ومرت أعوام أخري وتزوجت " جوليا " من شاب أمريكي ثري من أصل فرنسي ورحلت بعيداً عن الأسرة لتسكن مع عائلة زوجها في (ديلوير ) .. وتقدم شبان عديدون لخطبة الآنستين " بولين " و" صوفيا " .. ولكن الحقيقة أن البارون لم يعاني قلقاً مثلما عاناه عندما بدأ طوفان الراغبين في الزواج يتهافتون على خطبة عزيزته " ماريانا " !
وفي الواقع فإن كل رجل دخل قصر البارون في ( نيوأورليانز ) وتعرف على عائلته كان يفكر أول شيء في خطبة " ماريانا " الابنة الرابعة وأكثر البنات سحراً وجاذبية وأكثرهن تعقلاً وحكمة .. ولكن آه من غيرة الأب حينما يغار على أبنته !
كان البارون يجد دائماً في كل شخص يتقدم لخطبة " ماريانا " عيباً يجعله غير مناسب لها هي بالذات .. ولكنه في نفس الوقت كان يرحب بنفس هذا الشخص إذا تقدم طالباً يد أي واحدة أخري من بناته !
وهكذا تزوجت " جوليا " الكبرى من أحد عرسان " ماريانا " ..وخلال فترة وجيزة تزوجت أربع أخريات من بنات البارون من رجال كانوا يرغبون أصلاً في الزواج من " ماريانا " .. وهكذا أصبحت الأخيرة مصدر لتوريد العرسان لشقيقاتها !
وفي أحدي الليالي أقام البارون حفلاً فاخراً احتفالا بخطبة أبنته السادسة " شارلين " لأحد أثرياء نيوأورليانز ذوي الأصول الهولندية .. وتألقت " ماريانا " خلال الحفل وطغت فتنتها وحسنها على جميع الموجودات من النساء والبنات ، وجذبت أنظار جميع الرجال والشبان المتواجدين في الحفل حتى عريس " شارلين " نفسه ترك عروسه واقفة بمفردها بجوار البيانو وأخذ يلاحق " ماريانا " في كل مكان تذهب إليه إن لم يكن بجسده كله فبعينيه على الأقل !
المهم أن " ماريانا " ؛ وبينما كانت تعزف مقطوعة مرحة على البيانو استجابة لطلب الحاضرين ؛ شعرت فجأة بشعور غريب .. كان هناك شيء يسيل على ساقيها !
توقفت " ماريانا " عن العزف للحظة بعد أن أدهشها هذا الشعور الغريب الذي تحسه .. ولكنها عادت للعزف رغبة منها في ألا تخيب ظن الحاضرين وتفسد على أختها ليلتها الجميلة .. وإن كانت ظلت طوال وقت عزف المقطوعة التي استمرت لأكثر من ربع ساعة في حالة قلق وخوف !
وبمجرد أن انتهت من العزف ودوي تصفيق الجماهير المعجبة حتى هرعت من فورها إلى غرفتها .. وهناك وبمساعدة وصيفتها الخاصة رفعت ذيل فستانها الثقيل لتجد سائل أسود غليظ لزج يسيل فوق ساقيها !
تعجبت الوصيفة مما تري وسألت الفتاة عما إذا كان ميعاد طمثها قد حل .. ولكن لا لم يكن هذا هو الموعد الشهري ولا حتى قريب منه .. وحتى لو كان هو كذلك فليس هكذا تكون الأمور .. وظلت " ماريانا " تحاول رفع ذيل الفستان أعلى وأعلى لتتمكن من رؤية المصدر الذي يخرج منه هذا السائل الغريب !
وفي النهاية اضطرت الفتاة لصرف وصيفتها وخلع ثيابها بمفردها ؛ إذ كانت تخجل أن تخلع ثيابها أمام أي أحد ؛ للبحث عن مصدر خروج هذا السائل الأسود .. وصار من المؤكد بعد قليل أنه لا يخرج من رحمها !
وهكذا تتبعت " ماريانا " الأمر حتى تيقنت في النهاية ؛ ويا للغرابة ؛ أن السائل الأسود اللزج كريه الرائحة لا يخرج إلا من سرتها !
