التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحلقة الثالثة .


 
أما " أنطوان " فقد تعاظمت دهشته .. إنه لا يفهم شيئا مما يحدث هنا .. بل الأدهى أن الجميع يبدون كذلك .. لا أحد يفهم لكنهم يلوذون بالصمت حفاظا علي عيشهم وأجورهم السخية !
إنه لا يتفهم بتاتا سبب هجمة الحيوان المفترسة علي المرأة الكهلة .. ما الذي يدفع جواد أصيل تربي جيدا وتلقي العناية الأكثر من كافية ، يهجم فجأة علي سيدته ويوسعها ركلا وضربا ، ويبدو أنه كان يحاول الفتك بها فعليا ؟!
لغز غريب لكن تلك الليلة كانت تحمل في طياتها لغزا آخر .. أو حلا لجزء من اللغز الأول .. وهذا يتوقف علي من يري ويسمع ويملك عينان ليري بهما وأذنان للسمع !
كان " أنطوان " يخشي أن تقدم السيدة علي تنفيذ تهديدها وتقدم علي قتل " والي " فعلا .. وأنحصر تفكير الفتي في أن يتأكد من أنهم لن يقدموا للحيوان الجميل طعاما مسمما لقتله .. لذلك ذهب ليأتي بعشائه وعشاء " إيمرت " بنفسه من مخزن إسطبل " جرانفيل " وحرص علي أن يأخذ من أسفل كومة العلف ومن قلبها ، لأنه علي فرض أنهم سيعدون كومة من العلف المسمم للحصان فسيحتفظون بها في جانب مخصص ولن يضعوها في قلب الأعلاف المخصصة لإطعام بقية الجياد التي تمتلكها عائلة " دوريا " .. كما جلب بعض الشوفان الممزوج بالنخالة ليطعم به الحصانين في حالة عزوفهما عن تناول الأعشاب الرخصة اللينة !
كان " أنطوان " قد أحب مخدوميه الحيوانين بالفعل .. لم يعد يهتم بهما لأن ذلك من مقتضيات عمله ومن مهام منصبه .. لكن الحيوانين صارا يعنيان له الكثير !
ولأنه أحبهما ، خاصة " والي " الجموح المتمرد ، فإنه صار مؤهلا لأن يكون درع حماية لهما .. وصارا مؤهلا لأن يري ما عجز الآخرون عن رؤيته !
ولذلك فما أن انتهت الليلة ورقد الفتي في فراشه حتى سمع صوتا غريبا يتردد أمام باب غرفته .. صوت حمحمة !
أجفل الفتي وقد خشي أن يكون أحد الجوادين قد أنفك من عقاله وأخذ يجول في المزرعة وحديقة القصر مما قد يسبب له كبير الأذى .. لكن أصلا كيف خرج أحدهما من الإسطبل وبابه مغلق عليهما جيدا وبيديه هو ؟!
أسئلة لا معني لها لأن " أنطوان " لم يجد وقتا كافيا للتفكير فيها أو البحث عن أجوبة لها .. فقد تردد الصوت الغريب مرة أخري بنبرة أعلي وأكثر وضوحا !
إن من يقف ، أو ما ، يقف أمام باب غرفته المغلق الآن يدعوه ويعرف أنه موجود ويريده أن يري شيئا .. هب الفتي من فراشه وفتح الباب وعلي أضواء النجوم الخافتة تلك الليلة ، إذ كان القمر محتجبا خلف السحب الرمادية الكثيفة ، رأي " والي " يسير علي مقربة من المبني الأزرق !
" والي " المربوط في الإسطبل .. كيف خرج منه وكيف تحرر من عقاله ؟!
شعر " أنطوان " بالذعر لكنه أحس بشيء غريب يحدث .. لم يقف الحصان بقرب بابه ويصدر صوتا داعيا ليعرفه أنه هرب من الإسطبل بالطبع .. إذن ماذا يريد الحيوان ؟!
