرأيت شقيقتي تهيم هنا .. خذني إليها ! "
هنا وصل الفتي آخر حدود تحمله فصرخ .. أنفتح فمه مطلقا أقوي صرخة أطلقها في حياته .. وعلي صوت صراخه أستيقظ الرقباء والنائمون وجاء " جرانفيل " ليستطلع الأمر وبعده مباشرة " جوديفا " القلق المذعور .. كان الفتي ملتصقا بركن الجدار الملاصق للباب وشاحب ومتعرق رغم برودة الجو .. أخذ يشير بأصابع مرتجفة نحو الباب ويصرخ :
" عفريتها .. عفريتها يقف هناك ! "
حاول الرجلان تهدئته ليفهما منه ما حدث .. لكن تطورا أكثر سوأ حدث في لحظتها .. فقد شوهدت السيدة الكبيرة آتية بملامح قلقة وخلفها وصيفتيها .. لا يدري أحد كيف سمعت صرخات الفتي وهي تبعد عنه مسافة شاسعة .. لكن ليس هو الأمر المثير للدهشة !
فلقد ألقي عليها " أنطوان " نظرة واحدة ثم تهاوي فاقدا الوعي رعبا .. فقد كان الغريب حقا أن السيدة " دوروثيا " تضع حجابا شفافا علي رأسها وتمسك بيدها شمعة يرتعش لهبها المتراقص راسما دائرة من الضوء الناري حول وجهها .. دائرة من الضوء الأحمر الجهنمي المخيف !

[1] الكورسيكي : المقصود نابليون بونابرت 
 
[2] الأميرال  " برويس " قائد الأسطول الفرنسي في معركة أبو قير البحرية 1/2 أغسطس 1798م والجزء الخاص بالشيء من نسج الخيال .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...

شيرلوك هولمز التحقيقات الجنائية : أبو الطب الشرعي قاهر القتلة !

  " برنارد سبيلسبري "  الرجل الذي جعل من علم الأمراض علما له قواعد وأصول .. نظرة ثاقبة وذكاء حاد وعناد لا حد له   شهد عالم الجريمة شخصيات لامعة ذاع صيتها ، وعالم الجريمة ، كغيره من مجالات الحياة والعمل المختلفة يضم نخبتين وفصيلين : رجال الشرطة واللصوص ، المجرمين ومحاربي الجريمة ، القتلة والأشخاص الذين نذروا أنفسهم لتعقبهم والإيقاع بهم ،ودفعهم إلي منصات الشنق أو تحت شفرات المقصلة أو إلي حياض أية ميتة لائقة بهم . وبطلنا اليوم هو واحد من أبرز وألمع من ينتمون إلي الفئة الأخيرة : إنه الطبيب الشرعي الأكثر شهرة وإثارة للجدل ، الرجل الذي جلب على نفسه عداء عدد لا يُحصي من المجرمين والسفاحين والقتلة ، إنه سير " بيرنارد سبيلسبري " ، متعقب القتلة وعدو المجرمين وصاحب أكبر عدد من القضايا الملغزة التي لا تزال الكتابات والتخمينات حولها مجال خصب للإبداع والجدل ملتهب الأوار .   ميلاد الرجل المنتظر ! خرج " برنارد " إلي النور يوم 16 مايو 1877م(1) ، في يوركشاير ، وهو الابن البكر للمتخصص في كيمياء التصنيع " جيمس سبيلسبري " وزوجته " ماريون إليزابيث جوي " ، كا...