ذهلت " ماريانا " لذلك وأصابها قلق خشية أن تكون قد أصيبت بمرض خطير من تلك الأمراض المريعة التي تسمع عنها .. البرداء والطاعون والجذام .. رباه ما أسوأها من ليلة !
ورغم ذلك أصرت الفتاة على عدم إفساد ليلة أختها .. فارتدت ملابسها ببطء ونزلت إلى قاعة الحفل وأخذت ترد على ابتسامات المعجبين والولهانين بابتسامات شاحبة وهزة رأس .. مع أنها كانت في أشد حالات الخوف والجزع !
وانتهي الحفل أخيراً بعد أن أعلن البارون " منليك " إتمام الخطبة بين أبنته " شارلين " والثري الهولندي الشاب " برنارد فوكنماير " وأنصرف الحضور في إثر بعضهم وكان أخرهم الخطيب السعيد .. وقبل حلول منتصف الليل كانت قاعة الحفل قد خلت من أي أحد آخر عدا البارون وبناته .. وعندئذ هرعت " ماريانا " إلى غرفتها وهي ترفع ذيل ثوبها الثقيل وتعدو على السلم بشكل لفت نظر أباها .. فتبعها على الفور !
واقتحم " منليك " غرفة أبنته الشابة دون استئذان ففوجئ بمنظر أذهله وسود بقية أيام حياته !
كانت " ماريانا " واقفة أمام المرآة شاحبة الوجه بشدة وخلفها وصيفتها تحمل لها فضل ثيابها وساقي الفتاة عاريتين وهناك خطوط من سائل أسود غريب تسيل على ساقي الفتاة وتتجمع في بركة صغيرة أسفل قدميها !
ارتبكت الفتاة لظهور أبيها المفاجئ .. لكن دهشته وذهوله هو غطي الأمر كله .. فقد حدق البارون في منظر السائل للحظة .. ثم فجأة شحب وجهه وأصفر صفرة الموت .. وفي اللحظة التالية أقدم " منليك " على تصرف غريب .. فقد رفع يديه المغطيتين بالجواهر والخواتم اللامعة وضرب خديه بعنف وجنون !
************
عاد " فرانسوا منليك " إلى غرفته وهو في حالة ذهول كامل وشبه غيبوبة
.. كان يترنح على الباب وكاد يسقط على وجهه لولا أن لحقه خادمه الخاص وساعده على الوصول إلى غرفته ولكن البارون رفض أن يرافقه خادمه إلى الداخل .. ودخل إلى غرفته وارتمي على أول مقعد أمامه !
إن منظر هذا السائل الغريب الذي يسيل على جسد أبنته ليس غريباً عليه .. فقد رآه من قبل .. إنه نفس السائل الذي تدفق من رحم زوجته " جوليا " في أواخر حملها الأخير قبل أن تحدث الكارثة وتلد هذا الشيء !
لقد تخلص من دليل خطيئته وتخلص من كل الشهود عليها .. ولكن يبدو أن خطيئته نفسها لم تمت بعد !
ولم يجد الشرير سوي " ماريانا " ؟!
" لا لا أيها السيد ليس " ماريانا " .. ليس " ماريانا " .. خذ كل من لي في العالم إلا " ماريانا " .. أتركها لي .. أيها السيد إذا كنت تعرف الرحمة فخذني أنا مكانها .. أيها السيد أترك لي ابنتي الحبيبة .. أرجوك أيها السيد .. أتوسل إليك وأجثو عند قدميك .. فأسمع واستجب ! "
كان البارون يتوسل ويتوسل بصوت باك يائس وهو يتشبث كالغريق بمسند مقعده .. يدعو ويتوسل ويترجى .. ولكنه نسي أن السيد لا يعرف الرحمة .. ليس له رحمة .. لم ولن يكن له رحمة إلى الأبد !
************
لم يستطع البارون النوم هذه الليلة .. وما كان يسعى إلى ذلك وابنته تئن من الألم في مقصورتها .. كان يشعر وكأن كل هموم الدنيا قد تجمعت بين أضلاعه , وأخذ يؤنب نفسه على تلك الحماقة التي ارتكبها والتي ما كان عاقل سيقدم عليها .
