وكانت هذه أول مرة يدخل فيها الطبيب إلى غرفة
البارون " منليك " الخاصة على طول مكوثه وخدمته في هذا القصر.. لقد دخل
جناح البارونة مرات كثيرة بالطبع بحكم عمله ، ولكن حجرة البارون الخاصة فهذه أول
مرة .. ترى لماذا لم يستدعيه في حجرة
المقابلات أو حتى في حجرات الاستقبال الخاصة ؟!
وبمجرد أن دخل الطبيب من باب الغرفة حتى وجد
البارون واقفاً في منتصفها منتصباً كالرمح .. وأمامه خادمه الشخصي " لوجو
" الذي أشار إليه البارون إشارة صغيرة برأسه فأسرع مغادراً بعد أن قام بإغلاق
باب الغرفة بإحكام من الخارج !
كان البارون قد حسم أمره الآن .. ربما كان
متردداً في الأيام السابقة .. ولكن الآن ؛ وبعد مولد ابن أخيه الثالث ؛ فلا مجال
للتردد !
************
بمجرد انصراف " لوجو " دعا البارون
الطبيب إلى الجلوس قبالته على أحد المقاعد .. وبدأ في سؤاله عن حال زوجته وعن فرص
خروج الجنين حياً وعما إذا كان يتوقع حدوث الولادة في القريب أم أن الأمر سيطول
أكثر من ذلك ..
وأخذ الطبيب يجيب عن أسئلة البارون بما عرف عنه
من رزانة وهدوء محاولاً بث أكبر قدر ممكن من الاطمئنان في نفس البارون .. ولكن
فجأة ووسط كلام الطبيب قاطعه البارون قائلاً بلهجة عادية وكأنما جاء الأمر عفواً :
" لو خيرت أيها الطبيب بين ضحية واحدة وبين
ضحيتين فماذا تختار ؟! "
تظاهر الطبيب بالدهشة ؛ مع أنه في الحقيقة قد أدرك قصد البارون تماماً ؛ وتساءل بهدوء :
" ماذا تقصد يا سيدي ؟! "
فأجابه البارون وهو يميل بمقعده إلى الأمام ليقرب
وجهه من وجه الطبيب :
" أقصد أنك أبرع طبيب نساء في فرنسا .. لا
بل في أوربا كلها .. ولابد أنك تدرك أنه من الصعب أن تنجو البارونة مما أصابها !
"
أرتبك الطبيب لهذه الصراحة وتلعثم وهو يقول :
" عفواً يا سيدي .. ولكنك لست طبيباً ولا
يمكنك إصدار الأحكام في مثل هذه الحالات .. أنا شخصياً ورغم كوني طبيب ليس من حقي
أن أصدر مثل هذه الأحكام النهائية ! "
" ولكنك تعرف بخبرتك بالطبع ما إذا كانت
الحالة التي تواجهك صعبة أم لا .. ولابد أنك تدرك مدي خطورة وصعوبة حالة
زوجتي ! "
" نعم نعم .. إنها حالة صعبة .. ولكن ليس
بإمكاننا الآن التنبؤ بحجم الضرر الذي أصاب الرحم ولا باحتمالات موت البارونة
أثناء الولادة !"
وهنا فقد البارون أعصابه فصرخ في وجه الطبيب
بصراحة كان يحاول تجنبها طوال الوقت :
" أنا لا تعنيني احتمالات موت البارونة ..
بل كل ما يعنيني هو احتمالات حياة ابني !! "
" أعتقد يا سيدي أن الأمرين متلازمين وعلى
نفس القدر من الأهمية .. فبحياة البارونة نضمن حياة الجنين .. إذا ماتت البارونة
فسيعني هذا موت الجنين على الفور ! "
" ليس إذا كان الجنين خارجاً بالفعل عند
حدوث وفاة البارونة ! "
" عذراً يا مولاي .. ولكن كيف سيحدث ذلك ؟!
"
وهنا أبتسم البارون ساخراً وقال متلطفاً :
" لا تراوغني في الحديث يا عزيزي .. أنت
تعرف تماماً ما أرمي إليه .. أنني الآن أسألك بصراحة : هل من الممكن القيام بعملية
شق لاستخراج الجنين الليلة ؟! "
************
لم يعرف أحد ما الذي حدث في هذه الليلة بالضبط ..
كل ما قيل أن البارون كان في حجرته الخاصة وبرفقته طبيب زوجته الخاص يتناقشان بحدة
وبصوت مرتفع .. وفجأة قطعت مشادتهما صرخات حادة قادمة من جناح البارونة !
هرع البارون ؛ وفي إثره الطبيب ؛ إلى حجرة زوجته
ليجد أمامه منظراً عجيباً لم يري مثله من قبل في حياته .. والمؤكد أنه لا يتمني
رؤيته مرة أخري !