تبعه ببطء وبعد خطوات وجد الحصان يدير رقبته ويرمقه بنظرة طويلة .. نظرة من عينان حيوانيتان لكنهما حملتا نظرة توسل ونداء من كائن لا يعرف كيف يتكلم لكنه يعرف كيف يعبر عما يريده بعينيه النفاذتين .. أيتبعه أم يمسكه ويعيده إلي الإسطبل ؟!
قد يفقد عمله ويًطرد إن فعل شيئا غير القيام بمهام عمله كما ينبغي والقبض علي الحصان المتمرد وإرجاعه إلي بيته بجوار رفيقه " إيمرت " .. لكن من قال أن الفتي كان يفكر في كيفية الحفاظ علي عمله في تلك اللحظة .. إنه يفكر في إشباع فضوله وأن يروي شوقه إلي المعرفة واكتشاف السر الكامن هناك وليذهب العمل إلي الجحيم !
تبع الحيوان إذن وبدا أن " والي " قد أحس بأن راعيه قد استجاب لحمحمته المستعطفة فشحذ همته وشد الخطي وبدأ في الالتفاف حول المبني الأزرق ثم بقفزة واحدة عبر سورا خفيضا تتواري خلفه مساحات من أراضي " دوريا " لم تخطو قدمي الفتي فوقها من قبل ولا مرة واحدة .. أين يذهب به الجواد وماذا يريد بالضبط !
أستمر يلاحقه بعد أن عبر السور المنخفض بدوره بفتحه ثم إغلاقه خلفه .. وجد نفسه يسير متعقبا ذو القوائم الأربع عبر مساحة شاسعة مظلمة لولا ضوء النجوم لما تمكن من رؤية شيء بها بالمرة .. سارا خلف عضهما في ركب صامت لا تقطعه سوي حمحمات " والي " التي تصدر من وقت لآخر حتى انفتحت عينا " أنطوان " ليجد نفسه واقفا بإزاء مستنقع صغير !
هنا أرتجف قلبه واضطربت أعصابه .. تذكر ما قاله الرجل الشبح في الإسطبل حينما باغته بظهوره كما باغته باختفائه !
ماذا قال الرجل .. يا إلهي في تلك الليلة السوداء ماذا قال ؟!
" الولد من دم " دوريا " .. يرقد ميتا في المستنقع ! "
من الذي يرقد ميتا في المستنقع ولى مستنقع يقصد .. قُطع كل تفكيره بطريقة حادة ومؤلمة حينما أقدم الحصان علي عمل غير متوقع أو منتظر إطلاقا !
لقد دخل إلي عمق المياه الراكدة المتعفنة وبدأ يخوض في طبقاتها الساكنة .. فجأة أدرك " أنطوان " كل شيء وعرف من أين أتي الفرس بالطين والتلوث علي قوائمه حينما فحصه صباح أحد الأيام .. من هذا المستنقع لكن لأي شيء يأتي الحيوان إلي هنا !
فجأة رأي " أنطوان " شيئا جعل كل مسار تفكيره ينقطع ويتبدد وتتطاير كل علامات الاستفهام والأسئلة ، ومعها كل شيء آخر ، من داخل رأسه الذي سخن وكاد يحترق .. فلقد رأي شيئا يغادر المياه .. شيء يبرز من بين المياه العفنة ويمد يده ليمسك برقبة الحصان الذي أدخل نصف وجهه في قلب المستنقع وأخذ ينقب هناك .. كانت يد تبرز من بين الركود والعفن .. يد صغيرة ملوثة ومغطاة بالقذارة !
أنسحب الحصان خطوة للخلف بينما أنشفت المياه عن جسد صغير يقطر ماء وسخا .. صبي في الخامسة أو السادسة من عمره !
صبي يخرج من بين الطين والقذارة .. صبي يرتدي ثيابا فاخرة غطاها الطين وتهرأت لكنها لا تزال عنوانا للأناقة والثراء .. صبي له وجه أبيض مستدير وعينان ميتتان لا تريان شيئا !