عودة إلى الوراء .. في فترة توقف زوجة البارون عن الحمل ..
بعد مولد ابنتيه التوءم " جولييت " و" كوليت " أنتظر البارون " منليك " بلهفة حدوث حمل جديد ، لعل وعسي يأتي الغلام المنشود في تلك المرة .. ولكن للأسف فقد مرت الشهور تلو الشهور دون أن تبدأ أعراض الحمل في الظهور على زوجته .. وبناءً على رغبة البارون المجنونة خضعت الزوجة لفحص تلو فحص على يد طبيبها الخاص الذي بذل جهده في محاولة تحديد السبب الذي حال دون حدوث الحمل طيلة هذه الشهور رغم أن البارونة كانت تحمل سريعاً في المرات السابقة .. ولكن المشكلة أن الطبيب نفسه كان يظن أن البارونة قد حدثت لها مشكلة خطيرة في الرحم أثناء الحمل الأخير قد تحول دون حدوث حمل جديد أو تمنع ذلك لفترة طويلة على الأقل .. وطبعاً لم يجرؤ الطبيب على مواجهة البارون بتلك الحقيقة القاصمة تاركاً الأمر للأيام لتظهر هذه الحقيقة المرة بالتدريج .. وفي هذه الأيام السوداء تزوج شقيق " منليك " الأصغر من الفتاة القروية الوضيعة وأنجب منها ولدين .. فأنفجر الفزع في قلب البارون وأيقن أنه في طريقه لخسارة أملاكه وأمواله .. وربما يخسر لقبه ومكانته نفسها ويصير مجرد تابع لأخيه الصغير والد الوريثين الوحيدين .. عندها بدأ البارون يفقد صبره وتوازنه وحكمته .. ثم ؛ وبمرور مزيد من الوقت ؛ بدأ ينزلق إلى ما هو أخطر وأخطر .. وكان السبب في كل المصائب التي حدثت في هذه الفترة هو إصغاء البارون لخادمه " لوجو " .. " لوجو " اللعين الذي أودي به إلى طريق الهلاك .. طريق الشيطان !
ففي ذات يوم ؛ وكان البارون جالساً في مكتبه يفكر في مصيره بعد مولد أبن أخيه الثاني ؛ وجد " لوجو " فجأة واقفاً أمامه في الغرفة .. لم يفهم كيف تسلل هذا الخادم اللعين إلى الغرفة رغم أنها مغلقة بالمفتاح من الداخل .. كان البارون قد بدأ يدخن بشراهة في تلك الأيام القاتمة وتقريباً كان ؛ وقت دخول " لوجو " المفاجئ ؛ جالساً وسط سحابة سوداء من الأدخنة الكثيفة وقد أثار دخول الخادم المفاجئ غضبه الشديد .. فهب من مقعده صارخاً محتجاً وكاد يبطش بهذا اللقيط اللعين ( كما يسميه ) لولا أن الرجل الداهية أوقفه بجملة واحدة نطقها فحطت على رأس البارون كالصاعقة :
" سيدي .. أنت تريد الوريث .. حسناً أنا أعرف كيف تحصل عليه !! "
قال الخادم بابتسامته الخبيثة الصفراء .. ولم يقدم " لوجو " المزيد من التفسير ولم يطلب منه البارون تفسيراً أصلاً .. فقد كان مستغرقاً في تأمل وجه الخادم الحازم الخبيث والبحث عن علامات الصدق في ملامحه السائبة الماكرة .. وفي الأيام التالية ترك البارون نفسه تماماً لخادمه اللقيط اللعين وبدأ ينفذ كل نصائحه الشيطانية دون اعتراض .. لأن " منليك " لم يفقد عقله فقط في تلك الأزمة الطاحنة التي يعانيها .. بل كان قد فقد إيمانه أيضاً !