كانت زوجته ساقطة على الأرض بالقرب من فراشها وسط
بركة من الدماء السوداء الغزيرة .. وحولها ثلاث وصيفات واثنتين من مساعدات الطبيب
وكلهن ملطخات بالدماء مثلها .. وهي تصرخ دون توقف وهن يشاركنها الصرخات !!
أما بطن البارونة المنتفخ فقد تحول الآن إلى حفرة
غائرة في مقدمة البطن وواضحة تماماً وكأن البارونة لا ترتدي ست قطع من الملابس فوق
بعضها !
ولكن أين الجنين .. هذا هو بيت القصيد !
ذُهل " فرانسوا منليك " لهذا المنظر
بالغ الغرابة .. وأخذ يتلفت حوله كالمجنون باحثاً عن أي أثر لوليده دون جدوى !
أما الطبيب فقد هرع نحو البارونة محاولاً فحصها وتبين حقيقة الأمر دون
فائدة .. فقد حالت صرخاتها المريعة وحالتها العصبية الهستيرية دون تمكنه من لمسها
.. كانت البارونة في الواقع تبدو على أعتاب الجنون نفسه !
وأعتاب الجنون نفسها هي التي كان البارون يقف
عندها وهو يدور ويدور باحثاً عن وليده .. عن وريثه .. عن أي طفل وليد .. عن أي
جنين دون جدوى !
الحق أن الطبيب والبارون وقفا عاجزين عن تبين
حقيقة ما حدث وسط الحالة الهستيرية التي
تعانيها البارونة وكل من حولها من نساء .. ولكن الأمر الواضح أن البارونة قد ولدت
.. ولكن أين المولود هذا هو السؤال المهم !
وقبل أن يفق " منليك " من الصدمة والذهول
سمع صوتاً غريباً قادماً من أسفل فراش زوجته .. كان صوتاً غريباً جداً وكأنه صوت
نقيق ضفدع .. وقبل أن يجد فرصة لاستطلاع حقيقة الأمر فوجئ بشيء غريب يزحف خارجاً من تحت الفراش .. وفي
هذه اللحظة انطلقت صرخات الوصيفات ومساعدات الطبيب المرعوبة وهرعن إلى الخارج لا
يلوين على شيء وهن يصرخن بلوثة :
" الشيطان .. الشيطان ! "
أما البارونة
فقد ظلت مكانها دقيقة تنصت لصوت النقيق وتنظر برعب لمقدمة الكائن الغريب
الذي يزحف خارجاً من ظلام أسفل الفراش .. وفجأة شهقت بفزع ووضعت يدها على قلبها ..
وفي اللحظة التالية مباشرة توقفت أنفاسها وشهقاتها ورعبها .. كان كل شيء فيها قد
توقف .. كانت البارونة قد أسلمت الروح !
************
في هدأة الليل تحركت عربة مقفلة من قصر البارون
" منليك " .. كانت كل نوافذ العربة وبابها الوحيد كلها مغلقة بإحكام
شديد .. وتحركت العربة بهدوء تحت دجى الظلام وأخذت طريقها عبر التلال الجنوبية حتى
وصلت منطقة " نوفارا " المنعزلة الموحشة .. وهناك فُتح باب العربة وهبط
منها " لوجو " ؛ الخادم الشخصي للبارون وكاتم أسراره ؛ ثم تبعه البارون
نفسه بعد قليل .. وبمجرد هبوط البارون من العربة أشار إلى " لوجو "
إشارة معينة صامتة فتحرك الخادم متفقداً المنطقة ليتأكد من خلوها التام من أي
مخلوق بشري .. فلما أطمأن إلى ذلك وتأكد منه عاد إلى حيث يقف البارون وأومأ له
برأسه في صمت .. وعندئذ تحرك الاثنان ودخلا إلى العربة وبدآ في إنزال عدد من
الصناديق الطويلة المتينة المحكمة الغلق .. أنزل البارون بنفسه "؛ بمساعدة
" لوجو " صندوقاً وراء صندوق .. وقاموا بصفها إلى جوار بعضها حتى أفرغا
العربة تماماً .. كانت الصناديق عددها ست على وجه التحديد .. وبعد فترة وجيزة بدأ
" لوجو " في حفر حفرة عميقة واسعة محاولاً تعميق الحفر إلى أقصي قدر
ممكن .. وما أن انتهى من إعداد الحفرة حتى ضرب البارون أحد الصناديق الست بقدمه
فأنزاح من مكانه وأنزلق داخل الحفرة .. وبعدها قاما بالردم على الصندوق حتى أختفي
تماماً في جوف الأرض .. وتكرر هذا الأمر ست مرات حتى تم دفن كل الصناديق ومواراتها
باطن الأرض ..
ولما أنتهي ذلك .. وجه " لوجو "
اهتمامه إلى تسوية التربة في المنطقة التي دُفنت فيها الصناديق الستة بعناية
لإخفاء أي أثر لما حدث الليلة ..وقد تم كل ذلك دون أن يتبادل الرجلان كلمة واحدة !