صبي ميت يتجسد ويتكاثف وينبثق هنا .. هنا و" أنطوان " علي قيد خطوات منه ومن " والي " ينظر بفزع ولا يستطيع حراكا ولا فعلا !
...
تركوها وحدها كما أمرت وأصرت .. تدثرت بأغطيتها وأخفت رأسها بين الوسائد وبدأت تهذي من الحرارة والألم .. كانت أوصالها تؤلمها ، وبعكس ما أظهرت لأخواتها المرتعبات عليها كانت في حالة بالغة السوء ، مضعضعة متألمة ومرعوبة كذلك .. فلم تكن تتوقع هكذا هجمة ضارية مفاجئة من " والي " .. " والي " جوادها المفضل الذي ربته علي راحتي يديها !
معظم الجدد في هيئة الخدمة في قصر " دوريا " لا يعلمون أن " والي " في الأصل هو جواد السيدة " دوروثيا " وأنها كانت تمنع أحد سواها من ركوبه .. بل إن الحصان نفسه لم يكن يقبل أحد علي ظهره سوي سيدته التي رعته منذ لحظة خروجه من رحم أمه .. بل هي التي اختارت له اسمه أيضا ! 
كل شيء كان علي ما يرام بينهما حتى ثلاثة أعوام مضت .. حين وقعت تلك الحادثة المؤسفة التي أجبرت السيدة علي إحلال آخرين محل معظم هيئة الخدم التي لم يتبقي منها سوي " جوديفا " و" جرانفيل " ورئيسة الوصيفات " مارجريت " .. كما أجبرتها علي إبعاد " والي " عنها وتخصيص إسطبل صغير له .. ولما خشيت عليه أن تفترسه الوحدة ويفقد رشده أبقت معه " إيمرت " الحصان الوحيد الذي كان " والي " يتقبل وجوده معه ولا يهجم عليه عند رؤيته محاولا عضه ورفسه !
لقد تغيرت طباع " والي " كثيرا بعد تلك الليلة المشئومة !
وما كل ذلك إلا بسبب نزق أبيها وإقدامه علي فعل يخالف شيخوخته ومكانته .. وتسرعها هي ولعنة تلك القطعة الفرعونية المشئومة التي توارثتها الأسرة عن جدها الأدميرال " نلسون " .. القطعة التي أخذها أمير البحر الملكي الإنجليزي من سفينة القيادة الفرنسية ( الشرق ) وأحتفظ بها بل وأهداها لابنته ليلة عرسها غير دار بمدي خطورتها وقوة لعنتها !
...
لم يكن إهداء الضابط الفرنسي لتلك القطعة الفريدة أو منحها لقائد أعداءه الإنجليز تفضلا منه أو فرط محبة .. بل كان الرجل عالما بكل شيء ويعرف أن ثمة كارثة ستنتظر الأدميرال وذريته إن هو تمسك بتلك الأسورة الفرعونية ، الموضوعة في قاع صندوق محاطة بقطط ميتة محنطة مخيفة وعليها نقوش ومناظر لا يفهم أحد منها شيئا .. لقد حصلوا عليها من تاجر عاديات نصف مصري نصف جركسي باعها لهم بمبلغ زهيد وهو يبتسم سخريا وقبض الثمن بعد أن أقنعهم أنها من قبر فرعون الخروج الذي طرد " موسي وقومه من مصر وأنه جاء بها إلي " برويس " العنيد كهدية .. لكنها لم تكن من قبر فرعون الخروج ، الذي لا يعرف أحد اسمه ، ولم تكن هدية بل كانت لعنة .. نقمة كاملة .. فلم يكد الصندوق بما يحويه يوضع في سفينة القيادة حتى كان " نلسون " بأسطوله فوق رؤوسهم .. مدمرا ما جهد " نابليون " شهورا في جمعه وتسليحه من سفن ومراكب !
وبعد نهاية معركة أبو قير البحرية صارت الأسورة بالصندوق ملكا للأدميرال الذي أحتفظ بها وأخذها معه إلي إنجلترا .. فلم تكد القطعة الأثرية تدخل بيته حتى ماتت زوجته بمرض الخناق !