************
بهدوء قاد " لوجو " الخبيث سيده عبر القاعات الملتوية المظلمة .. كانت هناك سلالم وقاعات وممرات لا حصر لها .. وكلها خالية ومظلمة وتتصاعد منها أبخرة وروائح غريبة عطنة .. وتبع البارون " منليك " خادمه وصعد وراءه سلماً وراء سلم ، ودخل معه قاعة وراء قاعة ؛ وعبر خلفه ممراً وراء ممر حتى أصابه التعب والإرهاق وكاد ينكص على عقبيه لولا أن تشبث " لوجو " بطرف كم البارون في جراءة وقال له في حزم وهو يشير إلى باب أسود قاتم مظلم أمامهما مباشرة :
" لقد وصلنا ! "
والحق أن لحظة التردد هذه لم تكن لحظة عادية .. بل كانت فرصة ذهبية .. كانت هبة من الرب ل" منليك " وفرصة أخيرة له للتراجع قبل أن يتورط في أخطر وأسوأ شيء أقدم عليه في حياته .. ولكنه بغباء منقطع النظير وببساطة ضيعها !
وفي داخل القاعة كان هناك مزيد من الأدخنة والروائح الثقيلة العفنة .. وأصيب البارون بالغثيان وكاد يتقيأ .. ولكنه وجد نفسه فجأة في قاعة مملوءة بأصناف من المخلوقات لا تعرف ماهيتهم بالضبط .. لقد كانوا كلهم عبارة عن أشكال طويلة نحيلة متدثرة بعباءات جلدية طويلة وأقنعة سميكة تحجب ملامح الوجوه بأكملها .. وكانوا يحيطون بشيء ما في وسط القاعة ويلتفون حوله في شكل دائرة محكمة .. ولكن بمجرد ظهور " لوجو " وسطهم في القاعة ساحباً وراءه البارون حتى بدءوا يوسعون له الطريق و تركوه يعبر إلى مركز الدائرة .. حيث يقبع هناك هذا الشيء المخيف .. على كرسي عالي وكأنه عرش تحيط به غلالة من الظلام والأدخنة الكثيفة !
ولحظة أن وجد البارون نفسه يحدق مباشرة في هذا الشيء القابع أمامه ؛ محاولاً أن يعرف ماهيته وماذا يكون بالضبط ؛ فجأة أرتفع صياح جنوني ارتجت له القاعة .. فأقرب الملاصقين لعرش الشيء الغامض رفع عقيرته فجأة صائحاً :
" المجد لسيدنا اسموديوس ولمن أعطاه القوة والمجد .. المجد لسيدنا الأكبر ! "
وبدأت كل تلك المخلوقات العجيبة في ترديد الكلمات ؛ التي لم يفهم لها
البارون معني ؛ بأصوات نحاسية مرعبة ذات رنين غريب ..وكان البارون قد وصل في هذه اللحظة إلى نهاية تحمل أعصابه وكاد يلوذ بالهروب رغم محاولات " لوجو " المستميتة للتشبث به وإرغامه على البقاء .. لولا أن نهض الكائن الجالس على العرش ووقف مواجهاً له بهيئته الرهيبة .. فتجمد الدم في عروق " منليك " وشعر بآلام مفاجئة تمزق صدغيه .. وتخلت عنه ساقيه ووجد نفسه يتخاذل ويثبت مكانه وهو يحدق بذعر في عيني هذا المخلوق الرهيب المنومتين .. والحقيقة أن البارون قد بال على نفسه خمس مرات في هذه الليلة من فرط الرعب !!
************
وفي الليلة التالية ؛ ورغم كل محاولاته لإقناع نفسه بالتريث والعدول عن ذلك الأمر الخطر ؛ وجد البارون نفسه يترك نفسه ليقاد كالأعمى إلى القداس الأول له .. القداس الشيطاني !
كان الموضوع ببساطة أن " لوجو " النتن الخبيث أقنع سيده أن الغلام المنشود والوريث المرتجي إذا كان لم يأتي عن طريق الرب فليأتي عن طريق عدو الرب .. إذا لم يكن هبة من الرب فليكن هبة من الشيطان !