وفي تباشير الفجر كان البارون في عربته عائداً
إلى القصر ..وحده !
فقد كوفئ " لوجو " المخلص على عمله
ومساعدته في إخفاء الصناديق ؛ بما تحتويه ؛ مكافأة عظيمة جعلته غير محتاج لخدمة البارون ؛ أو أي سيد آخر بعد
ذلك .. كانت مكافأة " لوجو " حفرة سابعة بجوار الصناديق رقد فيها جثة
هامدة .. بعد أن أطلق البارون عليه النار من خلفه خمس مرات !
وفي اليوم التالي أعُلن نبأ وفاة البارونة "
جوليا منليك " زوجة البارون " فرانسوا منليك " أثناء الولادة ..
وعرف الجميع أن البارونة توفيت ولحقت بها أبنتها الوليدة ، الابنة الثالثة عشرة
للبارون " منليك " .. وتم دفن الصغيرة بعد أن أعطيت أسماً افتراضيا ؛ في
حديقة القصر .. أما البارونة فقد حظيت
بطقوس دفن فاخرة وتولي رئاسة قداس جنازتها ابن عمها البابا ( بيوس الرابع ) بنفسه .. ثم حُمل جسدها إلى ( مقبرة أسرة
منليك ) ليدفن هناك !
وبعد مرور أيام الحداد .. وكما أكد الجميع أنه
بسبب شدة حزنه أقدم البارون " منليك " على بيع كل أملاكه وأراضيه
وعقاراته وجمع كل ما له من أموال وأشتري سفينة خاصة وحمل عليها كل أمواله وكنوزه
بالإضافة إلى بناته الإثنتي عشرة وهاجر إلى الأرض الجديدة ..أمريكا وهناك أستقر
في ( نيواورليانز ) !
وحسنا فعل البارون .. فبعد أيام من رحيله هب
الشعب الفرنسي في
ثورة رهيبة وحطموا سجن الباستيل وفتكوا بالنبلاء
والأغنياء الذين أصبحوا طعمة سائغة للمقصلة .. وتم مصادرة كل الأموال والثروات ..
وأخيراً جاءت النهاية بجز رقبة الملك نفسه ورقبة جلالة الملكة لتنتهي قصة الملكية
في فرنسا إلى حين .. وتنتهي علاقة البارون " منليك " بوطنه فرنسا إلى
الأبد !!
ورغم أن البارون قد أنقذ كل أمواله وكنوزه عندما
هاجر إلى العالم الجديد .. ألا أنه لم يأخذ كل ما يخصه من فرنسا . فقد نسي هناك
شيء ما .. شيء هام كان حرياً به ألا ينساه !
************
ومرت أعوام أخري وصارت الآنسات الثلاث "
جوليا " و" بولين " و" صوفيا " فتيات ناضجات جميلات ..
ومشت البنات الأخريات في طريق النضج والنمو بسرعة خارقة وأصبحن صبيات حسناوات
يخطفن الأبصار بجمالهن الناضج المثير .. ولكن لم تبلغ إحداهن ما بلغته الآنسة
" ماريانا " من جمال وفتنة .. كانت " ماريانا " تشبه إلى حد
بعيد لؤلؤة القلب في عقد كل حبة فيه جميلة بما يكفي .. وكما كانت أجمل شقيقاتها
كانت كذلك أشجعهن وأكثرهن ذكاء وتكيفاً مع الوضع الجديد .. فقد تجاوزت مرحلة الحزن
المرير بعد وفاة أمها الحنون بسرعة وساعدت أباها وشقيقاتها على تجاوزها .. ولعل
البارون ؛ دون وجود " ماريانا "
بجواره ؛ كان أقدم على العودة إلى فرنسا أو إدمان
الخمر أو إلقاء نفسه في البحر .. أو أي عمل جنوني آخر !
والحق أن البارون مرت عليه فترة مريرة بالغة
السوء بعد وفاة زوجته ورحيله عن وطنه .. ولكن الحق أكثر أن وفاة البارونة كان آخر
سبب لحزن البارون ومرارته !
وحتى فقده للوريث المنشود لم يكن هو سبب حزنه
وكآبته !
ولو شئنا الحق أكثر وأكثر لقلنا إن البارون لم
يكن حزيناً على وجه الدقة .. بل كان نادماً وخائفاً .. نادماً على الخطأ الفظيع
الذي تورط فيه بسبب شوقه الجنوني للحصول على وريث وخائفاً من نتائج عمله الوبيلة
التي يمكن أن تلاحقه حتى في قبره .. فلم تكن نتائج أخطاء البارون قد دفنت بعد ..
في الحقيقة أنها لم تمت بعد بل ما زالت على قيد الحياة !
الجزء الأول هنا
تعليقات
إرسال تعليق