وتبعتها أختها ثم شقيقته هو التي ماتت معذبة بمرض غامض .. لكن الأميرال لم يتعظ .. أصلا هو لم يربط بين الأثر المصري القديم وبين ما أصاب بيته من سوء حظ وموت غادر غريب الوقع !
ولأنه لم يفهم بعد فقد أراد مهاداة ابنته الوحيدة " جورجيا " بذلك السوار الذهبي الفريد المطعم بفصوص صغيرة من الزمرد المصري وإعطائه لها علي سبيل المفاجأة .. وحصلت العروس علي الهدية ودخلت قصر زوجها الارستقراطي " ناثان دوريا " لتلد سبعة فتيات في حملين .. لم يكن إنجاب التوائم غريبا علي آل " دوريا " ، لكن التوائم الثلاثية والرباعية كانت حدثا غريبا لم تشهده قصور العائلة من قبل .. الغريب أن عدد الفتيات اللائي أتت بهن " جورجيا دوريا " هو نفس عدد القطط الصغيرة المحنطة في الصندوق المصري ![1]
بل إن الفتيات جئن كلهن بسحن متقاربة وأجساد نحيلة لا تشبه أحدا من العائلتين مطلقا .. كما لاقين التعاسة في كبرهن ، بقيت منهن خمس بنات علي قيد الحياة ،بينما ماتت صغيرتين منهن بأمراض الطفولة في سن الرضاع ، ولم تتزوج واحدة من الخمس نساء الدوريات رغم الثراء الفاحش الذي يتمتعن به !
لم تكن تلك نهاية اللعنة .. بل كان المزيد بانتظارهن فيما بعد فصبرا !
...
أرتجف " أنطوان " أمام ذلك الشيء البازغ ككابوس من بين المياه الراكدة والأوحال .. كان الطفل الذي انشقت عنه الأوحال يحمل وجها مستديرا غطته الأوحال فلم يتسن للفتي رؤية ملامحه .. لكنه ، أي الطفل الميت ، وحينما أنتزع نفسه أخيرا من تحت المياه ووقف وسطها ، ولا يدري السائس الصغير كيف يمكن الوقوف علي سطح مستنقع ، بدأت ظاهرة فريدة أخري تحدث .. لقد بدأت الأوحال تتساقط تلقائيا عن الجسد الصغير وبدأت ملامحه تبين وألوان ثيابه الأصلية تظهر !
لم يكن وقوف " أنطوان " هكذا سببه فرط شجاعته لكن لأنه كان قد فقد السيطرة علي جسده وعلي قدميه من شدة الهلع .. فلم تطاوعاه حينما أراد الجري والعدو بعيدا عن هذا المستنقع المخيف !
حمحم " والي " حينما رأي الغلام أمامه أخيرا .. واحني رقبته بشدة .. مد الولد يدين بيضاويين نظيفتين وأخذ يمسد عنق الحصان وهو يقرقر ضاحكا .. ارتجف بدن السائس حينما لمح الحصان يثني قوائمه مقربا ظهره من قامة الغلام .. 
بقفزة رشيقة أعتلي الغلام سطح " والي " الذي أخذ يتحرك به متجها نحو الفتي المرعوب ومبتعدا عن قلب المستنقع الذي تعف العفونة علي سطحه .. بدأ الجواد يخرج برشاقة لا تصدق من بين الأوحال ، وكأنه قنطور يسير علي الماء ، متجها إلي الضفة الجافة .. أخيرا تمكن " أنطوان " من تحريك جسده فأنتحي جانبا محاولا بأقصى قوته أن يختفي عن مجال رؤية الحيوان وراكبه .. لكن " والي " كان يعرف أنه هنا .. ولقد أحضره ليشهد شيئا ويري بعينيه !
فالحصان الجميل يريد أن يري أحدهم بعينيه .. ليشهد ما لم يشهد " !عليه أحد في الكون سوي سيدته الحبيبة " دوروثيا  