ورغم أن " منليك " واجه الفكرة في البداية باحتجاج عنيف وكاد يطيح برأس خادمه اللعين أو يسلمه إلى ديوان التفتيش .. إلا إنه شيئاً شيئاً بدأ يتساهل ويسأل و يستوثق من صحة الأمر وإمكانية حدوثه .. كان البارون الذي تلقي تعليمه في أرقي جامعات أوربا وأختلط بأرقي الأوساط في باريس وصاهر البابا العظيم نفسه قد بدأ يخضع لتهويد وأخابيل رجل أمي جهول غبي مشكوك في أصله وفي عقله وفي عقيدته !
والحق أن رغبة البارون الجنونية في الحصول على وريث هي التي دفعته لخوض المهالك وسلوك مسالك التهلكة من أجل تحقيقها .. ولكن لابد لمن يريد الحلوى أن يتحمل لذع النار .. ولابد لمن يريد أن يحصل على قطعة الحلوى أن يدفع ثمنها !
وهكذا أرتدي البارون ثياباً بسيطة وحاول بواسطة قناع محكم أن يخفي ملامحه الأصلية عن المشاركين معه في القداس الشيطاني !
وفي نفس القاعة التي ولجها البارون الليلة الماضية برفقة خادمه اللعين وبحضور نفس المخلوق الرهيب بدأت طقوس القداس .. ولكن ليس قبل أن يقف أحد هذه المخلوقات العجيبة قريباً من العرش المظلم داعياً رفاقه إلى تقبيل يد المخلوق الذي يحتل العرش لنوال البركة !
وهكذا أندفع الأتباع لتقبيل يد المخلوق المتدثر بالسحب المظلمة وتدافعوا وكأنهم يتنافسون على الولوج من بوابة الجنة ووجد البارون نفسه يدفع دفعاً بواسطة أيدي كثيرة مجهولة إلى حيث يجلس المخلوق .. الذي مد يده إليه في أريحية وكرم زائد !
ورغم نفوره طبع " منليك " قبلة سريعة على يد هذا المخلوق ؛ أو على قفازه بمعني أصح ؛ ثم أنسحب سريعاً وكاد يبتعد لولا أن الجالس على العرش تشبث بيده بقوة وتمسك بها لأكثر من دقيقة وكأنه ينوي ألا يطلقها أبداً !
فزع البارون لهذه الحركة المباغتة وأصابه الذعر على ذعره ولكن المخلوق هتف بصوت غريب يجمد الدم في العروق :
" أخيراً جاء البارونات لتحيتنا .. وبعدهم يأتي الملوك بحسب الزمان! "
وفجأة تخلي المخلوق عن يد " منليك " وأطلقه فهرع الأخير مبتعداً وقد كادت أنفاسه تتوقف من فرط الرعب والذعر !
************
وبدأت أول ليلة للبارون وسط هذه المخلوقات الغريبة .. وبدأ أول قداس شيطاني يحضره معهم !
وتوجه واحد من الأتباع نحو منتصف القاعة بالضبط .. وهناك كانت نجمة خماسية عملاقة تتوسط حلقة مستديرة مرسومة على الأرضية وكانت أول مرة يراها البارون " منليك " أو يلاحظها .. ثم قام هذا التابع بإشعال نيران هائلة وسط الحلقة ، ثم بدأ بقية الأتباع يناولونه عدداً من الشموع السوداء الرفيعة ليقوم بإشعالها وأخذوا يعدون :
" أثني عشر .. ثمانية عشر .. أربع وعشرون .. ثلاثون .. ستة وثلاثون ! "
وهنا توقف العد وتوقف الأتباع عن إشعال المزيد من الشموع .. وكان " منليك " لديه في يده أحدي هذه الشموع السوداء التي أحضرها له " لوجو " وهم بأن يشعلها ويناولها لموقد الشموع هذا .. ولكن " لوجو " أمسك يده بجراءة وهتف بصوت خفيض :
" انتهي .. لا يصلح لأن العدد سيصبح سبعة وثلاثين ! "
فسأله البارون بحيرة وبنفس النبرة المنخفضة :
" وماذا في ذلك ؟! فليصبح سبعة وثلاثين أو أربعين حتى ..كن كريماً يا أخي ! "
فأجابه " لوجو " بحزم وبنظرة باترة وكأنه هو السيد وليس الخادم :
" لا يصلح .. يجب أن يكون عدد الشموع من مضاعفات العدد ستة ويقبل القسمة التامة عليه ! "
وهنا أبتسم البارون بسخرية وقال لتابعه غريب الأطوار :
" الآن عرفت القسمة التامة يا " لوجو " ! رحم الله أيام أن كنت تنتظر أسبوعين لأفرغ واقرأ لك الخطاب الوارد من أمك ! "
ولكن إجابة " لوجو " أدهشت البارون حقاً فقد حدق في وجهه بعينيين ناريتين وأجاب بهدوء :
" أنا أجيد القراءة والكتابة بست وثلاثين لغة يا سيدي ! "
قال " لوجو " نعم .. ولكن بأرقي لغة لاتينية سمعها البارون في حياته !
وكاد البارون يعبر عن دهشته لهذه المعلومة الغريبة لولا أن الغرابة نفسها بدأت في تلك اللحظة .. فقد بدأ كل المشاركين في الطقوس ينزعون الجزء الأعلى من ملابسهم .. كاشفين عن جذوعهم النحيلة العجيبة وأضلاعهم النافرة وصدورهم المغطاة بأنواع وأشكال غريبة بالغة القبح من الوشم !
ولكن هل هو مطالب بأن يحذو حذوهم ؟
يبدو أنه كذلك لأن تابعه اللعين ؛ حذا حذوهم بالفعل ؛ وها هو ذا يشير للبارون بحزم كي يقلده .. وارتبك البارون ارتباكا مهولاً لهذا الأمر .. فهو غير متعود على التعري أمام أي أحد .. إلا أمام زوجته أحياناً !
ولكنه خضع في النهاية ونزع الجزء العلوي من ثيابه كاشفاً عن جذعه العريض القوي ولكنه في نفس الوقت أبي التخلي عن قناعه .. وخلال ثانية بدأ شخص غريب يقف ملاصقاً للعرش والجالس عليه في ترديد عبارات كثيرة متراصة بسرعة هائلة لم يفهم منها البارون شيئاً ، ويبدو أن " لوجو " اللعين أحس بغرابة الموضوع على سيده في المرة الأول ، فمال على أذنه وقال له بصوت لا يكاد يُسمع :
" إنه يردد المفاتيح السبعة ! "
وتعجب " منليك " من حكايات المفاتيح السبعة هذه وكاد يستفسر عنها لولا أن أحدهم قدم له في تلك اللحظة غليوناً ضخماً يتصاعد منه دخان رمادي كثيف ذو رائحة كريهة نفاذة .. أرتبك البارون ولم يدري ما يفعل بهذا الغليون فنظر إلى تابعه الذي كان هو الآخر قد قُدم إليه غليون آخر وأخذ يدخنه بشراهة .. ولم يكن الخادم وحده هو الذي يقوم بتدخين مثل هذا الغليون بل كان الحاضرين يمسكون بغلايين مشابهة ويدخنون بشغف .. وتردد البارون الذي أدرك أن الغليون يحوي مادة مخدرة ، ولكنه في النهاية وتحت وطأة نظرات من حوله رفع الغليون إلى شفتيه وبدأ يمتص رشفات حذرة منه .. فملئت أنفه وخياشيمه ألعن رائحة شمها في حياته .. ولكنه واصل التدخين رغم ذلك حتى أحمرت عيناه وضاق صدره وبصق هبة سوداء من الدخان ..ثم سقط على الأرض فاقد الوعي !
وغاب البارون عن الوعي فجأة بضع لحظات.. بعدها عاد إليه وعيه ليري أغرب شيء توقعه في حياته .. فقد كان واقفاً ويديه متشابكتين في أيدي أثنين من أولئك الرعاع واحد عن يمينه والآخر عن يساره .. وكان الحشد كله ملتفاً في شكل حلقة حول العرش ومنهمكين في أغرب رقصة همجية رآها في حياته وأكثرها صخباً .. والغريب أن " منليك " وجد نفسه يشاركهم هذه الرقصة الشاذة .. واستمرت الرقصة طويلاً طويلاً طويلاًَ .. حتى بدأ كل من حوله يتساقطون على الأرض فاقدي الوعي .. وكان هو آخرهم !