سيدته التي أبعدته عنها ونبذته بعد أن فعل من أجلها ما فعل .. لقد فعلها من أجلها فعاقبته بدلا من أن تكافئه وأبعدته عنها بدلا من أن تقربه أكثر .. إنه بعقله الحيواني لا يفهم أنه أخطأ .. إنه يعتقد أنه أظهر وفائه لكن بدلا من أن يحظي بقبلة علي مقدمة أنفه نال عقابا قاسيا وأبعدته وحده إلي إسطبل خاص .. كما أبعدته عنها وهذا هو العقاب الأقسى الذي ناله جراء ما أظهره من وفاء لها ومحبة حتى الموت !


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لويز بيت، دوقة الموت : السفاحة المبتسمة ! Louise Peete: Duchess of Death

  لويز بيت .. بدموعها خدعت قضاة ومحلفين ومحققين ! النشأة الأولي : سرقة وعهر : جنوح مبكر ! جاءت " لوفي لويز بريسلار إلي الحياة في يوم 20 سبتمبر 1880 ، في مدينة " بينفيل " بولاية لويزيانا الأمريكية لأب ثري يعمل ناشرا ولديه صحيفة خاصة .. وقد كان والداها مثقفين ومن الطراز المثالي ، ولكن الفتاة التي ألٌحقت بمدرسة خاصة في ( نيوأورليانز ) قد تم طردها من المدرسة وهي بعمر الخامسة عشرة لسببين هما : السرقة وسلوك مسلك غير أخلاقي .. فقد كانت الفتاة المثقفة الثرية تمتهن البغاء في أوقات الفراغ ! جنوح مبكر وعجيب وغير مبرر إطلاقا . وكانت " لويز " غاوية للرجال فلم تستطع أن تبقي بدونهم طويلا ، وعندما وصلت إلي سن الثالثة والعشرين ، أي في عام 1903 ، تزوجت من بائع متجول يدعي " هنري بوسلي " ، وبقيا معها ثلاث سنوات ، انتهت بأن أطلق الزوج النار على رأسه ! والسبب أنه وجد زوجته المصونة برفقة رجل آخر في الفراش ، فلما واجهها كلمته ببرود وسماجة ، وثبت أنها لا تشعر إطلاقا بجريمة الخيانة التي ارتكبتها .. وأمام برودها أحترق الزوج داخليا فلم يجد حلا يريحه سوي الانتحار ...

أكبر من أن يكون ملاكا !!

  لمعت نظرة مريبة في عينيها وهي تراقب الصغير يلهو أمامها ، لم تكن هي بدورها إلا صغيرة مثله ، طفلة لم تتعد أعوامها الإحدى عشرة ، ولم تقفز بعد فوق حاجز شرود الطفولة ونزق الطبيعة الثائرة ، التي تتمشي ف هوادة ، في العروق البارزة ، ملامح رقيقة ، لكن غموضها أضفي عليها طابعا يبعدها عن القلوب ولا يقربها ، كان لها رفاق بالطبع لكنهم كانوا رفاق ضراء لا سراء ، كل مهمتهم أن يوسعوا الصغيرة سخرية ، وأن يتهكموا عليها بكل ما أوتوا من قوة ، تنمر الأطفال الذي لا يدانيه في وحشيته وقسوته شيء .. وبدورها كانت " ماري " الصغيرة أكثر تنمرا وقسوة من رفاقها المشاكسين ، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة إليها ، كان الأطفال يكتفون بإلقاء الكلمات اللاذعة ،والسخريات المريرة ، والتعريض ببقع البول التي تلوث ملاءة السرير ، نشرتها أم " ماري " علنا ،معرضة بابنتها التي ( تفعلها ) في فراشها حتى الآن ، وربما تمادوا حتى مرحلة الإيذاء البدني البسيط ، رمي حجر أو قطعة حصى ، أو دس كسرات الزجاج الحادة في طريقها لكي تؤذيها ، كلمات جارحة وأفعال مؤذية ، لكنها لا تزال في مستوي ( الأفعال الطفولية ) ، مهما بلغت قسوتها ...