************
واستيقظ البارون في الساعة الواحدة ظهراً ليجد نفسه في بيته وعلى فراشه المعتاد !
كان في غاية التعب والإرهاق ويشعر وكأنه قطع فرنسا كلها سيراً على الأقدام .. ولكنه بطريقة ما كان غير واع بأحداث الليلة الماضية ولديه استعداد تام أن يقسم أن ما حدث بالأمس لم يكن سوي كابوس
مزعج !
ولكن دخول " لوجو " المفاجئ بوجهه الغريب وملامحه السائبة الباهتة أيقظ عقل البارون على الفور وعادت له كل مشاهد الليلة الماضية دفعة واحدة !
قال " لوجو " بابتسامته السائحة غير مبال بملامح البارون الممتعضة لرؤيته :
" صباحاً طيباً يا سيدي .. أراهن أنك لم تنم كما نمت هذه الليلة ! "
فأجابه البارون بصوت منخفض وهو يدعك عينيه :
" ماذا حدث يا رجل ؟! "
" لا شيء يا سيدي .. فيما عدا أنك دخلت في نومة الصلاة وظللت راقداً حتى قبيل بزوغ الفجر وعندما حاول المركز الحي إيقاظك لم تستجب إطلاقاً .. فطلبوا أن أقلك إلى البيت ! "
فعاد البارون يسأله :
" وكيف حملتني بمفردك .. إياك أن تكون قد سمحت لواحد من أولئك الشرذمة الحقيرة باصطحابي إلى هنا .. سأذبحك لو سمحت لأحدهم بأن يطأ حديقة منزلي ! "
والحق أن البارون كان غاضباً جداً وهو يوجه هذه الكلمات الحادة لخادمه الخاص ولكن " لوجو " اللعين أحتفظ بهدوء أعصابه وظل بارداً سمجاً كلوح الثلج وهو يقول بهدوء لزج يغيظ :
" مولاي يعرف فطنتي جيداً .. لم أكن لأقدم على هذه الفعلة الغبية .. وأرجوا أن تحتفظ بأقصى قدر من رباطة جأشك يا سيدي .. فالليلة ستحتاج لكل هدوئك وقوتك لتشارك في القداس ! "
وأغاظت إجابة " لوجو " البارون ولكن ذكر كلمة القداس شحب وجهه وأصابته رعشة مفاجئة وسأل بحذر وبصوت خافت :
" أي قداس ؟! "
فرد " لوجو " :
" أول قداس حقيقي لك يا مولاي وسط جماعتك الجديدة .. القداس الأسود ! "
وعند هذه النقطة أستيقظ " منليك " من أفكاره على قرعات عنيفة فوق بابه !
************
فجأة سمع البارون " منليك " فجأة صوت قرع عنيف على باب حجرته الخاصة فأنتفض فزعاً وتبخرت الأحلام التي كان يعيش فيها وهرع نحو الباب وفتحه .. ووجد وصيفة أبنته " ماريانا " تقف على بابه بوجه شاحب وبجسم مرتعش وبنبرات مذعورة قالت له :
" سيدي أن أبنتك مريضة جداً وقد ظهرت أشياء غريبة عليها ! "
وكانت هذه الكلمات كافية لإصابة البارون بالجنون والشلل ولكنه تماسك وهرع نحو غرفة " ماريانا " .. وهناك رأي ما لا يتصوره بشر ..
كانت " ماريانا " على الأرض بجوار فراشها تتلوي وتصرخ وهي تعصر بطنها وكأن ناراً تشتعل في جوفها .. ومن بين ساقيها كان يسيل هذا السائل الأسود الغليظ صانعاً بركة صغيرة مخيفة حولها ومن فمها يتدفق قئ بني غامق اللون ؛ أقرب للسواد ؛ غليظ وأغرب شيء على الإطلاق .. إنه قئ جاف تماماً وعلى شكل قطع صلبة !
أنفجر الفزع في نفس البارون وأخذ يرتجف كورقة شجر صغيرة وشحب وجهه أكثر من " ماريانا " نفسها وأسرع نحو ابنته وحاول إنهاضها دون فائدة .. فقد كانت متصلبة وأعضائها يابسة .. وفي هذه اللحظة دخلت شقيقاتها " بولين " و" سارة " و" ماري " الصغيرة إلى المكان وقد أقلق نومهن وأفزعهن صرخات أختهن العزيزة .. وبمجرد أن رأت " بولين " المنظر صرخت فزعاً ووضعت يدها لتغطي فاهها وكذلك فعلت " سارة " .. أما " ماري " الصغيرة فقد أسرعت نحو " ماريانا " وأخذت تبكي وتحاول لمسها .. وصرخ البارون مطالباً " بولين " و " سارة " بمساعدته لإنهاض " ماريانا " .. وبالفعل تمكن الثلاثة ؛ وبمساعدة وصيفة " ماريانا " ؛ من رفعها عن الأرض بمجهود شاق للغاية ووضعها في فراشها وقامت الأختان بتغطيتها وخرج البارون ليسمح لهن بتغيير ملابسها وليستدعي الطبيب فوراً ..
وجاء الطبيب وفحص " ماريانا " على مدار ساعتين متواصلتين خرج بعدها من غرفة الفتاة ووجهه يبدو عليه أنه في أزمة كبيرة !
ولما سأله البارون بلهفة عن حالة أبنته قال له محرجاً :
" لا أدري يا سيدي .. إنني لم أرى شيئاً كهذا من قبل ! "
فصرخ البارون الذي فقد أعصابه تماماً :
" ما معني أنك لا تعرف .. ومن يعرف إذن ؟! "
فأجابه الطبيب محاولاً تهدئته :
" سيدي أنني أقول لك أنني لم أري شيئاً كهذا من قبل .. ولا اعتقد أن أي طبيب في الأرض رأي مثل هذه الحالة ! "
فاهتاج البارون وصرخ بصوت كالرعد :
" لا تقل لي لم أري من قبل .. أبحث في كتبك .. أسأل زملائك الأطباء .. وإذا كنت عاجزاً عن معالجة ابنتي فدلني على أسم أكبر طبيب في الأرض وأنا أذهب إليه ولو كان الشيطان نفسه !! "
وعند هذا الحد انتهت المناقشة .. وبدأ عذاب " منليك " الذي لا نهاية له !
************
وبدأت حالة الفتاة تسوء أكثر وأكثر .. وأستمر السائل الأسود والقيء البني يتدفقان من داخل جسدها وكأن هناك نهراً زاخراً في داخل جسدها الصغير .. ونحلت الفتاة وفقدت نصف وزنها في أقل من أسبوعين .وأصابها شحوب رهيب ما لبث أن أنقلب إلى صفرة داكنة .. وفقد وجهها الساحر جماله وفتنته شيئاً فشيئاً حتى أن أحداً ممن عشقوها لو رآها الآن لفزع من منظرها وأقسم بضمير مستريح أنها ليست " ماريانا " ابنة البارون " منليك !
أما البارون فقد كان في حالة يرثي لها .. وأسوأ ما في الأمر أنه الوحيد الذي يعرف ماذا يحدث بالضبط .. ولكنه آخر إنسان قادر على إيقافه !
" " إسموديوس" أيها الشيطان الجبان ! "
كان يعرف أنه أخطأ خطأً كبيراً حينما ولج بقدمه وكر الشيطان من أجل الحصول على الوريث الذي كاد يجن من أجله .. والمصيبة أنه يعرف ماذا يريد منه الشيطان ولكن جبنه يمنعه من تنفيذه !
لقد أنتظر حتى أبيض شعره وكبرت بناته ونمت " ماريانا " العزيزة حتى أصبحت أجمل زهرة في الكون .. أنتظر حتى تعلق بها أكثر وأحبها أكثر .. أنتظر حتى أصبحت عروساً تسر الناظرين .. ثم ها هو ذا يعاقبه و يسلب منه زهرته لتكون الضربة أقوى وأوجع !!
تعليقات
إرسال تعليق