قضية " راشيل دوبكينز " The Murder of Rachel Dobkin.

  قضية قتل غريبة ومميزة اُرتكبت في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي لم يتوقع أحد أن يتم الكشف عن مرتكبها نهائيا، بل ربما الجاني نفسه لم يتخيل أن القضية ستسجل كجريمة قتل عمد على الإطلاق . في البداية نقول أن الجاني كان ذكيا جدا، إذ أنتهز فرصة اشتداد الحرب العظمي الثانية، وازدياد عنف الغارات الألمانية على مدينة لندن، ليحاول اخفاء سر جريمته، التي أعتقد أنها يسوف تعتبر حالة وفاة ناجمة عن القصف الجوي، ولن تعلق به أية شبهة، تاريخيا تعرضت بريطانيا لسلسلة ممنهجة ومطردة من الغارات والهجمات الألمانية، التي ركزت جهودها على تدمير عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فبدأت القوات الجوية الألمانية من يوم 7 سبتمبر عام 1940 في قصف لندن في غارات منتظمة وكبيرة، مخلفة خسائر مهولة، وذلك تنفيذا لأوامر الفوهرر المتعلقة بذلك الأمر والتي صدرت قبلها بيوم واحد، وبلغ من عنف تلك الغارات وشدتها أنها تسببت فيما عرف بحريق لندن الثاني ( 29 ديسمبر 1940)، وقد بلغ من جسارة الألمان أنهم لم يتورعوا عن صب نيران طائراتهم على لندن حتى في وضح النهار، لكن وبداية من شهر نوفمبر 1940م أصبحت الغارات ليلية بشكل أساس...

الهفوة التي قضت على 22 مليون إنسان .. كيف أدي عناد رجل واحد إلي تحطيم العالم !!

  بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء! أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق "فرانز فرديناند" Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة "صوفي" Sophie , 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت ...

القضية الغريبة ل " آلان روبيشو" ! The Mysterious Death of Allen Robicheaux

  بالرغم من أنَّ قصتنا هذه المرَّة لا تتضمن جريمةً بالمعنى المعروف, أي عدوان أو أذى من نوع ما يوقعه شخصٌ بشخص آخر؛ فإنها تضمَّنت لغزًا مروِّعًا احتاج لعشرين عامًا كاملة ليتم حلُّه, وتدميرًا لأسرة, وحياة بائسة لامرأة مسنَّة قضت نحبَها وهي لا تعرف أين زوجها, أو ماذا حصل له؟! إنَّ قضايا الاختفاء الغامض كثيرة, وتقريبًا تبدأ كلها بنفس الطريقة؛ يعود شخص ما إلى المنزل ليجد أحد أقاربه وقد اختفى, أو يخرج أحدهم في رحلة عملٍ أو نزهة ثمَّ ينقطع أثره, ولا يعرف أحدٌ أين ذهب. كان الشخص الذي اكتشفَ حالة الاختفاء هذه المرة هي الزوجة "لوسي ماي", سيدة في السبعينيات, تعيشُ في منزل بشارع فرانكلين/ جريتنا/ لوس أنجلوس, وكان من الواجب أن يكون زوجها "آلن روبيشو" Allen P. Robicheaux موجودًا بانتظارها يوم 15 ديسمبر 1973م عند عودتها من زيارة عائلية, لكنه لم يكن كذلك. انتظرت المرأة عودةَ زوجها لكنه لم يعدْ, لا في هذا اليوم, ولا فيما تلاه من أيام, فأينَ يمكن أن يكون الرجل ذو الثلاثة والسبعين عامًا قد اختفى؟! لم تكن هناك دلائلُ على حصول عنفٍ في المنزل, لا مذكرات تقول إنَّه ينوي مغادرة البيت لبضع...

معطف الحرب الأزرق ( قصة قصيرة )

    تسير وسطهم مرفوعة الرأس ، ترمق الطريق الملقي أمامها بنصف عين ، وعين ونصف عليهم .. كان مصيرها معروفا ونهايتها مكتوبة من قبل ، وقد تجرعتها ألوف النسوة قبلها .. خرجت من بيتها مرتدية آخر معطف عندها ، بلا قميص حقيقي تحته ، إنه صدر سترة أخيها وكمي زوجها الراحل ، المغدور الأول والمغدور الثاني ، القتيل الأول والقتيل الثاني ، من بين ألوف وملايين الأسماء .. ماذا كان اسميهما ؟! لعل أحدا لم يسأل هذا السؤال بينما كان يتم إلقائهما في حفرة ضحلة ، ورمي الجير فوق جثتيهما .. ولعلهما يرقدان في قبر واحد فقد ظلا دوما معا ! فقدت الأخ والزوج ، صديق الدم وصديق الرفقة والقلب ، صارت وحيدة وتهدمت المدينة فوق رأسها ، مثلما تهدم بيتها وسقط العالم مكوما فوق بعضه .. لماذا لا يموت الجميع في لحظة واحدة ؟! لماذا يبقي البعض ليدفن البعض ، ثم يلحق بهم بعد أوجاع وآلام ولحظات مريرة ، الجير الحي مخيف ، وطلقة في الرأس مخيفة ، لكن الوحدة وسط وحوش متربصة أكثر تخويفا وترهيبا ! هجر الجميع المدينة ، من بقي على قيد الحياة ، إن كان قد بقي أحد على قيد الحياة ، لا ينجو أحد من الحرب ، فيما عدا القتلى وحدهم ربما ، يعاين الأ...

الرجل الذي حول زوجته إلي نقانق !

  "لويزا بيكنيز"   Louisa Bicknese هي امرأةٌ أمريكية سيئةُ الحظ, في البداية بدَا وكأنها أكثرُ النساء حظًّا في العالم؛ إذْ تزوَّجت برجل مهاجر, ألماني الأصل, ورجلِ أعمال ثري, يملك أكبرَ مصنع للنقانق في شيكاغو. كان الزوج يدْعى "أدولف لوتجيرت" Adolph Louis Luetgert , وكان أرملَ معَ طفلين, تزوَّجته "لويزا" عام 1878م, وعاشا معًا حتى عام 1897م, حيث رزقَا بأربعة أطفال. كان للسيد "لوتجيرت" مصنعٌ شهير للنقانق, ولُقِّب بملك النقانق, لكن طباعه كانت سيئةً إلى حدٍّ ما, فقد كان عنيفًا تجاه زوجته, كما شوهِد ذاتَ مرَّة وهو يطاردها حاملًا مسدسًا. لكن على أي حال, ففي أوَّل أيام شهرِ مايو من ذلك العام خرجتِ الزوجة لزيارةِ أختها, وقال الأبُ ذلك لأطفاله حينما سألوا عنْ والدتهم في اليوم التّالي, غير أنَّ "لويزا" لم تعدْ من زيارة أختها مطلقًا. بدأتِ الشكوك والتساؤلات, ولاحقًا قامَ شقيق الزوجة المفقودة بالإبلاغ عن فقدانها. ثمَّ ظهرت أدلةٌ مقلقة حول تورُّط الزوج في مصاعبَ مالية, وعلاقته بأرملةٍ ثرية, مما دفع البعضَ إلى الاعتقاد بأنه تخلص من زوجته ليتزوَّج الأرم...